سبّحوه بالعود والكنّارة، صلاة من المزامير : يا ربّ، اختبرتني فعرفتني


يا ربّ، اختبرتني فعرفتني 139 

يُنشد هذا المزمورُ معرفة الله الشاملة، وخصوصاً معرفته للمؤمن المرتبط به. والمعرفة تدلّ على تعلّق الله بصفيّه، على نظره الذي يلاحق حبيبه بعطفه واهتمامه. يبدأ المرتّل فيعلن أنه كله في يد الله (آ 2- 5، 7- 10). فالربّ يعرف جميع أعماله، بل يعرف مصيره بحيث لا يبقى له إلا أن يقيم معه (آ 11-18)، إلاّ أن يستسلم له. وبما أن المرتّل يخصّ الله، فهو مستعدّ أن "يحارب حروب" الله (آ 19- 22).
الله يعرف كل شيء. والمؤمن مهما فعل، لا يستطيع أن "يفلت" من يده. مثل هذه النظرة الباحثة قد تدلّ على عداء من قبل الله. هكذا اعتبرها الخاطئ. ولكن الله لا ينظر بهذا الشكل إلا إلى المتكبرّين. أما المتواضعون فيرون نفوسهم في أمان بعد أن تسندهم يمين الربّ وتقودهم. يحسّون بالتعزية والشجاعة حين يعرفون أن عمل الله يصل إلى كل مكان.
ويطرح المرتّل سؤالاً: إذا كنتُ متأكّداً أن يد الرب حاضرة في كل مكان لكي تقودني، فلماذا تحيط بي الظلمات؟ هذا ما يلاحظه الإنسان. ويأتي الجواب: الربّ يضيء ظلمات الإنسان. بل لا وجود للظلمة لديه. فالظلام عنده يصبح نوراً، وكل شيء واضح أمامه. ويفهم المرتّل أن الربّ يعرفه أكثر ممّا يعرف نفسه، فيحسّ أنه ليس سيّد مصيره، أنه لا يستطيع أن يدرك مقاصد الله، فيستسلم وينام في أمان ليجد نفسه في الصباح مع الربّ (17: 15).
الربّ يرافق صفيّه حتى في الظلمات العميقة. والمؤمن يعلن أنه يبقى في خدمة الربّ مهما حدث له. لا يرتبط بالأشرار الذين هم في الواقع "أعداء" الله. قال الله لنبيّه: أنا كون معك. وها هو المرتّل يقول للربّ: أنا أكون معك، لن أتركك، لن أهملك. إجعل طريقي قويمة واهدني بنورك على الدوام.

ما أعظمك أيها الربّ، وكم أنت أهل للمديح، وعظمتك لا حدود لها.
أنت أرفع من السماوات، وأوسع من البحار، وأعمق من اللجج
تملأ الكلّ بشخصك، وحضورُك يحيط بكل شيء
وتمسك هذا الكون الوسيع في قبضة يدك
فالمجد لك يا الله.

أنت تشغل المسافات، من خارج العالم ومن داخله
عظمتُك لا حدود لها، وهي أساس كل اتساع وامتداد
وأزليتك لا بداية لها، وهي أساس كل الأزمنة والأوقات
فالتعظيم لك يا الله.

ينتشر كيانك فيملأ المسافات، بل أنت في كل كائنات العالم وأمكنته
أنت في الكون بقدرتك وحكمتك وصلاحك وكل كمالاتك
أنت تخلق كل شيء على الدوام، وتكوّن كل أبناء البشر
تحفظ كل شيء فلا يعود إلى العدم، تمسكه بيدك فتضيء له بنورك ووجودك.

ذكّرني دوماً بحضورك، يا نورَ نفسي وعذوبتها
إجعل ذكرك دوماً أمامي، فتلتقي بك عين نفسي أينما أتجّه
أعطني أن أفهم مع قدّيسيك طولَ وعرضَ وعلوّ وعمقَ لاهوتك
أعطني أن أختفي في بحرك العميق، فلا أفكّر إلا بك ولا أحبّ الاّك.

بَعدك لا أنظر إلى شيء، ولا أرغب في شيء، ولا أبحث عن شيء
فيك وحدك استريح، ولا أجد مسرّتي إلاّ في العيش معك
أنت لي كل شيء، أنت لي أعلى من كل شيء
يا إله قلبي، يا قسمتي ونصيبي من الآن وإلى الأبد.

يا ربّ اختبرتني فعرفتني
عرفت قعودي وقيامي، وتبينّت أفكاري من بعيد.
أنت تراقب سفري وإقامتي، وتعرف جميع طرقي
قبل أن ينطق لساني بكلمة، أنت تعلم بها يا ربّ.
من ورائي ومن قدّامي تحيط بي وتجعل عليّ يدك
معرفتك هذه ما أعجبها، هي أسمى من إدراكي.

أنت تعرف يا ربّ، أنت تعرف كل شيء، وتعرف ما في قلبي
معرفتك تنزل إلى الأعماق، معرفتك تذهب إلى البعيد
كل أعمالي، عظيمها وحقيرها، أنت تعرفها
قعودي، قيامي، سفري، إقامتي، كل هذا تعرفه يا من تُحصي شعر رأسي.

أنت تعرف كل شيء، لأنك موجود في كل شيء، وفي كل مكان
لا شيء يفلت من نظرك، أنت يا من تتبيّن كل ما يفعله الإنسان
أنت تعرف الماضي، والماضي حاضر أمامك
أنت تعرت المستقبل، فلا الزمان يحدّك ولا المكان.

أنت يا من قلت: أنا أفحص القلوب وأمتحن الكلى، أنا أختبر أعمق ما في القلوب
أنت يا من تتبيّن قلب الإنسان لتجازيه بحسب طرقه وثمر أعماله
أنت يا من قلت: أنا الإله الذي يرى عن قرب، أنا الإله الذي يرى عن بعد
هل يختفي إنسان في الخفايا وأنت لا تراه؟ ألست مالىء السموات والأرض؟

فيا لعمق غناك وحكمتك، وما أعظم أحكامك، وما أعجب سبلك
أنت القادر على كل شيء، فلا يتعذّر عليك كلّ ما تريد
أنت الناظر إلى كل شيء، فأينما اتجهتُ وجدتُك أمامي
حضورك يحيط بي ويغمرني، وأينما سرت، أحسّ بيدك تلمسني وعينك تقودني.

أين أذهب وروحك هناك، وأين أهرب من وجهك؟
إن تسلّقت السماء، فأنت فيها، وإن نزلتُ إلى الجحيم فأنت هناك
إن اتخذت أجنحة السحر، وسكنت في أقاصي البحر
فهناك أيضاً يدك تهديني وعينك تمسكني
تأمر الظلام فينجلي، والليل فيصبح نوراً
لديك لا يظلم الظلام، والليل يضيء كالنهار، فالظلام عندك كالنور.

أنت حاضر يا ربّ، أنت حاضر في كل مكان وفي كل مخلوق
ومن هو الإنسان حتى يدرك غورك يا الله، ويبلغ إلى قياسك أيها القدير
أنت أعلى من السماوات. فماذا أفعل أنا الحقير؟
أنت أعمق من الجحيم فما الذي أستطيع؟
مداك أطول من الأرض وأعرض من البحر، أما الانسان فمحدود في الزمان والمكان
لذلك أسجد إلى الأرض أمامك يا سيّد الكون.

إن أقام الإنسان في الظلمة، خِفيَ عن عين الإنسان
ولكن هل يخفى عن عينيك أنت يا من ترى النملة السوداء في الظلام
لا ظلام يقف بوجهك، أنت يا نوراً من نور
لا ليل عندك ولا عتمة، يا من شمسك لا تغيب وصبحك لا ينتهي.

حين تكتنفني الخطيئة، أودّ أن أتوارى عن وجهك كما فعل قايين
فأقول لك مع الخطأة: أغرب عنا فلا نريد أن نعرف طرقك
بل نتساءل مع المتسائلين: من هو القدير فنعبده وأية فائدة في أن نخدمه؟
بل نقول لك مع أيوب: إلى منى لا تصرف طرفك عني وتهملني ريثما أبلع ريقي؟
أزل عني يدك فهي تسحقُني، ولا تروّعْني هيبتُك كأنك عدوّي.

ولكن أعود إليك حين تزول التجربة، أعود إليك يا محبّ البشر
أنا الذي تهرّبت من حضورك، وحسبت فيه خطراً عليّ، لأني فضّلت الظلمة على النور
ها أنا أحسّ بلذّة هذا الحضور وفيه ما فيه من نعمة وتعزية وفرح
أسرّ أن أكون معك كل حين، تمسكني بيدك وتهديني بمشورتك
وأهتف: لا شيء لي الاّك في السماء، ولا أبغي على الأرض أحداً معك
أنت يا الله، يا صخرتي ونصيبي.

أنت ملكت قلبي وأدخلتني بطن أمي
أحمدك لأنك رهيب وعجيب، عجيبة هي أعمالك وأنا أعرف هذا كل المعرفة
ما خفيت عظامي عليك، فأنت صنعتني في الرحم، وابدعتني هناك في الخفاء
رأتني عيناك وأنا جنين، وفي سِفْرك كُتبت أيامي كلها وصُوّرت قبل أن يكون منها شيء
ما أكرم أفكارك عندي يا الله، ما أكثر عديدها
أعدّها فتزيد على الرمال، وفي فهمها أقضي أيامي.

أسجد لك أيها الربّ القدير، أنا المخلوق الحقير،
أسجد أمامك أيها الخالق في ضعفي ووهني
أنت خلقت وما أعجب ما خلقت، أنت عرفت الأشياء قبل أن تُوجد
ما لم تصنعه بعد، أنت تعرفه، وأنا عبدك أعرفه من معرفتك
أنت تعرف عواطف قلبي وشعوري، أنت تُدرك رغباتي وطموحاتي.

الطفل الذي مات جنيناً، لم يخفَ عن ناظرك
الولد الذي لم يرَ الوجود، أنت عرفته قبل أن يُوجد، ورأيته في حشا أمه
عظامه كانت أمامك وهو في الرحم، وشخصه ومستقبله كانا تحت نظرك
ان كنت تهتم بالمخلوق العابر، فكم تهتمّ يا الله بالذي تنفتح أمامه الحياة.
وكم تعتني بالذي سيحيا لخدمتك، وإلى أي حدّ تعتني بنا.

قلت لنبيّك: قبل أن أصوّرك في بطن أمك، عرفتك ولازمتك وكنت معك
وقبل أن تخرج من الرحم، قدّستك وكرّستك لي، وجعلتك نبياً للأمم.
وقال رسولك بكل افتخار: حين شاء ذلك الذي فصلني من بطن أمي فدعاني بنعمته
وماذا عساي أقول أنا بعد أن أعطيتني ما أعطبتني من نعم، وباركتني من بركات
أودّ أن أعلنها تمجيداً لاسمك
ولكني أفضّل السكوت لأنها أكثر من أن تحصى
أخاف أن أنسى نعمة من نعمك.

نظرك الذي ميّز البذار في الأرض، كم يتطلّع إلى السنبلة الناضجة
لهذا أغرق أنا في أزلّيتك، وأضيع في حضورك السامي
نظرُك يحيط بأحبّائك، فأنت تسترهم بستر خبائك وتصونهم في مظلّتك
تجعلهم في خبائك مدى الدهور، فيلجأون تحت جناحيك وأنت ترفعهم نوق أعدائهم
فيهتفون مع المرتّل: رغم ضعفنا وشقائنا، نحن معك في كل حين،
فما أعظم سعادتنا يا الله!

ليتك تقتل الأشرار يا الله، فيبتعد عني كل من يسفك دما
هم الذين يتكلّمون عليك بالمذمة وينسون باطلاً معروفك
ألا أبغضُ مبغضيك يا ربّ وأمقتُ من يمقتك؟
نعم أبغضهم كل البغض. صاروا لي أعداء
إختبرني يا الله واعرف قلبي واعرف همي.
انظر إن كان في مسلكي اعوجاج، واهدني في طريقك على الدوام.

أنا أخاف يا ربّ البشر، أنا أخاف من تأثير الأشرار
هم أعداؤك يا ربّ، هم أعداء أتقيائك وعبادك
أنا الذي أريد أن أحفظ وصاياك، أطلب منك أن تُبعدَني عنهم
أنا الذي أريد عدالتك، أسألك أن تزيلهم عن وجه الأرض فلا يكونوا من بعد
أعمالك عجيبة، وصنائعك جميلة، فكيف تسمح بوجود الشرّ من بعد
وإذ أنظر إلى نفسي، وأرى الشرّ في ذاتي، أسألك أن تنجّيني من ذاتي.

وإذ أطلب زوال الأضرار، أنظر إلى ابنك يسوع وأسمع أقواله
ما علّمنا أن نقول: نجّنا من الأشرار، بل نجنا من كل شرّ
ما طلب الموت للذين حكموا عليه ظلماً وقتلوه، بل الصفح والغفران
عرت أن زوال الشرّ يفتح الطريق أمام التوبة
فمات ليقتل الشرّ والخطيئة في موته، مات من أجل خلاصنا، نحن البشر الخطأة.

وحين أعرف أنك تعرفني من بطن أمي، أريد أن أعرفك أنا أيضاً
وحين أعرف أنك أحببتني إلى هذا الحد، أتمنّى أن أحبّك، والحبّ يدعو الحبّ
وحين أعرف أن حياتي ومصيري بين يديك، أحسّ بالفرح والسعادة
أنت يا من تهديني حين أسير، وتحافظ عليّ حين أنام، وتحدّثني حين أفيق
علّمني أن أتعرّف إلى يدك الأبويّة، وعينك الساهرة، وقلبك المحبّ.
أنت يا من تعرف هموم قلبي وأمنياتي
أعطني أن أبقى معك، فألازم وصاياك، وأسير في الطريق الذي ترسمه لي
يا حظي ونصيبي، يا الله. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM