سبّحوه بالعود والكنّارة، صلاة من المزامير: من الأعماق

من الأعماق 130

يصوّر هذا المزمور مصير الشعب كله الذي يعلن ضيقه وإيمانه. هو لا يقرّ أولاً بخطاياه، بل يدلّ على ثقته بالربّ الذي يغفر الخطايا. فالإله الذي يعبده المؤمنون هو الإله الذي يغفر. وإن لم يكن كذلك لن يبقى لهم شيء، بل لن يبقى إنسان حيّ. لكان زال البشر جميعهم. ولكن بما أن الله هو إله الغفران، بما أن عنده الخلاص والفداء والحبّ، يستطيع الإنسان أن يحيا ويتكلّم ويعترف بخطاياه.
فغفران الخطايا ليس إمكانيّة واحتمالاً فحسب، إنه يقين مطلق. وأي تردّد في هذا المجال يجعل الحياة مستحيلة. فالغفران هو مجانيّ. ونحن لا نستحقّه بسبب أعمالنا وفيها ما فيها من شرّ. ولا نستحقّه بسبب إيماننا وفيه ما فيه من تردّد. الله يقدّمه لنا، ونحن نفتح قلوبنا لنقبل منه نعمة الغفران. لا شكّ في أن الله يغفر دوماً، لأنه أب محبّ ورحوم. ولكن قد لا نكون مستعدّين لهذا السخاء الإلهيّ. أما ونحن نعرف ما يفعله الله دوماً لنا، نعيش في أمان أين منه أمان الطفل في حضن والده.
لا يستطيع الإنسان أن يستند إلى الإنسان. ولا يستطيع أن يستند إلى نفسه وقدرته. بل هو يرتاح كلياً في الربّ وفي الخلاص الذي يأتيه من الربّ. فلماذا القلق والاضطراب؟ فرغم الشقاء الذي يعيش فيه الشعب، فهو متأكّد أن الرب يخرجه من هذا الشقاء. ورغم الضعف والخوف الذي يعيش فيهما المؤمن القريب من أبواب الموت، فهو متأكّد أن الربّ يخلّصه. لهذا نراه يصلّي ويصرخ. نراه ينتظر كما ينتظر الحارس طلوع الصباح ونور الشمس. ينتظر من عند الربّ الرحمة والفداء. فحيث كثُرت الخطيئة هناك فاضت النعمة (روم 5: 20).

من الأعماق، من أعماق شقائي صرخت إليك يا ربّ
إليك نتوسّل يا ربّ رافعين أيدينا بالدعاء راجين التقرّب إليك
إليك نتضرّع، فنسجد لك خاضعين، ونتذلّل معفّرين رؤوسنا في التراب
صراخنا إليك صراخ ابتهال ودعاء، ونداؤنا إليك لكي تنجّينا من الضيق.

نحن خاطئون، وأنت تغفر لنا
ترجع وترحمنا، وتستر لنا ذنوبنا، وفي أعماق البحر تطرح جميع خطايانا
أمام عينيك صنعنا الشرّ، ومعاصينا حاضرة لديك
ولكنك يا ربّ تحبّ الرحمة، ولا تحفظ إلى الأبد غضبك.
كلّت عيوننا من النظر، وقلوبنا من الانتظار
فتعال أيها الربّ تعال، تعال ولا تبطىء
نحن نتمسّك بالأمانة لك منتظرين مجيئك أيها الإله الأمين على مواعيده الآتي عمّا قريب.
تعبنا من حياتنا، من ضعفنا
صدّت الصعوباتُ عزائمنا، ووصلنا إلى حانة القنوط واليأس
ولكننا جعلنا رجاءنا فيك، أنت يا رجاء من لا رجاء لهم.

خسرنا الكثير ولم يبقَ لنا شيء
ووصلت بنا الأمور إلى حافة الموت والهلاك
نمن لنا فيرك يتولّى أمرنا، مني لنا فيرك يرحمنا ويفتدينا
أنت سندنا في يوم البليّة، ومخلّصنا في ساعة الخطر، ومحيينا أمام مهاوي الموت.
لهذا نقف أمامك يا ربّ بقلب متخشع متواضع
وننشدك يا أملنا الوحيد ورجاءنا رغم الشدّة
فالشدّة تضيّق على قلوبنا، والألم يحزّ في نفوسنا.

من الأعماق صرخت إليك يا ربّ، يا ربّ استمع صوتي
أصغ بأذنيك إلى صوت تضرّعي.

أنا أصرخ إليك لأني متألمّ، كالطفل يضخ أمام والديه
أنا أدعوك لأني بائس، ولولا اتكالي على عونك لما دعوت
أنا في ضيق فاسمع صلاتي، وافتح لي قلبك واسعاً وارحمني
أتت يا مخلّص المحتمين بك، أصغ إليّ، فأنا أدعوك وأنت تجيب.

من الأعماق، من أعماق المياه والبحر أدعوك، كما دعاك يونان، فاستجبت صلاته وأرسلت إليه الخلاص
من الأعماق، من الضيق والشدّة أدعوك، كما دعاك المنفيّون البعيدون عن أرضهم
دعاك المشّردون في كل مكان، فوعدتهم أنك ستجمعهم وتعيدهم إلى ديارهم
من الأعماق، من أعمق لجّة خطاياي، أستعين بك
أنت يا من خلّصت دانيال من جبّ الاسود، تعال وخلّصني.
يا من نجّيت أطفال بيت حننيا من النار، أسرع إلى نجاتي.
لا تسمح أن أغرق في أمواج الخطيئة أو أختنق في قعر المياه فأنفصل عنك ولا أعود.

الخطيئة تمسك بخناقنا، تثقل كاهلنا
والاثم يفعل نعله فينا فيُعمينا
ومعاصينا تفصلنا عنك، وتفصلنا عن اخوتنا، فنصبح قاتلين مثل قايين
ونبتعد عن سبل المحبة ونأخذ بسبل الشرّ، سبل إبليس.

ولكننا ونحن في الأعماق نتطلّع إليك، نرفع عيوننا ليُشرق وجهُك علينا
ولكننا ونحن في الأعماق، نعرف أن لا هوّة تفصل بيننا وبينك
فأنت حاضر في كل مكان، حتى في أعماق الجحيم
أنت إله عليّ وقدّوس، وقريب من خلائقك، فلا تسقط شعرة من رؤوسنا من دون إرادتك.
إن سقطنا في لجة الخطيئة وما استطعنا الخروج منها، فحبّك ينزل إلينا ويبحث عنا
كالراعي عن خروفه الضال، كالأب عن ابنه الذي ترك البيت الوالدي، كذلك تبحث عنا.

إن كنت تراقب الآثام يا ربّ، يا سيّد، فمن يقف بريئاً
لكنك تغفر لنا فنعيش في مخافتك.

رجاؤنا لا يستند إلى أمور بشرية، إلى طبيعتنا المتفائلة، أو فلسفتنا في الحياة
رجاؤنا لا يستند إلى ثقة بالانسان ونظرة إلى المستقبل وما يهيّئه لنا
رجاؤنا يستند إليك وحدك في فعل إيمان بك
ولهذا أسلم إليك أمري كما فعل ابراهيم،
وأعرف أنك الاله القادر والمحبّ، فألقي عليك همِّي.

أنت تعرف ضعفنا، ولهذا تعاملنا دوماً بالرحمة
أنت لا تغفر مرة ومرتين وسبعين مرة فحسب، بل أنت الغفران بالذات
أنت والغفران واحد، فما أعظم صلاحك يا ربّ.

ولكن حبّك لنا يدعونا إلى أن نحبّك
وغفرانك لنا يوجب علينا أن نعيش في المخافة
لا مخافة العبيد التي تذلّل، بل مخافة الابناء المليئة بالاكرام والاحترام
بل مخافة أبناء الله الذين يعرفون أنك تكره الخطيئة
بل مخافتك التي تضعنا بحضرتك أنت الإله القدّوس الذي يُسّر بالقدّيسين وترضى بهم مشيئته.

حينذاك نستطيع أن نهتف: طوباها خطيئة لأنها حصلت لنا على مثل هذه النعمة
فخطيئتنا التي أقررنا بها متواضعين، ساعدتنا على إظهار الرجاء الذي زرعته فينا
بل عمّقت فينا هذا الرجاء وجعلت جذوره ثابتة فينا
والرجاء الذي تولّد بعد هذه الخطيئة، لم يكن سراباً أو تهرّباً من الواقع اليوميّ،
هذا الرجاء صار انطلاقة جديدة لحياتنا على الطريق الذي رسمته لنا.
فشكراً لك يا ربّ.

انتظرتُ الربّ، انتظرته نفسي وأرجو كلمته
ترجو نفسي الربّ أكثر مما يرجو الساهرون طلوع الفجر، يرجو الساهرون طلوع الفجر.

رجاؤنا فبك يا ربّ ليس رجاء عابراً
وانتظارنا لك ولخلاصك أكثر من عاطفة خارجيّة وكلام فارغ
أنت يا من قلت لنا: صلّوا ولا تملّوا
طلبت منّا أن نقاوم حتى الدم الخطيئة القابعة فينا.
نحن لا نرجو فقط فدرتك وصلاحك وعطاءك، بل نرجوك أنت.
فنرفع عيوننا إليك كما يرفع العبد عينه إلى يد سيده
بل نرفع قلوبنا وكل حياتنا إليك يا ينبوع حياتنا.

نحن نرجوك، نحن ننتظر عند بابك
والانتظار طويل، والشوق يأكلنا، والرغبة باللقاء بك لا تفارقنا
والقلق يساورنا والاضطراب يرافقنا
وكل همنا أن نكون في ديارك،
وكل همّنا أن نسكن عندك، أن تكون معنا ونكون معك.
نحن ننتظر عند بابك مهما طال الانتظار
ولكنا ننتظر فك أن تستجيبنا، بل نحن متأكدون من ذلك
وأنت قلت: إسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتح لكم.

انتظارنا لك كانتظار الساهر لطلوع الفجر، كانتظار الرقيب للصبح
البرد يؤذيه، والليل يخيفه، والضجر يقتله، وتمتد الساعات بل الدقائق ولا تنتهي.
أتعبه الجمودُ وعدم الحركة، وأضناه النظر والتحديق
وهو يتطلّع إلى الفجر ويرجو ساعة يعود فيها إلى بيته ليرتاح من كل هذا العناء.
بل انتظارنا لك أشد من انتظار الرقباء للصبح الآتي ولا محالة.

فبعد الصبح سيأتي المساء، أمَّا صبحنا معك فليس له مساء
ضياؤك يغنينا عن ضياء الشمس والقمر
ومشعلك الدائم ينيرنا فلا يعود لليل من وجود ولا للبرد من أثر.
رجاؤنا كبير يا ربّ، فزدنا رجاء، انتظارنا عميق فقوّ انتظارنا.
وعندما نقرع الباب، تفتح لنا فندخل، فنأكل ونشرب على مائدتك في ملكوتك
حينئذٍ يكون لنا السعادة معك، نحن الذين اكلنا جسدك وشربنا دمك زاداً في طريقنا إليك.

إجعل يا إسرائيل رجاءك في الربّ، فعند الربّ رحمة وفداء كثير
وهو الذي يفتدي إسرائيل من جميع آثامه.

صلاتي إليك يا ربّ ليست صلاة فردية وحسب، وأنت تعرف حاجات نفسي
صلاتي إليك هي صلاة الجماعة، وأنا أحمل في قلبي هموم شعبي
إسرائيل شعبك في العهد القديم، تعلّم الانتظار
ووجد الرحمةَ والفداءَ من سار وراءك يا من تفدي شعبك من خطاياهم
والكنيسة شعبك في العهد الجديد تتطلّع إلى ضياء وجهك وتقول لك: تعال أيها الربّ.
والكنيسة عروسك تجمع صوتها بصوت الروح وتقول: تعال
وجماعتك التي ننتمي إليها، تنتظر منك رحمة لأنها جماعة خاطئة
وتلتمس فداء كثيراً وخلاصاً حقاً
كثر المسحاء الكذبة، وزاد عدد الذين يعتبرون أن بيدهم خلاص جماعتنا بل خلاص العالم
ولكنهم يا ربّ لا يقدرون أن يخلّصوا أنفسهم.

جماعتنا يا ربّ، يخيّم عليها الضيق، فرجاؤنا فيك
جماعتنا يا ربّ، تثقل عليها الخطيئة، فلا أمل لها إلا بك
هي تنتظر الخلاص الآتي من عندك
بل هي تنتظر حضورك، وتتطلّع إلى إشراق وجهك
فأرسل علينا نور وجهك، أنت يا نوراً جئت إلى العالم
فأرسل علينا نور وجهك، فلا يدركنا الظلام وتكتنفنا الخطيئة
فتقودنا إلى الموت والابتعاد عنك
فأرسل علينا نور وجهك، ففي هذا النور ملء رجائنا وسعادتنا. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM