الفصل الثاني والعشرون خطبة الناصرة برنامج حياة يسوع
 

الفصل الثاني والعشرون
خطبة الناصرة برنامج حياة يسوع
14:4-20

نصٌّ غنيّ جدًّا بما يقدّمه لنا من تعاليم: وُضع في رأس الانجيل فكشف عن سرّ المخلّص، وقدّم برنامج حياته العلنيّة. فصار هكذا لكلٍّ الذين يسمعونه، لا نداءً لاتبّاع الربّ وحسب، بل دستورًا من أجل حياتهم أيضا.

1- مجيء يسوع إلى مجمع الناصرة (آ 16 أ ب)
لا يكتفي لوقا بأن يجمع الموادَّ التي بين يديه ويضعها الواحدة قرب الأخرى، بل هو يلجأ الى تِقنيات عديدة أهمها تِقنيةُ المقدّمة. ولهذا يبدو من المفيد أن نقابل لو 16:4 أ ب مع ما يوازيه في مر 6: 1- 2 أو مت 13: 54، ثم نكتشف نوايا لوقا حين دوَّن هذه الآية كمقدّمة.
نلاحظ أوّلاً أن لوقا لا يشير إلى التلاميذ الذين، حسب مرقس، يرافقون يسوع. فهذا الاغفال يوافق طريقة عرضه. فقد اختلف لوقا عن متى ومرقس ولم يتحدّث بعد حتى الآن عن دعوة التلاميذ، ولم يذكر اختيارهم بيد يسوع. سننتظر أن يرى هؤلاء الربّ يعمل (4: 31- 44)، فيمتزج خبر اختيارهم مع خبر الصيد العجيب (5: 1- 11).
ثم إن لوقا يُحلّ محلّ العبارة التقليدّية التي استعملها متى ومرقس، يُحلّ عبارة شخصيّة وأكثر وضوحًا. كتب مرقس ومتى "مضى إلى وطنه". سيستعيد لوقا هذه المفردة في نهاية آ 23 (غابت عند مر ومت) وفي آ 24 (إزاء مر ومت). قال لوقا: "جاء إلى الناصرة". ان هذه الاشارة الواضحة إلى المدينة يُحيلنا إلى إنجيل الطفولة ويذكّرنا بالمكان الذي فيه نشأ: حسب النّص الدارج: ترافو أي إقتات. وحسب شهود آخرين: أناترافو أي نشأ. هذا الفعل، الذي يستعمله لوقا وحدَه (16:4؛ أع 20:7؛ 3:22) يضمّ مع فكرة القوت فكرة نموّ الشخصيّة وتقدّمها. وفي الناصرة أيضًا استعدّ يسوع لرسالته المقبلة (2: 39- 40، 51-52). ولكن بصورة أساسيّة أكثر، ينتمي ذكر الناصرة إلى رسمة جغرافيّة وضعت في مدخل الكتاب، فحدّدت مسبّقًا الخطوط المكانيّة لرسالة يسوع العلنيّة. فكما أن خبر طفولة يسوع بدأ في الناصرة (1: 26) ليجد ذروته في هيكل أورشليم (2: 41 ي)، كذلك انطلق خبر رسالة يسوع العلنيّة من الناصرة (4: 16)، ليتمّ بعد صعود طويل في قلب المدينة المقدسة (19: 45 ي). فمجيء يسوع إلى مجمع الناصرة لا ينحصر، في نظر لوقا، بمسعى من المساعي قام به المخلّص. إن هذه الزيارة تدشّن رسالته السيحانيّة، وتحدّد البداية الفعليّة لنشاطه العلنيّ.
هكذا نفسّر اهتمام لوقا بتدوين هذا المشهد الافتتاحيّ. إكتفى مر 6: 2 ب ومت 13: 53 ب بعبارة إجماليّة وقصيرة، فحدّدا موضوع زيارة يسوع إلى الناصرة ("شرع يعلم "، "وكان يعلم"). أمّا لوقا فتوسّع كثيرًا في هذا التعليق، فأدخل فيه استشهادًا طويلاً من النبيّ أشعيا. ويَلفِت نظرنا هذا التوسّع، ولاسيما وإن لوقا لم يتحدّث إلا بالتلميح عن "تعاليم يسوع في مجامع" الجليل (15:4).
نجد هذا الأسلوب الأدبيّ في مواضع أخرى من المؤلَفّ اللوقاويّ، خصوصًا في أع 2: 16 ي حيث يستشهد بطرس مطوّلاً بالنبيّ يوئيل في بداية خطبته الأولى في أورشليم. لهذا سنتساءل عن الوظيفة اللاهوتيّة لنصّ أشعيا (6: 1- 2 أ) في بداية حياة يسوع العلنيّة.

2- إطار الليتورجيّا المجمعيّة
وحدّد لوقا موقع أوّل تدخّل رسميّ ليسوع في المجمع، في إطار الليتورجيا المجمعيّة. لسنا هنا أمام أمر شاذّ، بل تدلّ هذه الاشارة على طريقة عمل يقوم بها كلّ يهوديّ أمين على حفظ الشريعة. لقد اعتاد يسوع، شأنًه شأنُ أبناء أمَّته، أن يؤمَّ المجمع المحليّ ويشارك في احتفالات السبت.
ونلاحظ أيضًا أن يسوع اختار مرارًا المجامع وهيكل أورشليم (4: 15، 16، 44؛ 6: 6؛ 13: 10؛ 19: 45، 47؛ 20: 1؛ 21: 37- 38؛ 53:22) ليعلم ويعلن البشارة، وسار رسله على إثره (24: 53؛ أع 2: 46؛ 3: 1، 3، 8؛ 5: 20، 21- 25، 40). هذا مُعطى تقليديّ سنتحقّق منه حتى حين يتوجّه العمل الرسوليّ إلى الوثنيّين (أع 9: 20؛ 13: 5، 14، 43؛ 14: 1 ؛1:17...)
إذا كان إعلان الملكوت لم يحصل على هامش الجماعةِ الدينيّة اليهوديّة، بل يتجذّر في أرض وَجد فيها إيمانُ الشعب المختار غذاءه، فالحدَث الأخير من الخبر (أي حين طُرد يسوع من المجمع على يد أبناء بلده أنفسهم) يتّخذ طابعًا دراماتيكيًّا كبيرًا. فرفْضُ الناصريين (أي أهل الناصرة) استقبالَ يسوع وتعليمه (28:4) صار حينئذ نبوءة تكاد تكون خفيّة عمّا سيكون عليه في يوم من الأيام: رفض الأمّة اليهوديّة كلّها ليسوعِ. صار طردُ يسوع من المدينة ومحاولةُ طرحه من قِمّة الجبل علاماتٍ تشير مسبّقًا إلى مصيره المأساويّ.
أمّا الليتورجيّا المجمعيّة بحصر المعنى، فقد كانت بسيطة. تبدأ خدمة السبت بتلاوة "شماع" (أي اسمع، تث 6: 4- 9؛ 11: 13- 21؛ عد 15: 36- 41) أي إعلان الايمان بالاله الوحيد مع سلسلة من المباركات. وتمتّد الخدمة بقراءة مقطع من أسفار الشريعة (فرشه او فصل) وقراءة أخرى من كتب الأنبياء (هافتره اي تفسير). وينتهي الاحتفال ببركة الكاهن.
كان يحِقّ لكلّ رجال بالغ، لكونه عضوًا في الشعب المقدّس، أن يشارك في هذه الخدمة الليتورجيّة التي يرئسها رئيس المجمع (لو 8: 41 يتحدث عن يائيرس) ويسهر على النظام في الاجتماع والترتيب في الاحتفال (13: 14)، ويختار القارئين، وإذا لزم الأمر، من يفسّر القراءات (أع 13: 15).
كانت خدمة القراءات (وهي العنصر الرئيسيّ في هذه الليتورجيا) منظّمةً تنظيمًا مُحْكمًا. يقف القارئ ويبحث عن النصّ المعين في الروزنامة (او التقويم)، ويتلوه في اللغة المقدّسة اي العبريّة. لم يكن يفهم هذه اللغة إلا بعض المتعلّمين الكبار، لهذا كان هناك من يترجم إلى الآراميّة ويتصرف في ترجمته فتصبح ما يسمى في اللغة التِقنية "الترجوم". وبعد الانتهاء من القراءة كان المسؤول عن الكتب المقدسة (خزان او الخازن، رج آ 20) الذي يقوم أيضًا بوظيفة البّواب والحارس ومعلّم المدرسة، كان يستعيد اللفيفة (او الدرج) التي أعطاها للقارئ. بعد هذا، كان الجميع يجلسون ليسمعوا العظة. فان وُجد في الجماعة شخصُ يحبّ أن يحُثّ إخوته على التقوى انطلاقًا من الأسفار المقدسة، دعاه رئيس المجمع للكلام. هذا ما حصل ليسوع في الناصرة، وهذا ما حدث لبولس في مجمع أنطاكية بسيدية.
يبدو أن لوقا كان عارفًا بالتقاليد الليتورجيّةَ في عصره. ومهما يكن من أمر فالطريقة المحدّدة والمتوازنة التي بها أورد لوقا الرُتَب التي تحيط بالقراءات تدلّ على أهميّة كلمة النبيّ أشعيا (4: 18- 19) في نظره.
وقام ليقرأ ثم طوى السفر
فدفع إليه السفر ودفعه إلى الخادم
فلما نشر السفر وجلس
إن مثل هذا الابراز للنصّ النبويّ يدعونا الآن لكي ندرس بعناية موضوع هذا الاستشهاد. يستعمله لوقا ليكشف هوّية المسيح العميقة، وليقدّم، في بداية الانجيل، البرنامج الملموس لعمله على الأرض.

3- نص اش 61: 1- 2 آ (آ 18- 19)
أَورد لوقا بحريّة نصّ أشعيا راجعًا إلى الترجمة اليونانيّة للتوراة (السبعينية). وهذا ما نكتشفه حين نقابل نصّ لوقا ونصّ أشعيا.
لو 18:4-19 أش 61: 1-2 أ (حسب السبعينيّة)
روح الربّ عليّ روح الربّ عليّ
لأنه مسحني لأبشّر المساكين لأنه مسحني لأبشّر المساكين
وأشفي منكسري القلوب
وأرسلني وأرسلني
لأنادي للمأسورين بالحريّة لأنادي للمأسورين بالحريّة
وللعُميان بالبصر وللعُميان بالبصر
وأطلق المرهَقين أحرارًا
وأعلن سنةَ نعمة الربّ وأعلن سنةَ نعمة الربّ.
يستعيد لو 18:4- 19 جوهر نص أشعيا. ألغى الانجيليّ عبارة "وأَشفي أصحاب القلوب المنكسرة". قال الُشرّاح ": هو الطبيب الذي غالبًا ما يستعمل كلمة "شفى" بالمعنى الماديّ، فلماذا تردّد في استعمالها في المعنى المجازيّ؟ لا يكفي هذا التفسير ليجعل لوقا مسؤولاً عن هذا الالغاء.
نذكر أوّلاً، أنّ مخطوطات يونانيّة عديدة، ونصّ اللاتينيّة الشعبية (فولغاتا) تورد هذا الشطر (أشفي القلوب الكسيرة) أمّا السريانيّة البسيطة فتقول: "أرسلني لأشفي منكسري القلوب ولأبشر المسبيّين بالتخلية". إن وجود هذا الشطر المُلغى يبرز صورة الطبيب التي تحدّثت عنها آ 23 والتي نجدها أيضًا في 5: 31؛ 9: 11. وفي 5: 17 يعود فعل "ياؤماي" (شفى) في عبارة قريبة من اش 61: 1 ولوقا 4: 18: "وكانت قدرة الربّ (عليه) لتُجري الأشفية". وأخيرًا في إجمالة حياة يسوع الواردة في أع 10: 38 (مع ايراد واضح لنص اش 61: 1)، فهناك كلمات نقرّبها من النصّ الذي ندرس: بشر (أع 10: 36)، مسح، الروح، شفى (آ 38)، وهي مستعملة في معنى مجازيّ.
إهتمّ لوقا بصورة خاصّة وأكثرَ من سائر الانجيليّين، بهذه السِمَة التي تميز عمل الفادي الخلاصيّ. فإذا أخذنا عبارة "شفى أصحاب القلوب الكسيرة" بشكل حرفيّ، فهي قد لا تتوافق مع رفض يسوع بأن يصنع المعجزات ويجري الأشفية في وطنه. هذا يفهمنا أن يكون هذا الشطر قد أُلغي فيما بعد (شورمان، انجيل لوقا).
ومن جهة ثانية، يبدو أكيدًا أنّ لوقا أوقف بإرادته نصّ أشعيا عندما "أعلن سنة نعمة الرب" وألغى ما تبقّى أي "يوم انتقام". نفسّر هذا الالغاء بنظرة الكاتب التي تتّصف بالشمول فيما يخصّ الخلاص. فلو قرأ لوقا النصّ كلّه لدفع إلى ان يعلن مع النبيّ عن "يوم انتقام" من الوثنيّين وحكما عليهم بالهلاك.
وهناك مثل آخر يدلّ على اهتمام لوقا بالتحاشي عن استعادة نصوص تخصيصية وجدها في الأسفار المقدّسة (يرامياس): حين أورد يؤ 3: 1- 5 آ في أع 2: 17- 21 (رج ايضا لو 7: 22= مت 11: 5 مع جواب يسوع لتلميذَي يوحنّا المعمدان) مزج اش 35: 5- 6 مع 28: 18- 19 و 61: 1. نحن هنا أيضا أمام خُطبة افتتاحيّة وقد اهمل فيها لوقا بإرادته خاتمة نصّ نبويّ ينتهي في السبعينيّة على الشكل التالي: "سيكون مخلّصون على جبل صهيون وفي أورشليم، كما قال الربّ، ومبشّرون (النص العبري الماسوري: باقون على قيد الحباة) يدعوهم الربّ" (يوء3: 5 ب). أسقط لوقا هذه الأشارة التي تحصر المعنى في إطار ضيّق، فأعطى قوّة للبعد الشامل في تعليم يُرى في بداية القول النبويّ: "أفيض روحي على كل جسد أو بشر" (يوء 3: 1 أ).
ولا ننسى أيضًا أن لوقا سيعود إلى شهادة إيليا وإليشاع الذاهبين إلى الوثنيّين (آ 25- 27) ليسنُد اعتقاده بأنّ الخلاص الذي يحمله يسوع المسيح يشمل البشريّةَ كلّها.
ونلاحظ أن عبارة "بشر المساكين" ترتبط بكلمة "أرسلني". اذًا ربط لوقا بطريقة مباشرة واقع هذا التبشير بالتكريس (يُمسح بالزيت المقدس فيُكرّس) المسيحانيّ (مسحني لأبشّر المساكين) فقوّى مرّةً أخرى العلاقة بين مشهد الأردنّ (3: 21) وحدَث الناصرة (4: 1، 14). إن مجيء الروح القدس على يسوع هو أساس إرساله وشرط ضروريٌّ لحياته العلنية المقبلة التي تكمن كلّها في إعلان البشارة لصغار القوم. وسيوضح هذه الفكرةَ ما تبقى من استشهاد أشعيا. إن هذا الطابع الكرازيّ لاعلان الانجيل على المساكين هو الذي دفع لوقا لأن يحل في 19:4 كلمة "دعا، سمّى" (كاليو) (ق اش 2:61) محل كلمة "نادى، اعلن (كيروسو)" المذكورة في آ 18 ج.
بالاضافة إلى إيراد اش 61: 1- 2 أ، تتضمن آ 18 في خاتمتها شعرًا مأخوذًا من اش 58: 60: "أطلق المرهَقين أحرارًا" (أو لاحرّر المظلومين). هذا التشديد على موضوع الاطلاق والتحرير لا يزعج لوقا. ولكن هل ننسب أليه مسؤولية إقحام هذه العبارة؟ كلاّ. فظهور هذه الآية المستغرب للوَهْلة الأولى يُفهَم إذا عرفنا بوجود سلسلة من الاستشهادات المتداولة في أوساط الكنيسة الأولى، كانت تتضمّن فيما تتضمّن اش 58 واش 61. هنا يشير دود في كتابه "كما جاء في الكتب" إلى أن اش 61: 21 لا ترد بوضوح إلا في لو 4: 17- 18، ولكنّنا نستشفّها في الخطبة الكرازيّة في أع 10: 38 وفي نص مت 11: 15= لو 7: 22، على الأقل بصورة ضمنيّة. أمّا اش 58 فقد توسّع العهد الجديد في استعماله. رج أع 18: 23= اش 58: 6 ب؛ مت 25: 35 ي= اش 7:58.
إن نصّ أشعيا الذي سيطبّقه يسوع على نفسه بعد لحظة، ينتمي إلى مجموعة مؤلّفة من قصيدتين طويلتين (اش 60- 62) تعلنان لشعب إسرائيل حياة جديدة ترتبط بإعادة بناء أورشليم، المدينة المقدّسة، بناء يُذهل العقول.
فإذا أردنا أن نتعرّف إلى قوّة الرجاء الحاضر في هاتين القصيدتين الخارقتين، لن نكتفي بقراءتهما بل نتعرّف إلى تجذّرهما التاريخيّ. عاد المنفيّون إلى بلادهم وبدأوا عمل البناء، فواجهتهم الصعاب والمَظالم... فلا بدّ من إيقاظ ألثقة بتدخّل الله الحيّ في جماعة هي فريسة الشقاء والقُنوط. وأظهر النبيّ جرأة عبّر فيها عن إيمانه: اعلن لكل هؤلاء المساكين، لهؤلاء المنكسري القلوب، لهؤلاء العُميان وهؤلاء الأسرى أنّ الله سيضع حدّا للضيق الذي يعانونه. لقد انتهى كلّ شيء. وقال الله: "القليل عندك يصير ألفًا والصغير يصير أمّة عظيمة. أنا الربّ سأجمعكم في الوقت المعيّن" (أش 22:60 حسب السبعينية في العبريّة: أنا الرب أسرع به في وقته).
وفي الوضع الحاليّ للنصّ الأشعيائّي، إرتبطت هذه الولادة الموعودُ بها بمجيء نبيّ يحدّد كلُ ف 61 رسالتَه. هذا النبيّ الذي تذكّرنا سماتُه (حتى على مستوى العهد القديم) بصورة عبد الله (اش 42: 1ي) سيكون قبل كلّ شيء "رجلاً يمسحه الله بروح الأنبياء". كما يقول الاسهاب الترجوميّ في أش 61: 1، "قال النبي: روح النبوءة جاءني من عند ألربّ الاله، لأنّ الربّ مسحني لأبشر المساكين".
وهذا المسيح النبيّ سيكون "مرسلَ الله نفسِه" الذي يمنحه مواهب خاصّة ليقوم بمهمتّه الالهية. وتبدو هذه المهمّة بشكل جوهريّ كعمل إعلان (كيريسو، ايوانغليزو: نادى، بشر) يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحرير (افاسيس) المساكين الذين تتوجّه إليهم كلمة الخلاص بدرجة أولى.
نفهم هذا الخلاص الاسكاتولوجيّ الذي يعلنه النبيّ في المعنى الواسع، أي على مستوى المادّة والجسد. وهو يصيب أيضًا كائن الانسان الداخليّ والعميق. مثلاً، نقول إن العمى هو عاهة جسديّة. أمّا بالنسبة إلى النبيّ فهو يقابل عمى روحيَّا يصيب ألشعب الذي لا ينهضه من شقائه إلا استنارةٌ جديدة في القلوب (أش 42: 16- 20؛ 43: 8؛ 56: 10؛ 59: 10). وفي النهاية، إن هذه التحرّرات المختلفة تتبع إعادة مُناخ من الحقّ والعدالة والحبّ في العالم (أش 58: 6- 12؛ ار 34: 8- 9) وهذا ما يفعله المسيح الآتي.
إن هذه البشرى ستَفتح أزمنة جديدة وتقابل مجيء ملكوت الله على الأرض. ويلخّصها أشعيا في بضع كلمات فيصوّرها "سنة نعمة من عند الرب". من الممكن أن تلمّح "سنة نعمة الرب" إلى السنة اليوبيلية التي يحتفل بها العبرانيّون سنةً كاملة مرّةً كلَّ خمسين سنة (سبعة أسابيع أو سبع سبعات من السنين، اي 7×7. تكون السنة الخمسون هي السنة اليوبيلية) كما يقول سفر اللاّوّين (25: 8-17؛ رج تث 15: 12- 18؛ خر 21: 2- 11). كانت تقوم هذه السنة اليوبيليّة (جوهرّيًا) بإعلان تحرير عامّ لكل سكّان البلاد. "في تلك السنة يعود كلّ واحد إلى مُلكه (اي تعود أرضه إليه)، ويرجع كلّ انسان إلى عشيرته (او عائلته)" (لا 25: 10).
تحدّث النصُّ اليونانيّ عن سنة (انيوتوس) مقبولة (في كتوس) من قِبَل الربّ، فتبعته السُريانية البسيطة التي جعلت النبيّ "يكرز بالسنة المقبولة لدى الربّ (لو 4: 19). أمّا النصّ السُرياني في اش 61: 2 فيتحدّث عن "سنة رضى للربّ".
إستعاد لوقا هذه السِمات الأساسيّة في الكرازة الأشعيائيّة وتبنّاها. وإنْ شدّد على الطابع الكرازيّ لمجيء يسوع، مُقْحِمًا فعلاً جديدًا هو كيريسو (الذي منه تأتي كلمة كرازة عَبْرَ السُريانية)، فهذا يدلَّ على أنه عاد إلى المهمّة الحاليّة (نشر الانجيل) في الكنيسة الرسوليّة. فمهمّة هذه الكنيسة ليست في أن تلقي الخُطَب عن الله أو تقدّم الدروس الفلسفيّة، بل أن تسير على خطى يسوع فتعلن وتنادي بواقع عمل الله وسْطَ البشر.
وهذا العمل التحريري الذي أبرزته لفظة "أفاسيس" مرتين، يعني الفقراء والبائسين على مختلف فئاتهم. وإذا عُدنا إلى الينبوع القديم للتطويبات (المساكين، الجياع، الحزانى، 6: 20- 21) نظنّ أنّ هذا العمل يعبّر أوّلاً عن إرادة الله التي تحاَول أن تضع حدَّاًَ لهذه الأوضاع اللا إنسانية، لكل هذا الشرّ الذي لا يُطاق والذي ينتصب أمام الله متحدّيًا عدالته الملوكيّة فيجعل ضحاياه من صغار القوم في شعبه. برء المسيح هو بالنسبة إليهم بُشرى هي بُشرى تحريرهم
ولقد كتب الأب دوبون عن الفقر الانجيلي في كتابه "الفقر والفقراء" ما يلي: "إن امتياز الفقراء يجد أساسه اللاهوتيّ في الله. فنحن نخطئ حين نحاول أن نؤسسه في استعدادات أخلاقية لدى هؤلاء الفقراء، أو حين نحاول أن نروحن فقرهم. فيسوع ينظر إلى فقر الذين يوّجه إليهم بشارة ملكوت الله على انه وضع حرمان بشري، وضع يجعل من الفقراء ضحايا الجوع والظلم. الفقر هو شر، هو وضع يرفضه الله لأنه يمس كرامته. وحين اعلن يسوع بشرى ملكوت الله للفقراء، أظهر عناية الله بهم ومشيئته بأن يضع حدّا لآلامهم. فعلى المسيحيّين أن لا يفهموا من هذا أن الفقر هو مثال بل ان يفهموا أن الفقراء هم موضوع محبّة خاصّة من قبل الله". أجل، ليس الفقر هدفًا نبلغ إليه. إنه وسيلة تحرّرنا من كل ما يفصلنا عن الله وعن القريب. نحن نتجرّد من خيرات الأرض لا من أجل التجرّد، بل لنشرك الآخرين فيها.
هذا التحرير الذي هو علامة مجيء الملكوت نفهمه كخلاص الله وغفرانه المقدّمينَ إلى كلّ البشر في يسوع المسيح. هذا ما فهمته أقدَمُ تقاليد العهد الجديد التي تربط دومًا مدلول التحرير (افاسيس) بمدلول الخطيئة (امارتيا). وغفران الخطايا (أفاسيس امارتيون) الذي هيّأ له الدربَ عملُ المعمدان التبشيريّ (مر 1: 4 وز؛ لو 1: 77) هو في قلب عمل يسوع على الأرض (مت 26: 28)، كما هو في الكرازة الرسوليّة وشهادتها (24: 47؛ أع 2: 38؛ 5: 31؛ 13: 38). وهذا الغفران يفرض على الانسان التوبةَ والايمان بالمعمودية. وإذ ينتزعه من سلطان الظلمة يفتح له أبواب الملكوت والأتحاد بالمسيح القائم من الموت (أع 10: 43؛ 26: 18؛ كو 1: 13- 14). وبقدر ما أنّ الخطيئة ليست أمرًا عارضًا، بل قوّة تحدّد كيانها كلّه، نفهم أن هذا التحرير الداخليّ يقابل في الواقع تجديد حياةِ الانسان كلّها. مثل هذا التحرّر لا نفهمه إلا كبشرى وخبرٍ سارّ.

4- تأوين الكلمة النبوية (آ 21)
حين طبّق يسوع على نفسه نصّ النبيّ، أعلن بوضوح أنه النبيّ المسيحانيّ الذي تحدّث عنه أشعيا، وحدّد في الوقت عينه برنامج رسالته على الأرض.
أن يكون هو المسيح، هذا ما عبّر عنه لوقا بوضوح في إطار الرؤية العماديّة. أسمعَت السماءُ صوتَها فأعلنت في خط مز 2: وأنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (3: 22 ب كما في النصّ الغربيّ. النصّ الشرقيّ: "بك سررت"). وتحدّدت هوّية هذا المسيح في حدَث الناصرة: إنه المسيح النبيّ. وكما شدّد لوقا على لفظة "اليوم" (سامرون) التي أخذها من المزمور المسيحانيّ وتحقّقت مع مجيء يسوع، كذلك يشدّد هنا على أن لفظة اليوم (4: 21) التي أخذها من الكلمة النبوّية قد تحقّقت (بلاروو) في شخص يسوع الذي يبدأ حياته العلنيّة. يرِد فعل "بلاروو" مرّتين عند لوقا في معرِض حديثه عن الكتب المقدّسة: هنا، في بداية حياته العلنيّة، ومرّةً ثانية في نِهاية الانجيل، ساعة يعطي يسوع لتلاميذه تعليماته الأخيرة، ويجعل منهم شهودًا لعمله (24: 44: لابد ان يتم). وفي كلتا الحالتين نحن أمام مقاطع خاصّة بلوقا.
وكلمة لوقا "أليوم" (4: 21) تميّز الحديث عن الخلاص عند لوقا (2: 11؛ 3: 22 حسب النص الغربي؛ 5: 26؛ 13: 32- 33؛ 19: 5؛ 23 : 43) وهي تَعني أن نبوءة النبيّ صارت واقعًا ملموسًا: ذلك الذي تكلّم عنه النبيّ في الماضي هو الآن حاضرٌ هنا. قد بدأت الأزمنة الأخيرة بعد أن دشّنها رسمّيًا مجيء يسوع إلى الناصرة، الذي يشكل "البداية" (في 3: 23؛ تدل "ارخومانوس" على بداية نشاط يسوع المرتبط بحلول الروح القدس. وتقابلها عبارة "فشرع يقول لهم" في 4: 21، لتدلّ على البداية الفعليّة لعمله الرسوليّ) الفعليّة لحياة المخلّص العلنيّة. إنه (يوم) الله في زمن حاسم في تاريخ خلاصهم. وبعبارة أخرى إن كلمة "اليوم" لا تحمل فقط بُعدًا كرونولوجيًا، بل هي تُحيلنا إلى زمن التكميل الذي، من خلال هذا الزمن المحدّد في التاريخ، يَعني كلّ الحِقبة اللاحقة من نعمة الله في الكنيسة.
وبقدر ما يدشن يسوع الآن "سنة نعمة الرب" هذه لا تستطيع كلماتُه إلاّ أن تكون كلمات "تحمل النعمة التي صنعها الله للبشر" (لوغوي تاس خاريتوس، رج أع 14: 3؛ 20: 32). وفي النهاية، هذه الكلمات تمتزج بيسوع (كيانه، شخصه، تعليمه) كما يشهد على ذلك البدَلُ اللافت في أع 10: 37- 38 (ما جرى تو غانومنون ريما: يسوع ألناصري)، وتشديد الانجيليّ الخاصّ على تقديم يسوع كحامل هذه "النعمة" (2: 40؛ 52؛ أع 15: 11؛ 40). إن الكلمة التي أتمها يسوع في مجمع الناصرة هي في الوقت عينه كلمة الله التي تكمل ما تنبئ به، والكلمة المتجسّدة في يسوع الذي أمامه يحدّد كلُّ إنسان مَوقعه منه أذا أراد الحياة.
كان لوقا قد كتب: "لا يحيا الانسان بالخبز فقط" (4:4)، وزاد متى في هذا الموضع: "بل بكل كلمة (ريما) تخرج من فم الله" (مت 4:4). لم ينسَ لوقا هذا العنصر الذي زاده متى، ولكنه جعله في مقطوعة الناصرة ليسند آنيّة الخلاص الحاضر في يسوع المسيح. فالخبز لا يكفي في نظره لحياة الانسان. فإن أراد أن يحيا احتاج أن يتقبّل "كلمات النعمة الخارجة من فمه" (4: 22).
وهكذا لا يكون ظهور يسوع في الناصرة هديّة نعمة خاصّة وحسب، بل وعد تحرير وحياة لكل الذين يتعلقّون به بالايمان. نجد هنا ملخّصًا لكل الانجيل وُضع في بداية حياة يسوع العلنية، نجد فيه برنامج رسالته كما نجد دعوة ملحّة لنحمل نحن اليوم هذه البشرى إلى الخليقة كلّها.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM