مع كنيسة كورنتوس المعرفة الحقيقيّة
 

المعرفة الحقيقيّة
8: 1- 6

طرح الكورنثيّون على رسولهم أكثر من سؤال. الأوّل، حول الزواج والعزوبة أو البتوليّة (ف 7). والسؤال الثاني يتعلّق باللحوم المذبوحة للأوثان (8: 1- 10: 33). فما هو التعليم المسيحيّ في هذا المجال؟ وما الذي يُشرف على تصرّفنا؟ المعرفة أم المحبّة؟ لا شكّ في أن "الأقوياء" أحرار في تصرّفهم! ولكن، يا ليتهم يأخذون "الضعفاء" بعين الاعتبار! ونقرأ النصّ:
(1) أما من جهة ذبائح الأوثان، فنحن نعلم أن المعرفة لدينا جميعاً. إلاّ أن المعرفة تزهو بصاحبها، والمحبّة هي التي تبني. (2) فمن ظنّ أنه يعرف شيئاً، فهو لا يعرف بعدُ كيف يجب عليه أن يعرف. (3) لكن الذي يُحبّ الله يعرفه الله. (4) وأمّا الأكل من ذبائح الأوثان، فنحن نعرف أن الوثن لا كيان له، وأن لا إله إلاّ الإله الأحد. (5) وإذا كان في السماء أو في الأرض ما يزعم الناس أنهم آلهة، بل هناك كثير من هذه الآلهة والأرباب، (6) فلنا نحن إله واحد وهو الآب الذي منه كل شيء وإليه نرجع، وربّ واحد وهو يسوع المسيح الذي به كل شيء وبه نحيا.

1- سياق النصّ
في المدن اليونانيّة، كانت كل اللحوم تقريباً تأتي من ذبائح مقدَّمة للآلهة في الهياكل. كانوا يُحرقون أمعاء الحيواات على المذبح، بسبب الشحم الذي فيها. ويُعطى قسمٌ من اللحم فيأكله مقدّم الذبيحة ومدعوّوه. وما تبقّى، كان يُباع في السوق. لهذا، كان موضعٌ قرب الهيكل تُباعُ فيه اللحومُ. وطُرح السؤال على بولس: هل يستطيع المسيحيون، بضمير مرتاح، أن يأكلوا من هذه اللحوم التي كُرّست للآلهة، أم عليهم أن يمتنعوا لئلاّ يشاركوا في عبادة الأصنام؟
من طرح هذا السؤال على بولس؟ في الدرجة الأولى، المسيحيّون الذين من أصل يهوديّ. فاليهود، باسم تكريسهم للربّ، كانوا يقشعرّون من الذبائح المقدّمة للآلهة الكاذبة (رج دا 1: 8). فقد حُرِّم عليهم أن يأكلوا منها، بل حُرِّم عليهم أن يبيعوها. وحين يُكرَه يهوديٌّ على أكل مثل هذا اللحم، فكأنه يُكرَه على إنكار دينه!
إن المسيحيين الذين من أصل يهوديّ (والذين تأثّروا بهم) ورثوا هذا التحريم، وحاولوا أن يفرضوه على المسيحيّين الآتين من العالم الوثني (أع 15: 29؛ 21: 25؛ رؤ 2: 14، 20). أما بولس فما فرضه، بل ترك ما قيل في سفر الأعمال، وما التزم في رسائله «بالقرار الرسوليّ» الذي اتُّخذ في «مجمع أورشليم»الذي انعقد حوالي سنة 50 (أع 15: 29). بل أعطى حلاً آخر لهذه المشكلة التي كادت تقسم الكنيسة في أيامه. لهذا، سعى إلى الحفاظ على الوحدة حين جعل تجاه الحرّية المسيحيّة، المحبّةَ التي تراعي القريب ولا تشكّكه.
في بداية هذا النصّ (آ 1- 4) نكتشف رأي الأكثريّة في كورنتوس، وهم من أصل وثنيّ. تعليم صحيح: هم متأكّدون أن لا وجود للآلهة. فلا إله سوى الاله الواحد. هذا ما يعرفونه. ولكن قبل أن يوجز الرسول مضمونَ هذه "المعرفة" (آ 4- 6)، فهو يدلّ على أنها محدودة وغير كافية (آ 1- 3). فالمعرفة وحدها لا تكفي. بل هي تحرّك الكبرياء والرضى عن الذات، شأنُها شأن الحكمة البشريّة (3: 18؛ 4: 8). وفي النهاية، فهي تسيء إلى القريب.
وراح بولس أبعد من ذلك: المعرفة بدون المحبّة الأخويّة ليست معرفة حقيقيّة (هي مزيّفة). فمثلُ هذه المعرفة لا تكمن في أفكار يمكن أن تكون صحيحة، بل في محبّة الله والقريب، حسب موجز عن الشريعة نقرأه في الانجيل (مر 12: 29- 31) وفي الرسالة إلى رومة (13: 8- 10). لا يقول بولس: من يحبّ الله يعرف الله. بل "الذي يحبّ الله يعرفه الله" (هو معروف لدى الله). فالله هو من يحبّ أوّلاً. فيختار الانسانَ ويصطفيه لكي يكون ابنَه. فمن جهة الله، المعرفة كاملة. أما من جهتنا، فلن تكون كاملة إلاّ في العالم الآتي. "اليوم أعرف بعض المعرفة، وأمّا في ذلك اليوم، فستكون معرفتي كاملة كمعرفة الله لي" (13: 12). هذا ما قاله الرسول للمؤمنين، فشبّه معرفته الآن بمن يرى في "مرآة"، لا "وجهاً لوجه".
بعد هذا الايضاح، صوّر بولس بإيجاز هذه "المعرفة" التي يشارك فيها جميعُ المؤمنين. لا إله سوى الاله الواحد. والصنم ليس بشيء. إذن، اللحم المكرّس للأصنام، لا ينال أيَّ طابع خاص. فهو لحم مثل كل لحم نشتريه في السوق. ولهذا، فالمؤمن الذي يأكل منه لا يتنجّس. لا شكّ في أن الوثنيّين يقولون بوجود آلهة عديدة، وقوّات سماويّة، وملوك تُعبَد كأنها آلهة (بدأوا يعبدون أباطرة رومة منذ أوغسطس). غير أن المؤمن متأكّد أن لا إله سوى الاله الحقيقيّ، الذي كشف نفسه بيسوع المسيح. وانتهى هذا المقطع باعتراف إيماني حول «وظيفة» الآب والابن بالنسبة إلى العالم وإلى البشريّة: الله هو خالق الكون وغايته. ويسوع المسيح هو وسيط الخلق والخلاص (كو 1: 16- 20؛ لو 1: 3).

2- المعرفة والمحبة (8: 1- 3)
موضوع ف 8 يمكن أن نوجزه كما يلي: علاقة الحريّة بالمحبّة. عندما تكون هذه العلاقةُ صحيحة، نستطيع أن نتكلّم عن معرفة حقيقيّة، هي في الواقع طريقة اتصال بالآخر في توافق وتناغم، حيث أبحثُ عن خير القريب قبل أن أبحثُ عن منفعتي.
في مثل هذا اللاهوت، تطرّق بولس إلى السؤال الذي طُرح عليه. ما هو موقف المسيحيّ من "الصنميّات" أو اللحوم المذبوحة للصنم الذي لا يتعدّى أن يكون من الحجر أو الخشب؟ تلك كانت طريقة اليهود في الكلام. أما الوثنيون فكانوا يسمّون هذه اللحوم: "ما ذُبح للآلهة" (10: 28).
ماذا كان يحدث في الواقع؟(1) هناك لحمٌ يُباع في السوق. إن أكل منه المسيحيّ يخاف أن يشارك، بشكل غير مباشر، في الذبيحة الوثنيّة. (2) قد يدعو المسيحيَّ قريبٌ أو صديق وثنيّ، فهل يجب أن يسأل: من أين هذا اللحم (10: 27)؟ (3) كانت هناك تجمّعات أو نقابات، أو احتفالات اجتماعيّة، يشارك فيها المؤمن الذي لا يستطيع أن ينفصل كل الانفصال عن المجتمع. ولكن في هذا الوضع، فيبدو وكأنه يشارك في وليمة ذبائحيّة إكراماً لهذا الاله أو ذاك.
ليست هي المرّة الأولى التي فيها يُعطي بولس رأيه في أمر خطير مثل هذا. دُعي ليحكم بين الذين يمتنعون عن اللحوم المذبوحة للأصنام، والذين يأكلون منها ولا يتردّدون، فوجّه إلى هؤلاء تنبيهاً قاسياً: إن مثل هذه الممارسة تعني عودَتهم إلى الوثنيّة (10: 1- 22). ولكن عاد الجدال من جديد. اقتنع هؤلاء أن الرسول لم يفهمهم، فاتّهمهم اتّهاماً خاطئاً، فحاولوا أن يعطوه صورة صحيحة عن موقفهم. في الحقيقة، عرفوا أن يستخرجوا النتائج العمليّة من تعليم بولس: إن كانوا يأكلون من هذه اللحوم المذبوحة ولا يتردّدون، فلأنهم استناروا بنور الانجيل: ليس الصنم بشيء، وعبادته لا تعني شيئاً (آ4). فمعرفتهم بالانجيل وبسلطان المسيح، حرّرتهم من مخاوف الوثنيّين. عندئذ استعاد بولس المسألة، فجاء رأيُه مختلفاً عن الجواب السابق: تحدّث عن الحريّة المسيحيّة وعن استعمال هذه الحرية في الجماعة، بروح المسؤوليّة.
بدأ فدلّ على توافقه مع محاوريه الذين يُسمَّون "الأقوياء" في كورنتوس، تجاه المتخوّفين الذين يسمّيهم بولس "الضعفاء" (آ 9، 11). قالوا له: نحن نعلم. فأجاب: كلّنا نعلم، لدينا كلِّنا المعرفة. ولكن الرسول ما عتّم أن حطّم هذا التوافق. ما هي هذه المعرفة التي تنفخ، تزهو بصاحبها، وتجعله يعتدّ بنفسه تجاه الآخرين؟ مثلُ هؤلاء "العارفين" يرون في معرفتهم سلطة روحيّة تحرّرهم من عوائق تقيّد الناس العاديّين الذين يُعتبرون جهّالاً. مثلُ هذه المعرفة تهدم الجماعة وتقتل روح الأخوّة. لهذا، جعل الرسول تجاهها المحبّة، التي تبني، التي لا تسحَق القريب، بل تعينه ليجد الطريق الذي هو طريقه، والمكانة التي هي مكانته في الجماعة. وهكذا جُعلت المعرفةُ تجاه المحبّة.
بدت آ 1 ب كأنها قول عام. ولكنها في الواقع، تحليل للوضع وتحذير. فما هي هذه المعرفة التي فيها لا يراعي الأقوياءُ الضعفاء، فيعرضونهم للخطر بتصرّفم الذي يبدو ملتبساً (آ 7، 13)؟ وكيف يحقّ لهم أن يطالبوا بحريّة مطلقة لا تأخذ في عين الاعتبار أخاهم القريب منهم؟
حين يقابل بولس بين المعرفة والمحبّة، فهو لا يقول هذه أو تلك، وكأننا مجبَرون على الاختيار. فالايمان يتضمّن المعرفة، والمعرفة هي ثمرة الايمان، شرط أن لا تكون مزيّفة. لا يرذل الرسول المعرفة كمعرفة. وفي الجدال القائم، يدلّ أنه يقف، من جهة المبدأ، بجانب الذين تحرّروا من هذه الخرافات. لهذا، فهو يفرض علينا الخيار، لا بين المعرفة والمحبّة، بل بين معرفة ومعرفة. فهناك معرفة ليست بعدُ معرفة. هي معرفة الانسان بذاته. على المستوى الموضوعيّ، معرفته حقيقيّة. ولكنها، لامعرفة وجهلٌ لموضوعها حين تولِّد لدى من يمتلكها كبرياءَ العارف واحتقارَ من لم تصل به المعرفة بَعدُ إلى ملء النور.
تجاه معرفة متكبّرة تعتدّ بأنها تمتلك الحقيقة، فتدلّ على أنها انقطعت عن ينبوعها وسندها، يجعل الرسول المعرفة الحقيقيّة والصادقة التي هي تعلّقُ الانسان بالله وبقصدِه الخلاصيّ، واعترافٌ بجميل الربّ الذي أعطاه ما أعطاه. من يحبّ الله... يجب أن نستنتج: هو يعرفه كما يجب أن يُعرَف. ولكن بولس لا يقول ذلك، بل "هو معروف لديه". أي الله بعرفه. هذا ما يُعطي فكر الرسول وضوحاً وعمقاً. فالانسان لا يعرف الله حقاً إلاّ إذا الله سبق وعرفه في فعل اختيار مجانيّ وسامٍ، وذلك حين يميل إليه ليعرّفه بذاته ويكشف له حبّه.
إن معرفة الانسان لله، إن تأسّست على معرفة الله للانسان، لا يمكن إلاّ أن تكون محبّة. والمحبّة ستكون العلامة الصادقة لهذه المعرفة (وهذا ما يعود بنا إلى آ 1 ب)، وتطبع العلاقات بين الذين يعرفون والاخوة «الضعفاء».

3- المعرفة والإيمان (8: 4- 6)
عاد بولس إلى المحبّة، فأوضح ما هي المعرفة الحقيقيّة. وها هو يعود إلى فعل إيمان بالاله الواحد الذي هو الآب، وبالربّ يسوع. وعاد إلى ما قاله في آ 1: نحن نعرف. هذا ما كتب له الكورنثيون في رسالتهم. برّروا حريّةَ التصرّف لديهم، فلجأوا إلى حقيقة أساسيّة في إيمانهم المسيحيّ: "لا إله إلاّ الاله الأحد". والأصنامُ ليست بشيء إلاّ في مخيّلة الوثنيّين. إذن، يبدو من النافل أن نعيش في الحذر والتشكّك. وسوف يدلّ بولس على توافقه مع فعل الإيمان هذا.
ولكن هناك من يقول بوجود آلهة وأرباب. هم الوثنيّون الذين يقولون. وهم أيضاً بعضُ المسيحيين الذين لم يمضِ على اهتدائهم وقتٌ طويل. "تعوّدوا على الأوثان" (آ 7) فما تخلّصوا بعدُ من هذه العادة. هناك من رأى في الآلهة، أولئك الذين يُعبَدون في السماء، وفي الأرباب الملوكَ والأباطرة. ولكن عبارة "في السماء وفي الأرض" تعني الكونَ كله. ونشير إلى أن لقب "الربّ" أعطي لآلهة جاءوا من الشرق فعُبدوا في العالم اليونانيّ.
كل ما يمكن أن نقوله هو أن الرسول يفكّر بالآلهة والقوى الروحيّة التي لا عدّ لها، التي عبدها الوثنيّون وخافوا منها. ويفكّر بعبادات رسميّة أو جاءت من الخارج، يفكِّر بكواكب هي سيّدة مصير الانسان الذي خاف من تأثيرها السيّئ. تحدّث بولسُ عن الآلهة والأرباب (لدى الوثنيين)، لأنه سيجعلها تجاه الاله الواحد، الآب، والربّ الواحد، يسوع المسيح.
هذا بالنسبة إلى الوثنيّين. أما بالنسبة إلينا (آ 6)، فهناك اعتراف الكنيسة بالآب والابن. وهناك مخطوطات تضيف: الروح القدس. الاله الواحد يجعلنا في إطار الوحدانيّة اليهوديّة. غير أننا نكتشف، نحن المسيحيين، هذا الاله بواسطة يسوع المسيح، الربّ الواحد، الذي لا ربّ سواه. الله الآب هو أصلُ كل شيء وعلّتُه وهدفُه. تلك عبارة أخذها بولس من العالم الوثنيّ، فجعلها اعترافاً إيمانياً بالإله الخالق والمخلّص.
الاله الواحد هو الآب. هو أبو كل شيء، أبو الكون. هو الخالق الذي أعطى كل شيء كيانَه وسبب وجوده. هو بداية كل خليقة ونهايتها. يرد الضمير "لنا" مع حرف الجرّ في صيغة الجمع، فيدلّ على الكنيسة التي نحن أعضاؤها، ويشير إلى تاريخ الخلاص، وهكذا يهيّئ الطريق للاعتراف بيسوع المسيح.
فالمسيح هو، بالنسبة إلى المؤمنين، الربّ الواحد. فيه وبه وحده يتحقّق قصدُ الله الخالق والمخلّص. هذا المسيح هو وسيط الخليقة الأولى ووسيط الخليقة الجديدة. "به كل شيء". ثم "به نحيا". هكذا تعترف الكنيسة بوظيفة المسيح على مستوى الكون (به خُلق كل شيء) وعلى مستوى الخلاص (هو المخلّص الوحيد): فالحبّ الذي يدلّ عليه حين يُتمّ في التاريخ عملَ الفداء، هو أصلُ كل شيء وغايته وهدفه. أجل، توافقَ بولسُ مع الكورنثيين: فإيمانه هو إيمانهم، وإيمانهم هو إيمانه. ولكنه سيختلف عنهم حين يتعامل مع إخوته، وحين يقوم برسالته في الكنيسة.

خاتمة
كان الكورنثيّون قد تعلّموا الحريّة الحقّة من رسولهم. وها هُم يحسّون بعوائق في وجه هذه الحريّة، تأتي من إخوتهم الذين لم يتحرّروا بعدُ كلَّ التحرّر من عادات عرفوها في العالم الوثنيّ. لهذا كان جدال أول على مستوى المعرفة. قالوا: نعرف. فبيّن لهم الرسول أن معرفتهم غير كافية إن لم تتطعّم بالمحبّة. عرفوا أن الصنم ليس بشيء، وأن لا وجود إلاّ للإله الأحد. ثم قالوا له: نعرف. وأعلنوا إيمانهم بإله واحد خالق، وبربّ واحد يسوع المسيح. توقّفنا هنا في قراءتنا. وكان في الامكان أن نعود إلى المحبّة التي تُفهمنا أن الحريّة التي نعيش تراعي ضمير اخوتنا. عندئذ نثبت في الله، والله يثبت فينا (1 يو 4: 13).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM