مع كنيسة كورنتوس : الزواج والبتوليّة

الزواج والبتوليّة
7: 32- 35

طرح الوالدون سؤالاً حول مستقبل ابنتهم: هل يزوّجوها أم لا؟ فأجاب بولس كرجل ائتمنه الله: لم يوافق ولم يعارض. وخصوصاً لم يعطِ أمراً، ولكنه رسم خطاً يساعد كلَّ واحد على اكتشاف الحلّ الذي يفرض نفسه عليه، وعلى الأخذ به مهما كلّفه من صعوبات. تحدّثَ عن خير العزوبة (والبتوليّة)، وبرّرها بالآلام التي يتعرّض لها المؤمنون. وقال: الزمان قصير بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني. ونحن الآن في الساعة الأخيرة. إذن، لنستعدّ ولا نتعلّق بشيء من أمور هذه الدنيا. وهكذا نصل إلى مقارنة بين الزواج والبتوليّة، توجّهت إلى جماعة كورنتوس سنة 57، ولكنها تتوجّه إلينا اليوم أيضاً، نحن الذين نهتف للربّ: ننتظر مجيئك. ونقرأ النصّ:
(32) أريد أن تكونوا من دون همّ. فغيرُ المتزوّج يهتمّ بأمور الربّ كيف يُرضي الربّ، (33) والمتزوّج يهتمّ بأمور العالم وكيف يرضي امرأته، (34) فهو منقسم. وكذلك العذراء والمرأة التي لا زوج لها تهتمّان بأمور الربّ وكيف تنالان القداسة جسداً وروحاً، وأمّا المتزوّجة فتهتمّ بأمور العالم وكيف تُرضي زوجها. (35) أقول هذا لخيركم، لا لألقي عليكم قيداً، بل لتعملوا ما هو لائق وتخدموا الربّ من دون ارتباك.

1- سياق النصّ
خمسُ أو ستُّ سنوات فصلت وصولَ الرسول إلى كورنتوس، عاصمة أخائية، عن تدوين الرسالة الأولى إلى كورنتوس. فالجماعة الفتيّة ازدهرت بسرعة، واتّخذت أهميّة كبيرة، واغتنت بالمواهب المختلفة. ولكن في الوقت عينه، طُرحت فيها الأسئلةُ العديدة. فكورنتوس مدينة النصف مليون ونيّف، عرفت مزيجاً من الناس، وواجهت الجماعةُ المسيحيّة فيها الضلالات والانحرافات من كل نوع: ديانات سرانيّة آتية من عالم الشرق. فلتان في مدينة اعتُبرت عاصمةَ الفجور والدعارة. وقد قال بولس: إذا كان على المسيحيين أن يبتعدوا عن العلاقات مع الفجّار والجشعين والسارقين وعبّاد الأوثان، لوجب عليهم أن يتركوا المدينة. لهذا، فهو يمنعهم أن يحترزوا من الإخوة الذين يكونون من مثل هؤلاء "الخطأة".
وبين الأسئلة العديدة التي تجيب عليها الرسالة، هناك ما يتعلّق بالزواج والعلاقات الجنسيّة. بدأ الرسول فرفض أفعال الزنى بكل أشكاله (5: 1- 5؛ 6: 12- 19). ثمّ تطرّق إلى تعليم "دقيق" حول قيمة الزواج. قالوا له، أو هو قال: "خير للرجل أن لا يمسّ (يمتنع، يعف عن) امرأة" (هي امرأته) (آ 2). انطلق الرسول من هذا القول، فأوضح معناه ورسم حدوده حسب مختلف الحالات الملموسة: المتزوّجون، الأرامل، العازبون، الزواج المختلط، الخطّاب (آ 1- 40). وهكذا دلّ على تفضيله للبتوليّة بشكل رأي خاص، ومثال شخصيّ قدّمه للمؤمنين. كان يحقّ له أن يصطحب زوجة مؤمنة (9: 5)، شأنه شأن بطرس وإخوة الربّ، ولكنه لم يفعل.
ذاك هو سياق النصّ الذي ندرس، وفيه يؤكّد بولس قيمة تكريس الانسان نفسه في البتوليّة: فمن رفض الزواج وأخذ بالبتوليّة، دلّ على اهتمامه بأمور الربّ، فطلب رضى الربّ، وتعلّق به تعلّقاً لا انقسام فيه.

2- الزواج
نحن هنا أمام نظرة جديدة إلى الزواج تبتعد عمّا في العالم اليهوديّ حيث تُخطب الفتاةُ في سنها الثالث عشر والشاب في سنّه السابع عشر، وعمّا في العالم الوثني.
أ- الزواج طريق الجميع
إذا كان بولس لا يقبل بالمحرّمات حول الزواج، فهو يتجاوز موقفَ العالم اليهوديّ الذي يفرض الزواجَ لكي يتواصل عملُ الخالق بإيلاد البنين (تك 2: 18). إنه يقول بكل بساطة: "فليسلك كلُّ واحد في حياته كما قسم له الربّ وكما كانت عليه حاله عندما دعاه الله" (آ 17). فالذي ارتبط بزواج لا يقطع رباط الزواج، والذي عزم أن لا يتزوّج، فهو لا يخطأ (آ 27- 28). بل إن على المتزوّجين أن يعيشوا الحياة الزوجيّة بشكل منتظم، وإن أرادوا العفّة فليكونوا فطنين لئلاّ يجرّهم إبليس إلى ما هو عكس العفّة، لأنهم لن يستطيعوا أن يضبطوا نفوسهم (آ 5). وإذ يُوصي بعد ذلك بالعزوبة، فهو يضيف متوجّهاً إلىالعديدين: "فالزواج أفضل من التحرّق بالشهوة" (آ 9). لسنا هنا أمام نظرة تشاؤميّة، بل واقعيّة: ما أراده الله للبشريّة إجمالاً هو الزواج كطريق عادي هيّأته العناية في خطّ طبيعة الانسان.
ب- حياة جديدة لأزمنة جديدة
بعد هذه الشروح التي أبعدت القلق عن القلوب، أوضح بولس مع ذلك، أن الزواج يمثّل "سماحاً، لا أمراً" (آ 7). يعني هو لا يأمر الجميع بالزواج، ولكنه لا يعارض. وكان قد قال قبل ذلك: "فأنا أتمنّى لو كان جميعُ الناس مثلي". أي أن يعيشوا البتوليّة. غير أنه أقرَّ أن هذه هبة خاصة من عند الله، لا يستطيع أن يطمح إليها كلُّ إنسان (آ 8). وفي الخط عينه، قال للعازبين والأرامل: "خير لهم أن يبقوا مثلي". أمّا إذا كانوا غير قادرين على ضبط النفس فليتزوّجوا" (آ 8- 9).
ولكن إلى ماذا يستند الرسول ليتجرّأ ويتكلّم هكذا؟ الجواب: "وأما غير المتزوّجين فلا وصيّة لهم عندي من الربّ، ولكني أعطي رأيي كرجل جعلته رحمةُ الربّ موضع ثقة" (آ 25). ويتابع كلامه بهذه الثقة عينها: "وأظنّ أن روح الله فيّ أيضاً" (آ 40).
نحسّ أن تعليم الرسول يتمتّع ببعض الوضوح، ولكنه يبحث بعدُ على تعابيره. في أي حال، هو يحسّ بدفع الروح، كما يستند إلى أقوال الربّ التي بدأت تتدوّن في مجموعات، وتنتقل من كنيسة إلى كنيسة. لهذا، استطاع بولس أن يكون متأكّداً ممّا يوصي به الجماعة في كورنتوس.
ثم إن الروح ينير الرسول حول الزمن الذي يعيش فيه. فهو يظنّ بسبب "الضيق الحاضر" أن العزوبة هي الموقف المناسب، وأن المتزوّجين يجدون مشقّة في هموم الحياة". "وأنا أريد أن أبعدها عنكم" (آ 28). رأى بولس أن إخوته يعيشون في حقبة رديئة وصعبة، في عالم فاسد أضاعَ طريقَه (أف 5: 16؛ فل 2: 15). ووعى بشكل خاص أن تحوّلاً جذرياً حصل في التاريخ منذ مجيء المسيح. "إن الزمان يقصر... لأن صورة هذا العالم إلى زوال" (آ 29- 31). إذن، نحن في الدهر المسيحانيّ حيث تبدَّل كلّ شيء، في زمن الملكوت: إذا أردنا أن نستمرّ، ليس المطلوب أن نلد الأولاد، بل أن نكون مستعدّين لعودة الربّ. تبقى للزواج أهميّته، بلا شكّ، ولكنه لم يعد أمراً مفروضاً على الجميع، لأن نوعاً آخر من الحياة برز، فيه يهب الانسان ذاته بكليّتها للربّ، ويتكرّس لمواصلة عمله. هو العزوبة المكرّسة، البتوليّة التي يعيشها الرجالُ والنساء على السواء.

3- البتوليّة
بماذا تتميّز البتوليّة أو العزوبة المكرّسة؟ هي تحرّر (وتكرّسُ) ينذر فيه الانسان نفسه من أجل عمل الربّ.
أ- البتوليّة تحرّر
حين نقرأ آ 25- 31 التي توصي بعدم الإفراط في العلاقات الجنسيّة، باللامبالاة، بل بالامتناع التام (على مثال بولس)، نحسّ أننا في مناخ رواقيّ يعلن سيطرة الانسان على نفسه. والعبارة التي نقرأ في آ 32 (أريد أن تكونوا من دون همّ، محرَّرين من الهموم) ترتبط بالمناخ عينه. غير أن غياب الهموم هذا بعيد كل البعد عمّا يقوله الانجيل من قول يدلّ على الاستسلام إلى العناية الالهيّة من أجل طلب الملكوت دون سواه: "لا تهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ وماذا نلبس؟ ... فاطلبوا أولاً الملكوت وبرّه (أي ملكوت الله ومشيئته)، فيزيدكم الله هذا كلَّه" (مت 6: 31- 33). ونقرأ في مت 16: 25: "لأن الذي يريد أن يخلّص حياته يخسرها، ولكن الذي يخسر حياته في سبيلي يجدها".
في الحقيقة، أراد بولسُ أن يحرّر المسيحيّين من هموم خاصة يعرفها المتزوّجون. من اهتمام بارضاء الزوج أو الزوجة، إلى انقسام يجتاح حياتهم.
هناك أولاً الهموم الماديّة. هموم العمل والأجر الذي نناله لكي نحافظ على مستوى حياتنا أو نحسّنه. هموم السكن والصحة. هموم المدرسة للأولاد والبحث لهم عن وظيفة. هموم نشارك فيها الآخرين أفراحَهم وأحزانهم، هموم الحياة الزوجيّة، فأحبّ الآخر ويحبّني مع الابتعاد عن الأنانيّة أو الملل أو عدم الأمانة.
ولكن حين يتكلّم بولس عن همّ المرأة بأن ترضي زوجها، فهو لا يفكّر أولاً بالأمور العاطفيّة وجمال الجسم الذي يجعلها محبّبة. بل يتطلّع إلى الاهتمام بالبيت بما فيه من أولاد وخَدَم، وإلى نجاح العائلة على المستوى الاجتماعيّ، بحيث تكون معروفة وسمعتها طيّبة. ذاك هو معنى فعل "أرضى" في الرسائل البولسيّة: "السيرة التي تسيرونها اليوم كما تعلّمتموها منّا لإرضاء الله" (1 تس 4: 1). ونقرأ في روم 15: 1- 2: "لا نطلب ما يُرضي أنفسنا، بل ليعمل كلّ واحد منّا ما يرضي أخاه لخير البنيان المشترك".
إن كانت المرأة المتزوّجة "منقسمة"، فهذا لا يعني أننا ننتزعها من هموم الجسد والأرض لنتيح لها أن تتكرّس بكليّتها للروحيّات، للصلاة والتأمّل. مثلُ هذه النظرة إلى عزوبة الراهب والكاهن، وُجدت بعض المرات في تاريخ الكنيسة، وقد عبّرت عنها الترجمة الشعبيّة اللاتينيّة حين فسّرت آ 32 كما يلي: "من كان بلا امرأة يهتمّ بما هو للربّ، وهكذا يُرضي الله". فأمور الله من (تأمّل ومشاهدة) تأخذ مكانتها قرب الاهتمام بأمور الربّ، بما في هذا الاهتمام من تعب.
غير أن هذا التفسير ينسى البُعد الروحيّ لخيرات الأرض التي يستعملها المؤمن واللامؤمن. فالرجل المتزوّج الذي أمّن لنفسه البيت والوظيفة في المجتمع، يُفرَض عليه أن يجاهد من أجل العدالة والسلام والتفاهم، وهي قِيَمٌ نجدها في عظة الجبل (مت 5- 7). إن الانسان المكرّس لله لم يعد منقسماً، لأنه بعد الآن، يحدّد موقعَ جميع الهموم البشريّة، في منظار الربّ يسوع الذي تكرّس له بكليّته، الذي وقف له ذاته بملء الحريّة والفرح.
ب- البتوليّة تكريس
قال بولس عن الرجل كما قال عن المرأة، إن لا همّ لهما سوى أمور الربّ. هما يسعيان إلى إرضاء الله. وهكذا يتعلّقان به تعلّقاً لا انقسام فيه، وهذا ما يطلبه منّا.
غير أن الرسول أضاف تفصيلاً يتعلّق بالمرأة: "وكذلك العذراء والمرأة التي لا زوج لها تهتمّان بأمور الربّ وكيف تنالان القداسة جسداً وروحاً" (لتكونا مقدّستين نفساً وجسداً. أو لتكرِّسا للربّ الجسدَ والروح) (آ 34). هي تريد أن تكون مقدّسة بجسدها وروحها. تلك هي المسيرة البيبليّة كما يفكّر فيها القديس بولس. فالكتاب المقدّس يضمّ ضماً وثيقاً الطهارة والقداسة: فالطهارة تتيح لنا أن نقترب ممّا هو مقدّس، مكرَّس. في الأصل، نحن أمام طهارة على المستوى الماديّ، وامتناع عن العلاقات الجنسيّة. مع المسيح، صارت الطهارةُ حالة باطنيّة وروحيّة. ومع ذلك، يحكم بولس بقساوة على الزنى حيث يستسلم الانسان إلى خطيئة جسد هو هيكل الروح القدس، بعد أن افتداه المسيح بذبحه (6: 15- 20). حين تُلغي العزوبةُ المكرّسة خطرَ عبادة الأوثان وتدنيسَ الأقداس، ترفع الانسانَ إلى العالم القدسيّ، إلى القداسة.
أراد الرسول أن يشدّد على سمة في تكريس المرأة، يرتبط بنظرة إلى المرأة الحقيقيّة في كل العصور، لا في حقبة محدّدة ومحيط اجتماعيّ معيّن. فطهارةُ العذراء المكرّسة، شأنها شأن طهارة الخطيبة التي تمضي إلى لقاء خطيبها في سرّ الزواج، تنطبع بطابعِ من نذرَ نفسه للآخر وقدّمها قرباناً. أما عطاء الانسان ذاته، فيرتبط أولاً بغيرة لخدمة الله وتخصّص لقضيّته. لهذا تحدّث بولس في 2 كور 11: 28: "ما أعانيه كل يوم من اهتمام بجميع الكنائس".
من أعطى نفسه للرسالة، يستطيع أن يهتف بالفم الملآن: "أنا رجل حرّ عند الناس (حرّ بالنسبة إلى الجميع، وغير مرتبط بأحد)، ولكني جعلتُ نفسي عبداً لجميع الناس (للجميع)، حتّى أربح أكثرهم" (9: 19). ولكن جميع المكرّسين يسيرون المسيرة عينها: يتجرّدون عن كل شيء ليتكرّسوا للربّ تكرّساً أفضل ويخدموه حيث يدعوهم.
في منظار 1 كور، يجب أن لا ننسى المدلول الاسكاتولوجي (= يرتبط بنهاية الأزمنة) للعزوبة المكرّسة، التي هي إعلان واستباق لما سيكون عليه، في يوم من الأيام، واقعُ الملكوت من أجل جميع البشر. فمتطلّباتُ الجسد المرتبطة بالايلاد تزول مع علامات الحبّ الجسديّ. ولكن منذ الآن، العزوبة المكرّسة هي مثل ثلمة بها تدخل الأبديّة في الزمان، وعلامتها شهادة انسان خلال حياته على الأرض. فهذا التعلّق بالربّ، والاهتمام به وبمشيئته دون غيره، لا يُغلقنا على ذاتنا ولا يُشوّهنا، بل يفتح قلبنا وفكرنا على وسع الكون كله. قد نجد مكرّسين ومكرّسات نضبت فيهم المحبّة فانطبعوا بالقساوة والصلابة. ولكن العديدين أنبتوا حيث مرّوا، الحبَّ والصداقة والعطاء، فشكر الناسُ المسيحَ من خلالهم.
خاتمة
حين نصح بولس الكورنثيين بالبتوليّة أو العزوبة المكرّسة، ما أراد أن ينصب لهم فخاً، وإن لم يكن يعرف ما يلتزمون به وما ينتظرهم. هو المجهول أمامهم، كما أمام المتزوّجين. حين يدخل الانسان في سرّ حبّ الله، لا يمكنه أن يعرف إلى أين يصل به هذا الحبّ. وبولس دخل في هذا السرّ، سواء تزوّج كفريسي أم لا، وأشركنا في خبرته الحميمة. ومثله عاش الكثيرون هذه العزوبة المكرّسة، التي هي في النهاية هبة من الله وجواب إلى نداء شخصيّ يطلب منّا أن نسير في خطى المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM