الفصل الرابع عشر يسوع مخلص العالم الوحيد

الفصل الرابع عشر
يسوع مخلص العالم الوحيد
21:2

"ولمّا بلغ الطفل يومه الثامن، وهو يوم ختانه، سُمّي يسوع كما سمّاه الملاك قبل أن يُحبل به في بطن أمّه " (21:2).
إن هذه الآية تستحق الدرس رغم ايجازها. فالاشارة إلى الختان تذكرنا أن مريم ويوسف أتَّما كل بر (رج مت 15:3) عملا ارادة الله تجاه يسوع: إنه ابن حقيقي لشعب اسرائيل. خضع للشريعة وأراد أن يتقبّل في لحمه، في بشريته علامة العهد، قبل أن يقيم العهد الجديد والنهائي في دمه. غير إن اعطاء اسم يسوع للطفل يبدو لنا أكثر اهميّة.
نلاحط أولاً في المجموعة المؤلفة من ف 1- 2، أن خبر الختانة وتسمية يسوع يقابل خبرًا يتعلّق بيوحنّا المعمدان. فالتوازن ظاهر عند لوقا بين خبرَيْ البشارة، بشارة زكريا بمولد يوحنّا المعمدان، وبشارة مريم بمولد يسوع. وهو ظاهر أيضًا بين خبرَيْ الولادة مع التشديد على سموّ يسوع، وخضوع يوحنّا له. إن لم يكن هذا ظاهرًا هنا بسبب قصر النصّ، فيجب أن نلاحظ أن يسوع، أي الله يخلَص (1: 31) ليس اللقب الوحيد الذي أعلن عنه قبل أن يحبل بالولد. فهو يسمى أيضًا "ابن الله " (1: 35) حين تدخل الروح القدس تدخلاً عجيبًا من أجل الحبل به. فالخلاص الذي يحمل يحقق تحقيقا كاملاً "النعمة" (او: الحنان) التي أشار إليها اسم سابقه: يوحنا أي الله يتحنّن، الله ينعم.
فالإِِسم لا يدلّ فقط على الشخص، بل على الرسالة أيضًا. في الماضي أعطى الله اسماً لعدد من الأشخاص العظام. ابرام صار ابراهيم، ساراي صارت سارة، يعقوب صار اسرائيل. والله هو الذي يعطي مسبقا اسم يسوع للمسيح الذي سيلد. بعد هذا سيتقبّل سمعان اسم بطرس (مت 18:16).
إذا كان اسم بعض الأشخاص في الكتاب المقدّس يشير إلى حدث في حياتهم، فهناك آخرون يشير اسمهم إلى مصيرهم، إلى دورهم في مخطط الخلاص. هذا، نقوله عن يسوع الذي يكشف اسمه عن وظيفته المسيحانيّة: "هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم " (مت 1: 21). فالله "لم يرسل ابنه الى العالم ليحكم على العالم (بالموت)، بل ليخلّص به العالم " (يو 17:3). فإن كان الايمان المسيحي كلّه يتلخَّص في شخص يسوع، فإسم يسوع عينه (أي الله يخلّص) يستحقّ أن نتوقّف عنده. يسوع هو أساسًا الله الذي يحمل الخلاص.
إن دراسة سريعة لموضوع الخلاص في التوراة تساعدنا على ايضاح هذا الانجيل الذي ندرس. ففي الفصول الاولى من سفر الأعمال الذي يدلّ على لاهوت أولي، نجد شهادة واضحة عن إيمان الكنيسة الفتية بالخلاص الذي حمله يسوع. تأملت الكنيسة في حدث الفصح فدعتنا إلى قراءة العهد القديم وكأنه خبر نبوي عن الخلاص. وفي العالم الوثني، العالم اليوناني والروماني، الذي بشره الرسل، ظهر انتظار خلاص حقيقي وإن جاء التعبير عنه مضطربًا. فقد عارض بولس المخلص الوحيد ليسوع مع "الالهة المخلصين" و"الاباطرة المخلصين". وستدلنا الأناجيل الازائية كما دلت المسيحيين الأولين في حياة يسوع على الأرض، ستدلّنا على آيات الخلاص المسيحاني الذي تحقق منذ الآن. وأخيرًا، تقدِّم لنا أقوال يسوع وآياته بل شخصه لكي نعمِّق ايماننا في ابن الله و"مخلّص العالم ".

1- يسوع المخلص في اعمال الرسل.
حين نقرأ القديس بطرس في سفر الأعمال نكتشف بوضوح أن يسوع القائم من الموت هو في قلب الكرازة الرسولية الأولى. فيسوع هذا الذي قتله اليهود وأقامه الآب بقوته الفائقة، قد أقيم الآن ربًا ممجدًا، ربًا مخلصًا. ووظيفته الجديدة ظاهريًا تقوم بأن يخلص كل البشر الذين يؤمنون به ويدعون باسمه. "إن إله آبائنا أقام يسوع الذي علّقتموه على خشبة وقتلتموه. فهو الذي رفعه الله بيمينه وجعله رئيسًا ومخلصًا ليمنح شعب اسرائيل التوبة وغفران الخطايا" (أع 5: 30-31؛ رج 13: 23).
ولا تنحصر قيامة يسوع وصعوده في شخصه: فهذا السرّ يعني أيضاً خلاصنا. وقد كتب بولس فيما بعد: "أُسلم من أجل زلاتنا وأُقيم لأجل تبريرنا" (روم 25:4). فإن الربّ والمخلص يبدوان لنا لقبين يرتبطان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا. فالصعود أعطى المسيح أن يكشف عن ذاته الآن أنه فاعل الخلاص، وأن يكمل هكذا عمله الفدائي. فيسوع مخلّص لأنه رب (كيريوس). وإذ يشدّد بطرس وسائر الرسل على قيامة يسوع وصعوده كسرّ خلاص، فهذا لا يعني أن الجماعة الأولى لم تكن تُبرز كل القيمة الخلاصية لآلام المسيح وموته. فما سيُسمى فيما بعد "السر الفصحي " كان وحدة مؤلفة من الموت والقيامة، في الايمان، في كرازة الكنيسة الأولى وصلاتها. وعلى هذا عاد العهد الجديد مرارًا الى نشيد عبد الله الرابع كما نقرأه في أش 13:52- 53: 12.
يسوع هو المخلص السماوي وقد دشّن بارتفاعه الأزمنة الأخيرة، الأزمنة المسيحانية. لقد أسّس الجماعة الاسكاتولوجيّة، جماعة المخلصين التي حلّ عليها الروح القدس (أع 2: 14- 36). فغفران الخطايا (أع 2: 38؛ 3: 19؛ 5: 31؛ 10 :43 ؛ 13: 38) والتطهير بالعماد، وعطية الروح، كلها وُجهات واقع الخلاص هذا الذي أعطاه الله في يسوع. ونحن حصرا أمام خلاص روحي، لا أمام تحرّر وطني انتظره بعض اليهود الغيورين، بل جزء كبير من الشعب (رج أع 1 :6). والمعجزات نفسها هي علامة عن هذا التجديد الداخلي، لأنها تفترض الايمان بيسوع. وهذا ما أعلنه بطرس أمام الشعب وشهد به أمام المجلس بعد شفاء الكسيح عند باب الهيكل.
"بالايمان باسمه (باسم يسوع) عادت القوة الى هذا الرجل الذي ترونه وتعرفونه. فالايمان بيسوع هو الذي جعله في كمال الصحة أمام أنظاركم جميعًا" (أع 16:3). وقال بطرس أيضًا: "إن هذا الرجل يقف هنا أمامكم صحيحًا معافى باسم يسوع المسيح الناصري، لا باسم آخر... فما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص " (أع 10:4- 12). وقد تلَّقى الرسل مهمة اعلان هذا الخلاص، وشهادتهم التي يلهمها الروح تتعدّى كل معارضة: "أما نحن فلا يمكننا إلا أن نتحدّث بما رأينا وسمعنا (أع 4: 20). "نحن شهود على هذا كلّه، وكذلك يشهد الروح القدس الذي وهبه الله للذين يطيعونه " (أع 5: 32).
ويقيم اسطفانس في الخطبة السابقة لاستشهاده موازاة بين العبرانيين تجاه موسى الذي أرسله الله لهم مخلّصًا (أع 7: 39- 41)، وبين اليهود معاصري يسوع، موسى الجديد الذي وقفوا في وجهه (أع 7: 51- 53). تذكَّر هذا الماضي البعيد ليلقي ضوءًا على الوقت الحاضر، فأشار بوضوح إلى مهمة الخلاص. فيسوع هو مثل موسى، بل أفضل منه (أع 35:7- 38) وقد أرسله الله ليخلّص شعبه ويجمعه.
وتشهد كرازة بولس في انطاكية بسيدية (أع 13: 14- 52) على أن هذا الخلاص قد هيّأه العهد القديم وانبأ به. أُعِدّت رسالة الخلاص (آ 26) اولاً لابناء ابراهيم والذين يخافون الله، فامتدت إلى كلّ الوثنيّين (آ 46- 49). ولكن الله اخذ من نسل داود، حسب وعده، اخذ يسوع مخلصًا لشعب إسرائيل (آ 23).
في العهد القديم دُعي اسم يهوه (الرب) على الشعب (عد 22:6 ي؛ ار 14: 9؛ مز 6:99؛ 116: 4). بعد اليوم، يدعى اسم يسوع الذي يخلِّص: "كل من يدعو باسم الرب يخلص ". هذا مما قاله أع 23:2 موردًا يؤ 3: 5 (رج روم 10: 9- 13). ولهذا، فالرسل يعظون بهذا الاسم، وبقوته يعملون، ومن أجله يتألمون (رج أع 6:3، 16؛ 4: 10، 17، 18؛ 28:5، 40- 41؛ 8: 12، 16؛ 15:9 - 16؛ 28:27). وسيتحدث النص عن الاسم في المطلق وكأنه اقنوم وشخص حيّ. نقرأ في أع 5: 41: "فخرح الرسل من المجلس فرحين لأن الله وجدهم اهلاٌ لقبول الاهانة من اجل الاسم " (اي من اجل يسوع). قد نكون امام كرستولوجيا عتيقة (كما في الديداكيه ورسالة اكلمنضوس الأولى)، ولكن هذه الكرستولوجيا تشدّد في الوقت عينه على اهمية اسم يسوع، وعلى مدلول هذا الاسم وان كانت لا توضح ابدًا أصله الاشتقاقي.

2- المخلص الذي وعد به الله وانتظره اسرائيل
قيل ان كل لاهوت هو كرستولوجيا أي حديث عن يسوع المسيح، ونقول أيضًا كل لاهوت مسيحي هو سوتيريولوجيا أي لاهوت الخلاص الذي أعطاه الله في يسوع المسيح. ولكن هذا الخلاص يتدوّن في تاريخ يتضمن الاستعداد، الاعلان، التحقيق، التتويج.
لقد شدّد إيمان الكنيسة الأولى دومًا على وجهة تكملة الأحداث الحاسمة، احداث موت يسوع وقيامته. لقد جاء وعاش وتألّم ومات وقام من بين الأموات "حسب الأنبياء"، "كما في الكتب"، "ليتمّ الكتاب " وبصورة أعمق، إن رسالته كمخلص تُتمّ وتتوّج خبرة طويلة من "خلاصات " (جمع خلاص) في العهد القديم. وهي تتجاوب مع رجاء اسرائيل في تحرّر كامل ونهائي وعد به الانبياء باسم الله نفسه (رج عب 1: 1-4).
وعلى خبرة هذه "الخلاصات " بدورها وهذا الامل بتحرر كامل ان تساعدنا على فهم واقع الخلاص النهائي الذي حمله يسوع المسيح. فهي رسمة مسبقة تتيح لنا أن نتأمّل في التحفة الأخيرة التي هي الكمال بالذات.
إن التوراة تعبّر عن عمل الله الخلاصي بألفاظ عبرية مختلفة تتحدّث مرة عن "الخلاص " (يشوع، رج يشوع ويسوع) الذي هو انقاذ ووُسع بعد الضيق. وتستعمل مرة اخرى لغة الفداء حيث يبدو الله كالفادي (محرّر من العبوديّة، فدى، افتدى) كالمنتقم للدم (جائل) والولي أي القريب الذي يتولّى استرجاع خيرات وُضعت اليد عليها بعد دين لم يُدفع. والله هو الذي يحقّق التطهير الليتورجي، هو الذي يكفّر (رج ليتورجية يوم كيبور او يوم التكفير).
مهما كانت الألفاظ المستعملة، فهي تدلّ اساسًا على انقاذ، على تحرير حقّقه الله من أجل شعبه أو فقرائه فمنحهم ملء الخير والفرح. اذن المفردة العبرية "خلاص " ليست سلبية. انها مثل كلمة "السلام ". فالله حين يخلّص الإِنسان يغمره بالخيرات الماديّة والروحيّة ويجعله يبتهج من الفرح. اجل، إن الَخلاص هو في الوقت عينه انقاذ مؤلم ودخول في الفرح. وسيتوسع القديس يوحنّا في هذا المعنى الأولاني فيشدّد على "الحياة" ويقدّم يسوع كالمخلص الذي "يعطي الحياة (يحيي) لمن يؤمن به.
العهد القديم كله هو في الوقت عينه تاريخ خبرة الله المخلص ورجاء متين بخلاص نهائي وعد به الله أخصاءه. لقد هيّأ الله مجيء ابنه "بزيارات " (افتقادات) عديدة وجعل في قلب شعبه رغبة بخلاص عظيم فينجو بفضله من اعدائه ليخدمه في البرّ والقداسة (لو 1: 68 ي). ثم إن هذه الثقة بالمستقبل تستند إلى خبرة الماضي: إن "خلاصات" البارحة هي عربون التحرير المقبل.

أ- التاريخ المقدس تاريخ الخلاص
ليس تاريخ اسرائيل سلسلة من الأحداث تسير مسارها دون رابط بينها. ان هذا التاريخ يُعاش كخبرة متواصلة عن حبّ الله المخلص. وكل مرة انحنى اسرائيل على ماضيه، اكتشف في نسيج تاريخه خيط "خلاصات الله. والخبرة الكبرى والمميزة تبقى خبرة الخروج التي صارت للفكر اليهودي والمسيحي نموذج وعربون انقاذ. أتمَّه الله من أجل شعبه.
قبل عبور البحر الأحمر، قال الله للشعب: "انبذوا كل خوف. اثبتوا وسترون ما سيعمله الربّ اليوم لكي يخلّصكم... الربّ يحارب عنكم وأنتم لن يكون لكم أن تعملوا شيئًا (خر 13:14). ويعظّم نشيد موسى (خر 15: 1ي) الربّ الذي يدين له الشعب بالخلاص. وسيعود الموضوع مرارًا في نصوص لاحقة (اش 63: 8 ي؛ مز 106: 8، 10، 21).
وعلى خطى موسى الذي هو أداة خلاص صنعه الله من أجل شعبه، جاء يشوع (= الله يخلص) والقضاة "كمخلصين" ينقذون بني اسرائيل من أيدي أعدائهم (قض 16:2، 18؛ 9:3 عن عتنيئيل؛ 15:3 عن أهود؛ 14:6 عن جدعون؛ 13: 5 عن شمشون). وبعدهم سيأتي صموئيل (1 صم 8:7) وشاول (1 صم 13:11) وداود (2 صم 8:3) فيكونون اداة تؤمن خلاص الله.
وسيختبر داود نفسه هذا الخلاص خلال انتصاراته (2 صم 6:8، 14؛ 23: 10، 12).
وحين حاصر سنحاريب الملك الأشوري مدينة أورشليم سنة 701، تحدى الله إن كان يقدر أن يخلص شعبه (2 مل 18: 30 ي). حينئذ نقل أشعيا إلى الملك حزقيا قول نبويًا ظل مشهورًا وهو ينتهي بهذا الوعد الالهي: "سأحفظ هذه المدينة واخلصها من أجلي ومن أجل داود عبدي " (2 مل 19: 34؛ رج 20: 6). فكل الانتصارات وكل الانقاذات التي نَعِم بها الشعب تُنسب إلى الله الذي يخلص اخصاءه أمانة لنفسه وللملك الذي مسحه (مسيحه). وهذا الاعتقاد يعود إلى الأزمنة الأولى في تاريخ الشعب، كما يشهد بذلك عدد من اسماء العلم التي نجد فيها الخبر "يشع " (خلص): يشوع، اشعيا، اليشاع، هوشع... لا مخلص خارجًا عن يهوه (هو 13: 4؛ أش 43: 11). فاليه نتجه لكي نجد الخلاص.
وفي قلب هذا الشعب المتأكد من خلاصه، يعي كل اسرائيلي حماية شخصية، يمنحه الله اياها. كم من المزامير تضع أمام عيوننا هؤلاء الفقراء والوضعاء، هؤلاء المتضايقين والمضطهدين الذين يختبرون في حياتهم خلاص الله. ويعدد مز 107 مختلف هذه الفئات "التعيسة التي خلصها الله من ضيقاتها: المشردون والاسرى والمرضى والمهددون بالغرق والجائعون وغيرهم. وكلهم يستحقون الردة عينها: "صرخوا الى الرب في ضيقهم فنجاهم من جميع مضايقهم " (مز 107: 13، 19، 22). وستصوّر بعض الأسفار المتأخرة مثل سفر دانيال هذا الخلاص الالهي الذي يجعل الأبرار ينجون من الأخطار الشديدة. مثلا، الفتية الثلاثة في آتون النار (دا 3: 28) ودانيال في جبّ الأسود (دا 6: 17، 23).

ب- الخلاص هو موضوع رجاء وصلاة اسرائيل.
وسيتأسّس على هذه الخبرة التاريخية رجاء لا يغلَب في قدرة الله وحبه الخلاصي. وتشهد على ذلك أقوال الانبياء والصلوات الفردية والجماعية التي نجد أكثرها في سفر المزامير.
إن لقب "إله خلاصي " (الله مخلصي)، "اله خلاصنا"، والنداء "خلصني" و"خلص يا رب "، هي جد متواترة في المزامير وهي تعبّر عن إيمان لا يتزعزع لأنه يرتبط بهذا الرجاء العظيم. الله يستطيع ان يخلصنا لأنه يحبّنا ولأنه خلصنا في الماضي. ويعبر مز 85 افضل تعبير عن خبرة هذا الخلاص فيقول: "ارجعنا يا إله خلاصنا واصرف غضبك عنا... ارنا يا رب رحمتك وليُعطَ لنا خلاصك... قريب هو خلاصه من الذين يخافونه والمجد يسكن ارضنا. الرحمة والأمانة تلاقيا، العدل والسلام تلاثما. الأمانة تنبت من الأرض والعدل ينحني من السماء" (مز 5:85-12).
مرات كثيرة يتوسل المؤمن لينجو من مرض او خطر الموت (مز 2:29، 15) أو اضطهاد (مز 22: 22؛ 31: 12، 16؛ 59: 2) أو اجتياح. ولكن هذا الخلاص الجزئي هو رسمة بعيدة لخلاص اسكاتولوجي ونهائي أعلن عنه الأنبياء. "خلّصنا أيها الربّ الهنا، واجمعنا من بين الأمم" (مز 47:106). كل هذا يجعلنا نقرأ مز 96 و98 كشكر مسبق لما سيعمله الله من أجل شعبه: "رنّموا للرب ترنيماً جديداً فإنه صنع المعجزات. الخلاص يأتينا من يمينه ومن ذراعه القدوسة. أعلن الرب خلاصه، ولعيون الأمم كشف برّه... كل أقاصي الأرض رأت خلاص إلهنا" (مز 98: 1- 3).
فبعد النفي الى بابل تكاثرت الأقوال التي فيها يعلن الله مخططه الكبير بالخلاص الشامل. فخبرة السبي المؤلمة أشعلت الانتظار والرغبة والرجاء بانقاذ يتم سريعًا. أعلن ارميا (31: 7) اعادة بناء اسرائيل، فكان حزقيال امتدادًا له، وكذلك اشعيا في قسمه الثاني. "سآتي وأخلّص خرافي " (حز 34: 22). "تكونون شعبي وأكون الهكم. أنجيكم من كل نجاساتكم " (حز 28:36- 29). "لا تخف يا يعقوب، الدودة الحقيرة، ويا اسرائيل الحشرة الضعيفة، فأنا آتي إلى نصرتك... قدوس اسرائيل هو فاديك " (اش 14:41). "لا تخف لأني افتقدتك. دعوتك باسمك لأنك لي... فأنا الرب الهك، قدوس اسرائيل ومخلصك " (1 ش 43: 1- 3).
وهكذا طوال ما سُمِّي "كتاب التعزية والتشجيع" (أش 39- 55) قدّم الرب نفسه على أنه الفادي. إنه ولي اسرائيل ومخلصه. وستبدو العودة من بابل على أنها خروج جديد أجمل من الخروج الأول.

ج- من الآمال البشرية الى فضيلة الرجاء.
لقد تأسّس الرجاء تأسيسًا متينًا وكاملاً على كلمة الله منذ أولى أزمنة "التاريخ المقدس " حيث قيل: آمن ابراهيم بالله (تك 15: 6) وترجّى رغم كل رجاء، اي ساعة لم يعد من رجاء (روم 18:4). ولكن الشعب ما زال محتاجًا إلى فترة طويلة من التربية الالهية ليتوافق موضوع هذا الرجاء البشري مع مخطط الله. فلقد اتخذ رجاء اسرائيل وقتًا طويلاً حتى يصل الى التحرر من الخطايا، وحتى يتطلع الشعب إلى خلاص شامل يعّم شعوب الأرض كلها.
لا نستطيع ان نرسم هنا الخطوط الكبرى لهذا التوسع، ولكننا نورد بعض النصوص المزمورية التي تبقى لنا الشاهد على تصوّر الضمير الجماعي والفردي في اسرائيل. فاذا كانت مختلف مزامير التوسل تطلب التحرر من الأعداء او الشفاء من امراض الجسد، فهناك مزامير اخرى تجعل الانسان يرغب في غفران خطاياه ويطلب من الرب هذه النعمة (مثلا، مز 32؛ 51؛ 130؛ 143). ويدلّ مزمور "ارحمني " وفيه يتوسل المرنّم لكي ينجو من الخطيئة التي هي شر الشرور، يدلّ على هذا التطوّر الروحي الذي هو ثمرة الكرازة النبوية: "ارحمني يا الله بحسب رحمتك... من خطيئتي طهرني. فانا عارف بخطيئتي. قلبًا نقيًا أخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا في احشائي. أعد لي فرح خلاصك واجعل فيَّ روح السخاء ونجّنى من الدماء يا إله خلاصي" (مز 3:51-5، 12، 14، 16).
وتعبّر اقوال عديدة في سفر اشعيا عن الخلاص الذي يعمّ المسكونة: حين ينجو اسرائيل يصبح لكل الشعوب محور المديح والفرح. وصهيون التي تخرج منها الشريعة تجتذب إليها كل الشعوب (اش 2: 2ي؛ 60: 1ي). ويعلن مز 87 ان كل الشعوب الوثنية سيصبحون مواطنين في أورشليم. نحن امام خلال شامل ومديح مسكوني (مز 117).
كل هذا الانتظار، كل هذه الصلوات قد تمّت في شخص يسوع. مخلص المسكونة: "كل مواعيد الله وجدت فيه نعمها" (2 كور 1: 20).

3- من المخلِّصين العديدين في العالم الوثني الى يسوع المخلّص الوحيد.
إن الخلاص الذي وعد به الرب وأعلنه الأنبياء وتحقّق في يسوع، الله المخلص، لم يكن معدًّا فقط لليهود، بل لجميع البشر دون تمييز في العرق واللون. وفي زمن اعلان بشرى الخلاص هذه، كان العالم اليوناني والروماني متأثِّرًا ببعض الديانات السرية التي تَعِد بالخلاص. وكان الاباطرة الرومان (بل بعض الامراء) يسمون نفوسهم "مخلصين" (سوتر). فكما ان هذا العالم عرف عددًا من الآلهة وعددًا من الارباب (1 كور 8: 5) الذين وضع بولس في وجههم الاله الواحد والرب الواحد، هكذا عرفت حواضر البحر المتوسط عددًا من المخلصين الالهيين او البشريين جعلت أمامهم الديانة المسيحية المخلص الواحد. فإن التقاربات البعيدة وإن مشوَّهة عن خلاص الله، تساعدنا على تحديد موقع ايمان الكنيسة وعلى التشديد على تسامي هذا الايمان.
في كل حواضر الامبراطورية الرومانية ارتفعت معابد اكرامًا لقيبالس، الالاهة الأم، وزوش الذي هو جوبيتر ورئيس آلهة رومة. وارتفعت هياكل صغيرة للآلهة ايزيس، سيرافيس، اسكولابيس، هرماس، ديوسقورس... وقد لُقب هؤلاء الآلهة فيما لقبوا "بالمخلِّصين ". فزوش هو الاله الذي يخلص من الآفات والمصائب فيسمى بكل بساطة "المخلّص". وقيباليس تكرّم "كالأم التي تخلص". ايزبس هي ديانا وارطميس (إلاهة الوثنيين، أع 28:19)، هي الالاهة الكبرى والسيدة المخلصة.
والامراء والاباطرة من جهتهم مثّلوا الالهة لدى البشر فأخذوا لقب المخلص وطالبوا بالاكرام المحفوظ للآلهة. فهناك مدوًّنة في سميرنة (ازمير في تركيا) تسمي أميرًا من السلالة العرقية السلوقية الحاكمة في انطاكية: "انطيوخس الاله والمخلص". ووُصف يوليوس قيصر بالمخلص ومخلص العالم (لقب اعطي ليسوع في يو 22:4؛ 1 يو 14:4) في مدوّنات وجدت في اثينة وافسس. ونقول الشيء عينه عن اوغسطس وكلوديوس وفسبازيان...
ماذا ينتظر الناس من الآلهة ومن الذين يمثلونهم على الأرض حين يحيونهم ويسمّونهم "مخلصين "، فينتظرون الخلاص من كل ضيق، ونيل السعادة والصحة والغبطة في الآخرة؟ يطلبون من الآلهة المخلصين خصبَ الأرض والقطيع والأسرة، يطلبون السلام الذي هو خير الخيرات. وحين يجيء ملك جديد يرجو الشعب مزيدًا من السعادة، وحين يعلن تنصيبه على الشعب يسمّى هذا التنصيب " بشرى، بشارة، إنجيلاً أي خبرًا طيّبًا".
بعد هذا نرى أنّ سرّ الخلاص الذي أعلنه الرسل وتجاوب مع رجاء الشعب اليهودي، قد وجد أيضًا في العالم الوثني قلوبًا تنتظر. ومهما كان هذا الانتظار ناقصًا، إلاَّ أنه هيَّأ بعض القلوب لتستقبل تعليمًا عن الخلاص الوحيد في يسوع المسيح، وهو تعليم يتجاوز كل خبرة وكل انتظار.

4- إنجيل بولس.
إنتظر اليهود تحرير إسرائيل بواسطة مسيح منتصر، وتاق الوثنيّون إلى تحرّر بفضل مخلّصين من البشر اعتبروا نفوسهم آلهة. إلى هذه الفئة وتلك قدّم بولس يسوع ابن الله ومخلّص الكون الذي يحرّر تحريرًا نهائيًا كل الذين يؤمنون به من الخطيئة والموت والشريعة، ويدخلهم في حياةٍ ، ويضمّهم إلى موته وقيامته بالمعموديّة.
لقد بين عدد كبير من الشرّاح أنّ الفكرة الجوهريّة في تعليم بولس هي الخلاص. فقد أراد في كلّ رسائله أن يُعلن الخلاص الذي أعطي في يسوع، أن يعرض دومًا، وبصورة أعمق غنى هذا السرّ وأن يوضح شروطه: خُلِّص المسيحي في الرجاء (روم 24:8) فوجب عليه أن يحيا في الإِِيمان وفي توافق مع وضعه الجديد، بانتظار الفداء التام والنهائي. وشخص يسوع هو في قلب هذه السوتيريولوجيا، هذا التعليم عن الخلاص. لسنا أمام فكرة مطلقة عن الخلاص، بل أمام شخص يسوع نفسه المخلّص القائم من الموت الذي يحتلّ قلب إيمان بولس وتعليمه.
يخلّص المسيحي بالإِيمان بالإِِنجيل الذي هو "قوّة الله لخلاص كلّ مؤمن " (روم 1 :16؛ 1 كور 1: 18)، بل يخلّص بالإِيمان بيسوع القائم من الموت: "فإِن اعترفَتْ شفتاك بأنّ يسوع هو ربّ، وإن آمن قلبك أنّ الله أقامه من بين الأموات، تخلص. لأن إيمان القلب ينال البرّ، واعتراف الشفاه الصلاة) (روم 9:10- 10). ولا يعيش المسيحي في رجاء خلاص (أي لا يرتكز على الواقع والحقيقة) مجرّد بل في انتظار المخلّص: "مدينتنا في السماء، ومن هناك ننتظر بشوق مجيء المخلّص، الربّ يسوع المسيح (فل 20:3؛ رج 1 تس 1: 10؛ روم 9:5؛ عب 9::28). وقد نلنا هذا الفداء المقبل منذ الآن، لأن المسيح "الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم من أجل تبريرنا" (روم 25:4) "جاء يخلّص الخطأة" (1 تم 1: 15). فالله خلّصنا (تي 3: 5- 6) بالمسيح، لأن الله "صالَحَ العالم معه في المسيح" (2 كور 19:5). وإذا كان لقب المخلص ينطبق في الرسائل الرعائيّة على الله الآب وعلى المسيح، فلأن هذا الفداء يبدو عملاً إلهيّاً: قرَره الآب "الذي يريد خلاص جميع البشر" (1تم 2: 4) وحقّقه في يسوع الذي تنتظره وهو "الإِِله العظيم والمخلّص " (تي 2: 12).
ويعبّر بولس عن فكرة الخلاص بألفاط مثل: خلص، مخلّص، خلاص. والبرهان على ذلك، هذا التعليم الموجز والغني عن التعليم البولسي: (الآب نجّانا (انتشلنا) من سلطان الظلام ونقلنا إلى ملكوت إبنه الحبيب الذي لنا به الفداء وغفران الخطايا" (كو 1: 13 -14؛ رج أف 1: 6- 7). فيسوع يمثل في نظر القديس بولس كما في نظر الكنيسة الأولى كلها الوسيط الوحيد (1تم 5:2) والمخلّص الوحيد.

5- شهادة الأناجيل الإِزائيّة.
لم تهدف الأناجيل الإِِزائيّة إلى إعطائنا لاهوتًا عن الخلاص مبنيُّا بناءً محكماً. إنَّها تحاول أن تنقل إلينا تعليمًا "عمّا فعل يسوع وعلّم حتى صعوده الى السماء" (رج أع 1: 1- 2). ولكن ينكشف سرّ الخلاص في أعمال يسوع وأقواله: يسوع هو المخلّص، هذا هو جوهر التعليم.
ففعل خلص (سوزو) الذي يُستعمَل فقط للحديث عن عمل المسيح المرتبط برسالته الفدائيّة، يُستعمل خاصة في أخبار الأشفية. أما ما يقابله في العالم السامي ففعل "حيا، أحيا". فنازفة الدم ترجو أن "تخلص" أو "تشفى". فقد أعلن لها يسوع: "إيمانك خلّصك (في السريانيّة: أحياك) إذهبي بسلام وكوني معافاة من مرضك" (مر 5: 25- 34 وز). فالرباط بين الشفاء (أي الخلاص). والإِيمان الذي هو شرطه، والسلام الذي هو ثمرته، هذا الرباط يرد مرارًا عند القديس لوقا. فقد أعلن يسوع للخاطئة في بيت سمعان الفرّيسي: "إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام " (لو 7: 50؛ رج 8: 5؛ 17: 19؛ 18: 42). العبارة هي هي، ولكنّنا أمام شفاء داخلي. غير أنّ الإِِيمان يتدخّل دومًا كشرط لا بدّ منه. ونعود إلى سياق شفاء جسديّ مع حادثة الرجل اليابس اليد (مر 3: 4= لو 9:6)، ومع إقامة ابنة يائيرس (1 مر 13:5 وز) وشفاء الأعمى (مر 52:10 وز؛ رج مر 56:6).
خلاص على مستوى الجسد وهو رمز لخلاص الانسان كلّه بغفران خطاياه. هذا الخلاص يرتبط دومًا بشخص يسوع: "من أراد أن يخلّص حياته يهلكها" (مر 8: 35 وز). يجب أن نخسرها بسبب المسيح. وفي مكان آخر، الخلاص يعني الدخول إلى الملكوت (مر 10: 26 وز).
واستعمل لوقا استعمالاً خاصًا مفردات الخلاص. هو تلميذ بولس، وانجيله هو "إنجيل المخلّص " كمّا سمّاه الشرّاح. ففي أخبار حياة يسوع العامة، يشدّد الإِِنجيل الثالث على دور يسوع كمخلّص، على ضرورة الإِِيمان، وعلى قيمة الخلاص اللامتناهية (رج لو 3:7؛ 8: 12؛ 23:13؛ 19: 9- 10). ويبرز لوقا بصورة خاصّة الوجهة المسكونيّة لهذا الخلاص فيورد معجزات صنعها يسوع لغير اليهود. وحين أورد كرازة السابق أنهاها بقول أش 40: 5 حتى النهاية: "يرى كل بشر (كل جسد) خلاص الله " (لو 3: 6).

6- الخلاص في أناجيل الطفولة.
دُوِّنت أناجيل الطفولة فيما بعد فشكّلت مقدّمة لأخبار الحياة العامّة التي ألقت بضوئها عليها وكمّلتها. حمل إلينا متى معطية أساسيّة سوف تفسّر في شكل من الأشكال سائر الأناجيل: إن الاسم الذي سيعطيه يوسف للطفل هو يسوع "لأنّه يخلّص شعبه من خطاياهم " (مت 1: 21). فهذا النص الذي يشرح اشتقاق الاسم يشدّد على رسالة الطفل وُيبرز الطابع الديني والاخلاقي للتحرير المسيحاني، لأنّه يتكلم عنه على أنه نجاة من الخطايا. فالفعل لا يعني هنا "شفى" أو"أحيا" بل نجّى من الشيطان والخطيئة.
ويقدّم لو 1- 2 الخلاص الذي حمله يسوع كنتيجة لمواعيد الله وجواب لانتظار اسرائيل. فبعد مولد يوحنا المعمدان السابق الذي يهيئ للرب "شعباً مستعدّاً له" (لو 1: 17)، يعلن نشيدُ المباركة فرح زكريا وشكر الشعب الذي نال زيارة الله المخلّص: "مبارك الربّ الهُ إسرائيل لأنه افتقد وأنقذ شعبه وأقام لنا قوّة خلا عفي بيت داود عبده... يخلّصنا من اعدائنا... وأنت أيّها الصبيّ تُدعى نبيّ العلي لتعطي شعبه معرفة الخلاص لغفران خطاياهم) (لو 1: 68- 77).
ولكن يسوع هو الذي يعطي هذا الخلاص الذي أعدّه السابق. ولقد استعادت مريم العذراء كلمات حنة أمّ صموئيل وصلاة حبقوق فأعلنت فرحها بالله "مخلصها" (لو 1: 47). ولقد أعلن الملاك للرعاة ميلاد المسيح بهذه الكلمات: "اليوم وُلد لكم مخلّص في مدينة داود وهو المسيح الربّ" (لو 2: 11). ويأتي نشيد الاستسلام (الآن أطلق عبدك) الذي هو نشيد وداع للعهد القديم الذي رأى في يسوع شخص المسيح. هذا النشيد يعلن تحقيق ما أخبر به الأنبياء:" الآن يا ربّ، أطلق عبدك بسلام بحسب كلامك (وعدك). فإنّ عينيّ رأتا خلاصك الذي هيَّأته للشعوب كلّها" (لو 29:2- 31).
كل الذين انتظروا "عزاء إسرائيل " (لو 2: 25) أو خلاص أورشليم (38:2) قد نالوا ملء النعمة في يسوع: رأت عيونهم الخلاص الموعود به وشاهدوا المخلّص.

7- يوحنا الشاهد المميّز للمخلّص الذي يعطي الحياة.
لا نجد في الإِِنجيل الرابع كلمات كثيرة عن الخلاص، ولكن تعليم الإِِنجيلي عن التحرير الذي حمله يسوع يَرد في خانة النور والحقّ وخصوصًا الحياة. فالوصول إلى الحياة يفترض مرحلة أولى من التحرر من الظلمة والضلال والموت، وهي مرحلة مؤلمة. فأقوال يسوع وآياته تدلّ على أنّه مرسَل الله الذي جاء "ليخلّص العالم ". تعود هذه العبارة مرّتين في الإِِنجيل. "لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليحكم على العالم (بالموت)، بل ليخلّص به العالم " (يو 17:3: يتكلّم السياق عن الحياة الأبديّة، رج 12: 47). بما أنه الطريق والحق والحياة قال: "من يدخل بي يخلّص " (يو 9:10).
ويعود الخلاص في يوحنا إلى النظام الروحي. يسوع هو الحمل الذي يحمل، يرفع، يأخذ على عاتقه "خطيئة العالم" (يو 1: 29). بهذا يقوم الخلاص الذي يحمله الى العالم. وشفاء الأعمى منذ مولده (يو 9) وإقامة لعازر (يو 11) هما علامتان عن عمل الخلاص هذا. فيسوع هو نور العالم (12:8)، حياة العالم ، مخلّص العالم، وكل هذه التعابير مترادفة. ويتكمل هذا التعليم في مثَل الراعي الصالح (يو 10) وفيه يفسِّر يسوع أنّه يعطي حياته لأجل خرافه: لقد جاء إلى أخصّائه "لتكون لهم الحياة وتكون وافرة" (يو 10: 10). والعهد القديم نفسه كان قد قرّب مدلول الخلاص من مدلول الحياة والنور، فقال مز 27: 1: "الربّ نوري وخلاصي، فممن أخاف، الربّ حصن حياتي، فممن أفزع ".
والعالم الذي جاء يسوع يخلّصه حاملاً إليه الحياة، لا يتألف فقط من اليهود. لا شكّ في أنّ الخلاص يأتي من اليهود" (يو 22:4) ولكنه سيمتدّ إلى جميع البشر. فشموليّة الخلاص يعبّر عنها تعبيراً عجيباً في فعل إيمان السامريين، هؤلاء المنشقّين، وهي تشكّل في نظر يوحنا مدخلاً إلى إيمان الذين لا يدينون باليهوديّة: "سمعنا بأنفسنا وعرفنا أنّه حقّ مخلّص العالم " (يو 4: 42).
إذا كان "العالم كلّه يرزح تحت سلطان الشّرير" (1 يو 5: 19) بدون المسيح، فمع المسيح يجد النور والخلاص، كما يقول مطلع الإِِنجيل الرابع:
"فيه كانت الحياة، والحياة (حياته) كانت نور الناس... الكلمة هو النور الحق الذي ينير كل إنسان. هذا النور جاء إلى العالم " (يو 1: 4- 9).
وكما كان دور يوحنا المعمدان أن يشهد للنور، قام دور يوحنا الرسول بأن ينقل إلى المؤمنين فرح الخلاص واليقين بامتلاك الحياة في يسوع المخلّص. "الحياة تجلّت. نحن رأيناها ونشهد لها الآن ونبشّركم بالحياة الأبديّة (1 يو 1 :2). كتبتُ اليكم هذه الأشياء لتعرفوا أن الحياة الأبديّة لكم، أنتم الذين يؤمنون باسم ابن الله " (1 يو 13:5).

خاتمة:
إنّ مدلول الخلاص هو محور الكرازة المسيحيّة. ولكنّنا لسنا أمام نظرية مجرّدة ولا شخصيّة، ولا أمام نتيجة سحريّة لتنشئة باطنيّة. نحن أمام تحرّر روحيّ يقدّم للجميع بفضل حب يسوع الله الحقيقي والمخلّص، بفضل موته وقيامته. إنّ المسيح المخلّص (سوتر) هو الينبوع الحقيقي والمحور الوحيد للحياة المسيحيّة كلّها.
وهذا الخلاص (الفداء) قد تحقّق بدم المسيح الذي ختم الميثاق الجديد بذبيحته الكاملة والنهائيّة. وتتوسّع الرسالة إلى العبرانيين مطوّلاً في تفوّق الميثاق الأوّل الذي عقد بواسطة موسى (عب 8- 10؛ رج خر 24). نحن لسنا أمام اعتبار خارجي: فيسوع نفسه أكّد أنّه جاء "ليعطي حياته فدية عن الكثيرين " (مر 10: 45) وإذا كان الخلاص هو ثمرة الآلام والقيامة المرتبطة الواحدة بالأخرى ارتباطًا حميمًا، فسرّ الجسد المبذول والدم المسفوك ما زال يعطي الحياة للعالم (يو 6) بتذكيرنا "بموت الرب الى أن يجيء (يعود) (1 كور 26:11). وبالنسبة إلى يوحنا فالصليب يدلّ على الآلام كما يدّلّ على مجد المسيح الذي يُرفع عن الأرض فيَرفع الجميع إليه (يو 12: 32).
هذا الخلاص الذي أعدّه وانتظره العهد القديم، الذي تحقّق وتجلّى في يسوع، الذي ينتقل كلّ يوم في الكنيسة بالكلمة والأسرار، هذا الخلاص يبقي موضوع رجاء وسيُتمّه إتمامًا كاملاً تجلّي يسوع الأخير. لهذا فصلاة المسيحي العاديّة تتضمّن صلاة خلاص. "نجّنا من الشرير". كما تتضمّن نداءً يتوجّه إلى المسيح: "تعال أيّها الربّ يسوع، تعال " (1 كور 16: 22؛ رؤ 22: 20).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM