مع جماعة رومة:القسم الخامس:التبرير بالإيمان


التبرير بالإيمان
3: 21- 28

نحن نتبرّر بالايمان بيسوع المسيح، بدون أعمال الشريعة. مثلُ هذا الكلام يبدو وكأنه يتعارض مع ما يقوله سفر التثنية الذي يذكر وصايا الله، ويعد الانسان بالبركة أو اللعنة حسب سلوكه: البركة إن سمعتم لوصايا الربّ إلهكم، واللعنة إن لم تسمعوا لوصايا الربّ إلهكم وزُغتم عن الطريق (تث 11: 26- 28). بل يبدو وكأنه يعارض نهاية عظة الجبل التي تطلب منّا أن نُتمّ بسخاء مشيئة الله، وتعلن الحكم في يوم الدينونة، حتّى على الذين ينتمون إلى المسيح، إن هم أذنبوا. ولكن تعليم بولس الرسول يقدّم الأساس الضروريّ لهذه الإرشادات الأخلاقيّة: هو يقلب كل اعتداد بشريّ بالذات، ولا يسمح لنا أن نرتكز إلاّ على رحمة الله. فالمسيح وحده ينقلنا إلى عالم الرجاء. وهكذا يجعل بولس المجهودَ الأخلاقيّ في الاتجاه الصحيح، فيدلّنا على ما وُعدنا به من خير في يسوع المسيح. وبهذه الطريقة ننتقل من الخطيئة إلى الفداء، ونفهم دور الإيمان والأعمال.
(21) ولكن الآن ظهر كيف يبرّر الله البشر من دون الشريعة، كما تشهد له الشريعة والأنبياء. (22) فهو يبرّرهم بالإيمان بيسوع المسيح: ولا فرق بين البشر. (23) فهم كلّهم خطئوا وحُرموا مجد الله. (24) ولكن الله برّرهم مجاناً بنعمته بالمسيح يسوع الذي افتداهم (25) والذي جعله الله كفّارة في دمه لكل من يؤمن به، والله فعل ذلك ليُظهر برّه. فإذا كان تغاضى بصبره عن الخطايا الماضية، (26) فهو في الزمن الحاضر يُظهر برّه ليكون باراً ويبرّر من يؤمن بيسوع. (27) فأين الفخر؟ لا مجال له. وبماذا نفتخر؟ أبالأعمال؟ لا، بل بالإيمان. (28) فنحن نعتقد أن الانسان يتبرّر بالإيمان، لا بالعمل بأحكام الشريعة.

1- كلهم خطئوا
في بداية الرسالة إلى رومة (1: 18- 3: 20) بيّن بولس أن جميع البشر، وثنيّين ويهوداً، قد استُعبدوا للخطيئة، فصاروا في دَيْن لا قِبَل لهم به. فوضعُهم الذي هو منذ الآن دينونة، صار وضعاً ميؤوساً منه.
فالرسول رأى في الفساد الخلقيّ مع الرذائل التي تخالف الطبيعة، عقاباً من الله. «فغضبُ الله معلن من السماء على كفر البشر وشرِّهم» (1: 18). هذه العبارة التي تنطبق أيضاً على عالمنا، تقابل الكلام عن الخلاص، كما في «انجيل» بولس (1: 26- 17). «ولكن الآن ظهر كيف يبرّر الله البشر من دون الشريعة، كما تشهد له الشريعة والأنبياء» (آ 21).
فرغم الخطيئة التي ما زالت في قلب البشر، انحنت رحمة الله منذ الآن على حالتهم الميؤوسة، وصار تجلّي حنانه واقعاً ملموساً، واقعاً متواصلاً، تمّ في الماضي وما زالت نتيجته حاضرة. فإن «برّ» الله، أي صلاحه ورحمته اللذين بهما يغفر المعاصي والخطايا (رج خر 34: 6- 7)، قد «ظهر» بحيث إن البشر يقدرون أن يعرفوه ويجدوا خلاصهم، شرط أن يؤمنوا بيسوع المسيح. كيف تمّ هذا؟ هذا ما يقوله بولس فيما بعد. أما الآن فيكتفي بأن يشدّد على أن الله هو الذي فتح هذه الطريق الجديدة التي تحلّ محلَّ نظام الشريعة القديم وتتجاوزه (دون الشريعة). ثم إن طريق الخلاص هذه، جديدة ونهائية، وقد أعلنتها الكتبُ المقدّسة في العهد القديم. لهذا ذكر النصُّ «الشريعة والأنبياء».
يكمن الجديد في كل هذا أن البشر، جميع البشر، من يهود ووثنيين، لا يرتبطون بعد الآن «بأعمال الشريعة» التي وجب عليهم أن يقوموا بها بقواهم الخاصّة، بل يقدرون أن ينالوا الخلاص في يسوع المسيح. «لا فرق بين البشر، فهم كلهم خطئوا وحُرموا مجد الله» (آ 22 ب- 23). الاقرار بهذه الحقيقة أمرٌ أساسيّ لفهم التعليم المسيحيّ حول الخلاص. فيسوع نفسه يفترض ذلك في كل سلوكه، ويعارضه بشكل واضح بالذين يحسبون حساب «برِّهم الخاص». فالانسان الذي يكفي نفسه بنفسه، لا يرى شقاء وضعه البشريّ، ولا يقبل بنفسه خاطئاً وعدماً ومنغلقاً على العدم. لا يقبل أن يكون مذنباً ومعرَّضاً لدينونة تحكم عليه. مثلُ هذا الانسان لا يقدر أن يفهم ما يعني «حُرموا مجد الله». فإن «مجد الله» يدلّ على هدف رجائنا (5: 2): هو ما ننتظره في آخر حياتنا بعد ضيقات الأرض. ويدلّ أيضاً على الحريّة الحقيقيّة التي نقتنيها منذ الآن حين نتوجّه إلى هذا الهدف (2 كور 3: 17- 18).
بما أننا كلنا خطأة، فالحياة الجديدة المقدّمة لنا دون اكراه داخليّ، تبدو لنا بشكل عطيّة وتملأنا رجاء. لهذا يشدّد بولس على أننا نلنا حالة الخلاص هذه «بنعمة الله» (آ 24 أ). وإذ يتصرّف الله بنعمة مجانيّة، فهو لا يريد أن يُذلّنا كمحكوم عليه بالموت ينال العفو من انسان، بل هو يرفعنا إلى انسانيّتنا الكاملة. فإن قبلنا في الإيمان، الموهبة التي يهبنا، يرضى عنّا الله و«يبرّرنا»: هكذا نعود من جديد إلى توافق معه، ونقدر أن نحيا من ملء حياته. ذاك هو معنى «التبرير» الذي يبدو لنا اليوم صعباً. فعمل الله المجانيّ الذي يبرّر الانسان، يخلق فيه حياة جديدة. وينقل إليه المسيح حياة الروح (8: 2). عندئذ يجعل المبرَّر نفسه في خدمة البرّ، فيحمل ثماراً لمجد الله (7: 4).

2- الفداء في يسوع المسيح
إن عمل الله المحرِّر من أجل الجنس البشريّ، قد تمّ في يسوع المسيح، بشكل ملموس في حدث الصليب. يدعوه بولس «الفداء» (آ 24 ب). في الأصل، يشير هذا اللفظ إلى فكرة تحرير أسرى الحرب بعد دفع الفدية المطلوبة. والمسيح نفسه صار لنا «براً وقداسة وفداء» (1 كور 1: 30). لهذا، يرتبط إيماننا ارتباطاً وثيقاً بيسوع المسيح، وكذلك رجاؤنا وثقتنا بأننا ننال الخلاص. ففيه يتقبّلنا الله برحمته ويُعدّنا لحياة جديدة كما نقرأ في 2 كور 5: 17: «وإذا كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة. زال القديم وها هو الجديد».
ويتركّز حدث الفداء على موت يسوع الدمويّ على الصليب. وإذ أراد بولس أن يعبّر عن فكرته، استعمل صوراً مختلفة. في آ 25، عاد إلى تعبير أخذ به مسيحيّون آتون من العالم اليهوديّ وربطوه بموضوع التكفير: عرض الله يسوع كأداة كفّارة، وذلك بدمه الخاص (آ 25 أ). فاللفظ اليونانيّ دلّ في الأصل على الطاولة المغشّاة بالذهب والمزيّنة بكروبين، والموضوعة فوق تابوت العهد، فيُرشّ عليها دمُ الذبائح في عيد التكفير (يوم كيبور). ولكن لا يبدو أن الرسول فكّر في هذا الأمر. فالفعل الذي يُضمّ إلى الاسم يعني: عرض، قدّم بشكل علنيّ. فيسوع على الصليب هو كمشهد به يكشف الله رحمته (آ 21). والدم له طابع التكفير كما تقول الرسالة إلى العبرانيّين: «وما من مغفرة بغير إراقة دم» (9: 22). وهكذا اعتُبر موتُ يسوع تكفيراً تحمّله عن البشر، من أجل خطاياهم، ولا سيّما «الخطايا الماضية في زمن صبر الله» (آ 26 أ). في زمن المكابيّين، طبّق العالم اليهوديّ الفكرة عينها على الشهداء الذين بذلوا حياتهم عن خطيئة الشعب: قدّموا دمهم وموتهم التكفيري لكي يرضى الربّ أيضاً عن اسرائيل الخاطئ (4 مك 17: 21- 22؛ رج 2 مك 7: 37- 38). أمّا في النصّ الذي ندرس، فالله نفسه يدلّ أن يسوع كفّر خطايا البشر، بدمه، على الصليب.
وهناك حديث عن دم المسيح في خبر تأسيس الافخارستيا، كما وصل إلى بولس بواسطة التقليد: فبدم المسيح قُطع العهد الجديد وخُتم (1 كور 11: 25). وموتُ يسوع التكفيري يمنح الجنس البشريّ، إلى الأبد، رحمة الله، وينال له هذا العهد الجديد والأبديّ الذي أعلنه الأنبياء (إر 31: 31؛ حز 34: 25؛ 37: 26). استعاد الرسول هنا مواضيع معروفة لدى الجماعة الأولى. وقال لنا في موضع آخر: تصالحنا مع الله بموت ابنه (5: 10). فالله نفسه صالحنا معه بالمسيح. «ذاك الذي لم يعرف الخطيئة، جعله خطيئة من أجلنا لنصير به أبراراً عند الله» (2 كور 5: 18، 21).
لقد كشف الله عن طبيعته الحقيقيّة، فبرّر ذاك الذي يؤمن بيسوع، أي يخلّصه من حالة الخطيئة التي هو فيها. ففي يسوع ممثّل بشريّة جديدة (5: 12- 21)، يتقبّل الله الجنس البشريّ الخاطئ، ويمنحه حبّه ورحمته إلى الأبد. وهكذا نفهم محبّةَ الله الذي أسلم ابنه لأجلنا، ومحبّةَ الابن الذي بذل نفسه لأجلنا (غل 2: 20).

3- الايمان والأعمال
وهكذا يبدو أنه لا يُطلب من الانسان سوى أن يتقبّل في الإيمان محبّة الله، والخلاص الذي يقدّمه له في المسيح يسوع. والنقيضة التي بها يعارض بولس «أعمال الشريعة» اليهوديّة (آ 28)، والتي تجعل الانسان يفتخر (آ 27)، تجعلنا نقول: يبرَّر الانسانُ فقط بنعمة الله. يبرّر فقط بيسوع المسيح. يبرّر فقط بالايمان. غير أن هذا «فقط» لا ينفصل ولا يُعزل عن النقيضة. إن كان الله قد وضع الانسان في طريق الخلاص، فعلى الانسان أن «يعمل بخوف ورعدة» من أجل خلاصه (فل 2: 12)، فيبتعد عن الخطيئة (6: 2- 14)، ويُثمر ثمار الروح الذي يعمل فيه (غل 5: 22 ي). فالشريعة القديمة التي قادت الانسان إلى الخطيئة قد ألغيت. غير أن هناك شريعة جديدة «شريعة المسيح» التي تكمُل في المحبّة (غل 6: 2). وأقوال الله (في العهد القديم) التي فرضت على الانسان أن يُتمّ مشيئة الله، تبقى حاضرة. وتنبيه يسوع إلى الذين يكتفون بأن يقولوا: «يا ربّ، يا ربّ»، يتّخذ أهميّة مضاعفة.
وهذا ما نراه بوضوح متزايد إن فكّرنا كيف يفهم بولس «الايمان» بيسوع المسيح. هذا الايمان هو الوسيلة الوحيدة التي بها ننال الخلاص. ولكنه يعني الطاعة للانجيل (1: 5؛ 10: 16) وللمسيح نفسه (2 كور 10: 5). فالانجيل هو في الوقت عينه تعليم خلاص ونداء إلى حياة مقدّسة، هو تحرير من عبوديّة سابقة واتحاد أبناء الله في حرّية جديدة. في ف 6، رفض بولس مستاءاً ضلال المتفلّتين من كل شريعة، الذين تصوّروا أنه يحقّ للمسيحيّ أن يُقيم في الخطيئة. «تحرّرتم من الخطيئة وأصبحتم عبيداً للبرّ» (6: 18). فالإيمان، كما يفهمه بولس، يعمل بالمحبّة (غل 5: 6).

خاتمة
منذ الآن، يستحيل على المسيحي أن يتفلّت من وضعه الجديد، حيث تترافق ثقتُه وفرحه بأنه نال الخلاص، مع واجب أخلاقيّ لا يقبل المساومة. فالحبّ الذي يمنحه الله للانسان، يستدعي جواب الحبّ وسخاء تاماً يظهر في محبّة الإخوة. إن كان بولس رفض «الأنا» الذي يريد أن يكفي نفسه بنفسه، إلاّ أنه لا يرفض نداء يسوع من أجل حياة أخلاقيّة. وإذ يُتمّ المؤمن العمل المطلوب منه، يبني بيته على أساس وضعه الله، بحيث يقاوم العواصف والرياح التي تجابهه في هذه الحياة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM