مع جماعة رومة :القسم السادس: الإيمان والوعد

الإيمان والوعد
4: 18- 25

حين ينظر بولس إلى تاريخ الخلاص، يميّز بشكل واضح دور الوعد والإيمان والشريعة. فنحن نتقبّل الميراث بالإيمان المؤسَّس على الوعد، والشريعة تأتي بعد ذلك فلا تنقض العهد. غير أن هذه الشريعة سوف تدخل أيضاً في مخطّط الله الخلاصيّ، لأنها تكشف تجاوزات الانسان، وتدل على الخطيئة التي هي موضوع غضب الله. في هذا الاطار، نقرأ عن ابراهيم وارتباط الوعد بالإيمان لديه، ونتطلع إلى المسيحيّين الذين تبرّروا بالإيمان، لا بالشريعة، بعد أن مات يسوع تكفيراً عن خطايانا وقام من أجل تبريرنا.
(18) وآمن ابراهيم راجياً حيث لا رجاء، فصار أباً لأمم كثيرة على ما قال الكتاب: «هكذا يكون نسلك». (19) وكان ابراهيم في نحو المئة من العمر، فما ضعُف إيمانُه حين رأى أن بدنه مات وأن رحم سارة امرأته مات أيضاً. (20) وما شكّ في وعد الله، بل قوّاه إيمانه فمجَّد الله (21) واثقاً بأن الله قادر على أن يفي بوعده. (22) فلهذا الإيمان برّره الله. (23) وما قول الكتاب: «برّره الله» من أجله وحده، (24) بل من أجلنا أيضاً، نحن الذين نتبرّر بإيماننا بالله الذي أقام ربّنا يسوع من بين الأموات (25) وكان أسلمه إلى الموت للتكفير عن زلاتنا، وأقامه من أجل تبريرنا.

1- سياق النصّ وبنيته
أ- السياق
عرض بولس الرسول طرْحَه حول التبرير: الله يبرّر بالإيمان بيسوع المسيح. فاستلهم براهينه بشكل حصريّ من الكتاب المقدّس، وجاءت كما يلي:
- تبرّر ابراهيم، لا بأعمال استحقاقيّة، بل مجاناً، بإيمانه بوعد الله، وبمعزل عن الشريعة. «دون الشريعة».
- هذا التبرير يشمل البشريّة كلها، فلا يصل إلى فئة دون أخرى. وابراهيم هو نموذج المبرّرين. ونسلُه الحقيقيّ الذي ينعم بالوعد، يتكوّن من الذين يؤمنون، سواء خُتنوا أو لم يُختنوا، لا من الذين يستندون فقط إلى الشريعة.
- آمن ابراهيم فحُسب له إيمانُه براً. ويكون إيمان المسيحيّ مثل إيمان ابراهيم. يتبرّر بإيمانه بالله.
ب- بنية النصّ
بعد أن بيّن بولس أن ابراهيم صار أبا جمهور كبير بفضل إيمانه البطوليّ، صوّر هذا الإيمان الذي يبرّر، وأكّد أن هذه الوظيفة المبرّرة هي هي في الإيمان المسيحيّ، كما كان الأمر بالنسبة إلى ابراهيم.
أما بنية النصّ فتبدو كما يلي:
• إيمان ابراهيم هو إيمان مبرِّر
- بالإيمان صار أباً لأمم كثيرة (آ 18)
- هنا يصوَّر موقف ابراهيم (آ 19- 21)
لم يضعف في إيمانه
لم يتردّد في اللاإيمان تجاه الوعد
امتلأ قدرة بالإيمان
مجّد الله
وثق كل الثقة بأن الله يفي بوعده.
- حُسب له إيمانه برّاً (آ 22).
• الإيمان المسيحيّ هو أيضاً إيمان مبرِّر
- ما يقوله الكتاب عن إيمان ابراهيم ينطبق علينا نحن أيضاً (آ 23).
- إيماننا هو إيمان بالذي أقام يسوع من أجل تبريرنا (آ 24). هذا يعني، كما هو الحال مع ابراهيم، إيماناً بالذي يهب الحياة للموتى ويبرّر الخطأة.
كلّمنا بولس عن ابراهيم ليفهمنا وضعنا في المسيح. فما يقوله الكتاب هو القاعدة، في نظره. ولن يخطر على باله أن الله يناقض الكتاب، في المسيح. بل إن حدث المسيح تمّ حسب الكتاب الذي يُتيح لنا أن نرى حقيقة التعليم المسيحيّ.

2- إيمان ابراهيم (4: 18- 22)
يرى بولس في قراءته للكتاب المقدس، أن لإيمان ابراهيم نتيجتين: تبرّر (آ 22) فنال نعمة شخصيّة. صار أبا أمم كثيرة (آ 18) فوصلت النعمة التي نالها إلى البشريّة جمعاء.
أ- أبو أمم كثيرة (آ 18)
نحن نفهم هذه الآية بالنظر إلى الاعتبارات السابقة. ففي رأي بولس، لسنا أمام أبوّة بشريّة، أبوّة بحسب اللحم والدم. لسنا أمام نسل يتعلّق بِعرق أو أصل. بل أمام أبوّة روحيّة ونسل إيمانيّ.
نظنّ للوهلة الأولى أن بولس يتطلّع إلى تأثير شخصيّ يُحدثه إيمان ابراهيم على نسله. أو هو يعتبر ابراهيم مربّي البشريّة المؤمنة. في الواقع، المؤمنون هم الذين يطلبون الانتساب إلى ابراهيم، ويعتبرون نفوسهم من نسله (4: 12- 16). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يأخذ بولس، بشكل جوهريّ وُجهة الميراث من الناحية الروحيّة. فابراهيم هو أبو ورثته، والوعدُ الذي أعطي له بأن يمتلك الأرض (البرّ وما يتبعه) يسري أيضاً عليهم. والحال، بالإيمان، لا بالشريعة، نمتلك امتلاكاً مجانياً البرّ الموعود، كما يليق بكل وعد مجانيّ. هنا نقرأ غل 5: 5: «أما نحن فننتظر على رجاء أن يبرّرنا الله بالإيمان بقدرة الروح». إذن، نحن أمام برّ نرجوه. البرّ هو الذي نرجو امتلاكه لأننا وُعدنا به. وبالإيمان ننتظر أن ننال هذا البرّ، لأن الإيمان يجعلنا الوارثين الحقيقيّين للموعد. وهكذا، فبالايمان ينعم وارثو ابراهيم بميراثه ويكونون من نسله.
في هذه الحال، نفهم كيف أن ابراهيم هو أبو أمم كثيرة. فهو أول من عاش الايمان عيشاً كاملاً، هذا الايمان الذي به ارتبط البرّ حسب الترتيب الالهيّ العام. وعلى المستوى الروحي، الوعدُ هو التزام الله بأن يمنح برّه للإيمان. فكل من يؤمنون كما آمن ابراهيم، ينالون بالنظر إلى الوعد، البرّ الذي ناله، أي ينعمون بالميراث. عن هذا الميراث تحدّث يسوع حين قال: «أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه» (مت 6: 33).
إذن، دشّن ابراهيم في عالم البشر، طريقة حياة روحية سوف نجدها لدى عدد كبير من الناس شاركوا هم أيضاً في الخير الروحيّ عينه. شابهوه، لأنهم آمنوا بذات الاله الواحد، فتحقّق الوعد من أجلهم، بالإيمان. وهكذا نالوا البرّ. وبما أن الوعد هو هو، والميراث هو هو، استحقّوا أن يُدعوا أبناءه. فالميراث هو البرّ، والوعد هو ارتباط البرّ بالايمان.
ب- حُسب الإيمان براً (آ 22)
ونتيجة الايمان الثانية، في ابراهيم، هي تبريره الشخصيّ. أطال بولس الكلام، فصوّر موقف ابراهيم قبل أن يستنتج أن هذا الموقف حُسب له براً. إننا نعتبر تحليله كمجهودٍ به يُدرك في العمق علاقة الإيمان بالبرّ. فقال: «لهذا».
ما يلفت نظر بولس في هذا الموقف، هو القدرة الروحيّة لدى ابراهيم والثبات في الرجاء. فوردت أربع عبارات في آ 19- 21: «ما ضعُف. ما شك (ما تردّد). تقوّى (قوّاه إيمانه). وثق كل الثقة».
كل هذا يصوّره بولس أولاً بشكل سلبيّ، ثم إيجابي. أعلن الله لابراهيم أن سيكون له نسل. ولكن ابراهيم وامرأته شيخان لا يستطيعان بعدُ أن يُنجبان ولداً في الحالات العاديّة. من الوجهة البشريّة، يمنعنا الوضع أن «نصدّق» كلام الله. فنشكّ ونرتاب ولا نؤمن. ومع ذلك، لم تكن تلك ردّة الفعل عند ابراهيم: فرغم عقمه الطبيعيّ، لم يضعف في الإيمان. وتجاه وعد الله الخارق، لم يشكّ ولم يُظهر قلّة إيمان. فحين تكلّم الله، لم يحكم ابراهيم على قيمة هذا الكلام بالنظر إلى معطيات الطبيعة البشريّة كما يعرفها. وما أراد أن يستند إلى يقين ملموس «يصحّح» ما قاله الربّ. بل اتّخذ موقفاً يتعارض مع اليقينات العاديّة في نظام الطبيعة.
أمّا وصفُ الوجهات الإيجابيّة في إيمان ابراهيم، فيُشدّد على ثلاثة عناصر: تقوّى ابراهيم قوّة. مجّد الله. وثق ثقة مطلقة بأمانة الله لكلامه وقدرته. نستطيع أن نفهم هذه العبارات الثلاث على ضوء النظرات العامّة في الرسالة إلى رومة. فعلى مستوى الحياة الدينيّة أو العلاقة بالله، لا قوّة لدى الانسان إلاّ بالإيمان. فبدون هذا الإيمان، نحن بشر من لحم ودم، ضعفاء مائلون إلى الخطيئة، لا نمتلك قوّة من أجل الخير، أعداء الله، وغير قادرين على الخضوع له. ليس الانسانُ سببَ هذه القوّة ولا ينبوعها. بل يعيش هذه القوّة كهبة مجانيّة. أما الينبوع فهو روح الله الذي يجتاحه ويمنحه نعمة الإيمان. وهذه القوّة هي التي تقف في وجه البواعث الطبيعية فتجعل الانسان يشكّ وينقص إيمانه.
وتُمارَس هذه القوّةُ ممارسة إيجابيّة في تمجيد الله والثقة المطلقة بكلامه. نحن نمجّد الله حين نُقرّ بسيادته وسلطانه وقداسته وبرّه ورحمته، من جهة، ونقرّ بضعفنا وخطيئتنا، من جهة أخرى. في هذا الموقف، وقف ابراهيم بتواضع أمام الربّ واعتبر كلامه صادقاً. هذا يفترض تحوّلاً داخلياً يصحّح مسيرة القلب ويجعله متناغماً مع الله. فالانسان لا يقدر أن ينفتح على الله ليعترف بمجده، دون أن يفتحه الله ويجعله قادراً على التمجيد.
وقلب الإيمان هو الثقة التامّة بأن الله يُتمّ كلامَه، لأنه كليّ القدرة. فلا شيء يمنعه أن يحقّق ما قرّره وما وعد به. فهو سيّد الحياة والموت. هنا نقول إن الايمان هو الاحساس بقدرة الله، كما السمع هو الاحساس بالأصوات. إن وجهة الايمان هذه تؤسّس الرجاء الذي به يسلّم الانسان إلى الله، مستقبَله كما يهيّئه الله بكلامه.
إن موقف ابراهيم هذا هو الموقف الذي يُرضي الله، لأنه يجعل الانسان في تناغم معه: ففي الإيمان، يعتبر الانسانُ الله السيّد المطلق فيستسلم إلى مشيئته وعمله. مثلُ هذا الموقف يبرّر الانسان. هو لا يستحقّ له البرّ كأجر يأتيه من الخارج، بل يكون طريقة بها نتقبّل برّ الله. مثلُ هذا البرّ هو موهبة نتقبّلها من يد الله. بالإيمان يستسلم الانسان إلى الله الأمين والقدير، الذي يمنحه الرحمة والحياة. وهذه الحالة التي يخلقها الله في قلب الانسان، يحسبها براً. هذا البرّ يخلقه الله، ويتقبّله الانسان وهو ينعم بحبّ الربّ وقدرته.

3- إيمان المسيحيّ (4: 23- 25)
في معرض الكلام عن ابراهيم، قدّم بولس براهينه مستعملاً النصوص الكتابيّة. فبيّن بها، أن إيمان ابراهيم، وإيمانه وحده، اعتُبر براً لدى الله. كما بيّن أن الوعد المعطى لابراهيم (ليكون أبا أمم كثيرة) انتقل في خطّ الإيمان. وإذ أراد أن ينهي كلامه عن التبرير بالإيمان بالمسيح، وجب عليه أن يقول: ما تحقّق بالنسبة إلى ابراهيم يتحقّق أيضاً بالنسبة إلينا نحن الذين نؤمن بالمسيح. هذا يعني أمرين. الأول، إمكانيّة تطبيق كلام الكتاب بشكل عام. والثاني، إمكانيّة تطبيقه علينا.
أ- قول الكتاب (آ 23- 24 أ)
ما يقوله الكتاب عن إيمان ابراهيم، يمكن أن يقوله عنا أيضاً إذا آمنا. فإن أردنا أن نفهم فكر بولس، نتذكّر نظرته بشكل عام إلى الكتاب. فمدلول الكتاب، في نظره، مدلول شامل. وما يقوله لا ينطبق فقط على الشخص الذي يتكلّم عنه، أو ذاك الذي يتوجّه إليه. إنه ينطبق على كل انسان، دون تحديد الزمان والمكان. «كل ما كُتب في الماضي كُتب لتعليمنا» (15: 4؛ رج 1 كور 9: 9- 10؛ 10: 1- 11). ويُقرأ هذا الكلام بالنسبة إلى وضع الانسان. أما الوضعُ الذي نعالجه هنا، فوضعُ الإيمان. ونحن نعرف أن البرّ يرتبط بالإيمان بواسطة الوعد. فالله نفسه قرّر، بهذا الوعد، التضامن البشريّ في البرّ وفي الإيمان. فنحن بالإيمان نرث وعد البرّ الذي أعطي لابراهيم. إذن، ما يقوله الكتاب عن ابراهيم يمكن أن يقال عنّا، لا لأن للكتاب بعداً شمولياً وحسب، بل لأننا آمنا فصرنا ورثة ابراهيم الروحيين فامتلكنا البرّ الموعود.
ب- إيماننا إيمان ابراهيم
كانت فرضيّة: هل ينطبق ما قاله الكتاب على ابراهيم وحده، أم على كل انسان؟ فجاء الجواب مشدّداً على شموليّة الكتاب. والآن نقول إن كلام الكتاب ينطبق علينا. نحن نؤمن إيمان ابراهيم، ووضعُنا هو وضعُ ابراهيم. نحن نعلم أن موقف ابراهيم تميّز بعبارتين: آمن بالله الذي يعطي الحياة للموتى (4: 17). آمن بالله الذي يبرّر الخاطئ (4: 5). هذا يعني أنه آمن بالاله القدير والاله الرحيم. ذاك هو إيماننا المسيحيّ: نؤمن بالله الذي أقام يسوع من بين الأموات. ونؤمن أنه، بيسوع المسيح، يغفر خطايانا ويبرّرنا.
ولكن إيماننا يختلف عن إيمان ابراهيم، لأننا نمارسه في يسوع المسيح. ذاك هو الجديد في تدخّل الله في حياتنا، وهو جديد لم يعرفه ابراهيم الذي «تشوّق أن يرى يومي» (يو 8: 56)، كما قال يسوع لليهود. فقدرةُ الله ورحمته تتجلّيان لنا في يسوع المسيح الذي هو الآن الموضع الذي فيه يوجّه الربّ كلامه إلينا، فيدعونا لكي نستسلم لعمله الذي يبرّرنا ويحيينا.

خاتمة
وهكذا أبرز بولس أمرين اثنين في كلامه عن وضع ابراهيم المؤمن: موت الانسان، وقدرة الله الذي يُتمّ وعده. فموت جسم ابراهيم كان مثلاً عن وضع الانسان الخاطئ، والمدعوّ إلى الإيمان بيسوع المسيح الذي مات من أجله. وتدخّلُ الله الذي يُحيي هذا «الميت» هو مثَل عن القدرة التي بها يمنح الله المؤمن حياة جديدة بقيامة المسيح. فقيامة المسيح هي أساس الرجاء المسيحيّ، وبداية عالم جديد يدشّنه الله في المسيح. وهي توجز الوعد وتحقّقه. من أجل هذا، كانت العلاقة وثيقة بين القيامة والتبرير. فنحن مثل ابراهيم: تبرّرنا بالإيمان بإله الوعد. وقد تجلّى لنا هذا الوعد بقيامة المسيح. أجل، قيامة المسيح هي الوعد الذي ليس بعده وعد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM