الفصل السابع والثلاثون :بولس ومصيره في الكنيسة القديمة

الفصل السابع والثلاثون
بولس ومصيره
في الكنيسة القديمة

دخل بولس في لائحة الكتب المقدسة القانونيّة كمعلّم للأمم مع الرسائل الكبرى. وكمنظّم للكنائس في الرسائل الرعائيّة. ولكن تأثيره بدأ حقًا في القرن الثاني. وفي القرنين الرابع والخامس، كان بولس المرجع الرئيسيّ في الفقاهة حول أسرار التنشئة. ومع الجدال البلاجي، صارت روم حجر الغلقة في المسيحيّة. في الغرب، حلّ بولس مع آخرين، فقدّم كتبًا مع سائر الكتب المقدسة. وفي الشرق، كان رمز رسول المسيح أكثر منه مفسّر المسيحيّة. وفي أي حال، سوف تقابَل رسائل بولس مع سائر الأسفار، وهكذا يتبيّن أنه لم يقل سوى ما قالته الكتب المقدسة في العهد الجديد. هذا ما نتوقّف عنده في هذا المقال.

1- بولس والفقاهة العماديّة
أ- موقع بولس
حين ازدهرت الفقاهة الاسراريّة (حول الاسرار ولاسيّما أسرار التنشئة) في الكنيسة، وجدت لها سندًا كبيرًا عند القديس بولس. فحين نعلّم أن المعموديّة هي مشاركة سريّة في موت يسوع وقيامته، وهي تمنح المعمَّد النتيجة الخلاصيّة لهذا الموت، نعود إلى روم 6: 3- 5. فهذه الحقيقة لا نجدها في كلمات التأسيس كما في مت 19:28، ولا في الممارسة العماديّة التي نجدها في سفر الأعمال (2: 41؛ 8: 12؛ 38:8؛ 9: 18...)، ولا في واقع عماد المسيح (مت 13:3-17 وز).
أما النصّ البولسيّ فهو واضح في حرفيّته: "اعتمدنا في المسيح يسوع فاعتمدنا في موته". لهذا، قال كيرلس الاورشليمي في تفسيره: "أعلن بولس بدقّة واضحة". وتابع: "إذا كنّا غُرسنا بالمسيح مع موته، سنكون أيضًا بالتشبّه مع قيامته". كان الموت حقيقيًا لدى المسيح. وتركت نفسه حقًا جسده. كل شيء حصل فيه بشكل حقيقيّ. أمّا في وضعنا فهناك تشبّه مع موته وآلامه. أما في ما يتعلّق بالخلاص، فهناك واقع وحقيقة".
حين نقرأ تفسير كيرلس هذا، الذي يقول إن الخلاص يأتينا حقًا بمشاركة في موت يسوع الحقيقيّ، نظنّ أن نصّ بولس فُهم حالاً، وقد أوردته الكنيسة ومارسته.
ب- تأثير قليل في البداية
ولكن الأمر لم يكن هكذا. فهناك أسباب جعلت فكر الرسول خفيًا لمسيحيّين يرغبون في الابتعاد عن العبادات السرانيّة (كما في الديانات الوثنيّة التي وُلدت في الشرق وشدّدت على "السريّة" في ممارستها). عادوا مثلاً إلى قول أش 1: 16- 20 (اغتسلوا، تطهّروا). أو قول ليسوع أورده يوحنا (3: 5): "إن لم يولد الانسان من الماء والروح، لا يدخل ملكوت الله". وهكذا كانوا أمام كرازة بسيطة عن المعمودية كرازة لا تتماشى مع ديانات عصرهم، كرازة تتوافق مع تربية فقاهيّة تهتمّ بأن تقنع (على المستوى الروحي)، لا بأن تسحر.
كان صوت الرسول أبعد من أن تسمعه كنيسة البدايات. ولكن حين لم تعد الغنوصيّة وعبادات الديانات السريّة تزاحم الايمان المسيحيّ، صار بولس المرجع الأول في الفقاهات الاسراريّة، واعتبر الناس أنه وجّه منذ البداية اللاهوت الاسراريّ في الكنيسة. ولكن إن كان بولس قد غاب بعض الشيء عن التعابير العماديّة الأولى في الكنيسة، فهذا يعني أن فكره لم يسيطر سيطرة تامة.
ج- علامة من أجل أيامنا
أية أهميّة لهذا الكلام؟ هو علامة على أن لاهوتًا أسراريًا يستغلّ فكرة السرّ (طقس سرّي يحمل خيرًا روحيًا)، وينفصل بالتالي عن ليتورجيا نفهمها تنظيمًا لشعيرة من شعائر العبادة، ليس قديمًا كل القدم، وليس وحده اللاهوت الممكن. وقد نعتبر بسبب سلطة بولس الكتابيّة، أنه كان لذاك اللاهوت طابع بيبليّ يدلّ على قيمته النظريّة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، قد نستغرب أننا لم نجد ممارسة لهذه النظريّة البولسيّة في الجماعات التي أسّسها الرسول.
لاشكّ في ذلك. ولكننا لا نستطيع أن نستنتج مبدأ بولسيًا للاهوت الاسراريّ تفسر بالنظر إليه سائرُ المقاطع الكتابيّة المتعلّقة بالمعموديّة. بل نحن نحسّ أن تلك المقاطع الاخرى (أوردنا مثلاً أش 1: 16-17؛ يو 3: 5) قد حَجبت بعض الشيء روم 3:6-5 خلال القرن الثاني وربّما خلال القرن الثالث. لأننا لا نجد الكثير من الفكر البولسيّ في مقال ترتيليانس حول العماد، في بداية القرن الثالث. كما أن بولس ليس المرجع الوحيد في فقاهات القرن الرابع.
إن السلوك الرعائي الذي قد يترك اليوم بولس ويحاول أن يعظ ويبرّر ويمارس الاسرار بشكل تبتعد عنه الليتورجيا والطابع السريّ، لا يمكن أن يُشجب. ولكن هل يكون معقولاً؟ نكتفي هنا بطرح السؤال ساعة نعالج الظرف الثاني الذي هيّأ الدرب لمصير الرسول بعد موته: تدخّل أوغسطينس تجاه بلاجيوس (ينسى دور النعمة ويشدّد على المجهود البشريّ).

2- بولس وأوغسطينس
أ- بإنسان واحد
إن تدخّل أوغسطينس في الجدال البلاجي قد جعل من روم 12:5 (بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم) أحد النصوص الكبرى في الكتاب المقدس.
لن نكتب تاريخ هذه الآية في أدب الآباء، بل نطرح السؤال: أما صارت رسائل القديس بولس بعد هذا التاريخ شميلة المسيحيّة، والرسالة إلى رومة شميلة بولس؟ وقبل أن نقدّم جوابًا سريعًا، نطرح بعض الأسئلة: لماذا اختار الآباء بولس وما اختاروا يوحنا؟ لماذا لم يختاروا يو 1: 14: "والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا، وقد رأينا مجده"؟ وإذا كنا قد أجبرنا على اختيار بولس، لماذا لم نفكّر مع ايريناوس، أنه كله في أف 1:9-10: يقوم مخطّط الله بأن يجمع كل شيء في المسيح؟ وفي النهاية، أما يكون اختياره روم 5: 12 بداية مسيحيّة "غربيّة"؟
ب- المسيحيّة ورسالة رومة
ونبدأ فنقول إنه ليس بواضح أن روم هي شميلة المسيحيّة. غير أن الاسئلة التي طرحناها وإن بشكل تقريبيّ قد لفتت انتباهنا إلى مسألة مركزيّة وهو اعتبار روم كشميلة للمسيحيّة.
حين يتعب المتحمّسون لأوغسطينس من سماع كلام يقول إن أسقف هبونة (عنّابة) هو المسؤول عن تقديم للمسيحيّة بشكل لا يُهضم يقولون: السبب هو الرسالة إلى رومة. فهذا النصّ العبقري، هل هو التعليم الانجيليّ؟ وسوف نرى أن أوغسطينس نفسه لم يتأثر بنصّ روم 5: 12 كما يظنّ البعض. لاشكّ في أن النصّ البيبليّ المفضّل هو روم 5: 5 (محبّة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه). ولكن كان بالامكان أن يوجد هذا النصّ في موضع آخر في رسائل بولس، وفي العهد الجديد.
هذه العبارة تعود إلى المسيح، كما يعود غيرها التي نقرأها في رسائل بولسيّة أخرى. ثم لا ننسى أن روم هي رسالة من رسائل بولس، وليست جميع رسائله.
ج- الروح البولسيّة عند أوغسطينس
لهذا يبقى من الصعب علينا أن ندلّ على الطريق الذي اتّخذته المسيحيّة الغربيّة لتصبح قراءةً للقديس بولس. أوغسطينس هو الاول. وقد تبعه لوتر في القرن السادس عشر، وكارل بارت في بداية القرن العشرين. ولكن صاحب "الاعترافات" (أي= أوغسطينس) انفتح على سفر المزامير وانجيل يوحنا، أكثر ممّا انفتح على القديس بولس. أما بالنسبة إلى المزامير، فالعهد القديم قد دخل وجدان المسيحيين بحيث ما استطاع مرقيون نفسه أن يرذله كلَّه من الكنائس. وشدّد القديس اثناسيوس على الدور الفريد الذي تلعبه التوراة وإنجيل يوحنا. قد عُرف بشكل خاص في المطلع كما توقّف عنده ايريناوس واتناسيوس، وأوريجانس وأوغسطينس.
د- المسيحيّة الغربية وبولس
لهذا نقول إن المسيحيّة الغربيّة لا تقتصر على الادب البولسيّ، ولا آباء القرون الثالث والرابع والخامس. ولكن هناك من يبرز التشديد على الوضع المأساويّ لبشريّة غرقت في الخطيئة بحيث إن العبارة الاوغسطينيّة "الجموع المحكوم عليها" صارت ملّخصًا لخطبة بولس في روم. إلاّ أننا نجيب أن أوغسطينس كان سيجد هذه العبارة في الكتب المقدسة إن لم يجدها عند بولس. والبرهان على ذلك هو أنه أكّد في عظة عن يوحنا لا عن بولس أن الانسان لا يمتلك في نفسه سوى الكذب والخطيئة.
وإذا اعتبرنا الروح البولسيّة تشديدًا على الخلاص بالايمان، على نعمة مجانيّة تُعطى لنا مجانًا، فيجب أن نقرّ أن هذا التعليم الذي نجده في بولس، قد وجده أوغسطينس أيضًا في يوحنا. فنحن نجد مثلاً صفحة أوغسطينيّة حول نعمة المسيح، وهي تفسير يو 6: 44: "لا يستطيع أحد أن يأتي إليّ إن لم يجتذبه الآب".
إذن، لا يحتكر رسول الأمم كل الفكر الغربي. وإن كان له فيه التأثير الكبير فيوحنا يرافقه.

3- بولس ويوحنا فم الذهب
أ- بولس مفسّر الكتب
يبدو أنه يجب أن نطرح السؤال بشكل آخر. ليس تأثير بولس هو التأشير الكبير في الكنيسة، بل حضور بولس هو حضور كبير في العهد الجديد، ولقد رأى أحد الشّراح أننا إذا وضعنا الأناجيل جانبًا، نجد أكثر التفاصيل عن يسوع المسيح في الرسائل البولسيّة. يعني إذا وضعنا بولس والأناجيل جانبًا، لا يبقى الشيء الكثير في العهد الجديد. ليس التقليد الكنسيّ هو المسؤول عن "السيطرة البولسيّة"، بل قانون (لائحة) الكتب المقدسة. ونحن لا نستطيع أن نفسّر هذه الكتب دون أن نلتقي ببولس. فمفسّر الكتب هو مفسّر بولس. وهذا ما نجده عند يوحنا الذهبيّ الفمّ.
لا أحد يضاهي يوحنا الذهبيّ الفم في الغرب على مستوى التفسير البولسيّ. نستطيع أن نذكر مثلاً ايرونيموس أو أوغسطينس وما تركا لنا من شروح بولسيّة. ولكن الذهبيّ الفم ترك لنا 234 عظة عن بولس، وشرح جميع رسائله.
ب- بولس والروح البولسيّة
ولكن ما هي الفكرة التي يتّخذها قارئ اليوم عن هذه الشروح؟ يقدّم الذهبيّ الفم بولس على أنه مولع بالانجيل، على أن قلبه اشتعل اشتعال نار استطاعت في ثلاثين عامًا أن تقود العالم إلى الحقيقة. هو قديس خارق، ولقد تفوّق على جميع البشر حيث دلّ على عظمة الانسان.
هل توسّع الذهبيّ الفم في الفكر البولسي أم اكتفى بالحديث عن بولس الرسول؟ بل هو اهتمّ ببولس. وبإزاء ذلك حدّد موقع القديس بولس بالنسبة إلى الكتب المقدسة. وهكذا التقى الغرب مع الشرق في النظر إلى بولس لا إلى الفكر البولسيّ. توقّف الغرب عند هذا النصّ البولسيّ أو ذاك، واعتبره نصًا كتابيًا بالدرجة الأولى. وقرأ الشرق الرسائل البولسيّة ليسمع كلام الله من خلال رسول يحيا هذا الكلام.


خاتمة
إن مصير بولس بعد موته لم يكن دورًا مسيطرًا في الكنيسة يتوازى مع العدد الكبير من رسائله التي دخلت في لائحة الأسفار المقدّسة. وظنّ بعضهم أن هذا الرسول مرّ في حقبة غامضة قبل أن يُفرض على اللاهوت القديم. فهذا اللاهوت ما انطلق من بولس لكي يحدّد الايمان بالمسيح والممارسة المسيحية. ثم إن التقليد ضمّ بطرس إلى بولس في إعلان الانجيل إلى الوثنيين والعمل في رومة. وكرازة الآباء جمعت يوحنا إلى بولس حين فكّرت في الايمان. وحتى على مستوى المحبّة ونشيد 1 كور 13، فرسول الأمم لا يتفوّق على يوحنا الذي قال: "الله محبّة" (1 يو 8:4).
وننهي كلامنا بصفحة من أوغسطينس هي الرسالة 186 حيث نجد يوحنا بقرب بولس.
"المحبّة هي عطيّة الله بحيث إن الله نفسه سمّي محبّة (1 يو 8:4). فالذين يمتلكون الايمان الذي به نبرَّر، قد وصلوا بنعمة الله إلى ناموس البرّ. لهذا يعلن الكتاب: "استجبتك في الزمن المقبول وأعنتك في يوم الخلاص" (أش 49: 8). إذن، هو الله الذي يعمل الارادة والعمل كما يشاء (فل 13:2)، في الذين خلِّصوا باختيار النعمة (2 كور 6: 2). فمع الذين يحبّون الله، يعمل الله في كل شيء لأجل خيرهم (روم 28:8). في كل شيء يعني في هذا الحبّ عينه الذي نناله بالايمان. فالذي أحبّنا أولاً (1 يو 4: 19) لكي نؤمن به، نحبّه نحن بنعمة منه ونحن محبوبون لديه دون أن نكون صنعنا شيئًا لذلك".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM