الفصل السادس والثلاثون :رسائل بولس وأسئلة المسيحيين الأوّل

الفصل السادس والثلاثون
رسائل بولس
وأسئلة المسيحيين الأوّلين

نبدأ هذا المقال بطرح سؤالين: لماذا يسيء الناس مرارًا فهم فكر بولس؟ لماذا تبقى مقاطع عديدة غامضة في رسائله؟ لهذا، نحاول أن نحدّد موقع فكره في نقاط أساسيّة في إطار الاسئلة التي طُرحت على المسيحيين الأوّلين. فندرس أولا الموضوع. ثم نبيّن ردّة الفعل لدى بولس تجاه مسألة من المسائل. وأخيرًا نتوقّف عند اللغة التي استعملها.

1- مدخل
هذا الرسول الثالث عشر، هذا "السقط" كما يسمّي هو نفسه، هذا الذي عارضه الناس خلال حياته، ما زال موضوع انتقادات مختلفة في أيامنا. فاليهود يتّهمونه بأنه سبب القطيعة بين اليهوديّة والمسيحيّة. والمؤرخون يعارضونه بيسوع ويعتبرون أنه طبع الايمان الاولاني بالطابع الهليني، فكان "الخالق" الثاني للايمان المسيحيّ. وكتب عنه أصحاب ماركس أنه انطلق من إيمان ثوريّ فانتهى في نظام دينيّ يحمل عددًا من المضايقات. وقالوا عنه إنه كاتب صعب وغامض. وقد صار نموذج اللاهوت الذي لا يُفهم ولا يرضى عنه الناس. كان معلّم أخلاق قاسيًا، فاعتبر المسؤولَ الأول عن حذر الكنيسة من النساء والحياة الجنسيّة.
ولكن حين بدأت تتثبّت اللائحة القانونيّة لأسفار العهد الجديد، حُفظت لرسائل بولس مكانة لا يقابلها مكانة. ومنذ نهاية القرن الأول المسيحي أو في بدايته، كانت تُقرأ رسائله في الليتورجيا. وهذا ما يشرح اليوم الوضع السائد في احتفالاتنا الشرقيّة، حيث نقرأ أكثر ما نقرأ الرسائل البولسيّة في القداس. وإذا تلونا قراءات أخرى، فالأخيرة تكون من رسائل بولس، وهي تعدّنا مباشرة لسماع الانجيل.
ومع ذلك، فبولس لا ينتمي إلى الاثني عشر، ولا هو من التلاميذ الأولين. ووجب عليه أن "يقاتل" ليعترف به الآخرون. جاء متأخّرًا. وكان مضطهِدًا. فكيف يمكن أن يكون الخادم الحقيقيّ للانجيل؟
ويبقى واقع لا يمكن أن نتجنّبه: لا نستطيع أن ندرس الاصول المسيحيّة دون أن نجد آثار بولس. فهو الذي كوّن كنيسة البدايات، وكانت رسائله أول ما وصل إلينا من العهد الجديد. هذا لا ينفي أنه كان في حياته علامة خلاف لإخوته في الايمان. واليوم، هناك من لا يقبل بتعليمه. ولكن هذا التعليم ما زال يفرض نفسه، والدليل على ذلك العدد الكبير من الدراسات التي لا تتوقّف.
ذاك هو بولس. هل ندافع عنه؟ بل نساعد القرّاء على فهم رسائله. فبولس يعرف كيف يدافع عن نفسه أكثر منّا. ولكن كيف ندخل في فكره؟ هل نبقى على هامش هذا الفكر، هل نبقى في ضواحيه أم ندخل في قلبه؟ هنا نحاول أن نفتح بعض الدروب في هذه المجموعة المتشعّبة، أن نعطي مفاتيح للقارئ. وسنحصر كلامنا في الرسائل التي كتبها في الحقبة الأولى من حياته: 1 تس، 1 ز2 كور، روم، فل. ونتذكّر أن هذه الرسائل دوّنت بين سنة 50 و60 (أي بعد موت المسيح بعشرين أو ثلاثين سنة)، ساعة دون انجيل مرقس حوالى سن 70، ومتّى ولوقا سنة 85، ويوحنا بعد السنة 90. وهكذا تكون الرسائل البولسيّة أقدم أسفار العهد الجديد.

2- مسائل أساسيّة ثلاث
نحن نعرف أن شاول الطرسوسيّ كان فريسيًا (فل 3: 5)، وقد اضطهده المسيحيّين الأولين (غل 1: 13-14). ويتحدّث عن ارتداده على أنه نتيجة ظهور المسيح القائم من الموت. ويجعل هذا الظهور له على مستوى الظهور الذي نعم به سائر الرسل (1 كور 8:15-9؛ غل 1: 11-12؛ 15-16؛ 1 كور 9: 1). وشهادته حول الظهورات هي الشهادة الوحيدة التي ترتبط باكرًا بمصدرها. وحين أورد نصًا تلقّاه، أكدّ توافقه مع سائر "الشهود" (1 كور 15: 1- 11). إذن، يجب أن نفسّر لفظة "القائم" (من الموت) بما يقول عنها بولس نفسه. نحن نفهم أن قيامة المسيح تُفهم على أنها إقامة ملكوت الله كما دلّ عليه يسوع. هذه الاقامة تبقى سريّة وخفيّة للعالم. ولكنها كُشفت للمؤمن فصارت حقيقيّة. وتمجيدُ يسوع يدلّ على أن العالم الجديد قد بدأ يتحقّق منذ الآن. "الواقع الجديد هو هنا" (2 كور 17:5). "ما يهمّ... هو الخليقة الجديدة" (غل 6: 15).
أ- قيامة يسوع المسيح
الواقع الجديد، الواقع الالهي، هو منذ الآن هنا، ولكن بالقوّة لا بالفعل. وحياة بولس (وفكره) يتحكّم بها انشداد بين ما هو الآن هنا منذ الفصح، وما لم يحصل بعد من ملء التجلّي الذي يسمّيه "باروسيا" (أي: المجيء) كما يسمّيه المسيحيون الاولون. وهو ينتظر هذا المجيء في القريب العاجل، شأنه شأن جيله. قال: "الزمان قصير" (1 كور 7: 29). وأعطى نصائح بالنسبة إلى قصر زمن الكفاح هذا. وقد ارتعب أصدقاؤه في تسالونيكي، سنة 50، حين رأوا أن بعضًا منهم ماتوا قبل المجيء. هل يشاركون في الخلاص؟ أجاب بولس: إنهم يقومون ويشاركون في اللقاء "مع الرب في الهواء... في السحب" (1 تس 17:4).
أولاً: لغة جليانيّة لا نفهمها
وهكذا نواجه صعوبة أخرى، هي صعوبة اللغة. فبولس، شأنه شأن يوحنا المعمدان ويسوع والجيل الأول المسيحيّ، يعبّر عن فكره في لغة جليانيّة لا يمكن أن نفهمها. لقد وعى بولس أنه يتكلّم لغة خاصة. هل انتظر حقًا صوت بوق يعلن مجيء المسيح المجيد (1 كور 52:15)؟ ثمّ، كيف نوفّق انتقاله المؤمن المباشر إلى المسيح بعد الموت كما في فل 1: 23 و 2 كور 5: 1-6، مع التفسير الذي يُعطى للتسالونيكيّين؟ فهنا على الموتى أن ينتظروا المجيء ليقوموا وينطلقوا مع المسيح. ونجد أمورًا أخرى غير متماسكة من هذا النوع، وليست خاصة ببولس، بل نجدها في العهد الجديد كله. فالنظرات الاسكاتولوجيّة اليهوديّة كانت متنوّعة. والايمان بالقيامة لم ينسّق بينها، بل أوّنها.
إن عيش "ما هو الآن هنا" بالنسبة إلى القيامة، تفوّق على وعي "ما لم يحصل بعد". وانتظار المسيحيّين لم يكن عقيمًا. تكلّموا وتصرّفوا وكأن العالم يدوم طويلاً. وكأن التبدّل يرتبط بهم أيضًا. وندهش أن يكون الكورنثيون قد شكّوا بقيامة الموتى، بعد أن ارتدّوا إلى المسيحيّة ببضع سنوات، وسمعوا كرازة تعلن نهاية هذا العالم والقيامة. وتفسير هذا الانقلاب المفاجئ يعود إلى أن هؤلاء الناس سمعوا بولس، فأخذوا منه بشكل خاص الواقعَ الجديد المعطى في المسيح، وتركوا انتظار الزمن المقبل.
ثانيًا: تأثير بالحاضر
تأثّر بولس بالحاضر أكثر منه بالاَتي. فإذا قرأنا مثلاً روم، نرى أن بولس يؤكّد أننا قد خُلّصنا، أننا قد قمنا (روم 6)، أننا قد مجِّدنا (8: 30). ولكننا هنا في نظر بولس أمام واقع فرضيّ. هي نعمة لا امتلاك. وهذه النعمة تُوجّه المؤمن نحو التتمّة، وتشدّ الانسان إلى التواضع. فالكورنثيون الفخورون والسعداء بانطلاقتهم الروحيّة، يملكون الآن وكأن كل شيء قد تمّ (1 كور 4: 8). فلماذا التطلّع إلى قيامة عتيدة، إذا كانوا ينعمون بكل عطايا حياتهم في الروح؟ هنا نقرأ 1 كور 14 الذي يبيّن ما كانت عليه العبادة المواهبية (الكارسميّة). كل واحد يريد أن يستعمل الحريّة التي اكتشفها الآن. فالنساء مثلاً يرفضن "الحجاب" (أو بالاحرى الشعر) (11: 5) ويردن التكلّم في الجماعة (وإن لم يوجد من يترجم) (34:14). وأعلن بعضهم في هذه الكنيسة: "كل شيء يحلّ لي". لا يعارض بولس هذا الشعار بشريعة أخلاقيّة. بل يقول: "كل شيء مفيد لي" (1 كور 12:6).
ولكن نعود إلى ف 15 فنلاحظ أن البراهين تودّ أدن تذكّر أن التتمّة لم تحصل بعد. فما زال الموت سائدًا اليوم. ولن يدمَّر إلاّ في النهاية (1 كور 15: 26). إذن، القيامة آتية (ليست هنا بعد). ما زلنا في زمن الكفاح. وعلى المسيح نفسه أن يدمّر أيضًا كل سلطات الشرّ (آ 24). وحين ينتهي كفاحه، سيخضع للآب (آ 28). كتب بولس هذا ليدلّ الكورنثيّين على أن عليهم هم أيضًا أن يدخلوا في هذا الكفاح. هذا ما نقرأه في آ 58: "كونوا، أيها الاخوة الأحبّاء، راسخين غير متزعزعين".
ثالثًا: الدافع نحو الآتي
ولكن حين شدّد بولس على الزمن الآتي، توخّى شيئًا آخر. هو ما أراد أن ينحصر المؤمن في حدود العالم الحاليّ. ولا يقوم الايمان في التأكيد على الحريّة في العالم كما هو، بل في الدخول في سيرة تحويل هذا العالم. كل هذا يقال بشكل غريب لقارئ اليوم (1 كور 15: 35-50). يتكلّم بولس عن تحوّل الجسد في القيامة. بأيّ حقّ نستطيع أن ننقل هذا إلى رجاء معاصر؟ تحدّث بولس عن الأجساد لأن الكورنثيّين ذكروها (آ 35)، ولكن مجمل المقطع يدلّ على أننا أمام تحوّل العالم. وما يهمّ بولس ليس تصوير هذه الأجساد، بل القول بأن هذا العالم المنتظر سيكون مختلفًا كل الاختلاف عن العالم الذي نعرفه. وشدّد على الواقع الحالي بما فيه من فساد ودناءة ليؤكّد أن القيامة وحدها تحمل إلينا الملء في الزمن المقبل.
كانت قيامة المسيح في نظر بولس واقعًا محرِّكًا وديناميكيًا. جعل الله كل شيء في حركة، فصار الفرضيّ ممكنًا. غير أن خبرة الكنائس بيّنت لبولس خطرًا يقول إن كل شيء صار ممكنًا منذ الآن، وإن يوم المجد قد حلّ الآن وما عاد لنا أن ننتظر شيئًا آخر. كلا. فما زلنا في ظلّ الصليب.
ب- الصليب
كان الصلب بالنسبة إلى تلاميذ المسيح محنة قاسية. والسبب هو جور السنهدرين (المجلس الاعلى) وبيلاطس. وكانت القيامة علامة إلهيّة تدلّ على أن المنتصر الحقيقيّ كان يسوع، ذاك البارّ الذي حُكم عليه ظلمًا. أظهر الله أن ابنه كان على حقّ. حين مجَّده أعطاه المستقبل.
أولاً: معنى الصليب في مخطّط الله
ولكن ما عتّم المسيحيّون الأولون أن فكّروا في مدلول الصليب داخل مخطّط الله. ولاشكّ في أن يسوع كان قد فكّر في معنى موته حين رآه آتيًا، وإن يكن من الصعب علينا أن نعرف كيف فكّر، لأن الأناجيل دُوّنت على ضوء القيامة. يجب أن لا ننسى أبدًا أن الكتاب المقدس بالنسبة إلى المسيحيين الاولين هو العهد القديم. لقد كان مرجعَهم الوحيد المكتوب، وقد قرأوه على ضوء اكتشافهم للمسيح. "مات المسيح من أجل خطايانا بحسب الكتب. ودُفن. وقام في اليوم الثالث بحب الكتب" (1 كور 15: 3- 4). فهذا الاعتراف الإيماني يذكر مرتين "الكتب". أما النص الاساسي (وليس الوحيد) الذي تشير إليه الكتب فهو أش 52: 13-53: 12. ففي هذا العابد (عبدالله، عبد يهوه) السريّ الذي يحتمل الاحتقار والعداء، ولكنه يقدّم حياته ذبيحة عن الخطيئة، على مثال الحمل الفصحي، وجد المسيحيون معنى آلام يسوع وموته.
غير أنه لم يكن من السهل أن يُعلن الرسل لليهود، في أورشليم وأبعد من أورشليم، أن يسوع كان المسيح، ولكن صلبَه بيلاطسُ بعد أن حكم عليه مجلس اليهود. وكانت المفارقة الكبرى أن يعلنوا للوثنيين أن مسيح اليهود قد جاء، وأن اليهود رذلوه. وحين كتب بولس "نبشّر بمسيح مصلوب، عثار لليهود وجهالة للأمم" (1 كور 1: 23)، فقد عبّر بكل بساطة عن خبرته في الرسالة. ومع ذلك فقد توسّع في هذا الموضوع متطلّعًا إلى وضع الكورنثيين. ذكر ضعفه وضعفهم، وأفهمهم أن قدرة الله تتجلّى في هذا الضعف وفي قبوله.
ثانيًا: القيامة لا تلغي الصليب
ليس الصلب في نظر بولس محطّة تعيسة قد تجاوزها الزمن. فهو يضمّه دومًا إلى القيامة، ولا يني يفكّر في هذا السرّ، سرّ خلاصنا. ويقدّم هذا الخلاص بالصليب في روم 3: 25 (مقطع مفتاح) على أنه ذبيحة فداء. غير أنه ليس عملاً طقسيًا يحلّ بكل بساطة محل ذبيحة الحمل الفصحيّ. فالصليب هو النهاية التي وصلت إليها طاعة يسوع وتنكّره لذاته (فل 2: 7-8). هذا لا يعني أن التنكّر (والتخلّي) هو هدف في حدّ ذاته. فقد قبل يسوع آلامه لأنها ضروريّة من أجل خلاصنا. وهي أعظم علامة عن حبّه (روم 8:5- 10). والمسيح يخلّصنا حين يتماهى معنا. وإذ كان "خاضعًا للشريعة"، وإذ جعل نفسه "خادم الختان" (روم 15: 8)، حرّر الذين خضعوا للشريعة (غل 4: 4- 5). لهذا حين تحدّث بولس عن رسالته كتب: "مع أني حرّ بالنسبة للجميع، فقد جعلت نفسي خادمًا للجميع" (1 كور 9: 19). لا تقوم الحريّة المسيحيّة بأن نؤكّد بكبرياء على شخصيتنا، بل أن نتقبّل نعمة ننقلها ونقاسم الآخرين فيها.
ثالثًا: الموت عن الذات
غير أن الخبرة الاساسيّة التي اختبرها بولس في ارتداده، دفعته إلى التحدّث عن الصليب كضرورة خلاصيّة للموت عن ذاتنا. فحين اكتشف الفرّيسيّ شاول الطرسوسي في دمشق أن هذا المصلوب "الملعون" (غل 3: 13) الذي يقاتله ويضطهد تبّاعه، كان المسيحَ، مات (عن ذاته) (غل 2: 20)، ووُلد الرسول بولس. لقد تحمّل هذا الموت، وتخلّى عن سبب افتخاره وعلّة حياته (فل 3: 4- 6). غير أنه وجد في هذا الموت الحياة، حياة المسيح في "قوّة القيامة والمشاركة في آلامه" (فل 3: 10). ويقدّم لنا بولس في 2 كور 4 خدمته الرسوليّة بشكل كفاح فيه تتلاحق آلام المسيح وموته لكي تنتقل حياته إلى جميع البشر. ويقدم المعموديّة في روم 6 كعلامة موت وقيامة.
ج- المسيح
فُرض على المسيحيين الأوّلين أن يقولوا ما كان بالنسبة إليهم يسوع هذا الذي يعلنون أنه حيّ. فلفظة "مسيح" (الذي مُسح بالزيت، ممسوح) هي عامّة جدًا وملتبسة. في بداية روم يورد بولس اعتراف إيمان عرفته بلا شكّ كنائس ذلك الزمان. وهكذا يكون هذا الاعتراف قديمًا جدًا وهو يقول: "المولود بحسب الجسد من ذريّة داود، المقام بحسب الروح إبن الله بقدرة، بقيامته من بين الاموات، يسوع المسيح ربنا" (روم 1: 2- 4).
يدلّ هذا النصّ على أن المسيحيين الأوّلين لم يروا في يسوع فقط داودًا جديدًا. فقد عبّروا عن الكرستولوجيا انطلاقًا من حدث اسكاتولوجيّ هو القيامة. وتحليل الانجيل يدلّ على أن تذكّرات حياة يسوع أعيدت قراءتها وصياغتها انطلاقًا من الايمان بالقيامة.
أولاً: هو الذي في صورة الله
غير أن الاعتراف الايماني الأشهر نقرأه في فل 2. أورده بولس فدلّ على عمق هذا الفكر الكرستولوجيّ في كنيسة فيلبي: "هو الذي في صورة الله، لم يعتدّ مساواته لله شيئًا يتمسّك به. بل لاشى ذاته آخذًا صورة عبد، صائرًا شبيهًا بالبشر. ووُجد كانسان في الهيئة، ووضع نفسه فصار طائعًا حتى الموت والموت على صليب" (فل 6:2- 11).
اختلف الشّراح على تفسير هذا النصّ. هل يتضمّن في الأصل "نزول" المسيح من السماء إلى الأرض كما يظنّ النقّاد؟ عند ذاك يجب أن نبدّل المعنى الطبيعي للنصّ اليونانيّ فنقول "مثل طريدة يتمسّك بها". ويرى آخرون أننا نجد في هذا النصّ أقدم أثر للاعتقاد بوجود يسوع قبل الزمن. ويفسّرون هذه الفكرة "السطريّة" بتأثير سطرة غنوصيّة (نحن في أرض وثنيّة) تروي نزول مخلّص جاء من السماء يوقظ أنفسًا من أصل سماوي رقدت في أجسام أرضيّة. تحوّلت هذه النظرة تحوّلاً عميقًا فعبّرت عن خلاص قدّمه المسيح. غير أن هذه الفرضيّة الغريبة لا يمكن أن تفرض نفسها.
أما لفظة "صورة" (مورفي في اليونانيّة) فنجدها في ترجمة العهد القديم للفظة عبريّة نقرأها في تك 28:2: "على صورة الله" (الترجمة العادية هي "إيكون" التي نجدها في لفظة أيقونة، كو 1: 15). عندئذ يتوضّح النصّ: إن يسوع يقابل مع آدم. هنا نتذكّر أن بولس تكلّم مرّتين عن المسيح الذي هو آدم الجديد (1 كور 15: 45-47؛ روم 5: 14). "التمسّك بالمساواة مع الله" يدلّ على خطيئة آدم. في العبارة الاولى لهذا الاعتراف الايمانيّ، يُسمّى يسوع ذاك الذي كان على صورة الله مثل آدم، ولكنه لم يرتكب خطأ كما فعل آدم. لهذا، نعتبر أن النصّ لا يتكلّم عن "نزول" من السماء.
ويبدو ولْي النصّ بشكل أنشودة تتأمّل في المسيح. إنسان من الناس إنسان حقيقيّ. تصرّف كعبد، كخادم، كما قال أش 53، وسار في طريق الطاعة حتّى الموت. ويعبّر النصّ فيما بعد عن ارتفاع يسوع بكلمات أش 13:52 الذي يشكّل مقدمة النصّ النبويّ. واسم "الرب" الذي أُعطي ليسوع هو "كيريوس" (في اللغة اليونانيّة) الذي يترجم "يهوه" أي الاسم الذي لا يحقّ لليهوديّ أن يتلفّظ به. هذا لا يعني أن المسيح تماهى مع الله وتوقّف هناك. بل، مع أنه صورة الله المنظورة، تتعرّف فيه الأرض كلها إلى الاله الحقيقيّ.
ثانيًا: المسيح "إنسان جديد"
ويقول قائل: إن بولس يتكلّم عن وجود المسيح منذ الأزل في موضع آخر. هذا ما نجده في كو 1: 15-20 حول المسيح الكونيّ. تستلهم هذه اللغةُ العالمَ الجليانيّ والنظريات اليهوديّة حول الحكمة. حين كتب بولس: "لم يشفق الله على ابنه، بل أسلمه عنا جميعًا" (روم 8: 32)، استلهم بلاشكّ خبر ذبيحة اسحاق (تك 22: 16). وهكذا نكون أمام تعبير ينطلق من الكتب المقدّسة. هل يستطيع بولس أن يتصوّر بشكل موضوعيّ ما كتبه عن يسوع؟ "أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة" (غل 4: 5). أما يبدو واضحًا أن بولس يفسّر واقعًا تاريخيًا (وُلد من امرأة) بتأكيد إيمانيّ يعبّر عن حضور يسوع من أجلنا (عمانوئيل) بعبارة تدلّ على أصله (أرسله الآب)؟ وحين كتب بولس في 1 كور 8: 6 أن كلّ شيء وُجد به" (= يسوع المسيح)، لم يتصوّر أن يسوع كان حاضرًا في الخلق لكي يكون وسيط خلق الله كله. اعتبر مع المسيحيّين الأولين أن القيامة حدث يعني الخليقة كلها، فأكدّ أن الله الذي يتجلّى في يسوع المسيح هو حقًا الاله الخالق.
إذا كان هذا التحليل صحيحًا، فهذا يعني أنه ليس من نظرية موضوعيّة عند بولس حول المسيح الموجود منذ الأزل. غير أنه من الواضح أن اللغة الملتبسة التي صاغها المسيحيون في أيامه، في عالم تزدهر فيه التصوّرات الهائلة حول السماء والأرض، قد فتحت الباب أمام كل أنواع النظريات الغنوصيّة. فصورة مسيح موجود منذ الأزل لدى الآب، ينزل ثلاثين سنة على الأرض ثم يصعد بعد ذلك، قد فرضت نفسها للأسف على الوجدان المسيحيّ وشوّهت مفهوم الخلاص. عد ذاك اعتُبر الخلاص تفلّتًا من الأرض إلى السماء. ولكن ليست تلك نظرة بولس.
فالمسيح في نظره هو الانسان الجديد. وقد أعدَّ المؤمنون سلفًا ليكونوا "مشابهين لصورة ابنه، ليكون هذا الابن بكر إخوة كثيرين" (روم 8: 29). أي إخوة جميع البشر الذين يستطيعون أن يصيروا بيسوع المسيح أناسًا جددًا.
ابتعد بولس بعض الشيء عمّا كتبه قبل ذلك الوقت بقليل إلى التسالونيكيين. فأعطانا في روم 8 نظرة جديدة. قال إن الخليقة المتألّمة أسلمت إلى سلطة الباطل بالانسان الخاطئ، فـ "انتظرت" (روم 8: 19). كنّا نظنّ، حسب بولس، أنه كان على الخليقة أن تنتظر خلاصها بيد الله. أما الرسول فكتب: إنها "تنتظر تجلّي أبناء الله". ثم كتب: "تنتظر أن تشارك في حرّيتهم ومجدهم" (روم 8: 19، 21).
لاشكّ في أن الخلاص يأتي من الله، ولكن عبر الانسان. ويقود هذا البرهانُ المنطقيّ الرسولَ ليقول إن مسؤوليّة آدم الجديد وإخوته ليست أقلّ من مسؤوليّة آدم الأول وأبنائه. فالمسيحيّ مسؤول بعمله عن تنمية الخليقة في إطار الحريّة و"المجد" (أي البهاء الالهيّ). هذا ما لا يقوله بولس، لأنه ما زال يعيش في انتظار المجيء (باروسيا). ومع ذلك، فهو يؤكد في هذه الرسالة عينها: حين يخلص جميع الوثنيين، يخلص اسرائيل كله بدوره (روم 11: 25-26). هل ظنّ أن هذا يتمّ في بضع سنين؟ هذا ما لا نعرفه.

3- مسيرة الفكر البولسيّ
حاولنا أن نبيّن كيف أن اعتبارات القديس بولس تدخل في اهتمامات المسيحيّة الأولى وأبحاثها حول ثلاث مسائل أساسيّة هي: القيامة، الصليب، المسيح. أما هنا فنحاول أن نعالج ينبوع صعوبات آخر. لسنا في هذا المجال أمام الفكر في حدّ ذاته، بل أمام مسيرة هذا الفكر. يحسّ القارئ نفسه حائرًا أمام الطريقة التي بها يعالج بولس المسائل. أمام البراهين التي يستعملها واللغة التي يلجأ إليها. من أجل هذا، نبدأ ببعض ملاحظات ثم نتعرف إلى طريقة بولس في تقديم حججه. وهكذا نلقي الضوء على أسلوبه وفكره.
أ- رسالة لا مقالة
أولاً: مرسل إلى الكنائس
بولس يكتب رسائل ولا يكتب مقالات لاهوتيّة. هو المرسَل يؤسّس الكنائس مواجهًا الصعوبات الكبيرة. ولكن ساعة يكون بعد في كنيسة من الكنائس، أو بعد أن يترك تلك الكنيسة، تظهر المصاعب. يكفي هنا أن نقرأ 2 كور 11-12. وهو حين يكتب إلى كنيسة، يحاول أن يقول لها شيئًا محدّدًا. وهو يستعمل الرسالة لأنه لا يستطيع أن يذهب شخصيًا إلى تلك الكنيسة. وهكذا يكون أسلوب بولس صعبًا، ولكنه أسلوب حيّ وملموس، ولا تنقصه العاطفة والحلاوة.
حين يشكر الفيلبيّين على هبة تلقّاها (فل 4: 10-20)، فهو يذكر ردّة الفعل عند أصدقائه وعنده. وفي الوقت عينه يُبرز الانجيلَ في هذا التبادل. هو يحاول أن يفهمهم بكل الوسائل، ولهذا يستعمل جميع الحجج الممكنة. هذا ما فعله في غل: هاجم، جادل. شرح.
ثانيًا: أسلوب موجز إلى حدود الايجاز
وما يظهر هنا بشكل خاص هو صحيح بشكل عام. فبولس لا يأخذ وقته كاملاً لكي يعرض مسألة، لكي يحلّل بشكل منهجيّ مختلف العناصر ويقدّمها بشكل تعليميّ. هو يناقش دومًا مع القارئ. وحين يعالج مسألة أساسيّة من أجل المسيحيّة الأولى مثل شرعيّة الناموس الموسويّ، وبالتالي تفسير الكتب المقدسة، يجعل الجدال في الدرجة الثانية كأني به يترك قرّاءه ويجادل مع الرابينيّين الذين أثّروا فيهم أو يريدون.
هذا الجدال الكبير عرفه بولس أيضًا مع نفسه. فهو الفريسيّ الذي صار مسيحيا. وأسلوب بولس هو أسلوب شفهيّ (لا خطيّ). والانتقال إلى الكتابة كانت نتيجته إيجاز العبارة. لا، ليس بولس ذلك الثرثار، بل هو موجز إلى حدود الايجاز، بحيث يصبح لامفهومًا. وبما أنه يرى دفعة واحدة جميع جوانب مسألة من المسائل، تتزاحم الافكار فلا يستطيع أن يقدّمها كلها معًا. يقدّم فكرته في رسمة سريعة، ثم يعود إليها بعد وقت لكي يجعلها مفهومة. وبما أنه إنسان من الجيل الأول، وبما أنه هو ما هو، ففكره بحثٌ متواصل وحركة. هو بعيد كل البعد عن المعلّم الذي هذّب نهجه سنوات طويلة وعرضه بشكل متماسك. ومع ذلك، فهناك تماسك عميق في انطلاقة فكره.
ب- الخلاف مع بطرس
أولاً: النصّ في غل
أراد الغلاطيون أن يحافظوا على بعض الفرائض اليهوديّة مثل الختان. واعتبروا أن الانسان لا يسعه أن يكون مسيحيًا "كاملاً" إلاّ إذا صار يهوديًا. مثلُ هذا الموقف هو في نظر بولس إنكار للانجيل. وعرضَ الرسول حواراته مع الرسل في أورشليم. وعُقد اتّفاق. فالمسيحيون الذين من أصل يهوديّ يتابعون ممارسة الشريعة. أما الذين من أصل وثنيّ فيُعفَون.
في أنطاكية كان بطرس يتناول الطعام مع مسيحيين من أصل وثني. ثم تراجع أمام براهين قدّمها المتشيِّعون ليعقوب الذين أعلنوا أن الطاعة للشريعة تمنعهم من مقاسمة الطعام مع الذين لا يطيعونها. وكتب بولس ما كتب في غل 2: 11- 18.
كان بولس صاحب منطق لا يرحم، فقدّم حججه بالنسبة إلى تصرّف محدّد. فبيّن كل وجهاته ونتائجه. وعبر كلمات قالها لبطرس، توجّه إلى الغلاطيّين الذين تراخوا أمام المتهوّدين وقبلوا بالختان. كلُّ هذا واضح وصريح. وبطرس خان حقيقية الانجيل بما عمله، لا بما علّمه. "ما سار سيرًا مستقيمًا".
ثانيًا: "إيمان المسيح" الذي يبرّر
إيمان المسيح هو الذي يبرّرنا ويجتذب إيماننا. قرأنا في ف 2 أن المسيح يخلّصنا بطاعته، بخضوعه لكلمة الرب. وفي روم 1: 5؛ 18:15، ارتبط الايمان بالطاعة أو هو تماهى مع الطاعة. ولكن بما أن بولس عارض الايمان بالاعمال، استنتج بعضهم (ومنهم رسالة يعقوب) أنه يعارض العاطفة بالعمل. أنه يعارض طريقة تصرّفنا بهويتنا.
يقوم الايمان بأن نثق بالله، أن نتركه يعمل فينا، أن نجعل نفوسنا في خدمته. أمّا العمل فيقوم بأن نتصرّف انطلاقًا من ذاتنا لكي نعمل عمل خلاصنا. نظرة بولس نظرة ديناميكيّة. إن نسينا هذا الواقع لا نفهم أن يكون يسوع في الوقت عينه صاحب الايمان وموضوعه. ولكن إن كان يسوع يبرّرنا بطريقة حياته، تأخذ آ 17 معنى ملموسًا جدًا. نحن "نبرّر في المسيح" حين نشارك الوثنيّين في الطعام. وهذا ما يذكّرنا بتصرّف يسوع الذي أكل مع العشّارين والخطأة.
ثالثًا: إيجاز وكثافة
حين نقرأ غل 9:2- 10، نكون أمام مثال واضح لإيجاز بولس في بعض جمله. فإن آ 19 تتضمّن في اليونانيّة تسع ألفاظ، ومع ذلك فهي تعبّر عن ثلاث فكرات رئيسيّة: "متُّ بالناموس". "للناموس". "لكي أحيا لله". نفهم هذا الايجاز حين نعرف أن بولس يشير إلى حدث، إلى ارتداد تعدّدت نتائجه ومدلولاته. "متُّ للناموس". أراد بولس أن يقوله إنه لا يرتبط بعدَ اليوم بشريعة موسى. هو لا يخضع لها. هو لا يرغب فيها (فل 4:3-8). وسيحدّد هذه العبارة "أحيا لله". هذا ما يعارض "أحيا لمجدي الخاص".
أما عبارة "متُّ بالشريعة" فتبقى غامضة. هل يشير إلى الحكم على يسوع "باسم الشريعة"؟ أو هل يشير إلى نشاطه كمضطهد في دمشق؟ ربما الاثنان. أمّا ما يلي فيبدو واضحًا: لم تعد حياة بولس حياة "الأنا" الفريسي، والمفتخر بأن يكون كذلك (هذا الأنا قد مات مع المسيح على الصليب). حياتُه هي حياة المسيح فيه. هل نحن أمام تأكيد صوفيّ؟ إن ما يلي من النصّ يدلّ على أن الجواب هو بالنفي. فإن ترجمنا. "أحيا في الايمان بابن الله" نرى أن العبارة توضح لفظة "المسيح" (نقرأها في الجملة السابقة) بطريقة تصرّف يسوع التي هي دومًا طريقة القائم من الموت. فالأنا في آ 19 يتجاوب مع "أنت" في آ 14 ومع "نحن" في آ 15. وهكذا يبقى الكلام متماسكًا. وإن تكلّم بولس عن إيمان بابن الله، فلأنه أراد أن يشير (كما في روم 8) إلى الرباط بين يسوع وكل مؤمن مدعو لأن يكون "ابنَ الله"، لأن يتصرّف تصرّف "ابن الله"، لأن يحبّ لأن الله قد أحبّه.
ج- جدال مع اليهود
حين درسنا غل 2، رأينا في العمق أن بولس يؤكّد على أن الانسان يتبرّر أمام الله. لا بتطبيق الشريعة، بل بالتوافق مع "الايمان بالمسيح". وهو توافق لا نقدر أن نحقّقه إلاّ بموت وقيامة. هذا يعني أن الايمان الجديد ليس وجهة بين وجهات اليهوديّة. لا ننسى أن فكر بولس فكر ملموس. هو ينطلق دوما من وضع محدّد وتصرّفات. غير أن أفكاره تتداخل بشكل موجز. لهذا نتوقّف عند الطريقة التي بها يستعمل الكتب المقدّسة ويفسّرها.
أولاً: بولس الرابي والمفسّر
اعتاد بولس، وهو الفريسي، على تفسير النصوص، وعلى النقاش في التفاسير المختلفة. ولكن حين انضمّ إلى المسيح، تبدّل تفسيره دون أن تتبدّل طريقته في الانطلاق من المقاطع البيبليّة. من هذا القبيل نستطيع أن نتكلّم عن الناحية الرابينيّة عند بولس. قد يجعلنا مثلُ هذا النهج أن نضيع إن نحن جهلنا العهد القديم. فإذا أردنا أن نتبع الرسول في جداله بواسطة البراهين البيبليّة، نأخذ منقطعًا من غل. مقطع صعب ولكن له معناه.
السؤال المطروح في غل 2 هو: هل يجب أن يصير الانسان يهوديًا فيمارس فرائض موسى الطقسيّة، لكي يصبح مسيحيًا؟ وعاد بولس إلى ابراهيم في 3: 6، وهذا أمر عاديّ، لأن ابراهيم هو في نظر اليهود، جدّ الشعب المختار ومثاله. وقال بولس: ما يميّز ابراهيم هو أنه آمن، أي قبل بثقة كلمة الله (قبل الوعد). ثم نال وعدًا بالنسبة إلى الأمم الوثنيّة. وعاد بولس إلى تك 15: 6؛ 12: 3 ليجد الموضوعين الرئيسيين اللذين توسّع فيهما من قبل.
ولكن بدلاً من أن يبني برهانه بشكل بسيط، عاد إلى كلمة "بارك" (بك تتبارك) ليعارض بركة الوثنيّين ببركة اليهود. شاذ أراد أن يبيّن أن اليهود يقعون تحت اللعنة، أورد تث الذي يؤكّد أن الذين لا يطبّقون كل ما كُتب في الشريعة هم ملعونون. وبما أن هذا مستحيل، فهذا يعني أن الجميع ملعونون. ثم أكدّ بولس في آ 13 موردًا مقطعًا آخر من تث، أن يسوع عُوقب كملعون، وأنه نال هذه اللعنة لكي ينجّي ذاك الذي يؤمن من لعنة الشريعة، وهكذا يجعل بركة الوثنيين ممكنة.
ثانيًا: لاهوت تاريخ الخلاص
قد نكون لاحظنا أن هذه الدورة التي أخذها بولس تقابل، كما في رسمة سريعة، تاريخَ الخلاص كما يراه المسيحيون الأوّلون (يسوع ملعون، يهود لا يؤمنون، وثنيّون يرتّدون). ففي آ 16، استعاد بولس نصّ الوعد، ولا ينسى أن هذا الوعد يتوجّه إلى نسل ابراهيم قبل أن يعني الوثنيين. ولكنه يتصرّف بحريّة مدهشة فيلغي الشعب اليهوديّ، أي الحلقة الأولى في السلسلة.
فالنسل في صيغة الفرد، ليس الشعب اليهوديّ، بل مجمل اليهود والوثنيين، أو بالأحرى المسيح الذي أمّن هذه الوحدة بموته. نشير إلى أن آ 16 كانت غير مفهومة بإيجازها لو لم يستعد بولس البرهان في آ 27 ي. فهو يلخِّص في بضعة أسطر جدالاً طويلاً كان له مع اليهود أو مع نفسه. فما إن بدأ تفسير الوعد حتى ظهرت مسألة الشريعة. وحين نتعلّق بابراهيم لا نستطيع أن نلغي موسى. وبعد أن ألغى بولس اليهود، عاد إليهم.
طُرح سؤال: ماذا جاءت الشريعة تعمل هنا؟ وقدّم بولس جوابين. أولاً، الشريعة "تُظهر المعاصي" (استعاد فكرة اللعنة كما في آ 12: لا يطبّق اليهودُ الشريعة). ثم قال: لا تأتي الشريعة مباشرة من الله (فكرة تعود إلى الهلينيين، أع 38:7-53). فهناك عدد كبير من الوثنيين يؤمّون المجامع في مدن حوض البحر المتوسط، فيحسّون بتنافر بين تعليم الله الفريد والمحرّر وهذه العادات الغريبة التي يخضع لها اليهود. هل ننسب إلى الله مثل هذه الفرائض والممارسات؟ قال بولس: كلا. ولكنه لم يرفض سلطة الكتب المقدّسة. ما كان يعلم أن تدوين البنتاتوكس (الاسفار الخمسة) قد امتدّ على أجيال. فأعلن أن موسى "لامس النصّ". أو بالإحرى استعمل خبرًا يهوديًا يروي أن جميع الملائكة كانوا هنا ليعيّدوا إعلان الشريعة. ولكنه حوّل هذا الخبر ضدّ اليهود. فالملائكة (لا الله) هم الذين أملوا الشريعة لموسى. هذا برهان رابيني مميّز استعمله بولس ضدّ الرابينيين: ليست الشريعة بشكل مباشر في خط إرادة الله.
ثالثًا: إله واحد ومسيح واحد
نجد في خلفيّة بولس، فكرة تقول: إن كان الله هو الواحد، فهو إله الجميع. لكن الشريعة تفصل اليهود عن الوثنيين. أما الهدف الذي جعله الله أمامه، بحسب الوعد، فهو أن يمنح بركة لجميع البشر. والمسيح المصلوب يجعل الآن هذا الوعد يتحقّق. وفي آ 22-25، خطا بولس خطوة جديدة بادئًا موضوعًا جديدًا (العبوديّة والحريّة) سيتوسّع فيه فيما بعد. ولكن قبل أن يستعيد المسألة من هذه الزاوية، اختتم كلامه في هذا الفصل مع تأكيد جوهريّ لا تلغيه تأكيدات أخرى ظرفية: "فليس بعد يهوديّ ولا يونانيّ. ليس عبد ولا حرّ. ليس ذكر وأنثى. لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح، فأنتم إذن نسل ابراهيم وورثة بحسب الموعد" (غل 3: 28-29).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM