الفصل الخامس والثلاثون
مقاربة من الرسالة إلى غلاطية
1- مدخل
رغم الابحاث المتواصلة منذ قرنين من الزمن، ظلّت الرسالة إلى غلاطية التي سمّيت "رسالة خارقة"، لغزًا غامضًا في وجوه عديدة. فنحن لا نعرف شيئًا عن كنائس (لا كنيسة واحدة) غلاطية هذه التي توجَّه إليها الرسول بولس: لا نعرف عددها ولا أهميّتها ولا تكوينها ولا بنيتها. بل لا نعرف إن كان يجب علينا أن نبحث عن هذه الكنائس في غلاطية الشمالية أو في مقاطعة غلاطية الرومانيّة التي ضمّت بسيدية وايسورية وبمفيلية وليكأونية وفريجية الشرقيّة وبفلاغونية والبنطس الغلاطي. أما اليوم، فجمع الشرّاح يقول إن غل وجّهت إلى غلاطية الشماليّة، وهو قوله يجد له أساسًا متينًا. أما البرهان الاقوى للقول بغلاطية الشمالية فهو أن هذه الرسالة لا تتوجّه إلاّ لمسيحيين من أصل وثنيّ، وأن ليس فيه أثر يدل على وجود مسيحيّين من أصل يهوديّ. هنا نتذكّر أنه وُجد مسيحيون عديدون من أصل يهوديّ في كنائس غلاطية الجنوبيّة ولاسيّما في أيقونية (أع 14: 1) وفي أنطاكية بسيدية (أع 13: 43).
ونطرح سؤالاً: متى انفجرت الأزمة التي يكشف عنها النصّ، ومتى دوّن بولس رسالته؟ طُرحت تواريخ تتوزّع على عشر سنين تقريبًا: من سنة 49 إلى سنة 58. أما نحن فنقترح صيف 56، ساعة كان بولس في مكدونيّة. وهناك من قال حوالى الفصح سنة 56. لا ننسى أننا هنا على مستوى الفرضيّات.
ونطرح سؤالاً آخر: هل نالت غل النتائج التي توقّعها بولس؟ هناك من يعتقد ذلك، ويُسند اعتقاده إلى براهين متينة. "بما أن الرسالة حُفظت لنا، فهذا علامة أن الرسول ربح قضيّته، وفُهم على المستوى الذي أراد أن يُفهم". ويرى آخرون أنه من الممكن أن يكون تطرّف بولس فخسر المعركة في غلاطية كما خسرها من قبل في أنطاكية. وقد لاحظ عدد من الشرّاح أن لوقا لا يذكر في سفر الأعمال ممثّلاً واحدًا من غلاطية بين وفود الكنائس التي رافقت بولس إلى أورشليم لتحمل معونة الكنائس (أع 20: 4). ولكن هذا البرهان الأخير يبقى ضعيفًا.
2- بولس والبلاغة
تتميّز رسالة غلاطية عن سائر الرسائل البولسيّة بحماس الرسول وقوّة عاطفته وغيظه. كأني به بركان يتفجّر. فهي تجعلنا نشعر أن بولس أملاها دفعة واحدة دون أن يتوقّف. أملاها بسرعة وقد أخذ الغيظ منه كل مأخذ. أملاها ساعة اصطدم بأخبار سيّئة جاءت إليه من غلاطية. هذا ما قاله الشرّاح، فرأوا في غل كل علامات الغضب والتسرّع. ما يدلّ على الغضب هو أن هذه الرسالة تبدأ فجأة دون فعل الشكر الذي اعتاد الرسول أن يرفعه. وما يدلّ على التسرعّ هو أن هذه الرسالة تجرى فتجرّ الكلمات خلفها. هي تشبه سيلاً يحفر الوادي عميقًا ويقلب كل الحواجز التي تعترضه: تبدأ الجملة ولا تنتهي. والمعترضة تلي المعترضة. وهناك التلميحات الرابينيّة والمفارقات الجريئة وكلام العنف الذي يوجّه إلى هؤلاء المؤمنين وكأنه أمواج عاتية.
هذا ما قاله سباتييه سنة 1881، وسيقول استاذنا موريس كاريز سنة 1997: "يبدو الفكر جامحًا بحيث يسبق الألفاظ التي تعبّر عنه. هو يستعمل حسب الاوقات، جميع الفنون الادبيّة، دون تصميم مسبق وحسب حاجات الطرح. يمزج بولس الذكريات والامثلة السيرويّة والتنبيهات القاسية التي يختفي وراءها حبّ للذين نبهّهم".
لاشكّ في هذه السمات والملاحظات. ولكن أما يبدو الشعور بالتسرّع والارتجال خاطئًا أو موهمًا؟ فهناك من رأى في أسلوب بولس النموذج البلاغيّ الذي أوصى به كونتيليانس (30- 100) من أجل الدفاع أمام القضاء.
- استهلال، 1: 6- 12.
- السرد، 1: 3- 2: 14.
- الطرق، 2: 15-24.
- البرهان، 3: 1- 4: 31.
- الرد.
- خاتمة الكلام، 6: 11-17.
ويبدو أن بولس أحلّ محل "الردّ" تحريضًا أخلاقيًا أو ارشادًا" (5: 1- 6: 10). وراح آخرون في الخطّ عينه، فدلّوا على السبب الذي جعل بولس يأخذ هذا الخطّ. وهكذا دلّ أنه ليس خائفًا على سلطته كما اعتبره شرّاح عديدون. ففي الخدعة البلاغيّة، لعب بولس دور المحامي لا دور القاضي. رافع عن قضيّة، وما أملى أوامره، بل هو جعل الغلاطيين على كرسيّ أرفع من كرسيه. وحين دافع عن قضيّته، جعلهم هم القضاة وطلب منهم أن يحكموا. غير أن بولس ظلّ حرًا بالنسبة إلى هذه البلاغة، فسيطر عليها حين استعملها في منظار نقدي.
وتحدّث خطّ آخر من الشرّاح رافضًا أن نكون أمام مرافعة، هذا دون رفض النموذج البلاغيّ. قال إن غل تبعث التصميم المتّبع من أجل مداولة.
- الاستهلال، 1: 6- 12.
- السرد، 1: 13- 2: 21.
- التشجيع، 3: 1-11:4
- الخاتمة الأولى أو التشكي، 4: 2-24.
- الخاتمة الثانية أو الاختصار، 4: 25-5: 6.
- الخاتمة الثالثة أو الغيظ، 5: 7-13.
- الاسهاب، 6: 11-18.
ترك سميت القسمة وهي جزء من هذا الخطّ البلاغيّ، وأضاف الاسهاب الذي لا يُوجد في كتب البلاغة. ولكن مهما يكن من أمر، فالنموذجان اللذان ذكرناهما يدلاّن على أن غل سارت بحسب قواعد البلاغة المعروفة في القرن الأول المسيحيّ. عند ذاك قد نستطيع القول إن غل تبعت المخطّط المعروف في العالم الكلاسيكيّ.
غير أن هناك شرّاحًا لم يقتنعوا بهاتين النظريتين البلاغيّتين، ورفضوا أن يكون بولس قد خضع لقواعد مصطنعة نجدها عند أصحاب النظرّيات البلاغيّة. ولكن مهما يكن من أمر، فبولس يبدو خطيبًا بليغًا يعرف كيف يمارس الممازحة والقساوة والنداء والغيظ...
3- خصوم بولس
قال ساباتييه: "قد نغشّ نفوسنا إن أردنا أن نفهم غل قبل أن نتعرّف إلى طبع هؤلاء المعلّمين المتهوّدين، إلى طبيعة عدوانهم، إلى قوّة براهينهم". وأضاف: "الرسالة نفسها تقدّم لنا في هذا المجال المعلومات الضروريّة".
تلك نظرة متفائلة. فنحن لا نعلم ما كان يقوله خصوم بولس، كما نجهل هوّيتهم. فبولس أراد أن يعبّر عن ازدرائه، فرفض أن يعطيهم اسمًا. هذا ما كان يوحنا الذهبيّ قد لاحظه: "أرجوكم أن تنتبهوا. هو لا يسمّي أبدًا هؤلاء المضلّين، لئلا تزداد وقاحتهم" (5: 2). إذن، اكتفى بولس بعبارات غامضة. "هناك بعض الناس بينكم يبلبلونكم" (7:1). "فالذين يبلبلونكم (يزرعون الفوضى)، ليتهم يُقطعون" (5: 12). وقال بولس في 5: 1: "أما الذي يقلقكم أيًا كان، فسينال العقاب". قد نكون هنا أمام مفرد شامل (أي بمعنى الجمع). هذا ما فهمه يوحنا الذهبيّ الفمّ. ويمكن أن يكون بولس غير عارف كل المعرفة بهويّة هؤلاء المبلبلين. وهذا ما يفسّر أن يكون ماهاهم (على حقّ أو خطأ) مع "الاخوة الكذبة" الذي اندسّوا خلسة في أنطاكية (2: 4).
إذا أردنا أن نتعرّف إلى هؤلاء المقلقين، يجب أن نعرف أولاً تعليمهم. من أجل هذا، ليس في أيدينا سوى رسالة بولس. وقدّم بعضُهم هذه المقابلة المصوَّرة: نحن نشبه لاعب شطرنج لا يملك سوى الحجارة السوداء، فيجب عليه أن يعرف بالحدس موقع الحجارة البيضاء. وتحدّث آخر عن "قراءة في مرآة". وبكلام آخر، يجب علينا أن نفهم هجوم بولس وكأنه هجوم معاكس، وكأنه ردّ على قول سابق. ومن هنا ننطلق لنكتشف طرح الخصوص. في هذا المجال تُقرأ غل لا كتوسيع أصيل للاهوت البولسيّ، بل كتحويل حقيقيّ للاهوت المعارض.
لاشكّ في أن طريقة العمل هذه تتضمّن هامشًا من اللايقين يتّسع أو يضيق. وهذا ما يفسّر وجود الفرضيّات العديدة حوله هويّة خصوم بولس. فقد أحصى أحد الشّراح إحدى عشرة فرضيّة. أما الخصم الذي يُذكر أكثر ما يذكر فهو المسيحيّون المتهوّدون الذين جاؤوا من الخارج، وربّما من أورشليم. ورأى البعض في هؤلاء المقلقين "اليهود". وآخرون: "خصوم من النمط الهلنستيّ". غير أننا نجهل كل شيء تقريبًا عن هؤلاء الهلنستيين. ولكن ما يبدو أكيدًا هو أن خصوم بولس في غلاطية فرضوا على المسيحيين الآتين من العالم الوثني، الختانَ (5: 2؛ 6: 12) وممارسة الشريعة والكلندار اليهوديّ (4: 9- 10، 21؛ 5: 1).
أما إحدى الصعوبات التي تجابه كل محاولة للتعرّف إلى هؤلاء المبلبلين، فهي أن بولس يشير مرارًا إلى موضوع الاضطهاد (29:4؛ 5: 11؛ 6: 12). "هدفهم الوحيد أن لا يُضطَهدوا بسبب صليب المسيح". حين يلومهم بولس بهذا الشكل، فأي اضطهاد يخافون ساعة لا يفرضون الختان؟ لا نجد ما يدلّنا على وجود مستوطنات يهوديّة هامة في غلاطية الشمالية. ولا على وجود مجامع في تلك المنطقة. ثم إن غلاطية الشمالية التي يصعب الوصول إليها، هي بعيدة جدًا عن اليهوديّة (1200 كلم ونيّف). وهي بالتالي بمنأى عن المتطرّفين الغيورين، هذا إذا افترضنا أن هؤلاء الغيورين كانوا أصحاب عنف عدواني. هل تطلّع بولس إلى الوضع السائد. في فلسطين على عتبة الحرب اليهوديّة الرومانيّة؟
عندئذ قد نكون أمام ما يدلّ على الأصل الفلسطينيّ لهؤلاء "المقلقين". ولكن لماذا اختاروا غلاطية الشمالية كساحة لرسالة مناوئة لرسالة بولس، ساعة لا يستطيعون أن يحسبوا حساب جماعات يهوديّة هامة تساندهم، وساعة كان المسيحيون مشتّتين لأنه لم تكن مدن كبيرة في غلاطية الشمالية؟ لهذا قال بعضهم، وهذا قول معقول: إن بولس يُسقط على الوضع في غلاطية ما عرفه في أنطاكية. وفي أي حال، نبقى في بعض الغموض حين نحاول التعرّف إلى هويّة خصوم بولس.
4- الرسالة إلى غلاطية والعالم الجلياني
قد ندهش حين نقرأ عنوان هذا المقطع الذي يربط غل بالعالم الجلياني. لاشكّ في أن بولس يستعيد في غل عددًا من العبارات التي تميّز الكتابات الجليانيّة: "العالم الحاضر الشرير" (1: 4). "وحي" (1: 12-16؛ 2: 2). "ملء الزمن" (4: 4). "الخليقة الجديدة" (6: 15). ولكن هل تكفي هذه الكلمات القليلة لكي تجعلنا نعتبر أن هذه الرسالة تنتمي إلى الفن الجلياني؟ كلا. ولهذا نفهم أن يكون بعض الشّراح قد اعتبر أن العالم الجلياني بحصر المعني يلعب دورًا ثانويًا في فكر بولس.
إذا أخذنا رؤيا يوحنا كمرجع، يجب أن نقرّ بأن رسالة بولس هذه لا ترتبط بالعالم الجلياني. فلا رمزيّة باطنيّة (إيزوتيريّة)، ولا أرقام سريّة، ولا كارثة كونيّة، ولا رؤية للسماء أو الجحيم، ولا سفَر إلى الآخرة. وإذا أخذنا بتحديد يعتبر العالم الجلياني مهتمًا بظروف الزمان والمكان في ما يتعلّق بالأحداث المقبلة، بنهاية الأزمنة، فهذا التحديد لا ينطبق على الرسالة إلى غلاطيّة.
ولكن الأمر يختلف إذا كانت السمات التالية تميّز العالم الجلياني أو إذا كانت أساسيّة. نذكر أولاً الحتميّة حيث يَبرز تسلسل الازمنة (والادهار) التي هي محدّدة منذ البدء، وحيث يبسط التاريخ مخطّط الله بشكل تدريجيّ (كما في فيلم سينمائي). ونذكر ثانيًا الثنائيّة حيث يتطلّع الانتظار الجلياني إلى تغلّب "عالم البر" على "عالم خاضع لعالم الشرّ". ونذكر ثالثًا الشموليّة حيث يكون العالم تجاه الله. وهكذا لا نعود نتحدّث عن اسرائيل والأمم. ونذكر رابعًا موضوع الانحلال أو فساد الاصل حيث يكشف تاريخُ البشريّة نموًا للشرّ. تتميّز الأزمنة الأخيرة بانتصار الاثم إلى حدّ القطيعة مع الربّ. عندئذ يتدخّل الله في الوقت المحدّد، بشكل متعال، فيقلب الوضع ويقيم ملكه.
حين نأخذ بعين الاعتبار هذه السمات الأربع التي تميّز العالم الجلياني، نكتشف في النهاية هذه الرسمة في خلفيّة الرسالة إلى غلاطيّة. فهناك تعارض جليانيّ (جعله بولس) بين مُلك قديم هو ملك العبوديّة والخطيئة واللعنة. هو مُلك طبعته الشريعة بطابع الضعف، وبين مُلك جديد أقامه المسيح وطبعَه بطابع الحريّة والنعمة.
ونظنّ أن هذه الرسمة الجليانيّة تعطي المفتاح لتفسير عدد من مقاطع غل تبدو مشكّكة في ظاهرها. فبولس لا يكتفي بأن يؤكّد أن الشريعة لم تُعطَ لكي تُحيي (3: 21: ناموس يستطيع أن يعطي الحياة)، بل يعلن أن هدفها تحريك المعاصي (3: 19: أضيف الناموس بسبب المعاصي). نجد ما يوازي هذه الآية في روم 5: 20: "دخل الناموس لكي تكثر الزلّة". وبعد ذلك، يصوّر بولس الشريعة وكأنها حارس سجن (غل 3: 23)، وكأنها وصيّ (4: 2) ومربٍّ (3: 24) أو "مراقب". وفسّر الاب كوتنيه 3: 19 فكتب بدون تردّد: "هذه العبارة التي تشكّك أكثر ما تشكّك في الرسالة كلها. ساعة كانت الشريعة للعالم اليهودي شجرة الحياة، صارت في رأي بولس وسيلة تعمل من أجل مُلك الخطيئة".
وكتب شارل بيرو عن روم 5: 20 أمورًا مشابهة: "تبدو الفكرة للوهلة الأولى "قذرة". لا يكتفي الرسول بأن يقتلع الشريعة من جذورها كقيمة خلاصيّة، بل يجعلها تلعب دورًا بشعًا". لاشكّ في أن عددًا كبيرًا من الشرّاح سار في خطّ أوغسطينس، فخفّف من هذا الشكّ، ونسب إلى الشريعة دورًا أقلّ سلبيّة. وكان منهم أدوار كوتنيه وشارل بيرو. قدّم الأول شرحه كما يلي: "أعطيت شريعة موسى، شأنها شأن كل شريعة كما في روم 7، لكي يعي البشرُ انحطاطهم الخلقيّ وينفتحوا على مجيء المخلّص". وقال الآب ستانسلاس ليونيه: "إذا كانت الشريعة في المعنى الخاص للكلمة، تسبّب المعصيّة، فهي لا تسبّب الخطيئة بل تفرضها. فهي قد أعطيت لتكشف القناع عن الخطيئة، وتتيح للانسان أن يزيل هذا السمّ القاتل لاجئًا إلى الدواء الوحيد الذي هو يسوع المسيح". ولكن هل هو فكر بولس؟ هناك بعض الشكّ.
ففي غل كما في روم، وجهة بولس وجهة شاملة لا وجهة فرديّة. ثم، كيف نفسّر انتظار 1200 سنة لكي تحقّق الشريعة ما لأجله أعطيت؟ لاشكّ في أن الشعور بالذنب قد صار حادًا في الزمن الذي سبق المسيح. فالادب اليهوديّ مليء باعترافات بالخطايا وبصلوات التوبة. ولكن الشريعة كانت قد هيّأت وسائل المصالحة، فدلّت على أهميّة متزايدة ليوم كيبور (يوم التكفير، يوم الغفران العظيم) منذ زمن المكابيّين (سي 50: 1- 21؛ اليوبيلات 18:34- 19).
من أجل هذا، يبدو لنا أن الرسمة الجليانيّة تساعدنا على فهم مقاطع غل المشكّكة بشكل أفضل. فالشريعة تنتمي كلها إلى "الدهر (إيون) الاول، إلى العالم الشرّير. وهذا ما يشدّد عليه روم 5: 20 حيث تُلاحق الشريعة مُلك الخطيئة الاصليّة. هي لا تهدف إلى محاربة الخطيئة الاصليّة. وفي 2 كور أقرب الرسائل إلى غل في الزمن، نسب بولس إلى الشريعة ذات النتائج التي لخطيئة آدم (3: 6-9؛ رج روم 5: 15- 21). إذن، دور الشريعة يقوم بأن يُكثر المعاصي، بأن يجعل الشرّ ينضج، بأن يشرعّ الوقت الذي فيه تدرك القطيعة التي تجعل ملكوت الله يجتاح العالم. وهكذا تقتني الشريعة وظيفة سوتيريولوجيّة (على مستوى الخلاص). "توخّى مخطّط الله أن يؤمّن فداءنا في عمق تاريخ الخلاص، أي وفي النقطة التي تضع الشريعة ختمها على وضعنا الميؤوس (لا مخرج منه) أمام الله". في هذا السياق، لا يزال غل 3 يحيّرنا، لأن الرسمة الجليانيّة للتاريخ ما زالت غريبة علينا. فإن رجعنا إلى عالم الجليان، بدا هذا الفصل مفهومًا على المستوى العقليّ ومتماسكًا.
5- النتائج التاريخيّة للرسالة إلى غلاطية
أ- مرتين لوتر
هذه الرسالة هي المفضّلة لدى مرتين لوتر بين الرسائل البولسيّة. قال عنها: "هي رسالتي. تلك التي تزوّجتها". لا تُفهم هذه المحبّة فقط لأنه وجد فيها شرعة الحريّة المسيحيّة وأكمل تعبير عن التبرير بالايمان وحده، بل لأنه كانت قرابة على مستوى الخيارات بين بولس ولوتر. وكُشفت هذه القرابة بشكل خاص في هذه الرسالة. وقد قالت رينان: "الشخص التاريخيّ الذي يشبه بولس أكثر ما يشبه هو لوتر. فعند الاثنين نجد العنف عينه في اللغة، وذات الاندفاع وذات القوّة وذات الاستقلاليّة النبيلة، وذاك التعلّق الجنونيّ بطرح اعتُبر الحقيقةَ المطلقة". لهذا لا ندهش إن تماهى لوتر مع بولس في شرحه للرسالة إلى غلاطية سنة 1530- 1531، ولاسيّما حين وقف بولس في أنطاكية بوجه بطرس (البابا الأول)، مخلّص حريّة الانجيل. "إنه لأمر مدهش أن يكون الله حفظ الكنيسة الفتيّة والانجيل عينه بواسطة شخص فريد. فليس هنا إلاّ بولس. خسر رفيقه برنابا. وها هو بطرس ضدّه".
وشدّد إيف كونغار مرات عديدة على تأثير غل في لوتر. بل لامه لأنه سار في خط غلاطيّ ذات اتجاه واحد فأخذ بمسيحيّة هي إنجيل نقي وباطنيّة نقيّة. أراد كنيسة نقيّة، "وخلقًا جديدًا"، أن تكون واقعَ العالم الآخر. أن تكون كلها روحيّة.
ولكن وإن كان أكيدًا أدن غل طبعت لوتر بطابعها، نُفرط في القول حين نجعل من بولس الأب الحقيقيّ للبروتستانتيّة. لا يحقّ لنا أن نجعل من بولس شخصًا لوتريًا قبل اللوتريّة. هذا ما قام به بعض الشّراح في الغرب مثل باتس وبرنار وغيرهما.
ب- اليهود والمسيحيّون المتهودّون
قال رينان: أرسل بولس رسالته في الحال. فلو تأخّر ساعة في ارسالها لكان عدل عن إرسالها. وقيل: لو عرف بولس ردّة فعل رسالته على المسيحيين المتهوّدين، ما كان أرسلها. نحن هنا أمام فرضيّة. ولكن بولس أرسلها. وسوف يستفيد المسيحيون اليهود في غلاطية منها لكي يرسلوا إلى أورشليم تقريرًا عن آراء بولس وأقواله الجارحة. لهذا استقبلته كنيسة أورشليم استقبالاً باردًا (أع 20:21-21).
ما الذي قاله بولس في اليهود والمسيحيين المتهوّدين الذين يجعلون الشقاق في كنائس غلاطية؟ أنكر الأصل الالهي لشريعة أعلنها الملائكة بواسطة وسيط. وأعلن أن الشريعة ما أعطيت لتُحيي، بل لكي تسجننا في الخطيئة (3: 19- 22). وزاد: من أخذ نير الشريعة ومارس الكلندار اليهوديّ، سقط في عبادة الاوثان (4: 8- 10). وإذا عدنا إلى 4: 21- 31، نفهم أن المسيحيين هم أبناء بحسب الروح، هم اسحاق الحقيقيّ. أما اليهود فأبناء بحسب البدن، بحسب اللحم والدم. هم اسماعيل الحقيقيّ.
هنا لا بدّ من إعادة قراءة غل. ونعطي مثلاً على ذلك 2: 15: "نحن يهود بالولادة (بالطبيعة) ولسنا بخطأة من الأمم". يجب بالحري أن نقرأها: "نحن، وإن كنا يهودًا بالولادة، لا وثنيين (بلا شريعة)، نحن خطأة". مثل هذه الترجمة تتلاءم مع سياق النصّ.
وقال موسنر: "توسّع بولس في تعليمه حول الشريعة والتبرير، لا ضدّ اليهود، بل ضدّ الاخوة الكذبة. هو لا يريد بإعلاناته أن يدمّر اليهوديّ. ما يريد أن يدمّره هو إنجيل مسيحيّ مزعوم". لاشكّ في أن بولس يصيب في رسالته المقلقين في غلاطية والمسيحيين الذين يقعون في تجربة اليهوديّة. لهذا، فهو يعتبر أن الغلاطيين الذين يعودون إلى اليهوديّة بعد أن عرفوا المسيحية، يخطئون خطأ فادحًا. وأنهم لا يخلصون إن عادوا إلى الختان والاطعمة الطاهرة. بل يخلصون فقط أن هم تعلّقوا بيسوع المسيح الذي باسمه وحده نخلص.