الفصل الرابع والثلاثون: بنية الرسالة الأولى إلى الكورنثيّين

 

الفصل الرابع والثلاثون
بنية الرسالة الأولىش
إلى الكورنثيّين

1- المدخل
كانت هناك فرضيات تعتقد أن 1 كور تتألّف من رسالتين أو ثلاث رسائل. غير أن هذه الفرضيات لم تعد تلقى الترحيب الواسع. فالذين رفضوا هذه الفرضيّات يعلنون أن التبدّل المفاجئ في موضع ما، يُعزى إلى ترتيب الاجوبة البولسيّة وإلى أن الاسئلة وصلت إلى بولس عبر تقارير شفهيّة (1: 11: بلغني عنكم؛ 5: 1: شاع عنكم؛ 18:11: بلغني أولاً؛ 15: 12: كيف يقول قوم بنيكم) ورسالة جاءته من أهل كورنتوس (7: 1: من جهة ما كتبتم به إليّ). ساعة يرى الشرّاح أن 2 كور مؤلَّفة من عدة رسائل، فهم يقولون العكس بالنسبة إلى 1 كور.
ولكن تبقى معطية أساسيّة. فإن 1 كور سبّبها حدثان منفصلان تتحدّث عنهما الرسالة. الأولى، مجيء أهل خلوة من كورنتوس (1: 11). الثاني، مجيء ثلاثة رجال من كورنتوس، هم استفانا وفرتوناتوس وأخائيكوس (16: 17). وقد يكون هؤلاء الثلاثة حملوا معهم رسالة من كورنتوس (7: 1). كل مجموعة من هاتين المجموعتين نبّهت بولس إلى مشاكل تعرفها كنيسة كورنتوس، التي أسّسها بولس كما يقول في 3: 6 (أنا غرست وأبلوس سقى)، 10 (أنا وضعت الاساس كبنّاء حكيم)؛ 4: 15 (ليس لكم اباء كثيرون، فأنا قد ولدتكم في المسيح)؛ 2:9 (أنتم خاتم رسالتي في الرب؛ رج 1: 16؛ 15:16).
هناك من اعتبر أن كلاً من هاتين المجموعتين (خلوة، استفاناس) التقت ببولس في فترة زمنيّة قصيرة، بحيث يكون بوليس كتب رسالة واحدة، ثم قال إنه لم تصل إلى بولس معلومات أخرى غير ما حملته هاتان المجموعتان.
نودّ هنا أن نبيّن أن الشكل الرسائليّ والبنيّة يتوافقان مع الظرفين اللذين دفعا بولس إلى كتابة 1 كور، ويقودان إلى نتيجة تقول إن بولس كتب 1 كور في مرحلتين تبعد الواحدة عن الأخرى بعض الوقت. قد يكون بولس كتب ف 1-4 قبل أن تكون وصلت إليه المواد التي توسّع فيها في ف 5-16. حمل أهل خلوة معلومات إلى بولس غكتب ف 1- 4. ثم عاد وكتب مرّة ثانية حين حمل إليه الاخبار استفاناس وفورتوناتوس وأخائيكوس، حول الوضع في كورنتوس. وصولهم كان السبب في كتابة ف 5-16. ربط بولس قسمي الرسالة، وأرسل الفصول الستة عشر التي هي 1 كور. وهكذا تكون 1 كور مؤلّفة من رسالتين ضمّهما بولس نفسه في رسالة واحدة.

2- مناسبتان
حدّث "أهلُ خلوة" (1: 11) بولسَ حوله انقسام كنيسة كورنتوس شيعًا (سخيسماتا، 1: 10)، أو مجموعات متنازعة (اريوس): "أنا لبولس، أنا لأبلوس، أنا لكيفا، أنا للمسيح". كرّس بولس ف 1-4 لهذا الموضوع (رج 3: 3-6؛ 3: 22؛ 4: 6) فمن أجل هذه الفصول، يُفترض موضوع واحد على مستوى المعلومات. وتقرير محموعة خلوة في 1: 11، أمّن المناسبة لهذه الفصول الاربعة.
وجاء استفانا وفورتوناتوس وأخائيكوس إلى بولس كموفدين رسميين من قبل كنيسة كورنتوس (17:16: سعيد بزيارة... لأنهم قاموا بما لم تستطيعوا). فاستفانا وأهل بيته (وضد يكون فورتوناتوس وأخائيكوس منهم) كانوا أول المرتّدين في المنطقة (1: 16؛ 16: 15). وذُكر استفانا أولاً، لأنه كان على ما يبدو قائد المجموعة (16: 16). وكما أشرنا أعلاه، قد يكون هؤلاء الثلاثة (ونسمّيهم وفد استفانا) حملوا إلى بولس رسالة الكورنثيين التي ذُكرت صراحة في 7: 1: "أمّا في ما يتعلّق بالامور التي كتبتم إليّ".
أخذ بولس مواضيعه من هذه الرسالة التي وصلت إليه من كورنتوس في فصول تبدأ مع "باري دي". أما في ما يخصّ. نقرأ في 15:7: "وأما العذارى"؛ في 8: 1: "أمّا من جهة ذبائح الاوثان": 12: 1: "أما من جهة المواهب الروحية"؛ 16: 1: "وأما من جهة جمع المدد للقدّيسين"؛ 16: 12: "أما أبلوس". إن وصول وفد استفانا مع الرسالة من كورنتوس، كان المناسبة لتدوين هذه الفصول (ف 5-16).
إن ف 11 (ما عدا آ 1: اقتدوا بي كما أني أنا أقتدي بالمسيح) وف 15 وُلدا من معلومة شفهيّة نقرأها في 18:11 (بلغني أولاً أنكم تجتمعون) وفي 15: 12 (كيف يقول قوم بينكم بعدم قيامة الموتى). بالإضافة إلى ذلك، فالمواد التي يعالجها هذان الفصلان، لا تبدأ بعبارة "باري دي". هل ظلّ استفانا ورفيقاه صامتين حين كان بولس يقرأ الرسالة الآتية من كورنتوس؟ هذا غير معقول على مستوى الواقع أن يكونوا حاضرين ولا يقولون شيئًا حول الرسالة التي حملوها. فقد يكونون شرحوا بعض الأمور وزادو معلومات حول تصرّفات الكورنثيين ومعتقداتهم المسيحيّة. وقد يكون بولس طرح الاسئلة الدقيقة. وهكذا تداخلت المعلومات الشفهيّة مع معلومات وردت في الرسالة الآتية من كورنتوس. وفي النهاية، يبدو من المعقول أن تكون ف 7-16 نتيجة مجيء وقد استفانا والرسالة التي حملوها معهم مع لمحة عن الوضع في كورنتوس.
وماذا نقول عن ف 5-6؟ ليس من السهل للوهلة الأولى أن نقول إن كانت هذه المواد الموجودة في هذين الفصلين، قد حملها إلى بولس أهل خلوة أم وفد استفانا. أما الحلّ المقبول، فهو أن نربط هذين الفصلين بأهل خلوة. فهما يتبعان في الواقع معالجة بولس للانقسامات كما في ف 1-4، ويسبقان جوابه على الرسالة التي جاء بها وفد استفانا من كورنتوس، وهو جواب يبدأ مع 7: 1.
ومع ذلك، يبدو أن ف 5-6 يرتبطان بوفد استفانا، لأن موضوعهما وألفاظهما يرتبطان بالفصل السابع. يكفي أن نشير إلى العلاقات الجنسيّة ولفظة "بورنايا". نقرأ في 5: 1 عن "حادث فحش". وفي 13:6، 18 عن الفجور. ويقول بولس في 7: 1: "تلافيًا للفجور، فلتكن لكل رجل امرأته". وفي الحالات الثلاث هي اللفظة اليونانيّة (بورنايا). سألت الرسالة الآتية من كورنتوس عن الزواج والعلاقات الجنسيّة. هناك ضياع حول العالم الجنسي والعلاقات بين الرجل والمرأة على ما نقرأ في مطلع ف 7. لهذا يكون من المعقول أن استفانا ورفيقيه حملوا إلى بولس معلومات حول النشاط الزواجي وما يحدث خارج الزواج في جماعة كورنتوس. بدأ بولس بجواب على ما عرفه من معلومات شفهيّة (قبل الجواب على الرسالة) لأنه تضايق ممّا وصل إليه من شواذات على مستوى الجماعة في ما يتعلّق بالفحش والفجور.
في 6: 12- 21، مسألة الفحش (بورنايا) ترتبط بالحياة في الجسد (سوما)، وبالرجاء بقيامة الاجساد (6: 14: الله الذي أقام الرب سيقيمنا). تلك هي أول إشارة إلى القيامة في 1 كور، بل الوحيدة قبل ف 15 المخصّص للقيامة وطابعها "الجسديّ". وهكذا يكون هذا الموضوع قد حُمل إلى بولس بواسطة وفد استفانا (رج 15: 12).
قالوا هناك مقطع (فاصل) بين ف 6 وف 7 (أما من جهة ما كتبتم به إليَّ). وكان ف 6 قد انتهى بهذه الخاتمة: "فمجّدوا الله إذن في أجسادكم". ولكن يبدو أيضًا أن هناك فاصلاً بين ف 4 وف 5. أنهى ف 4 بسؤال طرحه بولس: "ماذا تريدون أن آتيكم؟ بالعصا، أم بالمحبّة وروح الوداعة"؟ وبدأ ف 5: "لقد شاع عنكم" (هو موضوع جديد جدًا). بل إن هذا الفاصل يلفت النظر بشكل أكبر، من جهة تبديل تام في الموضوع الذي يرد في ف 5. فهذا المقطع بين ف 4 وف 5، هو ما أودّ أن أتوسّع فيه بالنظر إلى التواصل أو الانقطاع على مستوى الموضوع وعلى مستوى الافعال. وليس فقط بالنظر إلى الظروف المختلفة، بل في ارتباط بالشكل الرسائلي والبنية. وهذه الاعتبارات التي توافق هذه المواد فتؤكّد أن القطع البنيويّ الرئيسيّ يقع بين ف 4 وف 5، لا بين ف 6 وف 7. هذا يعني أن ف 1-4 كُتبت بشكل رسالة كاملة. بشكل رسالة تكفي نفسها بنفسها. وهي تنتظر الخاتمة.

3- الشكل الرسائلي والبنية في 1 كور
رأت هذه السنوات الاخيرة اهتمامًا متزايدًا في الشكل (أو: الفن) الرسائلي في الأدب البولسيّ. كتب بولس رسائل، فكانت هذه الرسائل الوسائل العادية للاتصال في العالم القديم. لاشكّ في أن الاصطلاحات هنا كانت متراخية، شأنها شأن جميع الاصطلاحات. فالاصطلاحات الادبيّة أو الرسائليّة التي تتضمّن بُنى نموذجيّة وجملاً مقولبة، كانت تتكيّف مع العادات الادبيّة واهتمامات الكاتب، كما مع العلاقات بين الكاتب ومستلم الرسالة. فالرسائل القديمة، شأنها شأن الجديدة، تُبرز عددًا من الأهداف: تطلب أو تنقل معلومات أو مساعدة. تُدخل شخصًا أو توصي به. تقيم علاقة شخصيّة أو تعمّقها. وكل هذا يتطلّب اصطلاحات أدبيّة نموذجيّة. فلا نعجب إن لم يستعمل كاتبان ذات الاصطلاحات الرسائليّة في طريقة واحدة، وإن استعمل الكاتب الواحد طرقًا مختلفة بين رسالة وأخرى. فالاصطلاحات لا تقيّد الانسان. وفائدتها ترتبط بليونتها من أجل عمل الاتصال بين الكاتب والقرّاء.
استعملت رسائل بولس البنية الشكليّة الاساسيّة والجمل المقولبة التي عرفتها الرسائل الهلنستيّة (ولاسيّما البنية المثلثة: عبارة البداية. جسم الرسالة. العبارات الختاميّة). بل إن بولس كيَّف هذه السمات الشكليّة بطرق جديدة لا تجد ما يوازيها. مثلاً في فاتحة الرسالة، تميّز بولس حين أحلّ النعمة (خاريس) محلّ التحية والتمنّي بالصحة كما نجد في الرسائل الهلنستية. فهناك عدد من التكيّفات البولسيّة ترد مرّتين أو أكثر في رسائله، بحيث نستطيع أن نكتشف نموذجًا بولسيًا في رسائله.
أعطانا هوايت محاولة هي رسمة مجرّدة لرسالة بولسيّة، تظهر فيها التكيّفات التي قام بها بولس في الاصطلاح الرسائليّ. وتتضمّن هذه الرسمة ثلاثة أقسام. الاولى، الفاتحة، تحمل العنوان، التحيّة، وصلاة الشكر. والقسم الثالث هو الخاتمة: يقوم بتحيّة أخيرة وقبلة مقدّسة والمباركة. إن 1 كور تتضمّن كل ما نجد في الفاتحة والخاتمة (1: 1-9؛ 16: 19-24). أما القسم المتبقي، وهو الاكبر، فهو جسم الرسالة الذي يدلّ على التنوّع الكبير بين رسالة ورسالة.
وبحسب هوايت، نجد في جسم الرسالة البولسيّة السمات التالية: عبارة بشكل مقدّمة (1: 10: وأطلب منكم أيها الاخوة)، انتقالات مختلفة نلاحظها في المنادى: "أيها الاخوة" ترافقه جملاً يطلب فيها الرسول شيئًا أو يكشف أمرًا. في 1: 26: "فانظروا أيها الأخوة إلى المدعوّين فيكم"؛ 2: 1: "وأنا لما أتيتكم أيها الاخوة"؛ 3: 1: "وأنا أيها الاخوة لم أستطع أن أكلمكم"؛ 4: 6: "وهذه الأمور، أيها الاخوة، قد نسبتها إلى نفسي"؛ 10: 1: "فإني لا أريد أن تجهلوا أيها الاخوة"؛ 12: 1: "أما من جهة المواهب الروحيّة، فلا أريد أيها الاخوة"؛ 14: 6: "فالآن أيها الاخوة"؛ 15: 1: "أذكّركم أيها الاخوة". وأخيرًا هناك عبارة الخاتمة التي تنقلنا من جسم الرسالة إلى خاتمتها.
إذا توقّفنا عند الشكل (الفن) الرسائلي والبنية، ما يلفت نظرنا في 1 كور هو القسم الختامي في جسم الرسالة. فهذا القسم (حسب هوايت) في جسم الرسالة، يتضمّن المركّبات الخمسة التالية.
أ- عودة سيرويّة (سيرة الكاتب، ليُسند كلامه) إلى الرسالة، وتعبير عن الثقة بالارادة الطيّبة لدى القرّاء ليبلغوا إلى تعليمات بولس ويفهموها (16: 1-2).
ب- التعرّف إلى رسوله بولس والتوصية به (16: 10- 11).
ج- إعلان مسبق عن زيارة يرغب بولس أن يقوم بها (16: 3-9، 12).
د- قسم إرشاديّ: تذكّرُ تعليمات بولس، عودة إلى سلوك بولس وسلوك الجماعة، نداء إلى مثال المسيح (13:16-18).
هـ- صلاة السلام (غائبة).
نجد هذا القسم الختامي في جسم 1 كور، حالاً قبل الخاتمة (16: 19-24) أي في 16: 1-18 حيث يضمّ بولس مواضيع في الرسالة التي جاءته من كورنتوس إلى القسم الختامي الذي يشكّل انتقالة في جسم الرسالة. غير أن إضمامة من هذه العناصر المميّزة في القسم الختامي، توجد أيضًا في نهاية ف 4 (آ 14-21).
ونعود إلى هذه المركّبات
أ- المركّبهّ الاولى: بولس والرسالة
"ولست أكتب هذا لإخجالكم. وإنما لأعظكم كأولادي الأحبّاء. لأنه، وإن يكن لكم ربوات من المعلّمين في المسيح، فليس لكم آباء كثيرون. إذ إني أنا قد ولدتكم في المسيح يسوع بالانجيل" (4: 14-15). إن النصّ المقابل في 16: 1- 2، لا يعود بنا الآن إلى رسالة بحصر المعنى، مع أنه يعبّر (في نظر هوايت) عن ثقة بولس بالقرّاء وإرادتهم الطيّبة لكي يتجاوبوا مع تعليماته.
ب- المركّبة الثانية: رسول بولس
"من أجل ذلك، قد وجّهت إليكم تيموتاوس، ابني الحبيب الأمين في الربّ. وهو يذكِّركم طرقي في المسيح يسوع، كما أعلّم بها في كل مكان، في كل كنيسة" (4: 17) ق 16: 10- 11.
ج- المركّبة الثالثة: زيارة بولس
"لقد انتفخ بعضكم كبرًا، كأني لا آتيكم. لكني سآتيكم عن قريب، إن شاء الرب، فأعرف لا أقوال المنتفخين، بل قوّتهم، لأن ملكوت الله ليس بأقوال، بل بالقوّة. ماذا تريدون؟ أن آتيكم بالعصا، أم بالمحبّة وروح الوداعة" (4: 18- 21). ق 1 كور 16: 3-19 (وأيضًا آ 12 التي تشير إلى زيارة أبلوس).
د- المركّبة الرابعة: القسم الارشاديّ
"فأطلب إليكم إذن أن تكونوا بي مقتدين" (4: 16). ق 1 كور 16: 15 الذي يستعمل أيضًا فعل "باراكالو" (طلب) في سياق قسم أرشادي قصير في 16: 13- 18.
هـ- المركّبة الخامسة: صلاة السلام
هي غائبة من 1 كور 4: 12- 21. كما هي غائبة من 1 كور 16: 1-18 (16: 11؟). رج (1 كور 14: 33؟)؛ روم 15: 33؛ 16: 20؛ 2 كور 13: 11؛ غل 6: 16؛ فل 4: 9؛ 1 تس 23:5؛ رج أيضًا 2 تس 3: 16؛ أف 6: 23؛ عب 13: 20. وغابت أيضًا من فلم (رج أيضًا كو).
إن مثل هذه الاضمامة لعناصر مميّزة (أربعة من خمسة في 4: 14- 21 و16: 1-18) في القسم الختاميّ من جسم الرسالة، لا نجد ما يوازيه في رسائل بولس. وكلمات بولس في 4: 14- 21، تدلّ على أنه يختتم البرهان الاساسيّ، جسم الرسالة، ويصل إلى خاتمة الرسالة، كما في 16: 1-18. ما إن تسمع الجماعة الكورنثيّة هذه الكلمات حتى ترتّب مقاعدها، وتجمع ما يخصّها وتستعدّ لمناقشة كلمات بولس بما فيها من تحدٍّ حين ينهي ملاحظاته الأخيرة.
ولكن لا نستعجل. فبولس لم يختم بعد رسالته. فالعلامة النموذجيّة لخاتمة الرسالة ليست علامة صحيحة. فبولس سيقوله أيضًا أمورًا وأمورًا. وهو يواصل كلامه بتوبيخ فجائي وعنيف ضد جماعة كورنتوس: "لقد شاع عنكم أن بينكم حادث فحش (بورنايا)، ممّا ليس له نظير ولا بين الأمم أنفسهم" (5: 1). هذا التوبيخ يبدأ موضوعًا جديدًا، وبالتالي قسمًا جديدًا في الرسالة، وذلك بعد علامة تدلّ على الخاتمة في المقطع السابق. إن القطع بين 4: 21 و 5: 1 هي صيغة رساليّة تسمّى التعارض. ما إن سمعت الجماعة كلمات 5: 1 والآيات التابعة، حتى عادت إلى مقاعدها وهى مدهوشة، قلقة، ومتنبّهة.
وهكذا نكون قد وجدنا سندًا قويًا (وإن لم يكن برهانًا) في هذه الاعتبارات حول الفنّ الادبي والبنية. إن ف 1-4 هي رسالة تامة لا ينقصها سوى خاتمة قصيرة، وإن ف 5-16 ارتبطت بها فيما بعد. إذن، نحن في ف 1-4 أمام الانقسامات داخل الجماعة، حسب أخبار حملها أهل خلوة. وفي ف 5-16 أمام مواضيع نجدها في رسالة حملها استفانا ورفيقاه الذين قدّموا عددًا من الملاحظات حول معتقدات الكورنثيين وحياتهم اليوميّة.

4- اعتبارات أخرى
وهناك تعارضات بين قسمَي 1 كور (1-4، 5-16). فهي تبرز أيضًا الفرضيّة التي توقّفنا عندها.
أ- لقد شاع عنكم (5: 1)
عندما نرى اللهجة المليئة بالقرف والصدمة التي في 5: 1 والحديث عن الفحش أو الفجور (بورنايا)، هل نظنّ أن هذه المعلومة وصلت إلى بولس قبل أن يكتب ف 1-4، وأنه انتظر حتى الآن لكي يشير إليها؟ هذا أمر غير معقول. ويكفي أن نلاحظ البداية: "يُسمع". فهويّة الجماعة ونقاوتها، ونقاوة كنيسة الله، هي على المحك بشكل أساسيّ.
ب- أسفار تيموتاوس ومخططات بولس
هي مسائل معروفة وإن كان من الصعب أن نقيّمها. ولكن نسوق ملاحظتين.
* الملاحظة الاولى: حاسب 4: 17، أرسل بولس تيموتاوس إلى كورنتوس لكي يتعامل مع الانقسامات التي تحدّث عنها أهل خلوة. ولكن في 16: 10، يقول بولس إنه غير متأكّد أن تيموتاوس سيذهب إليهم. مع أنه في الآية التالية يتحدّث عن ذهابه. استعمل بولس الشرطية (إذا، إيان في اليونانيّة) لا الزمنيّة (حين، هوتان في اليونانيّة)، لأنه اعتبر أن مهمّة تيموتاوس في ما يتعلّق بالانقسامات في الكنيسة، ليست جوهريّة. وهكذا يتساءل بولس هل سيستقبلون تيموتاوس بحفاوة، وهل سيعود إليه سالمًا (16: 13).
* الملاحظة الثانية: في 18:4- 21. استبق بولس عدم اليقين لدى الكورنثيين في ما يخصّ مجيئه إلى كورنتوس. نبّههم أنه سيأتي قريبًا، وهذا ما يتضمّن أنه يأتي بشكل قاس. أما في 16: 5-9، فيخطّط للذهاب إلى كورنتوس حين يكون ذلك مناسبًا، وإن لم يكن عاجلاً. فوصول وفد استفانا جعله يهدأ: "أراحوا روحي وروحكم" (18:16). ثم إن رسالة بولس الطويلة، قد لا تستدعي سفرًا مباشرًا إلى كورنتوس في القريب العاجل. إن الحاجة إلى زيارة سريعة لم تعد بذي بال، إذا كان استفانا ورفيقاه سيحملون الرسالة إلى كورنتوس (16: 15-18).
ج- ما عمّدت (16:1)
في كلام إرشادي، كتب بولس في ف 1: "عمّدت أهل بيت استفانا. وما سوى ذلك لا أعلم هل عمّدت أحدًا آخر" (1: 16). هذه الآية تصحّح ما قاله بولس في الآية السابقة إنه عمّد كرسبوس وغايوس، وما عمّد أحدًا غيرهما. هل نسي بولس وما عاد يتذكّر أولئك الذين عمّدهم، حتى وصل إليه استفانا. كان بولس قد كتب هذا المقطع قبل وصول استفانا (17:1 يأتي مباشرة بعد 1: 15). فالتصحيح الذي وُضع في الهامش بعد وصول استفانا إلى أفسس، سيُجعل في متن النصّ داخل 1 كور.
د- الرسول والكنيسة، الصليب والقيامة
في ف 1-4 الموضوع المهمّ هو كرازة الرسول. كيف يعظ وماذا يعظ. كل شيء يدور حول لفظة "لوغوس" (الكلمة) ولفظة "سوفيا" (الحكمة) والعلاقة بين الاثنين. أما في ف 5-16، فالمواضيع هي في الاساس عمليّة وسلوكيّة. هي تعالج هويّة الكنيسة ونقاوتها وتمايزها تجاه الحضارة التي يعيش فيها أعضاؤها. والامر الشاذ الوحيد هو ف 15 وارتباطه بالقيامة. ومع ذلك فهو يتضمّن أمورًا عمليّة وسلوكيّة كما تقول الآية الأخيرة: "فكونوا إذن، أيها الإخوة الأحبّاء، راسخين غير مزعزعين، مستزيدين على الدوام في عمل الرب. عالمين أن تعبكم ليس بباطل في الربّ" (58:15).
وهنا أيضًا يبدو الاختلاف واضحًا: في ف 1-4، الموضوع اللاهوتي الذي يشكّل نقطة الانطلاق، هو الصليب (13:1، 17، 18، 23؛ 8:2). ولا نجد ذكرًا للقيامة (وإن كان النصّ يفترضها). أما في ف 15، فيشدّد الرسول على القيامة. وإن أشار إلى موت يسوع (15: 3)، فهو لا يستعمل لغة الصليب.
لا شكّ في أن هناك نقاطًا كثيرة من التواصل بين قسمَي الرسالة. مثلاً، ما يتعلّق بالروح (2: 4-14؛ 16:3؛ 4: 21؛ ف 12-14؛ ق 1 :5، 17؛ 2: 1 مع 12: 8). غير أن نقاط التواصل تقدّم نفسها في إطار الرسالة الواحدة. فوحدة الرسالة لا تحتاج إلى شروح. بل الاختلافات. وهذا ما حاولنا أن نتوقّف عنده لكي نظهر قسمي 1 كور. القسم الأول (ف 1-4) الذي يرتبط بمجيء أهل خلوة إلى بولس في أفسس. والقسم الثاني (ف 5-16) الذي يرتبط برسالة خطيّة (أرسلتها كورنتوس) ورسالة شفهيّة حملهما استفانا وفورتوناتوس وأخائيكوس. وفي النهاية، جمع بولس هذين القسمين في رسالة واحدة هي 1 كور.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM