الفصل الثالث والعشرون: الجماعة اليوحناويّة

الفصل الثالث والعشرون
الجماعة اليوحناويّة

السؤال الذي نطرحه في هذا المقال: هل نستطيع أن نبني تاريخ الجماعة اليوحناويّة؟ هل نستطيع أن نميّز مختلف المراحل التي طبعت بطابعها حياة هذا التيّار منذ ولادته في القرن الأول حتى زواله في القرن الثاني؟ ونتوقّف في دراستنا عند الانجيل الرابع والرسائل اليوحناويّة الثلاث تاركين جانبًا رؤيا القدّيس يوحنا. اعتبر البعض أن الخبر الانجيلي هو انعكاس لظروف تاريخيّة متعاقبة وُلد فيها هذا النصّ. ورفض آخرون مثل هذه النظرة المبسّطة، لأن الخبر يبقى بعيدًا بالنسبة إلى الواقع، فيلد عالمًا خاصًا به. لهذا ننطلق من النصوص التي دوّنت في القرن الثاني، ونعود إلى الرسائل والأناجيل، وننهي عند النقد الادبي برماله المتحرّكة. ومع كل هذا، نبقى على مستوى الفرضيّات التي تساعدنا بعض الشيء على الولوج في إنجيل يوحنا.

1- انجيل يوحنا في القرن الثاني
كيف قبل القرن الثاني انجيل يوحنا، وماذا يعلّمنا هذا القبولُ عن الحركة اليوحناويّة؟
إن الشهادتين الاوليين عن قبول يو في الكنيسة، تعودان إلى نهاية القرن الثالث. هما: قانون موراتوري وايريناوس، أسقف ليون في فرنسا. شدّد الأول على الطابع الرسوليّ للانجيل الرابع، على أصالته بالنسبة إلى الاناجيل الازائيّة، وعلى توافقه معها في الوقت عينه. واللافت هو أنه يشرّع الانجيل موردًا مطلع 1 يو (وهكذا تصبح 1 يو باب دخول إلى يو في القانون، في اللائحة القانونيّة). وهكذا تثبَّت عملُ يوحنا كنصّ مستقيم واعتُبر كتابًا مقدّسًا في الكنيسة الكبرى تجاه الهرطقة المرقيونيّة وغيرها.
أما ايريناوس، أسقف ليون، فكتب عن يوحنا في ردّه على الهراطقة ما يلي: "هذا هو الايمان الذي أعلنه يوحنا، فأراد بكرازة الانجيل أن يقتلع الضلال الذي زرعه رجاله قرنتيس، وقبلهم النيقولاويون الذين هم فرع في "المعرفة" المزعومة" (3/ 11: 1). هذا المقطع مهمّ جدًا، لأنه يجعل من الانجيل الرابع خصم الغنوصيّة وأداة الردّ عليها.
تعلمنا هاتان الشهادتان أمرين. الأول: إن لانجيل يوحنا وجودًا مسبقاً عن المحيط الذي أنتجه، بعد أن انتقل من كنيسته الأصليّة إلى كنائس أخرى. وقد عرفته المسيحيّة في رومة كما في غالية أو فرنسا. الثاني: اعتُبر هذا الانجيل كتعليم قويم مع لهجة "حربيّة" ضدّ الغنوصيّة.
هاتان الشهادتان قيِّمتان ولكنهما متأخِّرتان. لهذا ندهش حين نلاحظ صمت الاوساط المسيحيّة بالنسبة إلى هذا الانجيل. فقبل ايريناوس، لا ترد نصوص هذا الانجيل في كتابات الآباء. هنا، لا نستخرج من هذا الصمت أكثر ممّا يحمل، لأن الصمت عينه يلفّ مجمل كتابات العهد الجديد خلال القرن الثاني. بعد ذلك، وحين صار انجيل يوحنا في وضع الكتب المقدسة، أخذت نصوصه ترد وإن مع بعض التحفّظ داخل الكنيسة الكبرى. ونفهم هذا التحفّظ حين نعرف أن أوّل مفسّر لانجيل يوحنا هو هرقليون الغنوصيّ. فهذا العضو في المدرسة الولنطينيّة ينّبهنا من خلال تفسيره المبني بناء متماكسًا ومحكمًا، أن هذا الانجيل صار جزءًا لا يتجزَّأ من الكتابات الغنوصيّة.
وصمتُ المسيحيّين الأولين وتفسير هرقليون، يتيحان لنا أن نواصل بحثنا. من جهة، يظهر أن الانجيل كلام يحيا، فتتناقله جماعات أخرى غير الجماعات اليوحناويّة التي لم نعد نجد لها أثرًا في النصف الثاني من القرن الثاني. ومن جهة ثانية، كان قبول هذا الانجيل متعدّد الوجوه. فرض نفسه في وقت متأخّر على الكنيسة الكبرى. ولكنه نعم بمكانة هامّة في الاوساط الغنوصيّة. إذن، هو في قلب صراع التفاسير. وهذا ما يدفعنا إلى أن نطرح السؤال: هل يو هو وثيقة غنوصيّة أم ردّ على هذه الغنوصيّة؟
وهكذا يوجّه تاريخ قبول يو انتباهنا إلى مسألتين ترافقاننا في بحثنا. من جهة، هل التفاسير المتعارضة (المسيحيّون والغنوصيّون) ظاهرة من ظواهر القرن الثاني، أم هي خاصة بالتقليد اليوحناويّ؟ ومن جهة ثانية، هل لهذه التفاسير تأثير سوسيولوجيّ؟ وبعبارة أخركما هل الانفصال والتعارض بين الاوساط التي حملت هذا الانجيل في القرن الثاني، تغرز جذورها في المحيط اليوحناوي؟ عندئذ نقول إن الجماعات اليوحناويّة عرفت في وقت من الأوقات أزمة كبيرة وصلت بها إلى وضع جعلها تنغلق بعض الشيء على نفسها.

2- رسائل يوحنا وقبول الانجيل
قبل أن نصل إلى المرحلة الثانية، نحدّد على المستوى الكرونولوجيّ موقع مؤلّفات يوحنا. إن الانجيل سابق للرسائل. فخاتمة يو التي هي قسم متأخّر في إنجيل يوحنا، لا تشير إلى الأزمة التي كانت في قلب الرسائل. وهي في الوقت عينه تُبرز مدلول وجهين، وجه بطرس، ووجه التلميذ الحبيب، وهما وجهان لا يلعبان أي دور في رسائل يوحنا. وأخيرًا، للمدلولات عينها معان مختلفة في يو عمّا هي في 1 يو، 2 يو، 3 يو.
إذن، تشكّل رسائل يوحنا آخر ما أنتجته المدرسة اليوحناويّة. وكل رسالة قريبة من أختها. فإذا كانت 1 يو تستعيد بشكل موجز مواضيع (حضّ على حبّ الاخوة، تحذير من الهراطقة)، فإن 2 يو، 3 يو تُنسبان إلى كاتب واحد، هو "الشيخ" الذي يواجه صعوبات كنسيّة هامّة. بالاضافة إلى ذلك، يبدو أنه يجب أن نقرأ هذه الرسائل في الترتيب الذي جاءت فيه في اللائحة القانونيّة، فنفهم الصراع الذي يميِّز هذه المرحلة في مسيرة المدرسة اليوحناويّة.
ما هو الصراع الذي تشير إليه رسائل يوحنا؟ نحن هنا أمام مجموعة كنائس. وفي قلب هذه الجماعة المتعدّدة الوجوه، قام حزب معارضين يرفض تفسير الايمان كما يدافع عنه المحيطُ الذي يعبّر عن نفسه في الرسائل، والذي نماهيه مع المدرسة اليوحناويّة. نجح هؤلاء المعارضون نجاحًا كبيرًا، فالتحقت بهم أكثرية الكنائس اليوحناويّة. وهكذا انحصر تأثير المدرسة اليوحناويّة في إطار ضيّق.
إذا كان الشيخ يستطيع بعد في 2 يو أن يقول لكنيسة محليّة من يجب أن تستقبل ومن يجب إن لا تستقبل، فهذا الشيخ عينه لم يعد له مدخل إلى كنيسة محليّة يتوجّه إليها. لقد انتقلت السلطة إلى يد شخص يقاوم المدرسة اليوحناوية (ديوتريفس). ولم يبقَ للشيخ سوى أن يطلب مساعدة شخص ثالث هو غايوس. إذن، نحن هنا في مرحلة رأت فيها المدرسة اليوحناويّة أن تأثيرها انخفض بانتظار أن يزول في محيطها الكنسيّ الخاص.
ما هو موضوع الجدال بين الحلقة اليوحناويّة ومعارضيها؟ تقول 1 يو إن طبيعة الأزمة تعليميّة، وهي تتركّز على الايمان، على العقائد الكرستولوجيّة. نقرأ في 2: 22-23: "من الكذّاب إلاّ الذي ينكر أن يسوع هو المسيح؟ ذاك هو المسيح الدجّال، المنكر الآب والابن. كل من ينكر الابن ليس له الآب. من يعترف بالابن فله الآب أيضًا". وفي 4: 1-4: "أيها الأحبّاء، لا تركنوا إلى كل روح. بل اختبروا الأرواح هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بأن يسوع المسيح أتى في الجسد هو من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع ليس من الله. بل هذا روح المسيح الدجّال، الذي سمعتم أنه سيأتي. إنه الآن في العالم. أما أنتم يا أولادي الصغار، فإنكم من الله وقد غلبتموهم، لأني الذي فيكم أعظم من الذي في العالم". وفي 5: 1، 5-7: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فهو مولود من الله. وكل من يحبّ الوالد يحبّ المولود منه... من ذا الذي يغلب العالم إلاّ الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله؟ هذا هو الذي أتى بالماء والدم، يسوع المسيح، لا بالماء، فقط، بل بالماء والدم". ونقرأ في 2 يو 7: "فإنه قد انتشر في العالم مضلّون كثيرون، لا يعترفون بيسوع المسيح الذي أتى في الجسد".
قدّمت 1 يو براهينها بشكل محافظ. وقد توخّت أن تثبّت القرّاء في الهويّة التي يقيمون فيها. ووصيّة محبّة الاخوة التي تميّز 1 يو، تلعب دورًا لاهوتيًا: هي تدعو الجماعة إلى الاحتفاظ بتعلّقها بمجموعة من اليقينات. واستعمال فعل "ماناين" (ثبت) يسير بنا في هذ الخطّ عينه.
هنا نشدّد على أمرين:
الأول: إن الأزمة التي تعكسها 1 يو تدلّ على أن الانجيل هو في قلب صراع التفاسير. فالانجيل الذي يُشرق فيه وجهُ التلميذ الحبيب، لا ينقل تعليمًا موحّد المعنى في استعمالات مختلفة. بل هناك فئتان تتعارضان على مستوى اللاهوت، وإن انتمتا إلى ذات الوسط اليوحناويّ. واعتبرتا أنهما تستطيعان أن تستندا إليه. لم يصل الانجيل إلى ما هدف إليه بأن يكون قاعدة إيمان توحّد الجماعة. فهو يحتاج إلى قانون تفسيريّ حاولت 1 يو أن تعبّر عنه. أجل، إن 1 يو هي في نظر المدرسة اليوحناويّة التفسير القويم للانجيل.
والأمر الثاني: إذا كانت المدرسة اليوحناويّة سوف تنتصر على المستوى الادبيّ بعد أن دخلت مؤلّفاتها كلها في اللائحة القانونيّة، إلاّ أنها على المستوى الكنسيّ خسرت "المعركة"، لأن معظم الجماعات اليوحناويّة أفلتت من تأثيرها، وبالتالي خرجت من إطار الكنيسة الكبرى فتوزّعت "شيعًا". ظلّ اللاهوت اليوحناويِّ حيًا، ولكن ضاعت الكنيسة اليوحناويّة.
هل نستطيع أن نوضح هذا الصراع اللاهوتيّ الذي كانت له نتائج كنسيّة خطيرة؟ إن المسائل التي كانت موضوع جدال، تشير إلى هويّة المسيح وعمل الروح ومعرفة الله، واللاخطيئة ووصيّة المحبّة. وهكذا نكون قريبين من التيّارات الغنوصيّة. وهذا الاطار من الجدل ذي الطابع الغنوصيّ، قد أملاه المعارضون الذين حين عملوا ما عملوا، توسّعوا في إمكانيّة مسجّلة في الانجيل نفسه. إنهم يوحناويّون جذريّون يجسّدون الطريق الذاهبة من الانجيل الرابع إلى الغنوصيّة.
أما الحلقة التي هي في أساس الرسائل اليوحناويّة، فقد توسّعت في فكر مسيحيّ أصيل ندركه في يو 21. من هذا القبيل، يبدو المدلول السوتيريولوجي (أي على مستوى الخلاص) للتجسّد والموت التكفيريّ للمسيح، وأهميّة التعليم والتقليد، واستعادة الاسكاتولوجيا التقليديّة، يبدو كل هذا إشارات تقود من الانجيل الرابع إلى الكنيسة الجامعة كما عُرفت في القرنين الأول والثاني.
وهكذا جعلتنا الحقبةُ الثانية نواجه المرحلة الأخيرة في نموّ الجماعات اليوحناوية. فهذه الحقبة تتميّز بأزمة داخليّة في المحيط اليوحناويّ، لأن الكتاب الذي يؤسّس هذا المحيط (إنجيل يوحنا) لم يتوصّل إلى وضع ختمه على وحدة إيمان هؤلاء المسيحيين. بل إن صراعًا على مستوى التفسير، قسمَ هذا المحيط ودفعه إلى الانطلاق. وهكذا سيطر اليوحناويّون الجذريّون على اليوحناويّين التقليديّين، وخسرت المدرسة اليوحناويّة حربها داخل الكنيسة.
هذا المخرج الدراماتيكيّ يدفعنا إلى أن نتساءل: هل تضمّن الانجيل بواكير مثل هذه الأزمة؟ أم نحن أمام ظاهرة متأخّرة ميّزت اليوحناويّة في بداية القرن الثاني؟

3- التدوين الأخير للانجيل
لم يكن الانجيل الرابع كتابًا دوِّن دفعة واحدة. ومهما كانت النظريّة الادبيّة التي نأخذ بها، يجب علينا أن نقول إن هذا الانجيل عرف أكثر من تدوين. أما أوضح مثال على ذلك، فهو الخاتمة في ف 21. ولكن هذا المثال ليس فريدًا. فجسم الانجيل نفسه يدلي على ذات الواقع. وعبارة "قوموا ننطلق من هنا" (14: 31)، تدلّ على مراحل في خطب الوداع. والتنوّعات المتعاقبة حول موضوع خبز الحياة في ف 6، والتفسيران لحدث تطهير الهيكل (2: 14-17، 18-22)، وغسل الأرجل (13: 1- 11، 12-17)، كل هذا يفترض عملاً تدوينيًا قد سبقته قراءات متعاقبة.
هذا التذكير البسيط الذي يتوقّف عند بعض النماذج دون أن يعتبر أنه استنفد المسألة، يلفت انتباهنا إلى نقطتين.
الأولى: إن عمل الصياغة هذا الذي عادوا إليه أكثر من مرّة يحيلنا إلى وجود محيط قدّم نتاجًا مبنيًا في مدى من الوقت. ومحيط النتاج هذا الذي نسمّيه المدرسة اليوحناويّة يشكّل مقدارًا خامًا في قلب الكنائس اليوحناويّة. إنه موضع فيه اجتمعت تقاليد إيمان هذه الجماعات ووُسّعت وفُسّرت، وأُوّنت. ووجود هذه الحلقة اللاهوتيّة كانت له نتائجه بالنسبة إلى التفسير اليوحناويّ. فبقدر ما كان الانجيل ثمرة ديناميّة تفسيريّة في هذه المدرسة، يجب أن يُقرأ في الوقت عينه كتقليد في صيرورة ينبثق من أطر متعاقبة، وكمجموعة أدبيّة تامّة. فمن جهل واحدًا من قطبَي هذه الجدليّة باسم نقد أدبيّ متطرّف أو باسم قراءة سنكرونيّة مفروضة، انغلق على الخاصيّة الادبيّة في الانجيل الرابع.
النقطة الثانية: يجب أن نتساءل: هل تقع ديناميّة التفسير في المدرسة اليوحناويّة في عالم الخارج والعرض؟ هل هي وليدة أسباب تاريخيّة خارجيّة (في هذه الحالة، نجبر على القول بأن اللاهوت اليوحناويّ هو ردّة فعل على وضع خارجيّ)، أم تنبثق من ضرورة تدفع الايمان إلى أن يوضح نفسه (في هذه الحالة لن يكون اللاهوت اليوحناوي في جوهره أمرًا عرضيًا)؟
ولكن نعود إلى التدوين الأخير للانجيل، ونتفحّص ف 20 الذي هو تجسيم ملموس وواضح لهذه النظرة على المستوى الادبي. هذه الخاتمة تجعل الانجيل في داخل الكنيسة، فتقدّم براهين على مستوى نمطيّ. فصورتا بطرس والتلميذ الحبيب تشكّلان في نظر النقّاد الموضوع المركزي في هذا الفصل. إن بطرس الذي لا يحتلّ مكانة هامة في سائر الانجيل، قد كرّسه المسيح في دوره كالراعي الشامل والشهيد المجيد. أما التلميذ الحبيب فقد أقيم في كرامة الشاهد المميّز الذي يصبح حضوره ملموسًا حتى مجيء الرب في كتاب كان مؤلّفه وكافله. وهناك علاقة وثيقة بين الوجهين. حين اعترف المحيط اليوحناوي بدور بطرس ومدلوله، انفتح على الكنيسة الكبرى (أي خرج من قوقعته) واعترف بوجودها وشرعيّتها. ولكن إن انفتح على المسكونة (أويكوماني) فلكي يقدّم لها كتابه الذي هو الانجيل الرابع، والذي يعتبره تفسيرًا لا يُجارى للمسيح بفم التلميذ الذي كان يسوع يحبّه. بالاضافة إلى ذلك، كان تذكّر الافخارستيا كطريقة حضور للمسيح بعد الفصح والقيامة والتلميح إلى المجيء، جسرًا ينقل الجماعة اليوحناويّة إلى الكنيسة الجامعة الأولى.
إذن، مثّل ف 21 حقبة تثبيت في تاريخ اليوحناويّة. لم تعد الساعة ساعة صياغة إنجيل اعتبر مغلقًا منذ الآن. هي ساعة تأمّل في وضع هذا الانجيل. ما هي قيمته الوثائقيّة واللاهوتيّة للجماعات اليوحناوية وللكنائس الموزّعة في المسكونة.
متى تمّ مثل هذا العمل؟ ساعة تركت الجماعات اليوحناويّة (والمدرسة) سورية التي هي موطن انجيل يوحنا، وانتقلوا إلى آسية الصغرى، أرض استقبال الحركة اليوحناوية اللاحقة. فتجاه مسيحيّة آسية الصغرى، أعلنت الحلقة التي "دوّنت" ف 21 شرعيّة الانجيل اليوحناويّ كما أعلنت انفتاحه على المسيحيّة الجامعة الكاثوليكية في المعنى الأصلي للكلمة.

4- الانجيل اليوحناوي
أ- المستوى التاريخيّ
ننطلق من التدوين الأخير لانجيل يوحنا، فنعود إلى الانجيل نفسه، وهكذا نصل إلى الحقبة الرابعة في تحليلنا. ويبدو أننا نستطيع أن نميّز الانجيل بحصر المعنى من تدوينه النهائي بقدر ما جاءت الزيادة بسيطة ومعروفة. هناك حواش حملت إلى لغة الاسكاتولوجيا التقليديّة (28:5-29؛ 39:6-40، 44، 45؛ 12: 48) ما يتعلّق بالأسرار بشكل عام (19: 34 ب-35) وبالافخارستيا بشكل خاص (6: 51 ج-58). هذه الزيادات لا تصحّح الانجيل ولا تخفّف من حدّته كما قال بولتمان. بل تجعله في إطار جديد فتدلّ على توافقه مع إيمان الكنيسة.
ذاك هو المظهر الادبيّ للانجيل. ففي أي سياق تاريخيّ رأى النور؟ هل نحن أمام وضع يختلف اختلافًا جوهريًا عن الوضع الذي صوّرناه حين تحدّثنا عن التدوين النهائي للانجيل؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطيات البديهيّة للنصّ، نجيب بالايجاب. فالأزمة الكبرى التي يعكسها السرد اليوحناوي هو استبعاد المسيحيين اليوحناويين من المجمع الفرّيسيّ (9: 22، 34؛ 12: 42؛ 16: 2). فهدف الانجيل الذي نحدّد تاريخ تدوينه بعد هذا الطلاق الدرماتيكي بين المجمع والجماعة اليوحناويّة، كان بأن يأخذ بعين الاعتبار ردّات الفعل اللاهوتيّة والاجتماعيّة والكنسيّة على هذا الصراع الاخوي (حيث "يقتل" الأخ أخاه). فإلى مسيحيين مضطهدين ومزعزعين في اعتقاداتهم، ومهدّدين في وضعهم الاجماليّ، حاول الانجيل أن يقول مرّة ثانية ملاءمة إيمانهم للعالم الذي يعيشون فيه وأن يعيد بناء هوّيتهم الدينيّة مبيّنًا صحّتها وشرعيتها.
هذا يعني أن الغنوصيّة لم تكن موضوع جدال في الجماعات اليوحناويّة ساعة دوِّن الانجيل. هنا نقول إن التقاليد التي جمعها الانجيل تحمل مواضيع نجدها في النصوص الغنوصيّة، ولكنها صيغت في الانجيل بشكل لاغنوصيّ. ففي المحيط اليوحناويّ، بدأ الجدال مع الغنوصيّة مع الرسائل اليوحناويّة، ووجد ذروته في تاريخ قبول الانجيل في القرن الثاني.
ب- البنية الادبيّة
وهكذا ننتقل من الناحية التاريخيّة إلى تحليل الترتيب الادبي للانجيل لكي ندرك خطّة العمل تجاه القرّاء. لهذا نبدأ فنذكر مرمى الانجيل البلاغيّ. فالطرح التاريخيّ الذي تحدّثنا عنه (قرّاء الانجيل هم يوحناويون استُبعدوا من المجمع) يعني أن المؤلّف يتوجّه إلى حلقة المؤمنين ولا يحاول أن يخرج منها ليذهب إلى الآخرين. وما يسند هذا التأكيد الوسائل البلاغيّة التي نكتشفها في النصّ. فاللغة الرمزيّة التي تحمل معنيين. والتلميحات والمراجعات. كل هذا لا يدركه إلاّ من مرّوا في تدرّج مسيحيّ وتنشئة. والممازحة التي تملأ الخبر تفترض تعاطفًا بين الكاتب والقرّاء. هو إنجيل دوّن للمؤمنين (رج 20: 30- 31) فدعاهم لكي يؤمنوا. ولكن المفارقة تبقى ظاهرة وحسب: فكل بنية الانجيل تتوزّع حول "أن نؤمن" أو "نؤمن أفضل".
إذا كان الانجيل الرابع وسيلة من أجل بناء الايمان، وأداة تتيح لنا أن ننتقل من إيمان غير كاف إلى إيمان كامل، فما هو موضوع هذا البناء وهذا التعميق؟ تدلّ الخاتمة (20: 30- 31) بوضوح أننا أمام الهويّة الكرستولوجيّة. هنا نتذكّر البحث حول "كرستولوجيا عليا" و"كرستولوجيا دنيا". فالكرستولوجيا العليا ترد في برنامج يبدأ مع مطلع الانجيل. يجب أن نكتشف في مسيح تجاهله العالم ورفضه ورذله، اللوغوس (الكلمة) الموجود منذ الازل، وسيط الخليقة، ينبوع كل نعمة، والمُخبر الوحيد عن الله. إن معرفة ملء هذه الهويّة الكرستولولجيّة تحمل "الحياة الابديّة" في المعنى اليوحناوي.
ليس ترتيب الخبر في الدرجة الأولى ترتيبًا دراماتيكيا، بل موضوعيًا. هو يسير مع الطرح الذي وُضع أمامنا منذ البدء. فأخبار القسم الأول من الانجيل تحاول أن تُدرك القارئ على مستوى تأكيد أوّل لكي تصل به إلى ملء معرفة حامل الوحي. ففي مسيرات هذا الايمان التي "تتكرّر" دومًا، نجد نفوسنا في مسيرة تدرّج ندركها بشكل خاص في تسلسل الآيات اليوحناويّة. أما القسم الثاني الذي ينقل وحي المسيح لأخصّائه، فيزيد بُعدًا جديدًا على توضيح هذا الايمان الملائم، فيعالج المسألة البعد فصحيّة الأولى: كيف يعود إلينا ذاك الذي يذهب؟ كيف يكون الغائب حاضرًا؟
إن سوء التفاهم والنصوص المازحة التي تتوزّع الخبر، هي هنا لكي توجّه القارئ، لكي تجعله يعي مسيرة الخبر، وتعلمه عن معنى الأحداث والأقوال. وكل هذا من أجل اكتشاف هويّة المسيح. نشير هنا إلى أن "سوء التفاهمات" تشير إلى موت الابن وقيامته وتمجيده. أما المقاطع المازحة فتشير إلى أصل يسوع وهوّيته وأعماله وآلامه. وفي النهاية نقول من الوجهة السرديّة، إن الأشخاص في الانجيل هم تعبير عن مختلف الأجوبة الممكنة ليسوع، وهي أجوبة قد يتماهى معها القارئ.
إن هذه الحقبة الرابعة تجعلنا أمام زمن مهمّ داخل المسيرة اليوحناويّة. فالمسيحيون اليوحناويّون قد جرّدوا من هوّيتهم الاجتماعيّة والدينيّة، وقلّ عددهم بسبب الذين تركوا الجماعة (رج 6: 66). لهذا قدّمت لهم المدرسة اليوحناويّة كتاب الايمان، الكتاب الذي يسعى إلى تثبيتهم في معتقدهم، ويجعلهم ينمون في معرفة ربّهم.
هذه الصورة الجميلة التي يرسمها الانجيل أمامنا لكي يجعلنا نتعلّق بالمسيح، لم تولد من ذاتها أو من لا شيء. لهذا يبقى علينا أن نعود إلى الأصول ونتعرّف إلى الانجيل قبل الانجيل كما نتعرّف إلى الحقبة التي تقابل تاريخ الجماعة اليوحناويّة.

5- قبل تدوين الانجيل
يتّفق عدد كبير من الشرّاح على الحقبات الأربع الأولى. ولكن الأمر ليس كذلك في الحقبة الخامسة. والسبب هو أننا لا نمتلك وثيقة أدبيّة عن تلك الحقبة. لهذا ينطلق النقد الأدبي فيقوم بعمليّة بناء كتابات أو مراجع. لهذا، ليس من نظريّة حول تكوين الانجيل الرابع قد استطاعت حتّى الآن أن تفرض نفسها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إذا كان تمييز الطبقات الادبية ما زال مثار جدال، فماذا نقول عن الترتيب الكرونولوجيّ؟ لهذا يستحيل أن نميّز العناصر القديمة من العناصر الحديثة. مثلاً، هل توافق الاسكاتولوجيا التقليديّة حقبة قديمة أو متأخّرة في اللاهوت اليوحناويّ؟ سؤال بلا جواب.
في هذا الوضع الذي يبدو كالرمال المتحركة، نقدّم الملاحظات التالية:
- حين نقرأ انجيل يوحنا نجد نفوسنا أمام توسّع أدبيّ مستمرّ. فنحن أمام سلسلة من قراءة وإعادة قراءة. من المطلع إلى اكتشاف القبر الفارغ، من تطهير الهيكل إلى خطب الوداع، من شفاء ابن الموظّف الملكيّ إلى الكلام عن خبز الحياة، نجد نصًا يتطوّر، يصير ولا يكون جامدًا في وقت من الاوقات. فالقراءة تلي القراءة.
- إن هذه القراءات المتتالية لا تتعارض ولا تتصارع كما اعتبر البعض. فكل قراءة تركت وراءها أثرًا. وهكذا توسّع المعنى وتأوّن التقليد.
- إن تماسك سلسلة القراءات في الزمن، يعود بنا إلى محيط اجتماعيّ منظّم وثابت هو المدرسة اليوحناويّة التي حرّكت بدورها الجماعات. فالمسيحيّة اليوحناويّة لم تكن ثمرة عبقريّة منعزلة ظهرت فجأة كالبرق في سماء المسيحيّة الفتيّة ثم اختفت. بل هي مجموعة منظّمة تنظيمًا اجتماعيًا. غُرست في سورية، فكانت قريبة من اليهوديّة الارثوذكسيّة.
- من هذا القبيل، شكّلت المسيحيّة اليوحناويّة قبل تدوين الانجيل الرابع، خطًا خاصًا في إطار المسيحيّة الأولى، فتميّزت عن المسيحيّة البولسيّة أو مسيحيّة الأناجيل الازائيّة. فعلى مستوى التدوين النهائي للانجيل، ثم على مستوى الرسائل اليوحناويّة الثلاث، بدأ المحيط اليوحناويّ ينفتح على الكنيسة الجامعة التي استندت إلى الارث البولسيّ والازائيّ.
- النقطة الاساسيّة هي الكرستولوجيا. ونحن نقرأها باكرًا في مطلع الانجيل الرابع.
خاتمة
ماذا اكتشفنا في هذه المسيرة مع الجماعة اليوحناويّة؟ تجذّر الادب اليوحناويّ في الجماعة. فمؤلّفات يوحنا تعود بنا إلى مجموعة تعاملت مع تقليد إيماني وقدّمت جوابًا عنه أمام الجماعات الكنسيّة خلال قرن من الزمن. من هذا القبيل نترك كاتبًا مفردًا لنصل إلى ممارسة لاهوتيّة لها تأثيرها في الكنيسة.
واكتشفنا العلاقة بين تماسك التقليد والعرضيّة التاريخيّة التي يواجهها هذا التقليد. من هذا القبيل يكتب اللاهوتُ اليوحناويّ تاريخَ الجماعات. وفي الوقت عينه يتأثّر بهذه الجماعات وتقلّباتها.
واكتشفنا القراءات العديدة قبل أن يدخل هذا الانجيل في اللائحة القانونيّة. من توضيح إلى توضيح، ومن تفسير إلى آخر. فالكتاب المقدس ليس كلمة جامدة، بل هو ينعم بديناميّة تجعله يبتعد عن كل تحجّر. وهذا ما يضع حدًا للقراءة الاصوليّة التي تهدّد الكنيسة دومًا وتمنعها من "كتابة" انجيل جديد في جماعاتها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM