الفصل الثاني والعشرون :إنجيل يوحنا وتجذّره التاريخيّ

الفصل الثاني والعشرون
إنجيل يوحنا وتجذّره التاريخيّ

منذ أيام اكلمنضوس الاسكندرانيّ اعتبر عدد كبير من المسيحيين أن انجيل يوحنا هو "الانجيل الروحانيّ" بعد أن تركّز على الحياة الباطنيّة وظلَّ بعيدًا عن أعراض التاريخ وتقلّباته. فكأني بهذا الكتاب سقط من السماء، فظلّ جنّة سريّة من جنّات التقوى، وتأملاً يُفلت من فرضيّات الزمن وإكراهاته. ولكن نسارع فنقول إن يو، شأنه شأن سائر أسفار العهد الجديد، هو مؤلَّف تاريخيّ، دوّنه إنسان من لحم ودم، ووجّهه إلى كنيسة معيّنة، فعبّر فيه عن الايمان المسيحيّ في سياق تاريخيّ محدّد مستعينًا بلغة محدّدة على مستوى الحضارة الشرقيّة. وبمختصر الكلام، يجب أن نفسّر انجيل يوحنا داخل المحيط التاريخيّ الذي فيه برز.
نشير هنا إلى أن هذا الانجيل لا يقول شيئًا عن ظروف تأليفه. كما أننا لا نملك معلومة واحدة عن المحيط اليوحناويّ. لهذا، يجب أن نعود إلى المعطيات التي نجدها في النصّ، وإن كانت بسيطة جدًا. من أجل هذا نطرح ثلاثة أسئلة. الأول: ما هو الاطار الذي ظهر فيه هذا الانجيل؟ الثاني: ما الذي توخّاه الانجيلي من كتابه حين وجّهه إلى السامعين؟ الثالث: ما هي المجموعة التي أشارت إليها "الحرب" اليوحناويّة؟

1- إطار الانجيل
الانجيل الرابع هو في شكل إجمالي عمل كاتب واحد. إلاّ أن هذا الكاتب ليس فردًا منعزلاً عن الناس في عبقريّة متفوّقة. هو جزء من مجموعة لاهوتيّين يسمّون "المدرسة اليوحناويّة". و"المدرسة" تعني موضعًا يُنقل فيه التقليد المسيحيّ عن طريق التعليم، موضعًا يتجمّع فيه هذا التقليد في نتاج أدبي محدّد.
أ- الانجيل، ثمرة المدرسة اليوحناويّة
والبرهان على وجود هذه المدرسة هو مجموعة كتابات يوحنا والجماعات الوحناويّة الموزِّعة بشكل خاص في سورية وفي آسية الصغرى. فحين نقرأ انجيل يوحنا ورسائله، نلاحظ أن الجماعات التي أنتجتها امتلكت عن يسوع تقليدًا خاصًا بها في إطار المسيحيّة الأولى. بالاضافة إلى ذلك، ارتبطت هذه الجماعات بلاهوت أصيل جدًا. فإذا أردنا أن نقتنع من هذا الأمر، نتطلّع إلى الثنائيّة الخاصّة بيوحنا، كما إلى الكرستولوجيا (حول شخص يسوع المسيح) والاسكاتولوجيا (أو الأمور الأخيرة). فوجود هذه "الأداة" اللاهوتيّة مع تعابيرها المتعاقبة في الانجيل وفي الرسائل، يفترض مدرسة خاصة. فالجماعات الكنسيّة العاديّة لا تستطيع أن تنتج مثلَ هذه الكتابات. إذن، كانت مدرسة لاهوتيّة السندَ الاجتماعي الضروريّ من أجل تفتّح الأدب اليوحناويّ.
إن وجود مثل هذه المدرسة كموضع نتاج لاهوتيّ، ليس بالشيء الجديد ولا بالأمر الشاذّ. ففي إطار المسيحيّة الفتيّة، وُجدت مدرسة بولسيّة في أفسس. ومدرسة متّاويّة في سوريّة بشكل عام وفي أنطاكية بشكل خاص. وقد وُجدت مراكز لاهوتيّة مماثلة في الاسكندرية ورومة. فالعالم اليهوديّ كانت له مدارسه ومعلّموه. ووُجدت الحلقات الجليانيّة مع كتب الرؤى التي تركتها لنا. وكان للتيارات الغنوصيّة (وسائر الفلسفات) مدارس خاصة بها. فلماذا نعجب أمام الحديث عن مدرسة يوحناويّة؟
ب- تأليف الانجيل
قصّة تأليف الانجيل الرابع قصّة فيها الكثير من الحركات والتقلّبات. فهل نستطيع أن نتصوّر تأليفه في إطار هذه المدرسة؟ فالانجيلي ليس "خلاّقًا" يعمل منطلقًا من لا شيء. إنه ينتمي إلى محيط يمتلك تقاليد غنيّة وأصيلة حول شخص يسوع. وهكذا حين يكتب ما يكتب، فهو يدوّن ويفسّر. وهو يَنعم بمجموعة أخبار معجزات سُمّيت "ينبوع الآيات". كما ينعم بمجموعة أقوال نُسبت إلى المسيح. ونجد أخيرًا الحاش أو الآلام. وقد رتّب كل هذه التقاليد بشكل إنجيل وطبعه بنظرة لاهوتيّة خاصّة.
غير أن هذا الانجيليّ لم يستطع أن ينهي كتابه لسبب نجهله. هناك فرضيّة تقول بأنه مات قبل أن يضع اللمسات الأخيرة. لهذا جاء أحد تلاميذه الذي نسمّيه "المدوّن" (الأخير)، فنشر عمل معلّمه بعد أن قام ببعض التصحيحات وجعل له إضافات مثل ف 21. ولكنه ما استطاع أن يلغي بعض الصعوبات في السرد الانجيليّ كما برز في الرفد الأول (مثلاً، التواصل في ف 5-7).
وما توقّف تاريخ المدرسة اليوحناويّة عند هذا الحدّ. ما اكتفت هذه المدرسة بأن تنشر الانجيل الرابع. بل أنتجت ثلاث رسائل أعادت صياغة التقليد اليوحناويّ في سياق تاريخيّ جديد.
هذه العجالة حول تأليف يو تجعلنا نكتشف أن هذا المؤلَّف لم يُولد خارج التاريخ. إنه بلورة لتقليد سبقه. وهذا التقليد سوف يحمل ثمارًا أخرى. إنه محطّة في تاريخ أوسع منه. وهكذا كان هذا الانجيل نموذجًا مميّزًا لتقليد حيّ: هو حيّ لأنه تطوّر، ولأنه لم ينتقل بشكل آلي ومتحجّر، بل أعيد تفسيره وصياغته أكثر من مرّة.
ج- الانجيل حدث لغويّ
قلنا إن التقليد اليوحناويّ يمثّل تيّارًا خاصًا وفريدًا في العهد الجديد. وتظهر هذه الاصالة بشكل مميّز في اللغة المستعملة. فالقارئ يكتشف بدون جهد اختلافًا ساطعًا بين الانجيل الرابع من جهة، والاناجيل الازائية (مت، مر، لو) أو رسائل القديس بولس من جهة ثانية. وهكذا نكون منذ البداية أمام لغات عديدة للتعبير عن الكلمة (= يسوع المسيح). من هذا القبيل، يدلّ هذا التقليد على استعادة تعابير الايمان الأولى وترجمتها من أجل المسيحيين في أوقات مختلفة. ولكن كيف نتعرّف إلى اللغة اليوحناويّة هذه، وأين نحدّد موقعها؟
تتميّز هذه اللغة أولاً ببنية ثنائيّة. فعلى مدّ الانجيل الرابع يتواجه واقعان يتناقضان: النور والظلمة. الحياة والموت. الحقّ والكذب. الأعلى والأسفل. الله والعالم. ثم إن الكرستولوجيا تتوسّل وسائل تعبير أصيلة. ففي الاناجيل الازائيّة، يسوع هو قبل كل شيء ذاك الذي يعلن مجيء ملكوت الله، وذلك عبر كرازته وأعماله. أما في الانجيل الرابع، فهو الابن، ومرسل الآب الذي جاء إلى العالم. ولكنه يعود إلى الآب حين يرتفع على الصليب. وهكذا يقدّم الابن نفسه في عبارات احتفاليّة مهيبة مع "أنا هو". أنا هو خبز الحياة. أنا هو الماء الحيّ. أنا هو نور العالم... وهكذا يعبّر الانجيليّ عن الايمان في لغة جديدة كلها. عند ذاك يُطرح سؤال: من أين جاءت هذه اللغة الجديدة؟ أين استقت المدرسة اليوحناويّة هذه اللغة الغنيّة؟ هنا نلامس الجدال حول أصل اللغة الدينيّة عند يوحنا.
ولكن إذا أردنا أن نعالج هذه المسألة، لابدّ من اتّخاذ بعض الاحتياطات. نراعي السياق العام، التاريخيّ والحضاريّ. على هذا المستوى ترتبط اللغة اليوحناويّة بأمور عرضيّة قبل أن ترتبط بخيار له معناه. ولا ننسى التقليد المسيحيّ: فالانجيليّ انسان من الجيل الثالث، وقد ورث تقليدًا ثمينًا ومنظّمًا: فهناك تمثّلات يستعملها قد جاءته عبر قناة كنسيّة. وحين نتطلّع إلى تأثيرات ممكنة جاءت من الخارج، من تيّارات دينيّة لامسيحيّة، نتذكّر أن الوقت الذي فيه دوِّن يو عرف حقبة تلفيقيّة في الشرق الأوسط. فهناك الغنوصيّة والعالم اليهودي، بل مزيج من الاثنين.
فالتيّار الأول الذي تعرّض له المحيط اليوحناويّ هو العالم اليهوديّ. فنحن نجد في الانجيل أثر انتماء عدد كبير من المؤمنين إلى المجمع اليهوديّ. غير أن هذا المحيط لم يكن، على المستوى الايديولوجيّ، مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتقليد الرابينيّ أو الفريسيّ. بل بدا قريبًا من بعض الحلقات العائشة على هامش العالم اليهوديّ. المثل الأولى نجده في المزاحمة بين الحلقات المعمدانيّة (يوحنا المعمدان) والجماعات اليوحناويّة. والمثل الثاني نجده في تشديد الانجيل على الرسالة في أوساط السامريّين.
إذن، يدلّ التقليد اليوحناويّ على تقارب مع العالم اليهودي الارثوذكسي، كما نما في محيط سوري فلسطيني خلال القرن الأول المسيحيّ. غير أن هذا التقارب لا يفسّر كل شيء. فالعناصر التي ساعدت على تكوين هذه اللغة بما فيها من ثنائيّة وتمثّلات كرستولوجيّة، تعود بلا شكّ إلى الغنوصيّة.
د- المدرسة اليوحناويّة والغنوصيّة
نبدأ فنقول بأن سورية كانت في القرن الأول المسيحي واحدًا من البلدان التي وُلدت فيها الغنوصيّة. وقد شاركت حلقات جانبيّة في العالم اليهودي، في بروز هذا الفكر الغنوصيّ. ولكن ساعة دوِّن الانجيل الرابع، لم يكن بعد نهجٌ غنوصيّ منظَّم كلّ التنظيم. في ذلك الوقت كان التيّار الغنوصيّ في طور الصياغة، وكان يعيش مرحلة سابقة للمرحلة الادبيّة (لم يكن دوِّن بعد). وهكذا نستطيع القول إن يوحنا اتصل بفكر يسير نحو الغنوصيّة بواسطة حلقات يهوديّة لا أرثوذكسيّة ومتأثّرة بأولى التمتمات الغنوصيّة. وقد وجد في هذا الفكر ما أتاح له أن يقدّم تعبيرًا عن الايمان المسيحيّ. هذا ما نبيّنه الآن.
كان الفكر الغنوصيّ في أساسه ثنائيًا: العالم هو مساحة الشرّ. وفي هذا العالم المسلّم إلى الظلمة، صار الانسان متغرِّبًا ساعة أعدّته طبيعته الحقيقيّة إلى العالم الإلهي. وهذا الانسان الذي هو سجين العالم، الذي لا يستطيع أن يتذكّر أصله الحقيقيّ، يحتاج إلى وحي يأتيه من عالم النور ويقدر وحده أن يمنحه المعرفة (غنوسيس) التي تحرّره. وهذه المعرفة التي تتيح للانسان أن يستعيد موطنه الحقيقيّ، يعطيه إياها مخلِّص آت من العالم الالهي.
وهكذا يبدو التقارب بين المواضيع الغنوصيّة والفكر اليوحناويّ واضحًا. ففي نظر يوحنا، يبدو الانسان سجين عالم تملك فيه الظلمة والموت والشيطان. ويقوم الخلاص بأن ننجو من هذا العالم لنشارك في عالم النور والحياة الذي هو عالم الله. ويرى يوحنا أيضًا أن هذا التحرّر المنتظر يتمّ بفضل مجيء المخلّص الذي يحمل الوحي الخلاصيّ. والمخلّص هو الابن، مرسل الآب، الذي كشف لنا ملء الله فقدّم الحياة الحقيقيّة. غير أن الابن لا يُتم عمله إلاّ حين يعود إلى الآب، إلاّ حين يرتفع. فعند ذاك يقدر أن يجتذب إليه أولئك الذين آمنوا بكلامه. وهكذا يبدو يوحنا قريبًا من الغنوصيّة بالطريقة التي بها ربط الثنائيّة مع الكرستولوجيا والسوتيريولوجيا (العلم عن الخلاص).
ولكن حين لاحظنا ما لاحظنا، فنحن لا نقول إن يوحنا هو غنوصيّ. وهنا نتساءل: لماذا لجأ التقليد اليوحناويّ إلى هذه اللغة، وكيف أفاد منها؟ سنعود إلى هذا السؤال في القسم الثالث.
هـ- سورية موطن الانجيل الرابع
أين استقرّت المدرسة اليوحناويّة؟ وأين انتشرت اللغة "الغنوصيّة" التي طبعت هذه المدرسة بطابعها؟ يعود التقليد القديم بفم إيريناوس إلى آسية الصغرى مع عاصمتها أفسس. أما افرام السرياني فتكلّم عن أنطاكية. واعتبر النقد الحديث بمجمله أن التجذّر التاريخي لانجيل يوحنا هو في سورية. خمسة براهين تسند هذه الفرضيّة.
أولاً: اللغة اليونانيّة المطعّمة بالساميّة التي نجدها في يو، تدلّ على أن الكاتب يعيش في محيط يتكلّم لغتين، اليونانيّة والأراميّة. لا يمكن أن يكون هذا المحيط أرض فلسطين، لأن الانجيلي يترجم لقرّائه الأسماء العبريّة (كيفا أي بطرس)، ويشرح العوائد اليهوديّة، ويسمّي شعب اسرائيل باسم غريب في فم اسرائيليّ. يسمّيهم "اليهود". نحن أمام منطقة تتكلّم لغتين، وليست فلسطين. فلا يمكن أن تكون إلاّ سورية.
ثانيًا: كان مؤمنو الجماعات اليوحناويّة جزءًا من المجمع قبل أن يطردوا منه. هذه القطيعة هي في قلب الجدال الذي نجده في الانجيل الرابع. إذن، يجب أن نتطلّع إلى منطقة تجذّر فيها المجمع اليهوديّ تجذرًا متينًا، وارتبط مصير المسيحيين به ارتباطًا وثيقًا. وهنا نعود أيضًا إلى سورية.
ثالثًا: إن العالم اليهوديّ الذي اتّصل به يوحنا هو عالم متعدّد الوجوه، وهو يتضمّن على جوانبه حركات لا أرثوذكسيّة. وهذا ما يدلّ عليه الجدال مع الحلقات المعمدانيّة. وسورية هي الموضع الذي أقام فيه العالم اليهوديِّ الارثوذكسي والعالم اليهودي اللاأرثوذكسيّ.
رابعًا: استعمل يوحنا لغة قريبة من لغة الحلقات اليهوديّة المتأثّرة بالغنوصيّة. وأقرب النصوص الأدبيّة إلى لغته، وهي "موشّحات سليمان" و"رسائل أغناطيوس الانطاكي"، وكتابات سابقة للمندعيّة (أو: المندائيّة)، نجدها في سورية التي هي موطن مميَّز للغنوصيّة.
خامسًا: إن التلاميذ الرئيسيين في الانجيل قد عملوا بشكل خاص في سورية. توما ووجهه المميّز في الانجيل. مزاحمة بين بطرس والتلميذ الحبيب. بما أن بطرس هو أهمّ شخص في سورية كما نجده في إنجيل متّى، وجب أن يكون الانجيل الرابع قد دوّن في سورية لكي يجعل التلميذ الحبيب في المقام الذي يستحق اتجاه هامة الرسل.
كل هذه إشارات توافق الفرضيّة التي تجعل يو كتابًا مدوَّنًا في سورية. ولكن لا يستبعد أن تكون الحلقات اليوحناويّة قد انتقلت بعد ذلك الوقت إلى آسية الصغرى المحاذية لسورية.

2- قرّاء الانجيل
إلى من وجِّه الانجيل الرابع؟ وما هو الهدف الذي توخّاه الانجيل من مؤلَّفه؟ إذا أردنا أن نتعرّف إلى مشروع الانجيليّ، نتفحّص المقدّمة والخاتمة، ونتوقّف عند البراهين التي يقدّمها.
أ- المطلع (يو 1: 1-18)
حين نلاحظ كيف يبدأ الكاتب البيبلي كتابه وكيف ينهيه، نفهم أمورًا عديدة. وهذا ما نحاول أن نفعله مع الإنجيل الرابع. فبداية الكتاب تتميّز بالمطلع الذي يجعلنا نتوقّف عند ثلاث ملاحظات:
أولاً: من جهة الفنّ الادبي. المطلع هو نشيد شعري تعلن فيه كنيسةُ يوحنا إيمانها. وقد استعاده الانجيليّ ليبدأ به مؤلَّفه. هذا المطلع يستند إلى الجماعة التي تتحدّث في صيغة الجمع (نحن) فتقدّم اعتراف إيمانها: "الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا... فرأينا مجده... من مجده أخذنا (نحن) نعمة فوق نعمة". إذن، يبدو أن الانجيليّ بدأ بذكر الايمان المشترك الذي يعارض لا إيمان (كفر) العالم. بل هو يعتبر أن قارئ كتابه هو مؤمن يجد نفسه في هذا الايمان الذي يعرضه الانجيل الرابع.
ثانيًا: إن موقع هذا النشيد في بداية المؤلّف أمر له معناه: يبدو بشكل برنامج، فيه يُعلن الانجيليّ الطرح اللاهوتيّ الذي يتوسّع فيه في ف 1-20. وهكذا يُعطى معنى الخبر الانجيليّ قبل أن يمتدّ في الكتاب.
ثالثًا: ونطرح السؤال: ما هو الطرح اللاهوتيّ الأساسيّ الذي يُعلَن في المطلع؟ حين أنشد الانجيليّ تجسّد الكلمة، وقدّم هذا التجسّد بشكل برنامج، اعتبر أن مضمون كتابه هو كرستولوجيّ بشكل حصريّ: فملء الله الذي يمنح الحياة والنور والحقّ، قد تجلّى في بشريّة (لحم ودم) إنسان من الناصرة هو يسوع المسيح.
ب- خاتمة الانجيل (20: 30- 31)
وتُثبت خاتمة الانجيل كلّ الاثبات النتائج التي حصلنا عليها حين قرأنا المطلع. فهي تعبّر عن هدف الكتاب بهذه الكلمات: "وصنع يسوع أمام تلاميذه آيات أخرى كثيرة لم تدوَّن في هذا الكتاب. وإنما دوِّنت هذه لكي تؤمنوا أن يسوع هو المسيح، ابن الله، وتكون لكم، إذا آمنتم، الحياة باسمه"
شدّدت آ 30 على الطابع الانتقائي في الانجيل. لم يدوّن الكاتب كل شيء. لم يستنفد كل شيء. بل انتقى، اختار عددًا محدودًا من عناصر لها معناها. ولكن على ما تدلّ هذه العناصر؟ هذا ما تحدّده آ 31: توخّى الخبر الإنجيليّ أن يدعونا إلى الايمان. ولكن من هو المدعوّ إلى الايمان؟ من يختفي وراء صيغة المخاطب (لكي تؤمنوا، أنتم)؟ مؤمنو الجماعات اليوحناويّة أم اللامؤمنون؟ لقد رأى النقد الحديث في هذا الكلام عبارة متواترة في الانجيل الرابع: إن الانجيل يتوجّه إلى المؤمنين. وما توخّى الانجيليّ في الدرجة الأولى أن يردّ اللامؤمنين إلى الايمان، بل أن يثبّت إخوته في هذا الايمان ويساعدهم على التعمّق فيه.
وما هو موضوع هذا الايمان؟ التعبير عن هذا الايمان هو تعبير يتركّز على المسيح: نرى في يسوع ملء حضور الله وسط البشر. هذا ما يعنيه لقب "المسيح" الذي يُعطى لمسيحيّين جاؤوا من العالم اليهوديّ: فالناصريّ هو تتمّة النبوءة المسيحانيّة. وهذا ما يعنيه لقب "ابن الله" في لغة خاصّة بالانجيلي: الناصريّ هو مرسل الآب، ممثِّله، حضوره الكامل بين البشر. وهكذا تظهر هويّة الجماعة اليوحناويّة وخاصيّتها في هذا التعرّف وهذا الاعتراف. فالمسألة الحاسمة هي أن نقرّ بأن الله أعطى ذاته عطاء تامًا ونهائيًا في الانسان يسوع.
وهذه المسألة الحاسمة ليست مسألة نظريّة: فنهاية آ 31 تشير أنها ترتبط بمسألة "الحياة". فمسألة الاعتراف بالمسيح لا تنفصل عن مسألة الحياة. ومن رأى ملء الله على وجه الناصريّ، بلغ إلى الحياة. إن مسألة الحياة تملأ الانجيل الرابع كلّه. فهي الخير السامي الذي يطلبه الانسان باستمرار. وهذه الحياة هي مقدَّمة في هذا الوقت وفي هذا المكان لكل من يؤمن. هي مفتوحة ومشرَّعة بالرغم من الموت الذي يتربّص بنا.
ج- البراهين
إن تحليل البراهين التي يقدّمها المسيح اليوحناويّ، تثبت ما استشففناه في مطلع الانجيل وخاتمته: يتوجّه الانجيليّ إلى مؤمني كنيسته ليقوّي إيمانهم. ونتوقّف على برهانين يميّزان إنجيل يوحنا: سوء التفاهم. خطبة الوداع.
أولاً: سوء التفاهم
كيف تبدو تقنيّة سوء التفاهم؟ نكتشف مرارًا في يو أن القارئ يُخطئ في فهم كلمات يتلفّظ بها المسيح. هو يفهمها في معناها المباشر وربّما "المضحك" ساعة يتيح له الوحيُ وحده أن يفهمها. ونأخذ مثل نيقوديمس الذي دُعي إلى أن يُولد من جديد. فتشكّك وقال: "كيف يقدر شيخ أن يدخل بطن أمه ثانية ويُولد من جديد" (3:3- 5)؟
إن سوء التفاهم في يو هو نهج أدبيّ به يفصل صاحبُ النصّ الواقعَ الذي يعرفه القارئ، عن ظاهر الأمور الذي يعتبره محاور يسوع الحقيقةَ. وهكذا لا يكون قارئ الانجيل الضحيّة، بل الشاهد، بل ذاك الذي يوجّه إليه المسيح كلامه. بشكل غير مباشر. بشكل ممازحة ونكتة. غير أن لا معنى لهذه الممازحة ولا قيمة إلاّ بقدر ما يقاسم القارئ الانجيليّ نظرته إلى الواقع، وإلاّ تصبح الممازحة مضحكة. يبتسم القارئ حين يسمع كلام نيقوديمس إن هو آمن أن الولادة الجديد ممكنة بفضل المسيح. وإلاّ يكون الفريسيّ على حقّ ويكون يسوع (لا سمح الله) مخطئًا! هذا يعني أن الانجيل دوِّن من أجل أناس مؤمنين. والممازحة اليوحناويّة تدفعهم لأن يطرحوا السؤال على نفوسهم فيكتشفوا من جديد الربّ الذي تعلّقوا به.
ثانيًا: خطبة الوداع
في يو 1-12 كشف يسوع عن نفسه للعالم. ولكنه في ف 13-17 توجّه حصرًا إلى تلاميذه. والتلاميذ هنا هم في الوقت عينه رفاق يسوع الأوّلون ومؤمنو الكنيسة اليوحناويّة. إذن، صار البرهان مباشرًا: حين ذكر الانجيليّ كيف توجّه يسوع إلى أخصِّائه ليلة آلامه، توجّه في الحقيقة بشكل مباشر إلى كنيسته لكي يعطيها تعليمًا حول إيمانيا.
والبرهان على ذلك بُنية ف 13-17. بعد أن تناول المسيح اليوحناويّ عشاءه الأخير مع أخصائه (12: 1- 30)، ألقى خطبة أولى فأوضح معنى ذهابه وأعلن مجيء البارقليط (13: 31-14: 31): وهكذا قدّم رسمة سريعة عن الوضع الذي سيكون بعد ذهابه، عن وضع الكنيسة. وفي إطار زمن الكنيسة هذه، بدا ف 15 تحريضًا يدعونا لكي "نثبت" في المسيح، أي أن نحيا الايمان في المدى الزمنيّ ساعة يُرعد البغض في العالم. ويتحدّث ف 16 عن العزاء الذي يُمنح للتلاميذ، أي عن مجيء البارقليط والعلاقة الجديدة مع المسيح المرتفع على الصليب وفي المجد. وأخيرًا في ف 17، استودع المسيح بين يدي الله، في الصلاة، جماعة المؤمنين الذين ينفصل عنهم.
وفي الختام، نقول بعد هذه التحاليل المختلفة إن إنجيل يوحنا قد توجَّه إلى المؤمنين. وقد توخّى، بعد الفصح والقيامة، أن يبني المسيحيّين في الايمان الذي هو اعتراف بأن يسوع هو ملء حضور الله وسط البشر.

3- في قلب الصراعات
إذا أردنا أن نحيط إحاطة فضلى بالتجذّر التاريخيّ للانجيل الرابع، يجدر بنا أن نحلّل الحرب الكلاميّة التي يعرضها. وهكذا ترتسم أمامنا جبهات تتيح لنا أن نحدّد بشكل أدقّ الجماعات اليوحناويّة.
أ- حرب على الحلقات المعمدانيّة
يتضمّن الانجيل عددًا لا يُستهان به من المقاطع التي "تحارب" يوحنا المعمدان والمتشيّعين له (6:1-8، 15، 19-39؛ 26:3-30؛ 33:5-36؛ 10: 41). كيف نفهم هذه الأقوال؟ نحن نفهم كلام الانجيليّ في إطار المزاحمة بين الجماعات اليوحناويّة والحلقات المعمدانيّة. لقد علّمنا أع 19: 1-7 والرسائل الاقليميّة المزعومة أن الجماعات المعمدانيّة كانت عديدة في سورية وفي فلسطين في نهاية القرن الأول المسيحي، وقد رأت في شخص المعمدان المخلّص الاسكاتولوجي، المخلّص الآتي في نهاية الزمن. كما أكّدت أمام الجماعات المسيحيّة أن الأكبر هو الذي يأتي أولاً. وهكذا قالوا إن يوحنا أعظم من يسوع. (1: 1، 15، 27، 30)
ووضع الانجيلُ النقاطَ على الحروف بشكل قاطع، فحدّد دور المعمدان بالنسبة إلى المسيح: هو السابق والشاهد، ولا شيء أكثر من ذلك. والذي قام بهذا العمل التوضيحيّ هو المعمدان نفسه في الشهادة التي نُسبت إليه (1: 15، 20، 27؛ 3: 27- 30) بواسطة المسيح (5: 33-36) أو الانجيلي (1: 6-8).
لماذا هذا الشرح الواضح الصريح؟ لاشكّ في أن هناك مزاحمة وصراعًا حول التفسير بين المجموعتين اللتين تحاولان أن تربحا أهل سورية. ولكن يجب بشكل خاصّ أن نتذكّر أن بعض التلاميذ الذين دخلوا في الجماعات اليوحناويّة كانوا تلاميذ المعمدان وارتدّوا إلى المسيح (1: 35-39). وإذ أشار الانجيليّ إلى هذه المسألة، عاد إلى ماضي كنيسته ودلّ بوضوح على الايمان وعلى الهرطقة في هذا المجال.
ب- حرب على الروحانيّة الغنوصيّة
عبّرت المدرسة اليوحناويّة (وهكذا فعل الانجيليّ) عن نفسها بلغة غنوصيّة. انتشرت في سورية في نهاية القرن الأول المسيحيّ. ولم يكن الخيار الذي أخذ به الانجيلي من قبيل الصدف. فبواسطة هذه اللغة الغنوصيّة وقيمها، استطاع أن يعبّر بشكل رائع عن ضياع الانسان في العالم، عن سموّ الله الجذريّ، عن ضرورة الوحي والفداء. وهكذا أتاحت له الروحانيّة الغنوصيّة أن يطرح سؤالاً وجد في الانجيل الجواب عليه.
ولكن إن التقت الروحانيّة الغنوصيّة والايمان المسيحي في بعض المواضيع، فهناك نقاط أخرى يبدو الصراع فيها محتومًا، فكانت مناسبة للإنجيليّ لكي يدلّ على نفاذ نظره اللاهوتي. مثلاً، على مستوى مفهوم الخلق: أعلنت الغنوصيّة أن العالم (الكون) ليس خليقة الله وأنه منفصل عنه. أما الانجيليّ فذكّرنا بأن اللوغوس (الكلمة) الخالق واللوغوس الفادي هما شخص واحد وحيد (1: 1- 18). وأن لا شكّ بأن الله يحبّ العالم حبًا فريدًا (3: 16). وأنه وإن لم يكن المؤمن من هذا العالم، فهو مدعو إلى أن يعيش في العالم (17: 15). إذن، الثنائيّة بين الله والعالم ليست مطلقة.
ونأخذ مثلاً آخر في مجال الكرستولوجيا: حين بدأ يوحنا انجيله بكرستولوجيّة التجسّد (1: 14)، وشدّد على جذريّة بشريّة المسيح (6: 42- 54)، قطع الطريق على النظريات الظاهرية: فيسوع ليس كائنًا سماويًا عَبَر التاريخ بشكل مجيد بحيث لم يلامسه التاريخ، ولم يؤثّر فيه. بل هو ذاك الذي صار بشرًا (صار لحمًا ودمًا) وصُلب. بالاضافة إلى ذلك، فالصفات السوتيريولوجيّة (التي تتحدّث عن الخلاص) التي تحتفظ بها الروحانيّة الغنوصيّة لوجوه سماويّة كبيرة (الراعي، الكرمة، المرسل)، قد طُبّقت بشكل حصري على يسوع. واعتبار المسيح كحامل الوحي الوحيد، قول مطلق في بلاد مثل سورية تغلي باختبارات روحيّة. لهذا ردّد الانجيليّ ردّته وقراره: ما من أحد رأى الله. وحده الابن رآه (1: 18؛ 5: 27؛ 6: 46).
وهكذا "هضمت" المدرسة اليوحناويّة هذه اللغة الرفيعة (كما يُهضم الطعام)، وحوّلتها إلى تعاليم من أجل خدمة الايمان. كانت من عصرها، وعاشت منه، فنفحته بإنجيل المسيح.
ج- حرب على العالم اليهوديّ
كانت الحرب غير مباشرة على الحلقات المعمدانيّة والروحانيّة الغنوصيّة. ولكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى الحرب على العالم اليهوديّ. فـ "اليهود" هم في الخبر اليوحناوي "المعارض" الأول لعمل يسوع حامل الوحي (ف 5- 12، 18-20). فحين ننزع "اليهود" من الانجيل، تنهار اللحمة في الاخبار.
ولكن "اليهود" الذين يصوّرهم الانجيليّ، لا يقابلون ما نعرف عن شعب اسرائيل في زمن المسيح. أولاً، يبدو أن يسوع وتلاميذه ليسوا بيهود، وهذا أمر غريب. فحين يتكلّمون عن الشريعة مع اليهود، يقولون "شريعتكم" (8: 17؛ 10: 34). وتتكرّر الظاهرة نفسها حين تُذكر الاعياد اليهوديّة (2: 13؛ 7: 2؛ 11: 55). ثانيًا، إن العالم اليهوديّ المتنوّع في زمن يسوع، صار في الإنجيل الرابع مجموعة من لون واحد وسمّيت "اليهود". غاب الصادوقيون والهيرودوسيون والكتبة والغيورون غيابًا تامًا. وسيطر الفرّيسيون سيطرة تامّة، بل ألّفوا مع عظماء الكهنة مجموعة واحدة، وهذا ما ينطوي على مغالطة تاريخيّة. ثالثًا، يتميّز "اليهود" بعض المرات في الخبر عن الجموع، وهذا ما يُدهش المؤرّخ.
إن تقديم الأمور بشكل يبدو وكأنه مغالطة تاريخيّة، ليس وليد الصدف. فالانجيليّ يُسقط على تاريخ يسوع، العالمَ اليهوديّ الذي تواجهه الجماعة اليوحناويّة: هو عالم ما عاد مرتبطًا بالمسيحيين، بعد أن قطع كل علاقة معهم. هو عالم ذات لون واحد بعد أن سيطر عليه الفريسيون. ما الذي حصل لكي نصل إلى هنا؟
إذا أردنا الجواب على هذا السؤال، نتذكّر واقعين. من جهة، الحربُ اليهوديّة في السنوات 60- 70 قادت إلى دمار هيكل أورشليم. فخسر العالم اليهوديّ مركزه الديني والوطنيّ. فأحس بالحاجة إلى إعادة تنظيم صفوفه على أسس أخرى، يقدّمها له المجمع الذي يسيطر عليه الفريسيون والمعلمون (رابينيون). ومن جهة ثانية (وهذا هو الواقع الثاني)، رافق اعادةَ التنظيم هذه بعضُ التحجّر. فالقوّاد الجدد الذين اجتمعوا في أكاديميّة يمنية (أو: يبنة)، قطعوا (حرموا) من العالم اليهوديّ كل الاتجاهات التي لا تتوافق مع المثال الفريسي. وكان المسيحيون جزءًا من هؤلاء الهراطقة الذي تلعنهم صلاة رسميّة بطلباتها الثماني عشرة. فأحسّت الحلقات اليوحناويّة في جسدها بهذا "الطرد" الذي يحرمها من كل شرعيّة قانونيّة على المستوى الديني (22:9؛ 42:12؛ 16: 2). صاروا خارج العالم اليهودي. وهم لا يستطيعون أن يشاركوا الوثنيين في عبادتهم. فصاروا خارج القانون.
لماذا يتوقّف الانجيلي مطوّلاً عند الصراع بين المسيح واليهود، وبالتالي عند الخلاف بين كنيسة يوحنا والمجمع اليهوديّ؟ ليست الرسالة بين اليهود هي الهدف. فالقطيعة تامّة بين الجماعتين. لهذا، فالبرهان الذي يتوسّع فيه يوحنا هو من أجل المؤمنين: عليه أن يعلن أيضًا الايمان المسيحيّ للمؤمنين. يعلنه بشكل سلبيّ بوجه الخصم. ويعلنه بشكل إيجابي داخل الكنيسة.
فما هو اليقين الذي يريد الانجيلي أن ينقله إلى كنيسته؟ إن موضوع هذه المقاطع التي تبدو بشكل حرب على اليهود، هو بنوّة يسوع الالهيّة. لقد أراد يوحنا أن يؤكّد أيضًا لمسيحيين تزعزعوا ويئسوا من عداوة تصيبهم، من ضعف كنيستهم السريعة العطب، أراد أن يؤكّد أن يسوع المحتقر والمتروك والمصلوب الذي تعلّقوا به، هو حقًا ابن الله. ذاك الذي جاء باسم الآب والذي عاد إليه. غير أن أعظم انتصار لابن الله، هو فشل الصليب. وليس تلميذ أفضل من معلّمه.
د- حرب على العالم
إن للفظة "عالم" معاني مختلفة عند يوحنا. فالعالم هو قبل كل شيء خليقة الله، ويبقى كذلك (1: 1ي). والعالم هو أيضًا عالم البشر، عالم يكوّنه البشر (1: 10). هذا العالم قد أحبّه الله إلى حدّ أرسل ابنه الوحيد لكي يخلّصه (16:3؛ 42:4). غير أن هناك معنى ثالثًا: فهذا العالم ينغلق على حامل الوحي ويرذله. ويتصرّف التصرّف عينه تجاه تلاميذ يسوع (18:15-19). إذن، صار عالمَ الظلمة. وسيطر عليه اللاإيمان والكفر. وحين نقرأ الانجيل الرابع، نرى أن هذا المعنى الأخير يسيطر سيطرة تامة: وهكذا يدلّ العالم على بشريّة تريد أن تعيش بدون الله، وترفض حبّه. فكأننا في حتميّة مأساويّة، وإن كانت هذه الحتميّة لا تزيل مسؤولية الخطيئة.
هنا نسوق ملاحظة عامة. في ف 1-12 اتّخذ مدلول العالم اجمالاً معنى إيجابيًا (الكون، البشر الذين يحتاجون إلى الخلاص) أو حياديًا. أما في 13- 17، فالمعنى السلبي (العالم يرفض الله) يسيطر سيطرة واضحة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية شكّل "اليهود" في ف 1-12 معارضة تجاه حامل الوحي. أما في ف 13-17 (خطبة الوداع)، فهم يتركون الساحة، فيلعب "العالم" دور المعارضة. وهكذا نستطيع القول بعد الذي قلناه عن الصراع بين كنيسة يوحنا والمجمع اليهوديّ، إن يسوع اصطدم بعداوة اليهود. أما تلاميذه فهم ضحيّة بغض العالم.
إذا كانت هاتان المعارضتان (معارضة اليهود، معارضة العالم) النتيجة اللاهوتيّة للتشكّك أمام الوحي، فهل يتّخذ بغضُ العالم للتلاميذ وجهًا (أو: أوجهًا) تاريخيًا خاصًا؟ هنا نشير إلى ثلاثة وقائع. الأول: أبغض العالمُ المسيحيين ساعة اعتبرهم جزءًا من العالم اليهوديّ، مع أنهم كانوا مطرودين من المجمع. الثاني: أصاب المؤمنين في كنيسة يوحنا اضطهادُ دوميسيانس الذي اعتبر أن المسيحيين يتآمرون عليه حين يرفضون التعبّد له. الثالث: كانت هذه الجماعات ضحيّة المجموعات المحليّة (أو البلديّة) التي تجاهر بولائها لسلطة الامبراطور، والتي رأت في الجماعات المسيحيّة معارضة خفيّة للدولة. ومهما يكن من أمر، فالأسباب عديدة وهي تدفع الانجيليّ لكي يشرح الشرح اللاهوتيّ، البغضَ الذي يقاسيه المؤمنون من قبل العالم.

خاتمة
إنجيل يوحنا هو إعلان إيمان. خاطر بنفسه لكي يكون من عصره. لكي يكون في العالم، ولا يخرج من العالم. هو ثمرة تقليد متحرّك لأنه حيّ (لا جامد ومتحجّر)، وقد تجرّأ فأخذ اللغة التي تعبّر بقوّة عن نفسيّة الناس في نهاية القرن الأول المسيحيّ، في هذا الشرق. أعلن الايمان من جديد للمسيحيين، ولكنه لم يكرّر عبارات "مقدّسة" ومحجّرة. بل لجأ إلى لغة تدلّ على بحث وطلب، على تلمّس روحانيّة. وأعلن الانجيل الرابع الايمان مراعيًا قرّاءه: أخذ على محمل الجد التهديدات والمخاوف والانتصارات التي تشقّ طريقها في كنيسته مع القنوط واليأس. ولكن إن هو تجذّر إلى هذا الحدّ في ما تعيشه الكنيسة، فلكي يُبرز من هو الطريق والحق والحياة. كان الانجيل الرابع أمينًا لذاك الذي يعلنه. لهذا فهو كلام "صار بشرًا وسكن بيننا".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM