الفصل العشرون: أبحاث في إنجيل يوحنا

الفصل العشرون
أبحاث في إنجيل يوحنا

أبحاث عديدة في العالم الغربي حول انجيل يوحنا، لأن ما ظهر في العالم الشرقي لا يتعدّى أصابع اليد. هناك نظرة سنكرونيّة تتوقّف عند عناصر تفسير متكامل. ونظرة دياكرونيّة تعتبر أن النص هو نتاج تطوّر تاريخي. نظرة إجماليّة ونظرة تفصيليّة. نظرتان متكاملتان وهما تحاولان الاحاطة بالانجيل الرابع من كل جوانبه.

1- مقاربة دياكرونيّة
تعرف هذه المقاربةُ صيغتين. إمّا نجعل في أصل النصّ تقاليد مختلفة. وإما نعتبر أننا نستطيع أن نحدّد ببعض الدقّة الوثائق التي لجأ إليها الكاتب.
أ- التقاليد التحتية
استعمل كاتب يو تقاليد مختلفة تقابل أوساطًا فكريّة متنوعّة: الهلينيّة، الغنوصيّة، اليهوديّة، المسيحيّة. هي تقاليد لا تظهر بوضوح بل بشكل خفيّ. وقد استلهمها الكاتب دون أن يورد نصوصها بصراحة.
راج سوقُ الهلينيّة زمنا طويلاً، أو تأثير العالم اليونانيّ على الانجيل الرابع. ولكن هذا السوق قد خبا بعض الشيء بعد أن توقّف النقّاد عند أفلاطون وأفلوطين وهيراكليتس. والغنوصيّة التي عرفت رواجًا كبيرًا لدى الشرّاح منذ اكتُشفت نصوص نجع حمادي، تُقدّمُ المعرفة على كل شيء وتنسى دور التقليد ودور الصليب. نستطيع التحدّث عن غنوصيّة سابقة للمسيحيّة، عن اتجاه عفويّ للفكر البشريّ. مثل هذا الغنوصيّة لم تكن قد دوّنت كما في النصوص التي نعرفها، بل شكّلت مناخًا نمت فيه بعض أسفار العهد الجديد ومنها إنجيل يوحنا. لا نفرط في الحديث عن تأثير الغنوصيّة في فكر يوحنا. ولكننا لا نقول إن الغنوصيّة ترتبط بإنجيل يوحنا ولاسيّما بالمطلع. بدا التأثير الغنوصيّ بشكل خاص في الثنائيّة اليوحناوية التي ظلّت على المستوى الاخلاقي ولم تصل إلى المستوى الانتولوجي (أو علم الكائن).
وتبقى اليهوديّة (= العالم اليهوديّ) الينبوع الرئيسيّ لانجيل يوحنا. يحتلّ العهد القديم المقام الأول، وهذا ما تدارسه الشرّاح منذ الستينات. هل الاستشهادات التي أوردها يوحنا هي أمور تثبّت الكتب المقدّسة؟ أم هي خلايا تولّد خبرًا يخلقها من جديد؟ فإيراد أشعيا (صوت صارخ في البريّة) والذي وُضع في فم يوحنا السابق، يوحّد المقطع الذي نجد فيه المواضيع الاشعيائيّة: الخطايا التي غفرت. المجد. شموليّة يشير إليها "كل جسد" (أو: كل بشر).
وتلقي التراجيم (الترجوم هو نقل حرّ للنصّ الكتابيّ إلى الأراميّة) على هذا النصّ أو ذاك ضوءًا لا نتوقّعه. مثلاً في ذبيحة اسحاق. أو في تذمّر الجليليّين. وظلّت كتابات قمران موضعًا مميَّزًا للبحث. وأشار الشرّاح إلى علاقة بين يوحنا وفيلون الاسكندرانيّ. هنا تظهر مشكلة العلاقة بين اليهود والانجيل الرابع. كان يعتبر عدد من الشرّاح أن القطيعة النهائيّة بين المسيحيّة والعالم الفريسيّ قد تمتّ في "مجمع يمنية" (أو: يبنة) مع وجود لفظة "مينيم" في المباركات الثماني عشرة. أما اليوم فيرون في هذه اللفظة (مينيم) المسيحيين وغير المسيحيين. يرون فيها كل الذين يحيدون عن التقليد الفريسيّ. وهكذا بدأت تتوضّح العلاقة مع الرابينيين أو المعلّمين في العالم اليهوديّ.
وتجد التقاليد المسيحيّة ذروتها في إنجيل يوحنا. فمعرفة الجماعة اليوحناويّة تساعدنا على تحديد طبيعة النصّ اليوحناويّ. وهذا النصّ يتضمّن بُعدين: بُعد زمن يسوع الناصريّ، وبُعد زمن الكاتب الانجيليّ. هذا ما يسمى زمنَي قراءة الانجيل، زمن يسوع (كما خرجت الكلمة من فم يسوع) وزمن الكنيسة (كما فهمها الرسل والتلاميذ على ضوء القيامة وخبرتهم في العالم). ولكن طُرح سؤال حول تاريخ الجماعة اليوحناويّة. هل التفاصيل التي قدّمها الشرّاح مؤسَّسة تأسيسًا متينًا؟ فقد مُيِّزت المراحل بالنظر إلى بعض النصوص التي نجد فيها لفظة "حُرم" (9: 22: من يعترف بأن يسوع هو المسيح يُخرج من المجمع؛ 16: 2: سيخرجونكم من المجامع). هل يكفي هذا لكي نميّز أربع حقبات كما فعل ريمون براون المفسّر الاميركي؟
ونجد نتيجة كل هذا في صورة عن تطوّر الكرستولوجيا خلال القرن الاول: من كرستولوجيا بدائيّة تعكس الالقاب المعطاة ليسوع (1: 35-50، يسوع هو المسيح الداودي) إلى كرستولوجيا عميقة تستوحي الاعتقاد السامريّ بـ "التائب" (أو العائد): وهكذا يكون يسوع شخصًا وُجد منذ الأزل. وهكذا فُتحت الطريق التي ترى في يسوع "إلهًا ثانيًا". وهذا ما حرّك غضب اليهود وقطيعة مجمع يمنية. بعد ذلك كان انقسام داخل الجماعة: بعضهم توجّه إلى نظرة إلى المسيح تميل إلى الغنوصيّة (1 يو). والبعض الآخر يمثّلون المسيحية اليوحناويّة. انجذب الأولون بالنهج الغنوصي. والآخرون ضمّتهم الكنيسة الكبرى. بموازاة (أو ربما قبل) هذا البحث من النمط السوسيولوجيّ، اهتمّ النقّاد بتحديد علاقة يوحنا بالأناجيل الازائيّة (مت، مر، لو). ففي نظرة التاريخ التقليديّ جاء من ينكر كل علاقة أدبيّة مباشرة بين يوحنا والازائيين. فإنجيل يوحنا مستقلّ عن الأناجيل الازائيّة. هنا يبرز التقليد الشفهيّ الذي شدّد عليه من انطلق من شفاء ابن الموظّف الملكيّ (يو 4) أو من الظهور للمجدليّة (يو 20). لهذا، شدّدت المدرسة الالمانيّة على وجود وثائق قد نستطيع أن نحدّد طبيعتها واتجاهها.
ب- المراجع الوثائق
اعتبر بولتمان أننا نستطيع أن نكتشف ثلاثة مراجع رئيسيّة حين نتوقّف عند المعايير الاسلوبيّة (اللحمات، التناسق في الجمل) واللاهوتيّة: ينبوع الخطب. ينبوع الآيات. ينبوع الآلام (أو: الحاش). أخذ الكاتب بهذه الينابيع (أو: المراجع)، وزاد عليها مراجع أخرى، فأعطى للانجيل اتجاهه. غاب الحديث عن ينبوع الخطب، ولكنه توسّع في ينبوع الآلام مظهرًا البعد البشري ليسوع المسيح في آلامه وصلبه وموته.
وتحدّث آخرون عن مرجع الآيات الذي تضمّن المقدّمة، الآيات السبع، خاتمة مع خبر الآلام. هناك عدد كبير يتوقّفون عند الآيات السبع (عرس قانا، شفاء ابن الموظّف، المخلّع، تكثير الارغفة، السير على المياه، شفاء الاعمى، إقامة لعازر)، وبعضهم يزيد هذا الخبر أو ذاك مثل 1: 35- 51. لم يتوافق الشرّاح حول ينبوع الآيات. هل هناك خطأ؟ كلا.
وما هو أهمّ من تثبيت هذه المراجع الثلاثة (الآيات، الخطب، الآلام) هو تنظيم مؤلف أساسيّ انطلق منه الانجيل لكي يدوَّن. هذا ما يقوله أولئك الذين يتحدّثون عن الينابيع أو المراجع. فقالت أحدهم: كان نصّ أساسيّ أعاد صياغته الانجيليِّ، ثم جاء كاتب كنسي. وكتب بولتمان لا تفسيرًا لانجيل يوحنا، بل "تصويب" انجيل يوحنا. قال: انطلق إنجيليّ من أساس غنوصيّ أو مسيحيّ متهوّد، فبيِّن أن يسوع هو ملك اسرائيل الذي صنع آيات، وقدّم يسوع كمرسل الآب وهكذا انتج "كرستولوجيا رفيعة" صُبغت فيها الأخبار والخطب بصبغة هلينيّة. وبعده جاء مدوّن كنسي فبرّر الممارسة الاسواريّة. وانطلق آخرون من "انجيل المعجزات" كأساس أعاد صياغته الانجيليّ.
ظلّ الشرّاح الانكليز متحفّظين بالنسبة إلى هذه المراجع المزعومة، وقد رأوا ضعفها على المستوى الادبي والمستوى اللاهوتي. أما الالمان فرأوا في هذه النظرية "عقيدة" لا تناقش، فوزّعوا الآيات بين قديمة ومتأخّرة على مستوى الاسكاتولوجيا أو الأسرار. ونتذكّر هنا بوامار الدومنيكاني المقيم في أورشليم القدس، الذي يشير إلى نصّ أساسي استعيد تدوينه على ثلاث مراحل. ولكن هاجمه نايرنك من لوفان في بلجيكا، الذي عاد فقط إلى الأناجيل الإزائيّة.
وفي نهاية هذه المقاربة الدياكرونيّة، نتوقّف عند تأويل مطلع انجيل يوحنا (1: 1-18). إنه يرتبط بمراجع واسعة أو ضيّقة، بنظرات غنوصيّة أو مرتبطة بيوحنا المعمدان.

2- مقاربة سنكرونيّة
كثُر عدد الشرّاح الذين يقولون بوجد "مصادر" استعملها يوحنا، ويعارضون واقع "وثائق" محدّدة. لهذا، تعلّقوا بالنصّ كما يجدونه في وضعه الحالي. هذا ما نسمّيه قراءة سنكرونيّة، قراءة إجماليّة. ونتوقّف عند ثلاث طرق: التاريخيّة النقديّة. الادبيّة. السيميائيّة أو الرموزيّة.
أ- المقاربة التاريخيّة النقديّة
ليست هذه المقاربة بحثًا عن حدث يرد في خبر. بل طلبًا لمدلول النصّ في ذاته. هي تستعمل الوسائل المعروفة في التحليل الأدبيّ، كما تستعمل المعطيات السوسيولوجيّة. حول المحيط الذي فيه وُلد النصّ. هذه المقارنة تأخذ بكل ما في المقاربة الدياكرونيّة من غنى على المستوى السوسيولوجيّ والمستوى الأدبيّ.
وقد حاولت الدراسات الأخيرة أن تكتشف بفضل تفحّص لغويّ، تجدُّدَ النصّ اليوحناوي. هي تستند عادة إلى الوحدة الادبيّة للنصّ، ولكنها تقول أيضًا بوجود "مصادر". لهذا سُمّيت مقاربة سنكرونية.
ويطرح سؤال أول حول كاتب يو: هل هو الرسول، الشيخ، التلميذ الحبيب، لعازر؟ سؤال ما عاد يهمّ الشرّاح كثيرًا (الانجيل هو كلمة الله قبل كل شيء). نُسب إلى يوحنا الرسول احترامًا للتقليد، كلُّ ما ليس يوحناويًا في بداية التقليد. غير أن الاشكاليّة تجدّدت: ساعة دافع بعضهم عن كاتب فرد، تحدّث آخرون عن مدرسة يوحناويّة، حين رأوا تنوّع الاساليب واختلاف الطرق في البراهين. لقد كوّن تلاميذ الحبيب باكرًا جماعة حيّة، وأخذ بعضهم يدوّنون نصوصًا ولّدت الأناجيل. وقالت فئة ثالثة إن يوحنا الشيخ هو الذي دوّن الانجيل الرابع. وجاء من يقول: ألِّفت الكتابات اليوحناويّة في مجموعة قريبة من التلميذ الحبيب. قد يكون اختلاف في ما يخصّ دور مشاركي الانجيلي أو المدوّن. ولكننا أمام إنجيل دوِّن انطلاقًا من مصادر لا ترتبط بعضها ببعض، وهي تعود إلى جماعات متنوّعة. وقد يكون أعاد النظر في هذا الانجيل مدوّنٌ يختلف لاهوته عن لاهوت الانجيليّ. وهكذا تخسر مسألة الكاتب من أهميتها حين يتّفق الشرّاح على القول بوحدة الكتاب.
وحين يحدّد الدارس قرّاء الانجيل يستطيع أن يتفهم طبيعة هذا الكتاب. فمواجهة الانجيل مع اليهود ومع العالم، تشكّل نقطة اهتمام لدى النقّاد. اعتبر بعضهم أن أعضاء الجماعة اليوحناويّة كانوا بأكثرهم مسيحيّين متهوّدين تكلّموا اليونانية وعاشوا في محيط يسيطر عليه اليهود إن لم يكن بالعدد فبالنفوذ. ويحدّدون موضع هذه الجماعة لا في أفسس أو في مدينة كبرى غيرها، بل في منطقة قريبة من سورية، في مملكة اغريبا الثاني التي تكوّنت من مناطق الجولان وبتانية وتراخونيتس. هناك انتمى يهود عديدون إلى الطبقة الحاكمة، وظلّوا على اتّصال بتيّار قويّ هو تيّار الارثوذكسية الفرّيسيّة التي كان مركزها في يمنية. في هذا المناخ العدائي، تضايقت الجماعة على مستوى الحياة اليوميّة: كانوا هم أيضًا من "المنيم"؟ طُردوا من المدرسة فواجهوا اعتراضات عديدة يحرّكها الايمان اليهودي، كما واجهوا فشل كرازتهم الظاهرة. لا، لم يكن يوحنا عرضة لاهتمامات غنوصيّة. بل أراد فقط أن يقوّي إيمان التلاميذ.
وكانت دراسة تعود إلى سنة 1985، فشدّدت على الوظيفة العمليّة للنصّ، على النتيجة التي توخّاها، وهي تثبيت الجماعة المسيحيّة التي أضاعت اتجاهها لدى فشل الكرازة. فقدّم يوحنا للمؤمنين، "استراحة تفكير" فيها يتأمّلون المسيرة التي مشاها مرسل الله. فمصيره يدلّ على مصير تلاميذه. وإليك البرهان على ذلك. دمج يوحنا أفقين تاريخيّين، أفق يسوع وأفق الجماعة اليوحناويّة. ذاك هو الوضع المستمرّ للمؤمنين الذي رمز إليه دمجُ هذين الافقين. والقارئ يدرك الافق الثالث الذي يتجاوز خاصيّة وداع يسوع لتلاميذه مع حاضر الجماعة اليوحناويّة. وهكذا نلتقي مع "زمني القراءة"، ونزيد عليهما "القراءة الثالثة". وهكذا نستطيع مواصلة البحث في هذا الاتجاه مع تحديد طبيعة لغة يوحنا.
وجاء من سار في الاتجاه عينه فقدّم الجماعة في تعارضها مع العالم: أراد الانجيلي أن يشجّع الجماعة فدعاها لكي تنظر إلى ذاتها كجماعة تعارض المجتمع. وتحدّث آخرون عن إنجيل يعارض الظاهريّين الذين ينكرون حقيقة التجسّد. وأشارت فئة ثالثة إلى جوّ الجدال الذي يميّز إنجيل يوحنا.
ب- المقاربة الأدبيّة
تنبّه تبّاع المقاربة السنكرونيّة من اللجوء السريع إلى مصادر مختلفة ساعة تظهر صعوبة في النصّ، فاعتبروا أنه يجب أن يحذروا الاهتمام بالمنطق في تأليف النصّ. لهذا عاد داود ويد، وهو استاذ أميركي في سويسرا، إلى صيغ الفكر، إلى الأساليب الادبيّة التي نجدها في يو. فاكتشف استعمال الممازحة والنكتة. كما واكتشف الاستعارة. ودرس شارح آخر، الآيةَ الأولى في قانا والحوار مع السامريّة، فأعلن أن هذين الخبرين يجعلاننا على المستوى الرمزيّ. هما يدلاّن على غير ما يعبّران عنه للوهلة الأولى.
وعاد الشرّاح أيضًا إلى التفاصيل. درسوا المعترضات والملاحظات والقاطعات التي تُوقف مسيرة النصّ لتفسّر كلمة أو تشرح عادة يهوديّة أو لتكمّل، في مسيرة الخبر، معلومة تتعلّق بشخص من الأشخاص أو بموضع من المواضع أو وقت من الاوقات، أو كلمة أو فعلة. وقد نكون أمام اعتبار يكمّل ما قيل سابقًا. قد يكون الناشر تدخّل هنا أو هناك، وهذا ما يدلّ على وجود طبقات في التأليف. أو نكون أمام طريقة خاصة بالانجيليّ كما في المعترضة 4: 9 (فاليهود لا يخالطون السامريين).
وهناك عبارة "وحصل هذا" التي تستعيد تعليمًا أو خبرًا. فهي في 1 :28 (وقد جرى ذلك في بيت عنيا) تختتم حدثًا رسميًا هو لقاء يوحنا مع موفدي اليهود. وفي 2: 11 تتيح لنا أن نركّز انتباه القارئ على إيمان لم يُذكر في الخبر. وفي 59:6 تؤمّن وحدة الخطبة السابقة (ذلك ما فاه به يسوع وهو يعلّم في المجمع، في كفرناحوم).
ودرس بعضُهم التصالب والتعاكس في إنجيل يوحنا. وانطلق آخرون من التضمينات معتبرين أن ف 13-17 وحدة متكاملة. ولكن المشروع كان أكبر من أن تحوشه مثل هذه الدراسات. وطبّقت فئة ثالثة "النقد السرديّ" على إنجيل يوحنا. توقّفت عند النصّ كأنه قطعة أدبيّة وحسب. ولكن النصّ ليس فقط حامل مدلولات، بل هو يحاول أن يحرّك جوابًا لدى القارئ: إعجاب، صدق، فضيلة.
اهتمّت النصوص السرديّة بالقارئ. فما انحصر التفسير بنتائج البحث التاريخيّ (علم الفقه، علم الآثار، علم الاجتماع) التي يفرضها دومًا، بل أراد أن يكتشف يسوع التاريخيّ أو المسيرة التاريخيّة لتدوين الاناجيل، أو لاهوت الانجيليّ. أراد أن يبيّن علاقة الراوي بالقارئ. فكيف توصّل إلى ذلك؟
بدأ فميّز بين ما يقوله النص والطريقة التي بها يقوله. كما ميّز بين الخبر والخطبة. فالذي يروي الخبر هو الراوي (وهنا التلميذ الحبيب). ويجب أن يميَّز صوت الراوي من كاتب النصّ الحقيقيّ والكاتب الضمنيّ (صورة الكاتب كما يتصوّره القارئ انطلاقًا من النصّ). الراوي هو الصوت الذي يروي التاريخ. أما الكاتب الضمني فلا صوت له. إنه من صنع القارئ.
ويروي الراوي التاريخ لقارئ "ضمنيّ" نميّزه من القارئ الحقيقيّ. فالقارئ الضمنيّ (مثالي. أو نحن نُسقطه) يستطيع أن يعطي معنى للنصّ ويراعي لطائفه. كما يملأ فجوات النص ويدرك الممازحة ويفهم الرمزيّة، مستندًا إلى شروح يعطيها النصّ من هنا الاساليب الادبيّة التي تميّز "التفسير الضمني". وهي ثلاثة: سوء التفاهم. الممازحة والنكتة. الرمزيّة.
يدرس القارئ اللغز وسوء التفاهم في إطار التاريخ التدوينيّ وحين تلتبس العبارة اليوحناويّة، ولكن لا ننسى أننا أمام زمنين في القراءة. والطريقة الامثاليّة هي وجهة من الوحي. لهذا، حين نتوقّف عند "سوء التفاهم"، لا نرى إلاّ وجهة واحدة من النصّ، وجهة النتيجة لدى القارئ الحقيقيّ (اليهود في زمان يسوع). ساعة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار القارئ الضمنيّ الذي يتوجّه إليه الراوي. لهذا تحدّث آخرون عن الممازحة والنكتة حيث نفصل بين الواقع الذي يعرفه القارئ والظاهر الذي يحسبه "الحاضرون" واقعًا.
وقد تكون الرمزيّة صيغة خاصة من الممازحة. وقد حاول بعضهم أن يقرأ يو قراءة رمزيّة. في أي معنى؟ لا تقوم العمليّة الرمزيّة في أن نكتشف معنى خفيًا في الصورة المستعملة، بل أن ندخل أيضًا في شراكة مع الكاتب ومع اليهود العائشين في زمن يسوع. وقد فُتحت طريق في هذا المجال تدلّ في أي معنى يستطيع القارئ أن يتماهى مع الحاضرين في الخبر. وكان تطبيق على قراءة غسل الأرجل كرمز للضيافة الافخارستيّة.
ج- المقاربة السيميائيّة أو الرموزيّة
حاول الشرّاح أن يقرأوا انجيل يوحنا قراءة محض سيميائيّة. تركوا النظريات، وقرأوا على التوالي يو 13-18؛ 7-12؛ 1-6. لاشكّ في أننا أمام نهج يحمل الكثير من الثمار.
هناك أنماط من الاسلوب السيميائيّ. انطلق الالمان من العالَم الفرنسي، ولكنهم عادوا إلى العالم الاميركي. ودرس بعضهم ف 8 فشدّدوا على عجز هذه النظرية عن شرح حركة التبادل بين يسوع واليهود وكأنها سلسلة من "سوء الفهم". واعتبر آخرون أننا في الواقع أمام لافهم عميق: فبين يسوع واليهود ليس من سبيل إلى الاتصال والتفاهم.
رفض عدد من الشرّاح التكامل بين الأساليب المختلفة. كما رفضوا العمل التلفيقي الذي فيه نأخذ ناحية من هنا وناحية من هناك لنجعل منهما مزيجًا. فعلى كل نهج أن يسير في خطّه. وكل ما نستطيع أن نفيد منه هو على مستوى التطبيق والعمل البيبلي الرعائي. وقال آخرون: يجب أن نبدأ دومًا بالمقاربة السنكرونيّة لنصل فيما بعد إلى المقاربة الدياكرونيّة. ولكن هناك أساليب على المستوى السنكرونيّ. ثم لا ننسى أن المقاربتين تحملان الفوائد والمخاطر. فالمقاربة الدياكرونيّة لا تتوصّل دائمًا إلى تفحّص معنى النصّ الحالي. وتكمن صعوبتها في اختيار المعايير التي تحدّد الوثائق المستعملة. أما مخاطر المقاربة السنكرونيّة فتكمن في تجاهل تجذٌّر النصّ في التقليد السرديّ فتصل بنا إلى الخيال وتبعدنا عن الواقع.

خاتمة
كان بإمكاننا أن نتوقّف عند بنية الانجيل وما تلقّت من دراسات، ولا سيّما في ما يخصّ التتابع بين ف 5 وف 7 اللذين يقطعهما ف 6. أن نتوقّف عند النظريات اللاهوتيّة ولاسيّما على مستوى الكرستولوجيا والآيات والشهادة. أن نتوقّف عند الفاسير العديدة ولاسيّما في اللغة الالمانيّة. كل هذا يدلّ على أن دراسة انجيل القديس يوحنا لم تتوقّف، بل هي تعرف على مشارف الألف الثالث انطلاقة جديدة تدعونا إلى الغوص في هذا الانجيل لكي نكتشف كنوزه، كنوز النور والحياة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM