الفصل التاسع عشر: لصُّ اليمين أو أوّل الدّاخلين إلى الملكوت

الفصل التاسع عشر
لصُّ اليمين
أو أوّل الدّاخلين إلى الملكوت

لا تذكر لنا الأناجيل الشيء الكثير عن لصّ اليمين: أربع آيات في لوقا، آية واحدة في متّى، نصف آية في مرقس، ولا شيء في يوحنا. وفوق ذلك يدمج متّى ومرقس اللصين في جماعة المستهزئين الذين يضحكون على يسوع. أمّا لوقا الذي أنشد مراحم الله، ولاسيّما تجاه صغار القوم والخاطئين، فقد أوضح لنا الأمور وأرانا في لصّ اليمين أوّل الداخلين إلى الملكوت.
نحن نجهل كل شيء عنه وعن نوعيّة جريمته. هل كان سارقًا وناهبًا كهؤلاء الذين تعوّدوا أن يكمنوا في الطريق للحجّاج الآتين إلى أورشليم؟ هل كان واحدًا من الذين يقاومون الاحتلال الروماني مثل برأبّا وغيره، ولاسيّما وأنّ الرومانيين اعتادوا أن يسمّوا الثائرين على حكمهم لصوصًا؟
وحاولت الأخبار اللاحقة أن تعطيه اسمًا فكان دسماس وغيره، وأن تجد لديه بعض الأعمال الصالحة لتبرّر دخوله إلى الفردوس. ولكنّهم نسوا رحمة الله التي تجعل الأوّلين آخرين والآخرين أوّلين، وتؤمّن للزناة والعشّارين مكانًا في ملكوت السماء لا يصل إليه الكتبة والفرّيسيون والذين يعتدّون ببرارتهم وقداستهم.
الكنيسة اللاتينية نسيت بعض الشيء لص اليمين فلم تحتفظ إلاّ أبرشية ليون بفرنسا بقداس إكرامًا له. ولكنّ أصحاب الليتورجيا يشمئزّون بقولهم: كيف نكرّم مثل هذا اللص؟ وينسون أنّ يسوع نفسه طوّبه قدّيسًا. ولكنّ الكنيسة الشرقية تختلف عن أختها الغربية. فالليتورجيا المارونية تتذكّر لص اليمين يوم الجمعة العظيمة وتضيء شمعة قرب المصلوب لتدلّ على حضوره قرب سيّده. أمّا الكنيسة الأرثوذكسية فتفرد له مكانًا خاصًا وتصوّره في الكنائس على أحد الأبواب الملوكية. ونراه في بعض الأيقونات وحده في الفردوس الذي ما زال فارغًا. بينما يسوع القائم ما زال يعمل على تخليص أبرار العهد القديم: يخرج آدمُ من قبره، وتسجد حوّاء وهي مشدودة إلى المخلّص، ويتقدّم طواف الأنبياء وعلى رأسهم يوحنّا. أمّا لص اليمين فهو هنا أوّل الواصلين وسط أشجار ترمز إلى الفردوس. لم يتسنّ له أن يلبس ثوب العرس، فظل في إزار المحكوم عليهم بالموت ولكن كان النور يشعّ منه.
سنتأمل في هذا اللص الذي "سرق الفردوس"، ونردّد كلماته وكلمات يسوع عائدين إلى النص الانجيلي نشرحه، وإلى الآباء نستلهمهم، وإلى تقليد الوعّاظ نتعلّم منهم البساطة الإنجيليّة.


1- عودة إلى الانجيل
أ- نظرة شاملة
ونعود إلى الانجيل الذي يفتح أمامنا نحن الخطأة باب الرجاء. ونقرأ بصورة خاصة المقطع عند القدّيس لوقا (39:23-43) الذي يعود إلى ما كتبه متّى (27: 44: وكان اللصّان المصلوبان معه هما أيضًا يعيّرانه مثل ذلك) ومرقس (15: 32 ب: وكان اللصّان المصلوبان معه هما أيضًا يعيّرانه) بطريقة مختصرة: لم يعيّر المصلوبان معًا يسوع بل واحد منهما (لو 39:23). أمّا الآخر، فتقبّل عقابه وأعلن أنّ يسوع اتّهم ظلمًا، وتلا صلاة تفرض أنّه عرف المسيح في ذلك المصلوب. قال لوقا: وأخذ أحد المجرمين المعلّقين على الصليب يشتمه ويقول: "ألست أنت المسيح؟ فخلّص نفسك وخلّصنا". فانتهره الآخر قال: "أما تخاف الله وأنت تعاني العقاب نفسه؟ أمّا نحن فعقابنا عدل لأنّنا نلقى ما تستوجبه أعمالنا. أمّا هو فلم يعمل سوءًا". ثمّ قال: "أذكرني يا يسوع حين تجيء في ملكوتك". فقال له يسوع: "الحق أقول لك: ستكون اليوم معي في الفردوس".
في الآيتين 42-43، نجد نصًا مختلفًا في النسخة الغربية: والتفت نحو الرب وقال له: "أذكرني يوم مجيئَك". فأجابه يسوع وقال له: "كن على ثقة، ستكون اليوم معي في الفردوس". إنّ النصّ الغربي يبدو متأخّرًا عن النص المعتمد بسبب وجود كلمة "الرب" و"كن على ثقة". ولكنّ الذي وضع هاتين الكلمتين أراد أن يُدخل تأمّله في النص الإنجيلي، فأعلن أنّ يسوع هو الرب وهو القادر أن يفعل، وأنّ على اللص أن يثق بيسوع ثقة تامّة.
يبدأ المقطع الذي نقرأ فيه آيات اللص بالآية 32 ب: "وسيق معه إلى القتل مجرمان". وينتهي بكلام يسوع إلى لص اليمين: "ستكون اليوم معي في الفردوس". نحن في الطريق الموصل إلى مكان الصلب. في هذا المقطع يتساءل الانجيلي: من هو هذا الرجل الذي يموت بين لصّين؟ فبطرس الذي اعترف به "مسيح الرب" لم يتبعه إلى الجلجلة حيث يُطرح هذا اللقب جذريًا على بساط البحث. أمّا الكتابة فوق الصليب فقالت: هذا ملك اليهود. أمام هذه الكتابة تصرّف الحاضرون بطرق مختلفة. هناك من لجأ إلى التعيير والشتيمة، وهناك من آمن ورجا. وبين الاثنين يقف الشعب منتظرًا. أمّا يسوع فليس باليائس ولا بالصامت. ويورد لنا القدّيس لوقا ثلاث كلمات ردّدها المصلوب فأظهر ثقته الداخلية بالله ثقة لم يزعزعها شيء. تشير الكلمة الأولى إلى الجنود الذين جاؤوا ينفّذون الحكم في ثلاثة أشخاص حُكم عليهم بالصلب. فهم لا يناقشون هل كانوا على خطأ أم لا، بل يقومون بعملهم. يقول عنهم يسوع: إغفر لهم يا أبت لأنّهم لا يدرون ما يعملون (23: 34). فيسوع الذي هو ضحيّة ظلم عظيم، والذي يتحمّل عذابًا مرًا، يجد القوّة في أن يضع موضع العمل المتطلّبات السامية التي وضعها فيما يخصّ المغفرة ومحبة الأعداء: "صلّوا للذين يفترون عليكم" (6: 28). ولكن من خلال الجلاّدين الجاهلين، يطلب يسوع المغفرة لكل المسؤولين عن موته بمن فيهم رؤساء اليهود الذين افتروا عليه وهم الآن يهزأون بضعف ملكه. فهم عميان متعصّبون لا يعرفون ما يصنعون، ويحسبون أنّهم يخدمون الرب وهم في الواقع أعداؤه. فهذه الكلمة الأولى الموجّهة إلى الآب، تدلّ على حريّة يسوع الداخلية مع أنّه مقيّد، وعلى قوّته الروحية التي تحطّم دائرة البغض وروح الانتقام التي تحيط به. وهذا لعمري هو انتصاره الحقيقي على قوّة الظلمة.
أمّا الكلمة الثالثة فهي خارج المقطع الذي ندرسه: "يا أبت، في يديك أستودع روحي" (23: 46). ونعود إلى قلب المقطع وفيه الحوار بين لصّ اليمين ويسوع. من الواضح أنّ الموضع التعليمي هو الجواب لمسألة طرحها تنفيذ الحكم بيسوع: هل نقدر أن نعلن أنّ هذا المصلوب هو المسيح وهو الملك ابن داود؟ أجل، ستظهر أفكارُ القلوب الخفيّة عند الصليب.
ونقرأ ثلاث كلمات: تهكّم، سخر، شتم. ونفهم موضوع هزء الرؤساء والجنود واللص الأوّل: إن كان المسيح (الملك) فليخلّص نفسه. وهنا نتذكّر كلام الإنجيل: تقولون لي: أيّها الطبيب طبِّب نفسك (4: 23). ونزيد: أيّها المخلّص خلّص نفسك. "خلّص آخرين فليخلّص نفسه إن كان مسيح الله المختار" (23: 35). وتُطرح الأسئلة ثلاث مرّات بطرق مختلفة: إن كان المسيح... إن كنتَ ملك اليهود... أما أنت المسيح... وهذه الأسئلة تبدو كصدى لكلام الشيطان حين جرّب يسوع: إن كنتَ ابن الله: "إن كنتَ ابن الله فقل لهذا الحجر فيصير رغيفًا... إن كنتَ ابن الله فألق بنفسك من ههنا إلى أسفل" (3:4، 9).
إذًا نحن أمام المحنة الأخيرة التي يواجهها بطلٌ شرعَ لوقا يروي حربه وانتصاره. فحين يتخلّى عن تخليص نفسه، يتغلّب بصورة نهائية على خصم خلاصنا، وهذا الخصم يعمل من خلال ما يعمله البشر بيسوع منذ توقيفه. ولقد أعلن هو بنفسه: "تلك ساعتكم، وهذا سلطان الظلام" (53:22). ولكنّنا رأيناه في جبل الزيتون يتجاوز المحنة الداخلية، ويقتني في الصلاة القوّة الضرورية ليبعد التجربة العظمى، ويُتمّ إلى النهاية إرادة أبيه. وحين جاءت الإيعازات الهازئة تدعوه لأن يُظهر قدرته، اكتفى يسوع بالصمت.
فما هي طبيعة ملك المسيح؟ هل نقدر أن نعترف بمسيح (بملك) مصلوب؟ أما هناك تناقض في الكلمات؟ هنا يقحم لوقا بعض آيات خاصة به عن اللص الثاني: جواب إلى اللص الأوّل الذي يهزأ بيسوع، طلب إلى يسوع أن يذكره عندما يأتي في ملكوته، جواب يسوع إلى اللصّ بأنّه سيكون معه اليوم.
ونتساءل: هل من المعقول أن يتعرّف مصلوب إلى مصلوب آخر مثله ويسمّيه الملك الحقيقي الذي يقدر أن يستقبله في مملكته بعد الموت؟ إنّ تفتّح مثل هذا الإيمان سرّ عميق سوف نبحث عمّا يحتويه.
بالنسبة إلى لوقا، يمثّل اللص الأوّلى الشعب اليهودي العديم الإيمان، الذي يرذل مسيحه ويتشكّك ويهزأ بذلك المصلوب. قال له اللص الثاني: أما تخاف الله؟ وأعلن براءة يسوع بكلمات قريبة من كلمات بيلاطس: لم يعمل سوءًا. وإذ قبلَ عقابه على أنّه عادل، طلب غفرانًا لا يقدر أن يعطيه إلاّ ملك الملوك والقاضي السامي الذي يدين في نهاية الأزمنة: "أذكرني يا يسوع حين تجيء في ملكوتك". هذه الصلاة تجمع في ذاتها صلاة المساكين الذين سمعوا التطويبات.
وهي تتضمّن رجاء عظيمًا نبت من اختبار القيامة. وهكذا وصلنا إلى الجواب الأخير المتعلّق بهويّة يسوع الناصري. إنّ اعتراف بطرس (أنت مسيح الله) قد عارضه شك الصليب ونكران المعترف الأوّل (بطرس) وتشكيك الشاهدين الأوّلين للمأساة. وها هو الآن يظهر منتصرًا بلسان أوّل معترف بالمسيح المصلوب. ولهذا تدوّي الكلمة الثانية التي تلفّظ بها يسوع على الصليب. "ستكون اليوم معي في الفردوس". وهنا نفهم موضوعًا آخر تطرّق إليه لوقا: إنّ يسوع تضامن في انحداره مع كل المنبوذين، وسيستقبل في مجده كل الذين يرجون عونه مثل لص الجلجلة هذا الذي هو آخر صورة عن المساكين الذين ينالون بشرى الخلاص وقبل الجميع.
نتوقّف هنا على صلاة اللص وجواب يسوع لها.
ب- أذكرني يا يسوع حين تجيء في ملكوتك
ولكن كيف يذكر يسوع اللص وهو في ساعة النزاع والموت؟ ينتظر أن يذكره حين يصير ملكًا. ولكن متى؟ هنا نجد نفوسنا أمام تناقض من وجهة نظر الايمان اليهودي. فالنظرة إلى موت قريب مخجلٌ تناقض مناقضة تامّة ملك يسوع المسيحاني. فعندما يجيء المسيح يُظهر قدرته إظهارًا باهرًا، يتُمّ خلاص بني اسرائيل. فموضوع موت المسيح غائب كليًا من اللاهوت اليهودي. ولهذا فتعبير اللص الأوّل وشتائم سائر الحاضرين كان منطقيًا في الفكر اليهودي: لقد مات يسوع وما استطاع أن يخلّص نفسه فوضع حدًا لحلمه المسيحاني. لو استطاع أن ينزل عن الصليب فيبيّن قدرته ويخلّص اللصين المعلّقين عن شماله ويمينه! ولكنه لم يفعل. وهكذا بدا أنّ مغامرته انتهت.
فماذا يرجو لص اليمين بعد؟ ولكنّه عاد إلى مجيء المسيح المنتصر في ملكه بعد الموت، فانتظر العالم الآتي الذي هو أوّل موضوع لرجاء اسرائيل.
كيف بدا العالم الآتي في النظرة اليهودية؟ هو عالم متجلٍّ لا يكون فيه أثر للشر وتسبق مجيئَه قيامةُ الأبرار (رج دا 12: 2-3). هذا من جهة. ومن جهة ثانية يرتبط مُلك المسيح بالعالم الحاضر: يحرّر شعب الله ويتغلّب على أعداء الله فينظّم هنا وضعًا يساعد على مجيء العالم الآتي.
ولكنّنا نفهم طلب لص اليمين إذا عرفنا أنّ مجيء المسيح في ملكه يكون في العالم الآخر. تكون دينونة الله، ويقوم المسيح بهذه الدينونة، ويتطابق ملكه المجيد مع ظهور العالم المتجلّي. وتكون قيامة للأبرار الذين يشاركون في هذا الملك وفي الفرح المحفوظ للمختارين. هذه النظرة تتوافق مع ما نقرأ في سفر أخنوخ المنحول وفي كلام الرسل: "ربّنا أفي هذا الزمان تعيد الملك إلى اسرائيل" (أع 1: 6). فالقيامة تعني أن يجلس المسيح على عرش مجده فيحقّق لشعبه الخلاصَ المنتظر. هل نحن أمام ملك أرضي أو تدشين لمجيء آخر؟ العالمان يتداخلان، والعبور من الواحد إلى الآخر يتمّ بصورة تدريجية وكما لو كان ملك المسيح المجيد سيجلب معه قيامة الأبرار والدينونة الأخيرة. في هذا المعنى نفهم طلب لص اليمين: "أذكرني يا رب حين تجيء في ملكوتك". ما هي طبيعة هذا الحدث؟ تبقى غامضة، وكل ما نعرفه هو أنّ هذا الحدث سيجيء. فقد أعلن يسوع خلال حياته على الأرض بشارةَ الملكوت، وبيّن أكثر من مرّة أنّه آت قريبًا (مر 1: 15)، بل هو حاضر (لو 17: 20). وتطواف الشعانين ظهر كأنّه تتويج للمسيح (مر 11: 9-10). فإن بدت ساعة الصليب وكأنّها تعارض هذا الظهور السابق لأوانه، إلاّ أنّ يسوع لم ينكر يومًا رجاءه بأن يرى مجيء ملكوت الله الذي هو أيضًا ملكوته. ولقد أورد لوقا وعد يسوع للاثني عشر: "أنتم ثبتم معي في محني، وأنا أوليكم الملكوت كما أولاه لي أبي، فتأكلون وتشربون على مائدتي في ملكوتي، وتجلسون على العروش لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر" (لو 22: 29-30). في هذا الإطار نقرأ طلب اللص مع العلم أنّ البشارة وصلت إلى الخلاص أيضًا.
ج- اليوم تكون معي في الفردوس
ولكنّ جواب يسوع يبدو وكأنّه ينفصل عن هذه النظرة، فهو يُحِّل محل النظرة المستقبلية رجاء يتحقّق في الحال. "اليوم تكون معي في الفردوس". اليوم هو يوم موت يسوع، وهذا أمر مهم في نظر الانجيلي. ولكن قبل أن نتفحّص العلاقة بين موت يسوع وخلاص الخاطئ التائب، نودّ أن نحدّد بعض العبارات التي وضعها الانجيلي في فم يسوع. إنّها تدلّ على نظرة لاهوتية إلى عالم ما وراء القبور لا نفهمه إلاّ في إطار الأفكار اليهودية في ذلك الزمان.
كان الرأي العام النابع من الأسفار المقدّسة يرى أنّ كل الموتى لهم المصير الواحد: فالأبرار والخطأة ينزلون إلى الأماكن السفلى (الشيول في العبريّة: أي مثوى الأموات) فيرقدون الرقاد الواحد. ودخل مع سفر دانيال رجاء جديد يرى الأبرار الذين ماتوا في سبيل إيمانهم يقومون من هذا الرقاد الكئيب ليشاركوا في ملك الله الاسكاتولوجي (دا 12: 2). شقّت الفكرة مسيرتها. فانتظرت الحلقات اليهودية قيامةَ الأبرار وخروجهم من الشيول. ولكنّ ذلك سيتمّ في الدينونة الأخيرة. فماذا يحدث للموتى في هذا الوقت؟ هذا سر لا يعرفه الانسان إذ لم يصعد أحد من الشيول ليخبر الأحياء بما يحدث هناك. من أجل هذا لجأ الكتّاب إلى الصور والرموز ليعبّروا عن عالم الماورائيات.
هنا نعود إلى اللغة الرمزية. فحين نتكلّم عن الله نتصوّره في السماء محاطًا بحاشية من الخدم، ينظر من العلاء إلى البشر أو يظهر في بهاء العاصفة الرهيب (مز 18: 8-15). وإذا تصوّرنا حالة السعادة التي لأجلها خلق الله البشر والتي تعارض وضعنا الحاضر، نتخيّل الإنسان الأوَّل الذي وضعه الخالق في جنّة عدن حيث قضى حياة حميمة مع الله وتسلّط على سائر الخلق (تك 2: 4 ي). والأمر هو هو حيث نريد أن نفهم اختبار الموت وما يليه. فالشيول، موضح الأموات، هو صورة رمزية لا نستطيع أن نتخلّص منها، ويجب أن نفهم حقًا ما يعني بها الكاتب عندما يتحدّث عنها.
ولنا في مثل لعازر والغني (لو 16: 19- 31) صورة عن الآخرة تساعدنا على تهيئة المسرح الذي سيتحرّك عليه الممثّلون: "ومات المسكين فحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم. ثمّ مات الغني ودُفن. فرفع عينيه وهو في الجحيم يقاسي العذاب فرأى ابراهيم عن بعد ولعازر في حضنه. فنادى: إرحمني يا أبت ابراهيم، وأرسل لعازر ليبلّ طرف إصبعه في الماء ويبرّد لساني فإنّي أعاني أشدّ العذاب في هذا اللهيب. فقال ابراهيم: يا بنيّ، تذكّر أنّك نلت خيراتك في حياتك ونال لعازر بلاياه. أمّا اليوم فقد نالت العزاء وأنت نلت العذاب. ومع ذلك فقد أقيمت بيننا وبينكم هوّة عميقة حتى إنّ الذين يريدون الاجتياز من هنا إليكم لا يستطيعون، ولا الذين هناك يستطيعون الاجتياز إلينا (لو 16: 22- 26). إنّ لهذه الصور المكانية وانتقال الفقيدين والحوار معنى لاهوتيًا، وهذا ما لا شكّ فيه. ولكن يجب علينا لندركه أن نتجاوز التصوّرات الصرف ونفسّرها في نظرة حياتية. في هذا الإطار نفهم جواب يسوع للّص: "ستكون اليوم معي في الفردوس".
أمّا مثل لعازر والغني فقد كُتب على ضوء التصوّرات اليهودية المعروفة في القرن الأوّل المسيحي: نزل الغني إلى الجحيم (الشيول) حيث يقاسي عذابه، وحملت الملائكة لعازر إلى حضن ابراهيم أي إلى الفردوس الذي انتقل إليه ابراهيم والذي يقيم فيه إلى أن يأتي اليوم العظيم. إذًا يقيم الفقير مع ابراهيم مكرّمًا.
ويستعمل يسوع مع اللص اللغة الرمزية عينها: "ستكون اليوم معي في الفردوس". فالعبارة تفرض أنّه حين يسلم يسوع روحه لله (لو 23: 46) يذهب إلى الفردوس مثل ابراهيم والآباء، ويرافقه اللص إلى هناك. ولا ننسى أنّ هذا الفردوس ليس السماء بالمعنى الذي نعطيه اليوم لهذه الكلمة. فهو المكان الذي ينتظر فيه الأبرار القيامة والدينونة والعالم الآتي. فلقد كلّم يسوع اللص كلامًا يقدر أن يفهمه. وتحدّث اللص عن مجيء يسوع القريب في ملكوته المسيحاني فحدّد يسوع النظرة الاسكاتولوجية المنفتحة وما احتاج إلى القول إنّ موضوع الفردوس يتضمّن تلميحًا إلى القيامة ينتظرها هو. وهكذا ترتبط كلمته بتلك التي لمّح فيها إلى قيامته: "سيتألّم ابن الانسان ويُقتل ويقوم بعد ثلاثة أيّام" (مر 31:8).
اليوم تكون معي. نحن هنا في علاقات شخصية متبادلة. فحرف الجر معي المستعمل في الكلمة اليونانية لا يعني مرافقة بسيطة بين شخص وآخر، بل هو مشاركة وثيقة وحياة نتقاسمها واتّحاد في مصير واحد. هنا نتذكّر أقواله المزمور 73: 23-24: "وأنا معك في كل حين. تمسك بيدي اليمنى وتقودني بمشورتك ثمّ تأخذني في المجد". بعد هذا، لم يعد يتطلّع المرتّل إلى خيرات الأرض. "فمن لي في السماء سواك؟ ومعك لا رغبة لي في شيء على الأرض" (مز 73: 25).
نصل هنا إلى الموضوع الجوهري في المواعيد الإلهية: الله معنا ونحن معه. هذا هو معنى العهد الجديد الذي جاء يسوع يحقّقه والذي سيتفتّح فيما بعد تفتّحًا أبديًا (رؤ 3:21) ولكنّ وسيط هذا العهد الجديد لا يبقى خارج سرّ الاتّحاد الإلهي الذي يتمّ به. فهو الابن وهو في بشريّته الفردية "الله معنا" (مت 1: 23). فلن نتعجّب إن رأينا إنجيل يوحنّا يحدّد علاقاته مع الآب بالعبارة التي نقرأها هنا: "الذي أرسلني هو معي ولا يتركني وحدي لأنّني أصنع دومًا ما يرضيه" (يو 8: 29). "لست وحدي، فالآب هو معي" (يو 16: 32). نكتشف هنا سرّ يسوع بكلام يدلّ على اختباره الحياتي، وهي الخبرة التي تسمح له أن ينادي الله "أبّا" بإلفة مدهشة.
فإذا كان حضور الله الحميم يطبع وجود يسوع نفسه، فكيف لا يتضمّن دخوله في علاقات حميمة مع البشر مضمونًا دينيًا يتجاوز علاقات التلميذ بمعلّمه والنبي بسامعيه؟ فقد قال مرقس: "أقام الاثني عشر ليكونوا معه" (مر 3: 14). أمر بسيط وحضور مشعّ لرفيق ندرك فيه حضور الله قبل أن نعرف من هو. وسيُسند بطرس الشهادة الرسولية إلى مشاركة الاثني عشر حياة الرب قبل الآلام وبعد القيامة. "نحن الذين أكلنا معه وشربنا معه بعد القيامة من بين الأموات" (أع 41:10).
والحياة مع يسوع تكون في نهاية الأزمنة، بل هي منذ الآن وفي كل أوان. قال يسوع: "ها أنا معكم كل الأيّام وحتى نهاية العالم" (مت 28: 20). ويقول بولس: متنا مع المسيح ودفنّا مع المسيح وسنقوم معه ونصعد معه إلى السماء. وأعلن في الرسالة إلى فيلبي (23:1): "أتمنى أن أمضي لأكون مع المسيح". وفي الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي قال (4: 17): "نكون مع الرب كل حين". وهنا نجد ما قاله يسوع للصّ اليمين ونفهم أنّ الكلمة "تكون في الفردوس" أو "تكون مع المسيح"، تعني الشيء ذاته. فالأولى نقرأها في لغة رمزيّة والثانية في لغة حياتيّة.

2- شروحات الآباء
تساءل الآباء: ما هو هذا الفردوس الذي يعد يسوع اللص به؟ قالت أوغسطينس: هل تكلّم يسوع كإنسان؟ إذن يصبح الفردوس مكان سعادة مختلفًا عن السماء التي سيصعد إليها يسوع بعد ثلاثة أيّام. هل تكلّم كإله؟ إذن الفردوس هو حيث الله. وبما أنّ الله موجود في كل مكان، فالفردوس هو في كل مكان. "إذًا استطاع المسيح أن يقول وبحق: ستكون اليوم معي في الفردوس بما أنّه وجب عليه أن يكون في هذا اليوم بجسده في القبر وبنفسه في الجحيم، ولكنّه بحسب ثباته الإلهي لم يترك يومًا الفردوس لأنّه في كل مكان". وقال أيضًا في مكان آخر: "توجّه إلى نفس اللص وقال له: ستكون اليوم معي في الفردوس. هو لا يعطي هذه النفس الجحيم حيث يتعذّب الخاطئون. فإمّا أنّه يمنحها هذه الراحة التي هي حضن ابراهيم لأنّ المسيح حاضر في كل مكان بما أنّه حكمة الله التي تدرك كل مكان بسبب نقاوتها. وإمّا أنّه يمنحها هذا الفردوس الواقع في السماء الثالثة أو في أي مكان آخر والذي إليه خُطف القدّيس بولس، هذا إذا لم يعن شيئًا فريدًا يسمّى بأسماء متعددة: المكان الذي تقيم فيه نفوس الأبرار".
وترك أمبروسيوس التساؤلات وقال: "الحياة هي أن أكون مع المسيح. فحيث المسيح هناك الحياة وهناك الملكوت".
وميّز يوحنا فم الذهب في شرحه لسفر التكوين بين ملكوت السماء والفردوس، وخلُص إلى القول بأنّ الواحد هو الآخر: "سمّى يسوع الفردوس فعنى ملكوت السماء. استعمل اسمًا معروفًا ليحدّث اللص الذي لم يسمع بمسائل معقّدة. بما أنّ رجوع اللص إلى الهلاك لم يعد موضوع خوف، قال إنّه دخل في الفردوس. إذًا نفهم كلام يسوع بالمعنى العام، ولكنّ المفسّر حمّله مضمونًا مأخوذًا من اللاهوت المسيحي عن السماء".
وقال تقليد تناقله الآباء فوصل إلى القديس توما الأكويني والشّراح المعاصرين: "مثل رائع عن التوبة نبحث عنه، بما أنّ الغفران أعطي بسرعة إلى اللص وبما أنّ النعمة تتجاوز الصلاة لأنّ الرب يمنح دومًا أكثر ممّا نطلب. طلب هذا (اللصّ) أن يذكره الرب حين يجيء في ملكوته. فقال له الرب: ستكون اليوم معي في الفردوس. فالحياة هي أن نكون مع المسيح، وحيث المسيح فهناك الملكوت".
ويتوقّف الآباء عند صلاة اللص. فهذه أقصر الصلوات وأكملها، وكل كلمة لها قيمتها فلا تحلّ كلمة محلّها. أوّلاً: اسم يسوع الذي هو جوهري في كل صلاة مسيحية، إذ ليس من اسم آخر به نخلص (أع 4: 12). وما يدهشنا هو أنّ اللصّ لم يزد أي لقب على اسم يسوع. لا يقول المسيح ولا ابن داود. بل يناديه كما ينادي الصديق صديقه، أو كمن يصرخ طالبًا النجدة. ولكنّ هذا الاسم الذي أعطاه يوسف ومريم يدلّ على رسالة ابن الله، ومعناه: الله يخلّص. كلّهم يتكلّمون عن هذا المخلّص ويهزأون به. أمّا اللص فيتلفّظ به ويعلن إيمانه بمن يقدر وحده أن يخلّصه.
ثمّ تأتي على شفتيه كلمة تذكَّر، أذكرني. هو لا يطلب شيئًا إلاّ أنّ يذكره الربُّ ولا ينساه. هذه هي صرخة الحبيب يهتف بها حين يُفصل عن حبيبه. أذكرني حين تجيء في ملكوتك. هذا المصلوب المهان سيأتي، وسيكون ملكًا.
دهش يوحنّا فم الذهب فقال: "أي شيء غريب لم نسمع به! الصليب أمام عينيك (أيّها اللص) وأنت تتكلّم عن الملك. فماذا ترى لتتذكّر الكرامة الملوكية؟ رجل مصلوب، مجروح باللطمات، مثقل بالهزء والاتّهام، مغطّى بالبصاق، ممزّق بالسياط. هل هذه العلامات دلّتك على أنّه ملك"؟
ولكنّ اللص لا يتوقّف عند الظواهر، بل يرى بعين الايمان. هذا يعني أنّ نفس اللص الشريرة قد تحوّلت بقدرة المسيح المصلوب. قال أوغسطينس: "أي إيمان! لا أرى ماذا نستطيع أن نضيف إلى هذا الايمان. تشكّك الذين رأوا المسيح يقوم من بين الأموات. أمّا هو فآمن بذلك المعلَّق قربه على الخشبة. لقد آمن هو في الوقت الذي فيه تشكّكوا هم. أيّة ثمرة جميلة قطفها يسوع عن هذه الحطبة اليابسة؟ لنسمع ما أجابه به الرب: نعم، أؤكّد لك، ستكون اليوم معي في الفردوس. أنت تضع مهلة، أمّا أنا فأعتبرك الآن من أخصّائي. حين انتقل اللص من جريمته إلى القاضي، ومن القاضي إلى الصليب، هل كان ينتظر أنّه سينتقل من الصليب إلى الفردوس؟ ولهذا وعى ما استحقّه فلم يقل أذكرني لتخلّصني اليوم بل حين تصل إلى ملكوتك، حينئذ أذكرني ولو توجّبت عليّ عذابات إلى ذلك اليوم الذي ستصل فيه إلى ملكوتك. فقال الرب: لا، أنت دخلت بالقوّة ملكوت السماء وبالعنف، وآمنت فانتصرت انتصارًا رائعًا. اليوم ستكون معي في الفردوس. لن أؤخّرك إلى ما بعد. اليوم اليوم أريد لهذا الايمان العظيم ما يتوجّب له. قال اللص: أذكرني عندما تجيء في ملكوتك. هو لم يؤمن فقط أنّه (= يسوع) سيقوم بل أنّه سيملك. قال لهذا المعلّق والمسلوخ على الصليب والدامي والمشدود على الخشبة: عندما تجيء في ملكوتك. أمّا هم فقالوا: رجوناه. حين وجد اللص الرجاء خسره التلميذ".
ويعود أوغسطينس إلى هذه الفكرة مرارًا. أنكر بطرس الرب خوفًا من جارية، وأعلن اللص إيمانه وسط عذابات يقاسيها يسوع. علّق اللص على الصليب فاعترف بإيمانه، أمّا تلميذا عمّاوس فما زالا يشكّان حتى بعد شهادة النسوة عن القيامة. وسيردّد أوغسطينس فكرته أيضا في شرحه للرسالة إلى رومة: "يحيا البار من الايمان، ولكنّ المسيح يبرّر الشرير. ومتى يبرّره إلاّ حين يؤمن بقلبه ويعترف بفمه مؤمنًا؟ وهكذا آمن لص الإنجيل في قلبه وأعلن إيمانه بفمه. أجل حُرم من الحرية بكل أعضائه: سُمّرت يداه، ثُقبت رجلاه، عُلّق جسده كلّه على الصليب وبقي حرًا بلسانه وقلبه: آمن بقلبه واعترف بفمه".
ونعود إلى يوحنا فم الذهب: "إنطلق من الصليب نحو السماء. ما نسي مهنته كلصّ، فسرق باعترافه ملكوت السماء". وهذا الاعتراف هو اعتراف مؤمن جديد بالمسيح، ومؤمن تائب يقرّ بخطيئته. وهنا يتابع الذهبي الفم بلسان لص اليمين الذي يحدّث رفيقه: "نحن أيضًا على صليب. فالشتائم التي تقذفها عليه تصيبك قبله. فكما أنّ مَن يرمي على وجه الآخرين خطايا يبكّته عليها ضميره يحكم على نفسه بالدرجة الأولى، كذلك من يلوم الآخرين على شرّ حلّ به، يصيب نفسه أوّلاً بالشتائم التي يطلقها".
أجل أقرّ اللص بخطاياه وانتظر كل شيء من يسوع على الصليب. أذكرني أنا رفيق بؤسك، لا تنسني عندما تجيء في ملكوتك. متى؟ كيف؟ هذا لا يهم. "كان ينتظر خلاصه في البعيد واكتفى أن يتقبّله بعد مستقبل طويل وها هو يسمع الجواب: اليوم، اليوم. اليوم تكون معي في الفردوس. أمّا جواب يسوع فكان: لا حاجة إلى أن أتذكّر. الآن، بعد دقائق معدودة. لا حاجة أن أجعلك في فكري أو أن أبحث عنك في أي مكان. أنا آخذك الآن ونحن سننطلق معًا". وهنا قال يوحنا فم الذهب: "إنه لشرف كبير أن يدخل إلى الفردوس، وشرف أكبر أن يدخل إليه برفقة الرب".
وننهي أقواله الآباء هذه بمقطع من العظة الثانية عن الآلام التي وجّهها القدّيس ليون الكبير للمؤمنين: "فبعد هذه الصفقة الكافرة والبغيضة التي بها أسلم يهوذا فادي العالم إلى اليهود المضطهدين، وبعد هذا الهزء الدنس الذي رافق عطفه حتى مكان العذاب، صلبوا معه لصّين على صليبين وُضعا عن يمينه وعن يساره. أمّا أحد اللصّين الذي تشبّه برفيقه في كل شيء، الذي كان لصًا يعكّر أمن الناس بحيث استحقّ الصليب، فقد انقلب فجأة إلى معترف بالمسيح. فوسط عذابات الجسد والنفس المبرّحة التي يزيدها قرب الموت وصعوبته، تحول بفعل ارتداد عجيب وقال: أذكرني يا رب حين تجيء في ملكوتك. أيّة عظة أوصلته إلى مثل هذا الايمان؟ أيّ تعليم غرز فيه هذا الايمان؟ أيّ واعظ أشعل في قلبه هذا الايمان؟ هو لم يبدأ يرى العجائب. إنتهى وقت شفاء المرضى والنظر العائد إلى العميان والموتى الراجعين إلى الحياة. كل هذا حدث ولكنّه غاب الآن. ومع ذلك يعلن لمن يقاسمه العذاب أنّه الرب والملك. إذًا جاءته هذه الموهبة من النبع الذي منه تقبّل إيمانه الجواب. فيسوع قال له: الحق أقول لك، منذ اليوم ستكون معي في الفردوس. مثل هذا الوعد يتجاوز الوضع البشري وهو يعلن لا من على خشبة الصليب بل من على عرش القدرة. فمن هذا المرتفع نال الإيمان جزاءه وألغي دين العصيان البشري: فوضع العبودية لم ينفصل عن وضع الألوهة عندما حفظ وسط العذاب كلُّ من اللاهوت والناسوت صفاته في الوحدة".

3- تقليد الوعّاظ
تكلّم عن لص اليمين آباء الكنيسة، وتكلّم أيضًا هؤلاء الوعّاظ الذين لم يحفظ التاريخ اسمهم. كلّموا الشعب فعادوا إلى المخيّلة والشعر، فبينّوا أنّ الآخرين صاروا أوّلين، وأنّ الأشرار يسبقون الأخيار إلى الملكوت. في هذه العظات يتّخذ الكروب (الذي طرد آدم وحوّاء من الفردوس) موقف المعارضين الذي نقرأه في مثل العاملين في الكرم (مت 20: 12). ويتساءل الوعّاظ: كيف تمّ الدخول إلى الفردوس لهذا اللص الذي سرق أعظم كنز، ألا وهو الحياة الأبدية؟ أجل أعطى الرب المسيحُ اللصَّ مفتاح الفردوس ففتح الباب ودهش: أي مكان عظيم هذا، ولكن أين الساكنون؟
هنا أترك القارئ أمام نص منسوب إلى أفرام السرياني وُجد في اليونانية والجيورجية والعربية وهو ينقسم قسمين. القسم الأوّل (1- 5) فيه حديث لاهوتي يتساءل عن ينبوع إيمان اللص. والقسم الثاني (6-13) فيه شرح للكتاب يصوّر دخول اللص إلى الفردوس.
هذا النص نشره الأب ميشال فان اسبروك في مجلّة البولنديين الجزء 101 (سنة 1983) ص 351- 355. نقدّمه إلى القارئ بلغته البسيطة وأسلوبه الساذج.
المسيح الهي ورجاي والسيدة مارتمريم (= القديسة مريم) شفيعتي. ميمر للقديس ماري افرام على أوجاع الرب أو في أمر اللص.
1. تعالوا يا محبوبين سبحوا الرب الذي صُلب من أجل خطايانا. تعالوا انظروا ينبوع حياة الناس. تعالوا افتحوا حياة ليس لها فناء من كنز سيدنا الكثير. أمّة اليهود غليظة الاعناق. الأمة التي خلصت بيده القوية وبعضده العالي الشديد، الأمة التي مشيت على المياه كمثل البَرّ، الامة التي شبعت المن في البريّة، مجمع المنافقين، رضعوا المياه من صخرة، شديد نعما كافيتم رب المجد حين يضبتوه على الصليب الذي صنع فيكم هذه العجائب.
2. ما أمهلك أيه الضو الذي لا يصف حتى وعلى الصليب لص غيرك، اللص الذي كات عن يسارك حين قال: "إن كنت أنت ابن الله خلّص نفسك وأيانا من الموت". فأما اللص الآخر الذي كان عن يمين المسيح لم يقل شيء من هذا، ولكنه كان ينتهر صاحبه بتحاجر به ويقول: "اصمت وسد فمك أيها الأحمق ولا يتكلّم فاك النجس شيء آخر، أما شفى الله عمّا تكلمت على هذا الصديق المسيح الفاضل. فأنا نحن ليس كنا بأهل الحياة لأن أعمالنا كانت خبيثة على الأرض، فأما هذا الصديق صار حياة للموتى. هو لولا أنه أراد لم يموت البتة بمشيئته. أمكن منه لأنه غلب بكثرة رحمته، لأنه جاء يلتمس الهالك لمرثيته لخروفه الضال، ولذلك نزل من أعلا قدسه ومجدته ليخلص ويرحم التمثال الذي خلقه.
3. أي عجب ممجود يا إخوتي أحبا المسيح، لأن من أجل معصية آدم أغلق مدخل الجنة، ومنجل (= ومن أجل) أمانة اللص فتحت الجنة البهية. الذي كان يصنع الطرق لا تسلك، بكلمة فاه بوّب لنا الطريق الاخذة إلى جنات النعيم. اللص الذي كان ياوي المغاير بفخة تحت كنف الملك خلص. اللص الذي صنع القتل في الأرض بدم سيدنا المقدس قبل بركة الخلاص ينبع.
4. لك أيها اللص أن تسبح وتشكر أنت، ليس بشروبين ولا بالجمرة ولا بكلتين أشفيت قرحتك، ولكن هو سيد الشروبين والسرافين المسيح الله، ما أشد اقشعر زه هذا السر؟ كم باب فتحت لنا كلمة واحدة بأمانة؟ كيف بطرفة عين ارتفعت تطير من الأرض إلى السما؟ فلما بلغت دخلت في اسماع صباوث. اذكرني إذا جيت في ملكوتك. الملايكة وروسا الملايكة وقوات السما الاشراف والسلاطين نظروا وعجبوا من أمانتك، ايها اللص بهذه الكلمة انفتحت جنات النعيم.
5. صار حديث كثير بين الملايكة والصديقين منجل أمانة اللص. إن كيف أعطاه الرب ملك في غير حرص كثير؟ الملايكة قالوا للصديقين: هذا الذي منجله كان أشعيا يتنبا بالروح بهذا اللص تمت كلمة النبي المقدس حيث تنبأ وقال: مع المنافقين حُسب المسيح الذي قال لتلميذه. من استودا (= اعترف) بي بين يدي الناس استوديت أنا به بين يدي بي (= أبي) وملايكته. وحين آمن به اللص أمانة بلا شك ولم يعده إنسان إلاّ اله من اله العظيم الصادق أعطاه مفاتيح جنات النعيم وشبّهه بالملايكة. سبح لالهك ايها الخاطي على كل حال، كيف بطرف عين هذا العدوا الثقيل غلب الموت كيف بعلة أمانته نجا من ذلك العسكر العظيم.
6. فلما طار بلغ بطرفة عين وبسرعة إلى الجنة البهية. فلما بلغها اللص وفتح الباب فالتفت ها هنا وها هنا متعجب يقول. إيش هذه البلاد العظيمة بالجمال ليت شعري من سكانها، وأي تماثيل يحملونها. أدخل فيها ولكني افرق أحرك قدميه، ويأخذني الفزع إن أنا وثبت ودخلت في اسكفة الباب. اتقى= أخاف أن يتحسّسوا سكانه.
فبينما اللص يتفكر ماذا ينبغي له أن يعمل، جاه أحد الشروبيم وسأله قايلا. ماذا تصنع هاهنا، ايه الرجل الترابي؟ كيف أنت ميت وجيت إلى بلاد الاحيا؟ كيف استجريت (= تجرأت) أن تفتح الجنة؟ بأي سلطان فتحت الباب الذي أمرت أنا أن أحفظه وأدافع عنه؟ قد كان ينبغي لك، أيها الرجل، أن تقرع بريا على الباب وتستفتح لتدخل الجنة. أما تعلم أن في داخلها كنوز موضوعة للملك الكبير السيد الممجد؟ كل أكلة الصديقين البهية عندنا تحفظ. أليس تقدر أيها الانسان، أن تطا ممشانا. إن أنا تركتك، أيها الرجل سلطان آخر يمسكك ويسايلك. فإن كنت تريد أن تأخذ منا شي يسير، ليس تقدر، أيها الرجل، لأنا ساهرين متفقدين كل ساعة، وليس يقدر أحد من الناس يسرق ولا يأخذ منا شيء.
8. عند ذلك استجاب (= أجاب) اللص وقال للشروبيم: "أطلب اليك أن تسمع مني ولا تضجر. أمهل لي ساعة يسيرة في الاستماع مني، فإني قد سرقت كثير ما يسواه الدنيا، كتاب كتبه لي المسيح على الصليب اليوم، وأرسلني أن أتيك به، خذ كتابك أفتحه واقراه تحكم فيه. وكما يتكلّم فيه كذلك صنع معي برحمة".
9. فلما أخذه الشروبيم، قراه واستجاب الشروبيم وقال للص: "أول حرف في كتابك ابن ابراهيم كتب اسمك، وفي الحرف الثاني تفتح الجنة بدل آدم، وفي الحرف الثالث يمين حلفت له أنه اليوم يكون معي في الجنة من سماك بهذا الاسم المرتفع، ومن أين لك هذا السلطان الفخر العظيم وأن تأتي هاهنا تطير وتفتح الجنة؟ تعالى وافهم أن قدم رجل طبيعة الناسوت لم تدخل قط هاهنا، إلا قدم اثنين التي أخرجوا واحد لآدم والآخر لحوا زوجته. من تلك الساعة حيث أخرج آدم من الجنة البهية الممجودة، ليس أحد من الناس بالجسد نظر إلى صورتنا. قد جاوا هاهنا جماعة رجال أنقيا مومنين قد جا عساكر كثيرة من القديسين والصدّيقين، قد جا ابل (هابيل) هاهنا ونوح، فلما راوا لابواب مغلقة وقعوا. قد جا ابرهيم واسحق ويعقوب بني ابرهيم، قد جا يوسف بن يعقوب، قد جا موسى وداود الملك، قد جا أيوب الصديق كيف يسكنوا في الخيم مع القديسين والصديقين، ينتظرون مجي الرب الذي معه يدخلون في الحجلة مع الختم. انطلق الآن استريح مع القديسين لأنه ست الاف سنة هذا العالم الباطل ليس بسوا ساعة من يوم الرب".
15. فبينما الشروبين يتكلّم مع اللص، صاح صوت قريع في وسط الجنة ممتلي حلاوة ولذة روحانية، وبغفلة جا عسكر من الشروبين، وكلهم قالوا "ما هذا الأمر الذي كان أنك دعوتنا؟ فسِّر لنا ما الذي أصابك وأيش هذه الدعوة الحديثة التي سمعنا منك؟ ما هذه الدعوة الذي قلت. تعالوا بعجلة؟ قول لنا الذي أصابك حتى نسمع أجمعين أنت الذي دعوت تعالوا بعجلة. لا يكون أحد من الناس جا سرقك؟ أخبرنا لا يكون ابنا الترابي متفقين جاو هاهنا ليخذوا فيضة طبية ومتعه مرتفعة؟ لا يكون أحد من عساكر القديسين جاك الذين بالدموع يسرقون الملكوت"؟ واستجاب الشروبيم قايلا لهم "علمتم جميعا لأي شيء دعوتكم. رجل من الناس أرسل إلينا ها هنا، ومعه سجل ومفاتيح جنات النعيم. تقدموا اعلموا منه اليقين".
11. فلما تقدموا اليه كل أوليك العساكر الذين لا يموتون، بدوا يسايلوا ذلك الرجل قايلين له: "أخبرنا يا أيها الانسان ما اسمك؟ وكيف جيتنا بلا فزع؟ ومن الذي جاتك (= جاء بك)؟ عجب كبير وسر عظيم مقشعر كيف بمشيئتك مشيت هذه الطريق الفزعة. لأن النسور لا يقدر تطير علينا." وقالوا له: "كيف الآن استمسكت حتى جيت إلى الجنة البهيه؟ لعل سحابة حملتك على جناحيها؟ أو كلمة اللاة اختطفتك ووضعتك ها هنا؟ لأن الأمر الذي صابك عظيم لأن رجليك ليس بمغيرة راسا".
12. فلما سمع اللص هذه المسلة الطيبة تشدد روحه. حينيذ جعل يخذ بهم ويفسر لهم كيف أتاهم بخطفة، فقال لهم: "اسمعوا أيها العساكر المقدسة، اسمعوا من صوتي وأقول كيف أتيتكم. بإذن لي سلطانكم أن أتكلم بين يديكم أجمعين هذا الحديث الطيب المرتفع. شي بهي خرج من بلادكم الطيبة وجا إلى مسكنتنا، فبانفظاعي اليه وأمره جيت. أنا ابن الخروف، الذي سرق من بينكم، الذين أنتم بكيتم عليه إذ أخرج من هاهنا حين اخطا. فالراعي الذي خرج في طلبه فأخذه وحمله على عاتقه، ومحق ذكر اللعنة على الصليب. فأنا وحدي صبحت إليه كمثل خروف بغير راعي، وكمثل كبش طالب (= ضالّ). فسمعني الرحمن الرحيم الصالح وبسط جناحيه خطفني من فم ديب غاش خبيث الذي أراد أن يبتلعني. كتب الحكمة لم أتعلم راسا ووصية من شرايع موسى لم اتخذ. كلمة واحدة سمعت في صهيون من فم معلم صالح يقول: "كل من صار أبرص بكلمت يبرا". فلما سمعت أنا ذلك حمدت الرب الذي برحمته يشفى كثرة الخطايا. لست أنا بطاهر ولا بابن طاهر، ولا أيضًا من العالم الذي صاحوا اصلبوا اصلبوا. أنا من العالم خارج غريب. طلبة أطلب إليكم. اسمعوا أقوله لكم وأعلمكم الموهبة الذي وهب إلي المسيح. لأن من الاعمال لم اقتضى شي من الصدق. من الامانة وحدها رحمني المسيح الملك العظيم الحي. كلمة واحدة قلت للرب، وهو على الصليب. وهو أجابني كما أحب. أنا قلت: أنا أؤمن أنك أنت ابن الله. اذكرني يا رب في ملكوتك. وهو استجاب وقال لي: اليوم تكون معي في الفردوس الجنة الطيبة البهية. فبنعمته وبهاه ورحمة الرب صرت أنا كريم في كنيسته. فأنتم الآن لا تنثقلوا كلامي، أطلب إليكم وأعلمكم أنه سايكش ويمتلى مسكن الرب من العبيد الصديقين الذين يحرصون على تمام وصايا الرب".
13. فلما سمعوا كلامه المعجب، صاحوا بصوت واحد إلى اللص قايلين: "حقًا أنت صادق وحق هو الصدق الذي جيت به الينا مثل الابن التام من الاب التام المومن ابرهيم الصديق". من أجل هذا كله نسبح الآب والابن وروح القدس إلى دهر الدهرين آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM