الفصل الثامن عشر :ملكوت الله عند لوقا

الفصل الثامن عشر
ملكوت الله عند لوقا

1- نظرة عامّة
لا نتوقّف في دراستنا هذه عند الانجيل الثالث فقط. بل نصل إلى أعمال الرسل التي ترسم مسيرة الكلمة، مسيرة الكرازة الانجيلية، من أورشليم إلى رومة. كما استعمل الانجيلُ الثالث عبارة ملكوت الله، كذلك فعل سفر الأعمال. بل إن خبره ينتهي عند هذا الاعلان: "وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره. وكان جميع الذين يقصدونه يجدونه مبشّرًا بملكوت الله ومعلّمًا ما يختصّ بالرب يسوع بكل جرأة وحريّة" (أع 28: 35- 31). هذه الخاتمة تتجاوب مع المشهد الأولى في الخبر الذي فيه يذكر أع الاربعين يومًا التي فيها تراءى القائم من الموت لرسله "ويقول لهم ما يتعلّق بملكوت الله" (3:1). وهكذا كان سفر الأعمال مطبوعًا بهذا الملكوت منذ بدايته حتى نهايته.
أما إنجيل لوقا فيتميّز عن مت ومر حين لا يذكر في بداية رسالة يسوع الكرازة بالملكوت. وبدلاً من أن يقدّم في عبارة قصيرة ملخّص التعليم الذي دشّن رسالة يسوع، بنى مشهدًا أوليًا تامًا جعله في مجمع الناصرة، ولم يذكر فيه ملكوت الله. ولكن حين يترك يسوع كفرناحوم، سوف يعلن لأولئك الذين راحوا وراءه يطلبونه: "يجب أن أكرز أيضًا بملكوت الله في سائر المدن" (لو 43:4).
استعمل لوقا مرارًا عبارة "ملكوت الله"، ليدلّ على مضمون البلاغ الانجيليّ. وأسبقها بفعل "أنجل" (4: 43)، قال الانجيل، أعلن (9: 60)، كرز (8: 1)، شهد (أع 28: 23) قال (أع 1: 3). ونشير إلى أن عبارة "ملكوت الله" ترد 32 مرّة في لو و8 مرّات في أع. ويذكر لوقا مثلين يتحدّثان بوضوح عن ملكوت الله: مثل حبّة الخردل (13: 18-19) ومثل الخمير في العجين (لو 13: 20- 21). وهكذا تمثّل بمرقس. أما عبارة "يشبه ملكوت السماوات" فهي عبارة خاصّة بمتّى.
ب- المصير الملوكيّ ليسوع الناصريّ
إن اعلان ملكوت الله عند لوقا (كما عند متّى) يترافق مع إعلان مُلك المسيح. غير أن السياق الذي يظهر فيه هذا الملك لا يرد في إطار صراع ومنازعة. فلوقا لا يتوقّف أبدًا عند سلطة تريد أن تنازع يسوع سلطته، هي سلطة هيرودس والرؤساء اليهود.
أولاً: البدايات
منذ البشارة لمريم، يُحكى عن يسوع أنه ينتمي إلى السلالة الملكيّة، أنه من نسل داود. "سيعطيه الربّ الاله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه انقضاء" (1: 32-33). هذه المهمّة التي أعلنت منذ البداية، قد تثبّتت ساعة حلّ الروح على يسوع في الاردن بعد عماده. وجاء الصوت السماوي: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك" (3: 22؛ رج مز 2: 7). ففي التقليد البيبليّ الملك هو حقا ابن الله.
ومشهد الاردن يحمل في الوقت عينه مدلولا كرستولوجيًا. ففي لو وأع، الروح هو قبل كل شيء الروح النبويّ. هو يقيم في يوحنا المعمدان آخر أنبياء زمن اسرائيل والذي حلّ عليه روح إيليا وقوّته (1: 15، 17). ساعة ترك يوحنا "المسرح" (3: 19-20)، حلّ الروح على يسوع الذي هو نبيّ الازمنة الجديدة (لو 3: 21-22)، الذي يشبه إيليا وأليشاع (4: 5-27) وعددًا كبيرًا من أنبياء اسرائيل. وبعد قيامة ابن أرملة نائين، هتف الشعب في حماسه: "قام فينا نبيّ عظيم وافتقد الله شعبه" (7: 16). وإيليا أيضًا أقام ابن أرملة قبل مجيء المسيح بتسعة قرون.
وهكذا ارتدى يسوع مهمّة مضاعفة، مهمّة ملوكيّة ومهمّة نبويّة، فبدأ رسالته العلنيّة. وارتبط اعلان ملكوت الله بشكل خاص بوظيفته الملوكيّة. أما دوره النبويّ فيشير إلى الصعوبات التي يلاقيها: لا يريدون أن يسمعوا، لا يريدون أن يفهموا. على ما قيل: "لا يكرم نبيّ في وطنه" (4: 24).
ثانيًا: زمن الكرازة
الشيطان هو العدوّ الرئيسيّ للملكوت. وهو يعارضه بملكه الخاص (11: 14-23: يسوع وبعل زبول). غير أن سلطان الشيطان لكي يجرّب يسوع، قد توقّف لبعض الوقت، منذ نهاية التجارب (4: 13) حتى الوقت الذي فيه يسيطر على يهوذا ليبدأ المسيرة التي تقود يسوع إلى الجلجلة (3:22، 53). وبين هذين الوقتين اللذين يُعتبران بشكل مهلة احتفظ بها الله لكي يعلن البلاغ الانجيليّ كله، لا يقيم إبليس عائقًا يُذكر ضدّ رسالة يسوع.
خلال تلك الحقبة، استطاع الناصري أن يعلن تعليم الملكوت (تحدّث مر ومت عن قرب الملك، لا لو)، ويقدّم علاماته التي هي المعجزات وطرد الشياطين. وأورد لوقا، شأنه شأن متّى، المشهد الذي فيه جاء تلميذا يوحنا يسألان يسوع: "أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر" (7: 18-23)؟ وكان جواب يسوع تقريبًا ذات الجواب الذي نقرأه في مت: "العميان يبصرون والعرج يمشون" (آ 22). غير أن نصّ لوقا يقول قبل هذا الاعلان: "في تلك الساعة شفى يسوع كثيرًا من المرضى والسقماء وأصحاب الأرواح الشريرة، وأعاد البصر إلى عدد من العميان" (آ 21). شدّد لوقا هنا على أمرين. الأول، يسوع يُتمّ معجزات تدلّ على ملكوت الله. الثاني، وهو يدلّ على هذا الملكوت في ذاك الوقت، في حاضر كرازته، في الكرازة التي يقوم بها الآن. وهكذا يكون حقًا الملكَ المسيح. وهذا الملك يجد تجلّيه التامّ خلال رسالته العلنيّة.
هذا لا يمنع أن لا يكون الظهورُ المجيد للساعة الحاضرة قد حصل الآن. فبعد موته سيقيم ملكه (23: 42) وفي الأزمنة الاسكاتولوجيّة يمارس نشاطَه الملوكيّ كديّان (28:22-30). غير أن لمُلك يسوع في الفترة التي يكرز فيها، كثافة واقعيّة تستبق "حاضر" المجد الأبديّ الذي سيُعطى له في نهاية الازمنة.
ثالثًا: الحاش والآلام
إن هويّة يسوع الملوكيّة ظلّت هي هي في حاشه وآلامه، وإن كُسف بعض الوقت ظهورُ ملكوت الله: فمُلك الشيطان بدأ عمله، وشخص الملك المسيح سيسير في مناخ معاد كل المعاداة. ونلاحظ حين نقابل لو مع مت ومر، أن الانجيل الثالث يشدّد بالأحرى على الطابع الملكي ليسوع. وإذ أراد لوقا أن يصوّر دخول يسوع إلى أورشليم في يوم الشعانين، وزّع إشارات أخذها من مشهد تنصيب سليمان ملكًا (1مل 1 :32-40؛ رج لو 29:19-40). أما السلام الذي يهتف به التلاميذ فهو الخير الذي يحمله المسيح الملك.
وتفرّد لوقا حين أورد المواجهة بين يسوع وهيرودس، بين هؤلاء الملكين. هناك من هو صورة "ملك"، وهو لا يملك إلاّ في الظاهر. وهناك الملك الحقيقيّ الذي يقف في صمته وقفة سكوت مأساويّ (23: 6-12). وعلى الصليب سيُقال ليسوع: "إن كنت ملك اليهود فخلّص نفسك" (37:23). وفي النهاية صلّى اللص: "اذكرني يا يسوع (يا رب) حين تأتي في ملكوتك". فأجاب يسوع: "الحقّ أقول لك: ستكون معي اليوم في الفردوس" (23: 42-43). إن حقبة الآلام المظلمة حيث لاقى ملك يسوع العداوة وحسب، حيث انقطعت مسيرة "ملك الله"، تنفتح قبل أن يُسلم يسوع الروح، على عالم من النور سيعترف بهذا الملك المجيد الذي يرتبط بالفردوس، بالسماء.
رابعًا: يسوع على عرشه
في أع، توسّع لوقا في حديثه عن وضع يسوع القائم من الموت، ولاسيّما في خُطب بطرس وبولس. لا يعطي اسم ملك ليسوع إلاّ في فم أهل تسالونيكي الذين هزئوا من الواعظين بالانجيل واتهموهم: "يعملون ما يخالف أحكام قيصر، إذ ينادون بملك آخر يُدعى يسوع" (أع 7:17). أما إعلان القيامة فيستعمل عدّة ألفاظ ملوكيّة. هذا ما نجده في خطبة بطرس، يوم العنصرة، حيث تُذكر مزامير ملوكيّة ولاسيّما مز 2: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" (أع 13: 30-39؛ رج لو 3: 21). إن القيامة هي في الواقع نعمة وهبها الآب لابنه حين أجلسه على عرش الملك.
في الأزمنة التاريخيّة، لا يكون لهذا التنصيب الملوكيّ كل نتائجه. فلن تقرّ البشريّة كلها بيسوع ملكًا إلاّ في الدينونة الأخيرة (لو 22: 28-30). لاشكّ في أنه ملكٌ منذ الآن، ولكنه لا يمارس هذا المُلك بعدُ في كل أبعاده. هنا نتذكّر مثل "الدنانير" الذي قاله يسوع لأن الناس تخيّلوا أن ملكوت الله سيظهر في الحال (لو 19: 1).
في 19: 12-17، نتذكّر أولاً النهاية ونقابلها مع ما فعله إيليا بأنبياء البعل في الكرمل (1 مل 18: 40). إن الموضوع النبويّ ظاهر في هذا المثل الذي يشدّد على رفض اليهود ليسوع. ولكن الموضوع الملوكيّ ظاهر بشكل واضح جدًا. فالانسان الرفيع النسب هو يسوع، الذي سيترك هذه الأرض بعد أن لاحقه بغضُ الذين قتلوه، أو الذين تصرّفوا كأعداء الانجيل. والمُلك الذي يُعطى له، هو ملكه كالقائم من الموت، والذي لا يُرى إلاّ في العالم السماوي، ساعة يسير التاريخ مسيرته على الأرض. وهو سيعود في الأزمنة الأخيرة. حينئذ يظهر مُلكه على عيون الجميع وتبدأ الدينونة. والذين استثمروا الخير الذي سُلّم إليهم، يجازون خير مجازاة. والآخرون يستبعدون. لا يورد لوقا مثل الدينونة الاخيرة الذي أورده مت 25: 31-46. ولكن مثل الدنانير يحتوي المواضيع نفسها: موضوع الملك. موضوع المجازاة والعقاب. وهكذا بدا يسوع عند لوقا الملك والديّان في نهاية الازمنة.
ب- ملك يدوم إلى الأبد
أولاً: إعلان الملك
اختلف لوقا عن متّى فما بدا مهتمًا بمُلك الله في زمن اسرائيل. فالملكوت يبدأ مع يسوع. ويوحنا المعمدان الذي هو السابق، يجهل كل شيء عن هذا الملكوت. لقد بقي على عتبة الملكوت. والقول عن الأصغر في الملكوت الذي نجده في لو 28:7 وفي مت 11: 11 يبدو واضحًا عند لوقا: إن يوحنا أنهى رسالته قبل زمن الملكوت. ما زال في العهد القديم، في زمن التهيئة. أما زمنُ العهد الجديد فيبدأ مع يسوع الذي بدأ رسالته (في لوقا) ساعة أنهى يوحنا رسالته ووُضع في السجن (3: 19-20). إن يوحنا ينتمي إلى حقبة تاريخيّة هي حقبة الشريعة والأنبياء. وبعد توقيفه يُعلن الملكوت (16: 16).
بدأ إنجيل الملكوت مع بداية كرازة يسوع، وما توقّف معها. فيسوع ليس وحده المنادي بهذا الملكوت. فمسؤوليّته انتقلت إلى الاثني عشر (9: 2). والسبعون أيضًا نادوا بهذا الملكوت (10: 9 11)، والنسوة اللواتي تبعنه (8: 1- 3). فكل شخص يعتبر نفسه تلميذ يسوع، مسؤول عن هذه المناداة بالملكوت (9: 60، 62). في زمن رسالة يسوع التاريخيّة، كان صوتُ التلاميذ امتدادًا لصوت معلمهم، وسيظل الأمر كذلك بعد الآلام (أو الحاش الذي يعني الآلام في السريانيّة) والقيامة، في تلك الحقبة التي تسمّى زمن الكنيسة. يرى لوقا انقطاعًا عميقًا بين زمن يسوع، وزمن الشريعة والأنبياء. ولكن التواصل حاضر بين زمن يسوع وزمن الكنيسة، زمن ما قبل الفصح، وزمن ما بعد الفصح. فقبل القيامة وبعدها، نحن في زمن الملكوت، في "حاضر" لا يتوقّف، في حاضر دشَّنه يسوع المسيح فلا تكون له نهاية.
في أع، تابع المرسلون التبشير بالانجيل، إنجيل ملكوت الله، والإنجيل هو أيضًا اسم يسوع (8: 12؛ 28: 31). وعضدهم الروحُ القدس في هذه المهمّة. فما أعلنه يسوع وما يعلنه التلاميذ، هو في نظر لوقا بلاغ واحد وحيد. إنه ملك. به أقيم ملكوت الله. وهذا التعليم هو للزمن الانجيلي ولزمن الكنيسة الذي يمتدّ إلى انقضاء الدهر.
كان يسوع الملكَ والنبيّ. والمرسلون كذلك. فبعد عودة السبعين من الرسالة أعلن يسوع لهم: "إن كثيرين من الأنبياء والملوك ودّوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا" (10: 24). أورد متّى القول عينه في ظروف مختلفة ولكنه قال "الأنبياء والأبرار"، فلم يشدّد على وضع التلاميذ كملوك كما فعل لوقا. أما وضعهم كأنبياء، فقد برز في خطبة بطرس في العنصرة: حلّ الروح على التلاميذ فجعل منهم شعب أنبياء، وهكذا تمّ فيهم ما قاله النبيّ يوئيل (3: 1-5؛ رج أع 2: 14- 21).
ثانيًا: سلوك أبناء الملكوت
إن لمشاركة التلاميذ في ملكوت الله بُعدًا سلوكيًا. فهي لا تنحصر في مسؤوليتهم كمنادين بهذا الملكوت. بل إن يسوع يوجّه إليهم التطويبات. "طوبى لكم أيها المساكين، فإن لكم ملكوت الله" (لو 6: 20). هو ملكوت يطلبونه بنشاط وإن لم يستطع الانسان أن يضع يده عليه، وإن كان هذا الملكوت في أساسه عطيّة من الله وموهبة (12: 31-32).
وهذا ما قاله يسوع مشدّدًا على أن من أراد أن يشارك يومًا بعد يوم في هذا الملكوت، عليه أن يقبل متطلّباته: "وسأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله؟ فأجابهم وقال: ملكوت الله لا يجيء بوجه منظور. ولن يقال: هو هنا أو هناك: فها إن ملكوت الله في داخلكم" (17: 20- 21).
فالمعارضة التي بُني عليها هذا الحوار يردّ على سؤال على المستوى الزمنيّ. تخيًّلت الجموع أن ملكوت الله سيظهر لأنَّ يسوع اقترب من أورشليم. وانتظر الفريسيّون ملكوتًا نراه بعيوننا "كعدوّ" يراه الساهر من أعلى برجه. فيقول: ها هو. اعتبروا أنهم يستطيعون رؤية الملكوت. فعارضهم يسوع وتحدّث عن طابعه الخفيّ، السريّ، الذي لا تصل إليه عين "المراقب" من على أسوار المدينة.
ملكوت الله هو في كل واحد منا. ملكوت الله هو في قلب جماعتنا. صورة فرديّة. وصورة جماعيّة. وفي كلا الحالين، لا ننتظر هذا الملكوت ونحن مكتوفي الايدي. بل نعمل في محيطنا بحسب متطلّبات الانجيل.
وحين قال التلاميذ للمدن التي زاروها: "اقترب منكم ملكوت الله" (10: 9)، كان كلامهم امتدادًا لكلام يسوع. حضور الملكوت أمر واقع. ولكن لا يدركه إلاّ الذين يفتحون قلوبهم له. أما الذين يرفضونه، لا يتقبّلونه، فيقال لهم: "ومع ذلك، فاعلموا أن ملكوت الله قد اقترب". هو هنا. إن لم يتميّزوه كانوا الخاسرين. بل يظلّون خارجًا عنه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM