الفصل السابع عشر: الصلاة في إنجيل لوقا

الفصل السابع عشر
الصلاة في إنجيل لوقا

الصلاة حوار مع الله وهي نتيجة اللقاء به. الصلاة هي دعاء نرفعه إلى الله، فيه نقدّم شكرنا وطلبتنا، فيه ننشد مدائحنا ونطلب غفران خطايانا. هذه الصلاة التي تجد جذورها العميقة في أقدم نظام الحياة البشريّة، قد عرفها العهد القديم لاسيّما في المزامير وفي غيرها من التعابير التي تساعد المؤمن على أن يسكب نفسه أمام الله كما كانت تفعل حنّة، أم صموئيل (1 صم 1: 15). أما نحن فنتوقّف على العهد الجديد الذي ينغمس كله في جوّ من الصلاة، ونتعرّف إلى الصلاة في إنجيل القديس لوقا.
إن الأناجيل الإزائيّة، أي متّى ومرقس ولوقا، تقدّم لنا معطيات مختلفة عن الصلاة. كما ترينا يسوع وهو يصلّي أو تورد لنا بعضًا من صلواته. كما نجد تعاليم عديدة يوجّهها يسوع إلى تلاميذه حول الصلاة. في هذا الإطار يقف لوقا، ولكنّه يزيد نصوصًا خاصّة به بحيث استحقّ أن يسمّى إنجيليّ الصلاة. فإليه سوف نتعرّف. ونحصر كلامنا في الإنجيل دون أعمال الرسل.

1- صلوات يسوع
أ- تعابير واضحة
أولاً: فعل الشكر (10: 21)
بعد أن أرسل يسوع تلاميذه السبعين إلى الرسالة، تفجّر قلبه صلاة، و"تهلّل بالروح القدس وقال: أباركك يا أبت، ربّ السماء والأرض، لأنك أخفيتَ ذلك عن الحكماء والفهماء، وكشفته للأطفال. نعم يا أبتاه، لأنه هكذا حسن لديك" (10: 21). هذا النصّ الذي أورده أيضًا مت 11: 25-26، يجعلنا في إطار جليانيّ (كما في سفر الرؤيا وفي دانيال الذي استطاع أن يكشف سرّ التاريخ بوحي من الله، لا حكماء بابل). والأطفال أو الصغار هنا هم التلاميذ (مت 10: 42) الذين كشف لهم "ذلك"، أي سرّ ملكوت السماوات. هذا ما يدلّ على هدف من أهداف رسالة يسوع: أن يكشف سرّ الله لتلاميذه. وما الذي سمعوه في الخفية، سوف يعلنونه على السطوح.
ثانيًا: في جبل الزيتون (42:22)
ترد هذه الصلاة في سياق إخباري، يشارك فيه كلّ من مرقس (14: 36) ومتّى (26: 39). يقول لوقا إن يسوع خرج كعادته إلى جبل الزيتون. هذا يعني أنه اعتاد أن يأتي للصلاة في هذا المكان. لهذا قال يو 18: 1 إنّ يهوذا الذي أسلمه كان يعرف الموضع، فاقتاد إليه الجند وخدامًا من عند رؤساء الكهنة.
ذهب يسوع إلى جبل الزيتون ومعه تلاميذه الذين سيجدون في هذا الموضع درسًا عن الصلاة. لا على مستوى التعليم فقط ساعة دعاهم وقال: "صلّوا لئلا تدخلوا في تجربة". بل على مستوى العمل. "خرّ على ركبتيه وجعل يصلّي: يا أبتاه، إن شئت فأجز عني هذه الكأس، ولكن لا تكن مشيئتي، بل مشيئتك". هذه الصلاة نجدها في الطلبة الثالثة من طلبات الصلاة الربيّة كما نقرأها في مت 10:6 (لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض) ولا نقرأها في الصلاة الربّية عند لوقا. صلاة يسوع هي استسلام تام بين يدي الآب واستعداد للعيش بحسب مشيئته. على ما نقرأ في يو 4: 34: "إنما طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأتمّم عمله".
لم تكن صلاة يسوع، لم تكن محبّته بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحقّ (1 يو 18:3). لم يكتف بأن يقول: يا رب، يا رب. بل عمل مشيئة الآب الذي في السماوات (مت 7: 21). والعمل بمشيئته سيكلّف يسوع غاليًا في تلك الساعة. "صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض". أخذه القلق والحزن، ولكنّه لم يتراجع، فكانت صلاته صادقة. والنعَم التي قالها بلسانه سوف يقولها في موته وحياته. فقال فيه بولس: "مواعد الله كلّها قد وجدت فيه النعم" (2 كور 1: 20). وكان هو قد قال في الهيكل وقبل أن يبدأ حياته العلنيّة: "يجب أن أكون في ما هو لأبي" (لو 2: 49). فقال الشرّاح: يجب أن أتمّم مشيئة أبي. أو: يجب أن أكون في بيت أبي، في الهيكل الذي هو موضع اللقاء بين المؤمن والربّ.
ثالثًا: الصلاة على الصليب (34:23، 46)
نجد نافذتين يتلوهما يسوع على الصليب في إنجيل لوقا الذي يتفرّد بذكرهما. الأولى، هي صلاته من أجل صالبيه. "يا أبتاه اغفر لهم فإنهم لا يدرون ماذا يفعلون". ذاك ما قاله يسوع حين وصل إلى الجلجلة وجُعل بين لصين، وقبل أن يقتسموا ثيابه ويقترعوا عليها. لم يتمكّنوا من أن يحكموا عليه ظلمًا، بل جعلوه مجرمًا بين المجرمين. هنا نتذكّر كلام المزمور: رغم معاملاتهم السيئة، كنت من أجلهم أصلّي. ونتذكّر بشكل خاص كلام يسوع في المغفرة "للأعداء". وهل ليسوع أعداء؟ وهل يمكن أن يكون للمسيحيّين أعداء؟ قال في 6: 27-28: "أحبّوا أعداءكم. أحسنوا إلى من يبغضكم، باركوا لاعنيكم. صلّوا لأجل الذين يفترون عليكم". كم يفترق يسوع عن الفريسيّين الذين "يقولون ولا يفعلون" (مت 23: 3). قالت الرب لنا بأن نصلّي وفعل. وعلى خطاه سيسير اسطفانس، أول الشهداء، فيقول: "يا رب، لا تقم عليهم هذه الخطيئة" (أع 6:7). كما غفر يسوع لصالبيه، هكذا غفر اسطفانس لراجميه. وكما أثّر غفران يسوع على اللصّ، كذلك سيؤثّر غفران اسطفانس على "شاول (أي بولس) الذي كان موافقًا على قتل اسطفانس" (أع 1: 8). وقد يكون أولَ من رمى الشهيد بحجر ستتبعه حجارة الآخرين (نقرأ في أع 58:7: وضع الشهود ثيابهم لدى قدمَي شاب اسمه شاول).
والصلاة الثانية على الصليب، هي صلاة الابن الذي يغفو بين يدي أبيه. "يا أبتاه في يديك أستودع روحي". وذكر كل من متى ومرقس مز 22 وما فيه من إحساس بأن الآب "تخلّى" عن ابنه، أسلمه عنا جميعًا. "أسلمه لأجل زلاتنا، وأقامه لأجل تبريرنا" (روم 4: 25). أما لوقا فذكر مز 31: 6 بادئًا صلاته بنداء إلى الآب (رج 10: 21؛ 22: 42؛ 23: 34). وهكذا أنهى حياته بذكر الآب كما بدأها في الهيكل حين كلّم والديه.
رابعًا: قول لسمعان (22: 32)
هنا نقرأ صلاة ليسوع من أجل سمعان، وعبره من أجل التلاميذ. غير أن كلام الرب يرد بصورة غير مباشرة. قال: "صلّيت كي لا يزول إيمانك". فكأني به قالت: أيها الآب، لا تسمح بأن يضعف إيمان بطرس، وإيمان الجماعة. نستطيع في هذا المجال أن نتذكّر الصلاة الكهنوتيّة (يو 17). هو الرب قد رأى ما عند بطرس من حماس قريب من التهـوّر. واستشفّ الصعوبات التي تقف في وجه الكنيسة. تلا هذه الصلاة التي استعادتها الجماعة الأولى في أع 4: 29 (أنظر إلى تهديداتهم) وتقوّت بالروح القدس كي تنادي كلمة الله بجرأة.
ب- إشارة إلى صلاة يسوع
أورد لوقا بعض صلوات يسوع. ولكنّه حدّثنا مرارًا عن يسوع وهو يصلّي. فالصلاة تحتلّ مكانة هامّة في حياته. فهو يصلّي مرارًا على الجبل، يصلّي وحده ساعة الجميع يطلبونه. وهكذا نراه يبحث عن صمت حميم مع الآب. كما نراه في بداية كل مرحلة هامّة من حياته يلجأ إلى الصلاة وكأنه يريد أن يسلّم مشروعه للآب. فهو لا يعمل إلاّ ما يرى الآب يعمله، ولا يقول إلاّ ما سمعه من الآب. لهذا، ينبغي عليه أن يكون نظره عالقًا بالآب، ولاسيّما من خلال هذه الصلاة الصامتة. والصلاة التي يقوم بها تجتذب إليه تلاميذه الأقربين فيرون فيها مثالاً لصلاتهم.
أولاً: حياة حميمة مع الآب
* مشهد العماد والتجلّي
يتفرّد لوقا عن متّى ومرقس في هذين المشهدين اللذين يشكلاّن مفصلين في حياة يسوع. الأول، يدلّ على بداية رسالته بعد أن أشار إليه الآب بأنه ابنه، لا بالتبني كما كان الأمر مع ملوك الشعب، بل بالطبيعة. وهو موضع مسرّة الآب. وحضر الروح ليرافق هذا الابن في عمله الرسوليّ. إن عمل الخلاص هو عمل ثالوثي. ثم إن حضور الروح هو هنا كما كان في بداية الكون (تك 1: 3) من أجل خلق جديد، من أجل تكوين الجماعة الجديدة حول يسوع المسيح.
جعل متّى هذا العماد في حوار حول البرّ الذي يكمّله يسوع حين يعتمد. والبرّ يدلّ على قصد الآب الذي يدخل فيه الابن حين يتضامن مع الخطأة فيتقبّل العماد من يوحنا. واكتفى مرقس بالقول إن يسوع جاء "واعتمد في الاردن من يوحنا". أما لوقا فجعل هذا العماد في إطار الصلاة. "إذ كان يصلّي انفتحت السماء". أجل، في صلاة يسوع تجاوبت السماء مع الأرض، والله مع الانسان. على ما نقرأ في هو 23:2-25: "في ذلك اليوم استجيب (أنا الرب) للسماوات، والسماوات تستجيب للأرض... وأزرع شعبي في الأرض. أنا أسمّيه شعبي وهو يقول لي أنت إلهي".
أما مشهد التجلّي فيدخلنا مسبقًا في سرّ آلام يسوع وموته وقيامته. أنبأ يسوع مرّة أولى ومرّة ثانيّة ومرّة ثالثة بما سيحصل له في أورشليم من آلام. رفض بطرس: حاش لكن يا رب! تشكّك التلاميذ وعثروا. لهذا جاء التجلّي نفحة من السماء على الأرض، شعاعًا من نور في ظلمة قلوب الرسل. كان التجلّي استباقًا للقيامة، فينتظر التلاميذ في آخر النفق نورَ الرب يشعّ عليهم. ومع ذلك، ظلّوا غرباء عن القيامة. تحدّث متّى (17: 1-9) عن يسوع الذي صعد بالتلاميذ الثلاثة إلى جبل عال على انفراد. وكذا قال مرقس (9: 1- 10). أما لوقا (28:9-36) فقال: "صعد إلى جبل ليصلّي. وفيما هو يصلّي صارت هيئة وجهه أخرى (تبدّلت)، ولباسه مبيضًا لامعًا". أجل، مثل هذه الخبرة تمّت في الصلاة. وبما أننا في الليل (رج آ 32: أعين مثقلة بالنوم)، نتذكّر أن يسوع اعتاد أن يقضي ليله في صلاة إلى الله. لا في وقت النزاع وحسب، بل في أوقات عديدة جدًا.
* كان في ذات يوم يصلّي
نقرأ في 11: 1: "وإذ كان يسوع في موضع ما يصلّي، لما فرغ، قال له واحد من تلاميذه: يا ربّ، علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنا أيضًا تلاميذه". وهكذا كانت المناسبة ليقدّم لنا الانجيل الثالث الصلاة الربيّة بطلباتها الخمس. ذكر صلاةَ يوحنا (رج 5: 33) وذكر صلاة يسوع. وبعد أن أورد "الأبانا"، قدّم لنا مثل الصديق المزعج وتحريضًا على الصلاة سنعود إليهما.
أما متّى (6: 9-13) فقدّم الصلاة الربيّة في معرض حديثه عن الصلاة داخل توسّع حول الممارسات اليهوديّة الثلاث: الصدقة، الصلاة، الصوم. ولكننا نجد شيئًا من ذلك في مرقس الذي يكتفي بأن يذكر لنا صلاة يسوع على الجبل. وسوف يخبرنا لوقا (5: 16) أن يسوع كان يهرب بعض المرّات من "الشهرة البرّاقة" وإعجاب الجموع السطحي، لكي "يعتزل في البراري ويصلّي". وفي أحد الأوقات، سترتفع من قلبه صلاة الحمد والشكر (10: 21) أمام الحصاد الذي يبدو واسعًا، أمام السبعين تلميذًا الذين سينطلقون إلى العالم كلّه، ينطلقون من أورشليم واليهوديّة والسامرة فيصلون إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8).
ثانيًا: صلاة من أجل الرسالة
كان يسوع مثالَنا في صلاة حميمة مع الآب، وسيكون مثالَنا في صلاة تهيّئنا للانطلاق إلى الرسالة.
* اختيار الاثني عشر (12:6-16)
قبل أن يختار يسوع الاثني عشر، يقول لنا لوقا: "خرج إلى الجبل ليصلّي وقضى الليل كلّه في الصلاة لله". دلّ أولاً على أهميّة العمل الذي قام به، حين اختار هؤلاء الرسل الذين سيكونون أساس الكنيسة. ودلّ ثانيًا على أنه يستلهم الله الآب في الأوقات الحرجة في حياته. إذا كان هذا المشروعُ مشروعَ الله، فكيف نتجاسر أن نقوم به دون العودة إلى الله. فيا ليتنا في الأوقات العصيبة والمنعطفات الحرجة والخيارات الصعبة نعود إلى الصلاة ونطلب أنوار الله كما فعل يسوع في هذا الوقت وكما سيفعل في ما بعد ولاسيّما في النزاع في جبل الزيتون.
نشير هنا إلى أن متّى (10: 1-4) يكتفي بأن يقول عن يسوع بعد أن علّم التلاميذ أن يطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده: "ثم دعا الاثني عشر، وقلّدهم سلطانًا". وجعل مرقس اختيار الاثني عشر داخل رسالة يسوع، فابتدأ في 3: 13: "ثم صعد إلى الجبل ودعا إليه الذين أرادهم، فأقبلوا إليه". هنا كان بالإمكان أن ترد عظة الجبل لو أراد مرقس أن يوردها. ولكنّه لم يفعل، وهذا يبقى سرًا بالنسبة إلينا.
* من هو يسوع (8: 18- 21)
أراد يسوع أن يخطو خطوة مع تلاميذه، لكي يتعرّفوا إليه. لكي يعرفوا من هو في الحقيقة. هل هو ذلك المسيح الممجّد الذي لا يمرّ في الآلام؟ هل هو ذلك الرابي (المعلّم) الذي لا يفترق عن المعلّمين في عصره إلاّ بالسلطان الذي يتعلّق بكلامه؟ هل هو ذلك الشافي ومجترح المعجزات الذي يُشبه بعض الأنبياء مثل إيليا وأليشاع؟ سأل يسوع تلاميذه، فقابلوه بالأنبياء. ولكن هذا لا يكفي. "وأنتم من تقولون إني هو"؟ قال بطرس: "أنت مسيح الله".
جعل متّى (13:16-20) ومرقس (27:8-30) يسوع في منطقة قيصريّة فيلبّس حين سأل تلاميذه عن رأيهم فيه. وجعل يوحنا (59:6) المشهد في كفرناحوم. أما لوقا، فاكتفى بأن يلاحظ اعتزال يسوع مع تلاميذه. قال: "وفيما هو يصلّي على انفراد، كان معه التلاميذ، فسألهم". وهكذا بيّن لهم ماذا ستكون رسالته. أبعد كل التباس تحمله مسيحانيّة زمنيّة بها يطرد الرومان ويحرّر شعبه، وأعلن عن موته القريب: "إن ابن الانسان ينبغي أن يتألم كثيرًا" (آ 22). مثلُ هذا التعليم الجديد يحتاج إلى الصلاة بالنسبة إلى يسوع الذي يتكلّم، وبالنسبة إلى التلاميذ الذين يسمعون.

2- تعاليم يسوع في الصلاة
يسوع عمل، يسوع علّم. يسوع صلّى، فكانت صلاته ينبوع الصلاة المسيحيّة في حياتنا الحميمة وفي رسالتنا. وها هو يحدّثنا المرّة بعد المرّة عن الصلاة في إنجيل لوقا. ونحن نجعل أقواله في مقطعين. الأول، النصوص المشتركة بين لوقا من جهّة ومرقس ومتّى من جهة ثانية. والثاني، النصوص التي يتفرّد فيها لوقا. فنلاحظ أنه يتحدّث مرارًا عن الصلاة في خطّ الكتاب المقدّس والعالم اليهوديّ، كما ينطلق من خبرته الشخصيّة.
أ- النصوص المشتركة
أولاً: صلاة من أجل الأعداء (6: 28)
قال لوقا: "باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم". وقال مت 5: 44: "أحبّوا أعداءكم. صلّوا لأجل الذين يطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات". حدّد لوقا الأعداء على أنهم "لاعنوكم"، على أنهم "يفترون عليكم". ومتّى على "أنهم يضطهدونكم". وهكذا جاء نداء يسوع يحرّض التلميذ لكي يبارك خصومه ويصلّي من أجلهم. يبدو أن القول الوارد في لوقا هو أصيل. أما متّى فكيّف قولَ يسوع مع عصره. كانت الكنيسة تعيش في الاضطهاد، فهل يبغض المؤمن من يضطهده؟ كلا، بل يصلّي من أجله. أما السياق الذي ورد فيه قول لوقا فهو أقلّ مأساويّة. ولم يحاول الانجيل الثالث أن يجعل كلام يسوع هذا موافقًا لما نجد في صلاة يسوع الذي غفر لصالبيه (23: 34)، ولا لما نجد في صلاة اسطفانس قبل أن يموت (أع 7: 60). فقد أراد أن يكون كلامه مرافقًا لما يعيشه المسيحيّ في حياته اليوميّة. هنا نكون في خطّ 23:9 حيث يزيد لوقا عبارة "كل يوم" على قول نجده عند متّى (16: 24) ومرقس (8: 34). قال: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه (لا في المطلق، بل) كل يوم ويتبعني".
ثانيًا: صلاة إلى ربّ الحصاد (10: 2)
قالت لوقا: "أطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده" (رج مت 38:9، لا نجد النصّ في مرقس). ورد هذا القولُ عند لوقا بمناسبة إرسال التلاميذ، وعند متّى بمناسبة إرسال الاثني عشر. في متّى، كان هذا القولُ بدايةَ دعوة الاثني عشر وإرسالهم (10: 1- 5). وعند لوقا، قد اختير الاثنا عشر في ما قبل (6: 12-16) وأُرسلوا (9: 1-6). وها نحن الآن أمام إرسال السبعين تلميذًا (9: 1-6). يتطلّع لوقا إلى الرسالة المقبلة وسط الوثنيّين وإلى توسيع حلقة الاثني عشر. والصلاة التي يدعونا إليها هي ثابتة في حياة الكنيسة، وهي تفهمنا أن عملنا سيكون ناقصًا، ونحن بشر ضعفاء. والله هو الذي يكمّل على ما يقول بولس الرسول: "ذاك الذي بدأ فيكم هذا العمل الصالح يتمّه إلى يوم ربّنا".
ثالثًا: الصلاة الربيّة (11: 2- 4)
الصلاة الربيّة هي نموذج الصلاة التي يتلوها التلميذ. جاءت في لوقا أقصر ممّا هي في متّى، ولكن التعابير في جوهرها هي هي، وكذلك تراتبيّة الطلبات. قال متّى (6: 9): "أبانا الذي في السماوات". وفي لوقا "أبا، أيها الآب". ليتقدّس اسمك" في الكون وفينا. ونحن نقدّسه حين نقرّ بقداسة الله ونعلن مجده. حين نعيش الطاعة لوصاياه. "ليأت ملكوتك". لقد تدشّن هذا الملكوت بيسوع. ونحن في صلاتنا نطلب بأن يتجلّى هذا الملكوت على الأرض فيعرفه العالمُ كلّه. وهكذا تأتي الطلبات "الروحيّة" قبل الطلبات "الجسديّة"، وما يتعلّق بالله قبل الأمور الخاصّة بنا.
لم يذكر لوقا الطلبة الثالثة (لتكن مشيئتك) في هذا السياق، ولكنه أوردها في صلاة يسوع في البستان. "أعطنا خبزنا كفافنا اليوم". كذا يقول متّى. أما لوقا فيقول "كل يوم". هكذا اعتاد الشعب العبراني في البريّة أن ينتظر المن السماويّ يومًا بعد يوم. فالحياة اليوميّة في نظر الانجيل الثالث تمتدّ طويلاً. لقد بدأ زمنُ الكنيسة، والمؤمن يعيش في هذا الزمن متطلّعًا إلى ما تفرضه عليه الحياة اليوميّة في رتابتها.
"واغفر لنا خطايانا كما نغفر". يتحدّث متّى عن الخطايا. أما لوقا فعن الديون، وفي هذا نفهم أن يكون لوقا في النصّ الأصيل، وأن يكون متّى كيّف هذا النص بالنظر إلى حاجة كنيسته التي تغفر الخطايا (9: 8). وحدّد متّى موقع الغفران الأخوي في اللحظة التي تسبق غفران الله لنا، بمعنى أنه إن لم يكن لنا استعدادٌ لكي نغفر للآخرين، فهذا يعني أن قلوبنا قاسية بحيث لا تستطيع أن تتقبّل غفران الله الذي يقدَّم لها.
أما لوقا فجعل غفراننا لبعضنا يمتدّ امتداد الحياة المسيحيّة. نحن كلّ يوم نغفر لقريبنا ونغفر له أكثر من مرّة. هكذا نصلّي. وهكذا يجب أن تكون ممارستنا. ولا تسمح يا رب أن ندخل التجربة، لا تسمح أن نقع فيها. هكذا دعا يسوع تلاميذه في بستان الزيتون. صلّوا لئلا تقعوا في التجربة (22: 46).
رابعًا: نداء من أجل الصلاة الواثقة (11: 9-13)
بعد مثل الصديق اللجوج الذي سنعود إليه (آ 5-9)، نقرأ في لوقا تحريضًا على الصلاة البنويّة التي تدلّ على ثقتنا التامّة بالله. ونجدها في مت 7:7- 11: "إسألوا فتعطوا. أطلبوا فتجدوا. إقرعوا فيفتح لكم". يلتقي لوقا مع متّى ما عدا في الصورتين اللتين يقدّمها كلّ من الانجيليّين. قابل لوقا بين السمكة والحيّة، بين البيضة والعقرب (آ 11-12). فذكّر بسلطان أعطاه يسوع لتلاميذه بأن يدوسوا الحياّت والعقارب فلا تؤذيهم (10: 19). أما متّى فتحدّث عن الخبز والحجر، عن السمكة والحيّة (7: 11). وأنهى كلامه: الآب يعطي خيراته للذين يطلبونها. أما لو 11: 12 فوعد بالروح القدس. لاشكّ في أن انتظار الروح القدس يرد في أقدم طبقات الأناجيل الإزائيّة. ولكن لا يميّز لوقا هو أنه يشدّد على هذه الموهبة في سفر الأعمال، وهي موهبة تضمّ في داخلها سائر المواهب. وما نستنتجه في هذا النص، هو أن الصلاة البنويّة تنال ما تطلب من الآب السماوي، تنال الروح القدس ومعه كل الخيرات التي وُعدنا بها.
ب- النصوص الخاصّة بلوقا
هناك تعاليم ليسوع لا نجدها إلاّ في إنجيل لوقا، وقد يكون أخذها من مراجعه. وقد يكون دوّنها انطلاقًا من تقاليد وصلت إليه فطبعها بطابعه.
أولاً: مثل الصديق اللجوج (11: 5-8)
إن مثَل الصديق الذي يأتي صديقه فيوقظه في نصف الليل، لا يجد تطبيقًا مباشرًا. ولكن موقعه في سياق يتحدّث عن الصلاة (11: 1-13) ومرماه النهائي، يدلاّن بوضوح على العبرة التي نستطيع أن نستنتجها: يجب أن نلحّ في صلاتنا لكي تستجاب.
أجل، في هذا المثل نحن أمام نداء إلى الصلاة الملحاحة. وهو يبدأ بشكل سؤال: "من منكم له صديق"؟ هكذا اعتاد لوقا أن يفعل: "من منكم يريد أن يبني برجًا" (28:14)؟ "أي إنسان منكم له مئة خروف" (15: 4)؟ "أية امرأة يكون لها عشرة دراهم" (آ 8)؟ إن يسوع يطرح السؤال وهو ينتظر منّا الجواب كما في 26:10. طرح العالم بالناموس سؤالاً على يسوع، فردّ عليه يسوع بسؤال. "ماذا كُتب في الناموس"؟ فأجاب: "أحبَّ الربّ إلهك". وجاء المثل، فطرح يسوع أيضًا السؤال: "من تراه صار قريبًا للذي وقع في أيدي اللصوص"؟ أجاب معلّم الناموس: "الذي صنع إليه الرحمة". فجاء نداء يسوع: "امض واصنع أنت أيضًا كذلك" (10: 29-37).
جاء برهان يسوع في هذا المثال مع عبارة "بالحريّ". إذا ألحَّ الصديق على صديقه، لا يستطيع هذا إلاّ أن يلبّي له طلبه مهما كان في التلبية من مشقّة. فكم بالأحرى الآب السماوي، وتلبية الطلب لا تكلّفه شيئًا. كل ما يريده هو انفتاح قلوبنا وإلحاحنا في الطلب في خطّ الصلاة الربيّة.
ثانيًا: القاضي الظالم (18: 1-8)
بعد أن قدّم لوقا الخطبة الاسكاتولوجيّة (نهاية العالم) حول يوم ابن الانسان (17: 22-37)، أورد سلسلة من التعاليم الخاصّة به (18: 1- 14). هناك الآية الأولى في هذا المقطع (18: 1) التي تبدأ مثلَ القاضي الظالم وتعلن هدفَه: "ينبغي أن يصلّوا كل حين ولا يقنطوا". عبارة لوقاويّة بأسلوبها كما باهتمامها في تقديم مرمى المثل. نجد عنصرين من عناصرها عند القديس بولس. صلاة دائمة لا تنقطع. يقول بولس: "لا ننقطع عن الصلاة لأجلكم" (2 تس 1: 11). ويقول: "ألتمس دائمًا في صلواتي" (رج كو 1: 3؛ فلم 4). ثم "لا نيأس" مهما طال انتظارنا، ولا نقنط (2 كور 4: 21-16؛ غل 6: 9).
إطارُ هذا المثل، شأنه شأن إطار المثل السابق، هو اسكاتولوجي، بمعنى أنه يوجّهنا إلى نهاية الزمن. غير أن لوقا يستخلص عبرة من أجل الحياة اليوميّة: يجب أن نصلّي دائمًا.
يبدو أن مثل القاضي الظالم كان موازيًا لمثل الصديق اللجوج، والعبرة هي هي في المثلين. إلاّ أنّ لوقا فصل المثل عن الآخر. فقد اعتاد أن يجعل في المثل الأول رجلاً، وفي المثل الثاني امرأة: في 13: 18- 21 هناك رجل يزرع حبّة خردل في حقله. ثم امرأة تضع الخميرة في عجينها. وفي 15: 1- 10 نجد رجلاً أضاع خروفًا، ثم امرأة أضاعت درهمًا. وهنا، صديق يلجّ على صديقه، ثم أرملة تلج على القاضي مع برهان يبدأ بالحريّ. نحن لا نقابل بين موقف الله وموقف هذا القاضي الظالم، بل بين إلحاح هذه الأرملة وإلحاح المؤمن في صلاته. تصرّف القاضي منطلقًا من أنانيّته. أراد أن يرتاح من هذه الأرملة، فأعطاها طلبها. فكم بالحريّ الله. هو يستجيب لنا بلا شك حين نصرخ إليه نهارًا وليلاً. أتراه ينتظر؟ والجواب هو كلاّ.
ثالثًا: الفريسي والعشّار (18: 9- 14)
بعد مثل القاضي الظالم والمرأة اللجوجة، ترك لوقا المنظار الاسكاتولوجي، ولكنه لم يتخلّ عن موضوع الصلاة. فقدّم مثَلَ الفريسيّ والعشّار مع مقدّمة تدلّ على مرمى الخبر، وخاتمة تساعدنا على تطبيقه في حياتنا.
نجد في هذا المثل شخصين يرسمان أمامنا طريقتين في الصلاة. فالفريسيّ متيقّن بأنه بار، وهو يحتقر الآخرين. هذا ما قاله لوقا في البداية. وجاءت اللوحة صورة عن هذا الموقف.
في الواقع، الفريسيّ لا يصلّي رغم عبارة الشكر التي بدأ بها صلاته: إنه يتأمل مشدوهًا في فضائله، وينشد أعمالَه الصالحة، ويؤمّن على نفسه بوجه الله. عملَ ما طلبت منه شريعة الفريسيّين (لا شريعة الله التي تفرض أول ما تفرض المحبّة). عمل واجبه، فعلى الله أن يقوم بواجبه تجاهه. أن يدفع دينًا عليه. صارت الصلاة تجارة وتبادلاً بين الله والانسان. أعطيه. ويجب عليه أن يعطيني وإلاّ غضبتُ عليه، وتركت عبادته والصلاة إليه. حتى ومر طلبتُ منه حيّة... ولكن الله لا يعطينا إلاّ العطايا الصالحة. ولكنه العطاء بالذات ولا ينتظر منّا إلاّ انفتاح قلبنا. ولكنّه العطاء المجاني. وقد أعطانا ابنه ساعة كنا بعد خطأة ولا نستحق شيئًا. فكيف نتجاسر أن نطلب منه؟ هل ننسى أنه يعرف حاجاتنا قبل أن نسأله؟ أما صلاتنا فتكون دخولاً في مشروعه ووعدًا بأن نعيش حسب مشيئته.
أما العشّار (جابي الضرائب) فهو خاطئ وهو يقرّ بذلك في موقفه وفي كلامه. وقف بعيدًا. لم يتجاسر أن يقترب من الله القدوس. وطلب الرحمة والغفران. قرع صدره وقال: "اللهمّ اغفر لي أنا الخاطئ"! إنه يقف بكل حقيقته أمام الله. لا كذب ولا مراوغة ولا رياء مثل الفريسيّين الذين يبدون كالقبور المكلّسة. وهو يقدّم ذاته كما هو لله، وينفتح على نعمته. لهذا جاءت صلاته متواضعة، والتواضع في الانسان هو الحقيقة. لهذا استجاب له الله. عاد إلى بيته مبرّرًا.
اعتبر الفريسيّ أنه يحصل على البرّ بأعماله الصالحة. ولكنه نسي أن البرّ هو عطيّة مجانيّة من قبل الله ننالها حين نتجاوب معها في انفتاح متواضع، في موقف من الطفولة الروحيّة. هذا ما فعله العشّار. فجاءت الخاتمة: "من ارتفع اتّضع، ومن اتّضع ارتفع". (أو رُفع، أي رفعه الله). هكذا يجب أن تكون صلاتنا. نقرّ بضعفنا وخطيئتنا. نقرّ بحقيقتنا أمام الله، فنجد لديه قلبًا حنونًا يستعدّ في كلّ ساعة أن يستقبلنا.

3- صلاة الناس حول يسوع
أ- مقابلة مع مرقس ومتّى
إذا أردنا أن نتعرّف إلى أصالة لوقا نقابله مع الانجيليّين الازائيّين الآخرين، مع مرقس ومتّى. فمرقس لا يرينا أبدًا التلاميذ يصلّون. ولا نجد عنده إلاّ معجزة واحدة تنتهي بصلاة واضحة: بعد شفاء مخلّع كفرناحوم نشاهد الجموع تمجّد الله (2: 12) "دهشوا كلّهم، ومجدّوا الله قائلين: ما رأينا قطّ مثل هذا"!
ونكتشف في الانجيل الثاني طلبات عديدة تتوجّه إلى يسوع سائلة معجزة. ولكن هذه الطلبات ليست صلوات بحصر الكلمة. لا نجد فيها الألفاظ الخاصّة بالصلاة. والمرضى الذين يأتون إلى يسوع بنفوسهم، أو يحملهم أقاربهم، يأتون إليه على أنه نبيّ، لا على أنه الله.
وإذا عدنا إلى متى، لا نجد أثرًا للصلاة لدى التلاميذ. بل هو يلاحظ، شأنه شأن مرقس، أن الجموع مجّدت الله بعد شفاء المخلّع (8:9). وقال بعد أشفية عديدة في الجليل: "فانذهل الجميع إذ رأوا الخرس يتكلّمون. فمجّدوا اله اسرائيل" (15: 31).
هذا من جهة، ومن جهة ثانيّة، نشعر بعمله التدوينيّ المتأثّر بعبادة الرب يسوع في الكنيسة: فصراخ التلاميذ في العاصفة، صار عنده نداء إلى الرب. "يا رب نجِّنا فقد هلكنا" (8: 25). ومسيرة يسوع على المياه انتهت باعتراف إيماني: "في الحقيقة، أنت ابن الله". قالوا ما قالوا، وسجدوا له كما يسجد المؤمن لإلهه (14: 33).
أما لوقا فاختلف كثيرًا عن متى ومرقس، فحدّثنا عن صلاة عدد من الناس يظهرون في إنجيله. نبدأ بأخبار الطفولة حيث الوحي عن يسوع يتحدّد موقعه دومًا في إطار من الصلاة. وننتهي بالاشارة إلى الصلوات التي نسمعها عند الذين رافقوا يسوع في رسالته العلنيّة.
ب- أخبار الطفولة
يبدأ إنجيل فرقا مع صلاة الجماعة في الهيكل (1: 10). وينتهي بصلاة الرسل بعد صعود الرب إلى السماء. "سجدوا له، ورجعوا بفرح عظيم. وكانوا بلا انقطاع في الهيكل يباركون (يتلون صلاة البركة) الله" (24: 50-52). منذ البداية نعيش مع الشعب الخدمة الليتورجيّة حول زكريا، مع البخور الذي يقدّم في الهيكل (23:8:1)، وطلبته التي استجيبت (آ 13). وبعد ذلك نسمع نشيد شكر العذراء. فيه تعظّم الله لأنه صنع العظائم في أمته الوضيعة (1: 46-52). ووُلد يوحنا. ولما شُفي زكريا من بكمه، كان أول كلامه مباركة الله (1: 64). وبعد ذلك تلا الكاهن نشيدَ الشكر على مثال مريم: "مبارك الرب... لأنه افتقد شعبه وأقام لنا قوّة خلاص" (1: 67-79). وكما أنشدت الأرضُ ميلاد يوحنا السابق، أنشدت السماء ميلاد يسوع المسيح: "المجد لله في العلى...". وهذا ما دفع الرعاة لأن "يمجّدوا الله ويسبّحوه" (2: 20).
وقدّم والدا يسوع طفلهما إلى الهيكل للرب (2: 22) في حفلة ليتورجيّة يشير إليها سفر اللاويين (12: 8). فجاء سمعان الشيخ وتلا نشيد الشكر: "الآن أيها السيد تطلق عبدك بسلام" (28:2-32). وجاءت بعده حنّة التي عُرفت بالأصوام والصلوات (آ 37)، "فأخذت تسبّح الرب وتحدّث عن الصبي كل من ينتظر فداء أورشليم" (آ 38). وينتهي خبر الطفولة بحج يقوم به والدا يسوع مع ابنهما الذي بلغ الاثني عشر عامًا وصار "ابن الوصيّة"، فوجب عليه أن يحفظ الوصيّة (2: 41-42). وهو سيجد فرحه بأن يكون "في بيت أبيه"، في الهيكل. بدأ إنجيل الطفولة في الهيكل مع زكريا الذي خرج منه صامتًا لا يستطيع أن يتكلّم. وانتهى في الهيكل مع يسوع الذي كان يسأل المعلّمين ليعلّمهم (آ 26) كما سيفعل خلال حياته العلنيّة.
ج- رسالة يسوع العلنيّة
خلال حياة يسوع العلنيّة، نجد عددًا من الصلوات، بها يمجّد الناس الله على أثر المعجزات التي تمّت. أو هم يرفعون الصلوات إلى يسوع على مثال ما كانت تفعل كنيسة لوقا يوم دوّن الكاتب إنجيله، أي سنة 85.
أولاً: المجد لله
شفى يسوع مخلّع كفرناحوم. فردّد لوقا مرتين صلاة المجد. أولاً، مضى المخلّع إلى بيته "وهو يمجّد الله" (5: 25؛ قال مت 7:9: "مضى إلى بيته"). ثم إن الجموع "مجّدوا الله وامتلأوا خوفًا" (آ 26)، وهو هذا الخوف المقدّس الذي يحركه فينا حضورُ الله. وتفرّد لوقا فروى إقامة ابن أرملة نائين من الموت، "فاستولى على الجميع خوف، ومجّدوا الله" 7: 12).
الجميع يمجّد الله. والذين نالوا نعمة الشفاء يمجّدون الله أيضًا. أشرنا إلى زكريا بعد شفائه، كما أشرنا إلى مخلّع كفرناحوم. ونذكر أيضًا المرأة المحدودبة التي روى لوقا وحده شفاءها. "وضع يديه عليها، فانتصبت في الحال وجعلت تمجّد الله" (13: 13). والأبرص العاشر "رجع يمجّد الله بصوت جهير، وخرّ على وجهه عند قدمي يسوع شاكرًا له" (17: 15-16). فامتدحه يسوع: "ألم يوجد من يرجع ليمجّد الله إلاّ هذا الغريب" (آ 18)؟ وأعمى أريحا "أبصر، وتبع يسوع مشيدًا بمجد الله" (18: 43). "وإذ رأى جميع الشعب ذلك سبّحوا الله".
وسوف نسمع "جمهور التلاميذ يسبّحون الله بصوت جهير، على جميع ما عاينوا من الايات، ويقولون: "مبارك الملك الآتي باسم الرب، السلام من السماء والمجد في العلى" (19: 37-38). وهكذا نرى إنجيل لوقا مضمخًا بالصلاة التي تمجّد الله وترفع إليه آيات التسبيح. فيا ليت جماعاتنا تتعلّم.
ثانيًا: صلوات يتلوها المؤمنون
هي صلوات تتوجّه إلى يسوع خلال حياته على الأرض، وقد أخذت بُعدًا جديدًا في الكنيسة الأولى. نقرأ في 17: 5: "قال الرسل للرب: زدنا إيمانًا". طلبٌ فريد في الأناجيل، ولا نجد ما يشابهه إلاّ صرخة والد الولد المصروع: "أؤمن يا رب. فأعن قلّة إيماني" (مر 9: 24). من يستطيع أن يؤثّر على الايمان إلاّ الله. مثلُ هذه الصلاة تجعلنا بالأحرى في إطار يلي الفصحَ وقيامةَ يسوع. تجعلنا في إطار الكنيسة التي ترى الايمان يجفّ في القلوب.
ونقرأ أيضًا في 17: 15-16 ذاك السامريّ الذي شُفي فعاد يمجّد الله... ويشكر يسوع". وهي المرّة الوحيدة في الأناجيل يتوجّه فعل الشكر إلى يسوع لا إلى الله. هذا يعني أن يسوع هو الله. نحن هنا أيضًا بعد زمن الفصح وإعلان يسوع كالرب والإله.
وأخيرًا نسمع اللص المائت يتوسّل إلى يسوع. "أذكرني عندما تأتي في ملكوتك"، حين تأتي إلينا كملك (23: 42). توجّه هذا المحكوم عليه إلى يسوع الملك والمسيح الآتي. وطلب إليه ما يتذكّره. أي أن يعطيه الخلاص في نهاية الزمن. مثل هذه الصلاة مع بدايتها (أذكرني) تجد ما يقابلها في العالم اليهودي. ولكنها تتوجّه دومًا إلى الله، لا إلى المسيح. لهذا تكون صلاة اللص صلاة مسيحيّة، لاسيّما وإنها تنادي يسوع: "يا يسوع، أذكرني". وتنادي يسوع على أنه الملك الذي يحقق ملكوته في موته وقيامته.

خاتمة
موضوع الصلاة في إنجيل لوقا موضوع طويل وغنيّ جدًا: صلاة يسوع، تعاليم يسوع، صلاة الذين رافقوا يسوع فتعلّموا منه صلاة يمجّدون بها الله ويشكرون له انعاماته. وهذه الصلاة ستمتدّ "في أعمال الرسل" فنرى الجماعة الأولى تصلّي إلى الرب يسوع، وتنشد له التسابيح التي نجدها بشكل خاص في الرسائل البولسيّة. كلّ هذا يقنعنا يومًا بعد يوم بأهميّة الصلاة في حياتنا، على مثال يسوع، على مثال الكنيسة، على مثال المسيحيّين الأولين الذين تفجّرت فيهم الدهشة فهتفوا: "ما رأينا مثل هذا قطّ. ومجّدوا الله. وقالوا: ما أحسن ما صنع، فتذكروا يوم خلق الله السماء والأرض، فأنشدوا، ونحن ننشد معهم: "أيها الرب ربنا، ما أعظم اسمك في كلّ الأرض"!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM