الفصل السادس عشر: ملكوت الله في إنجيل مرقس وإنجيل متّى

الفصل السادس عشر
ملكوت الله
في إنجيل مرقس وإنجيل متّى

لو تساءلنا ما هو الموضوع الأساسيّ في الأناجيل؟ لأجاب البعض: المحبّة. ولكن يبدو أن موضوع الملكوت هو الذي يشرف على الأناجيل منذ البداية إلى النهاية. ففي البداية هتف يوحنا المعمدان ومثله يسوع: "ملكوت الله قريب". وفي النهاية كُتب على صليب يسوع أنه "ملك"، وكانت الكتابة باللغات الثلاث المحكيّة في عالم البحر المتوسّط وما يحيط به، أي بالآراميّة واللاتينيّة واليونانيّة. قرأها الجميع فعرف أو لم يعرف أن يسوع هو الملك وقد جاء يعلن ملكوت الله للبشر.
فما هو ملكوت الله؟ لا نجد جوابًا مباشرًا عن هذا السؤال، كما لا نجد تحديدًا دقيقًا له. فيسوع يتحدّث عنه كأنه واقع معروف. يعلن اقترابه، ويلمّح إلى بعض وجهاته بالأمثال، يسلّم مفاتيحه إلى بطرس، يعدّد الشروط التي تتيح لنا دخوله. ولكن مع كل ذلك، لا نستطيع أن ندركه كمدلول نحدّده ونحيط به.
إحدى التساؤلات الكبرى التي تُطرح في شأن الملكوت هي مسألة الزمن: متى يأتي الملكوت؟ هل نستطيع أن ندخله؟ هل يتحدّث عنه يسوع كواقع حاضر منذ الآن، كواقع نستطيع أن ننعم به اليوم، أم هو موجود في الرجاء؟ نسارع إلى القول: من جهة، ملكوت الله حاضر منذ الآن، ونحن نسمع من فم يسوع: "إن ملكوت الله لا يجيء بوجه منظور. ولن يقال: هو هنا، أو: هو هناك. فها إن ملكوت الله في داخلكم" (لو 17: 20- 21). وفي حالات أخرى، ينتمي الملكوت إلى مستقبل بعيد بعض البُعد. إنه ليس بعدُ هنا. فقد أعلن يسوع لتلاميذه في عظة الجبل: "ليس كان من يقول لي: يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يعمل إرادة أبي الذي في السماوات" (مت 7: 21). متى ستُعمل إرادة الآب في كمالها؟ في نهاية الزمن. وهكذا يكون الملكوت موضوع انتظار. لا نستطيع أن ندرك وجهته الزمنيّة، كما لا نستطيع أن ندرك مضمونه إدراكًا تامًا. يبقى علينا أن ندخل إلى النصوص ونبدأ بالتعرّف إلى هذا الواقع الذي حدّثنا عنه يسوع مرارًا. نبدأ ولكننا لا ننتهي. لهذا نكتفي هنا بقراءة نصوص مرقس ومتى، ونترك إلى أكثرهن مقال لاحق ما يتعلّق ببولس ولوقا ويوحنا.

1- ملكوت الله عند مرقس
يتحدّث إنجيل مرقس 14 مرّة عن ملكوت الله. فأوّل مرّة فتح يسوع فاه، أعلن اقتراب الملكوت (1: 14-15). استعاد الانجيليّ العبارة فربطها بأقوال تلفّظ بها يسوع. وفي المرّة الأخيرة نتعرّف إلى يوسف الرامي، ذلك التلميذ الذي "كان ينتظر ملكوت الله" (43:15). إنه يمثّل الرسل بشكل خاص بعد القيامة، ويمثّل كل واحد منا.
ونبدأ مسيرتنا مع النصوص المرقسيّة.
أ- الاعلان الأول
بعد أن تعمّد يسوع على نهر الاردن، ذهب إلى البريّة حيث جربّه الشيطان. عند ذاك بدأت بشارته في الجليل: "لقد تمّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالانجيل" (1: 15). لقد تمّ الزمان، وهو يتواصل ويستمرّ. هذا يعني أن شيئًا محدّدًا قد حصل على المستوى الزمنيّ، غير أن نتائجه لم تنته. اقترب ملكوت الله، وما زال قريبًا منّا اليوم، أي ساعة كتب مرقس، وساعة نقرأ نحن. ما معنى هذا الاقتراب الذي لا يعود مرقس يتحدّث عنه في إنجيله؟ قد نرى فيه إشارة زمنيّة تكمّل الجملة السابقة: إن تتمّة الزمان ترافق ظهورًا ساطعًا لملكوت الله الذي ننتظره في مستقبل قريب.
هذا على مستوى الزمان. وقد نقف على مستوى المكان: اقترب ملكوت الله فصار مساحة يسهل علينا الاقتراب منها، أو تكون في متناولنا. يكفي أن نبدأ مسيرتنا لكي ندركها. في هذا المجال نفهم كلمة يسوع لذلك الكاتب الذي يدلّ على أنه فهم الشريعة. قال له: "لستَ بعيدًا عن ملكوت الله" (12: 34). كيف نكون قريبين من هذا الملكوت؟ هناك نداءان: توبوا، وآمنوا بالانجيل، "إنجيل يسوع المسيح" (مر 1: 1). هذا يعني أن كل ما نستطيع أن نقوله عن الملكوت لا يقابل الواقع في شيء إن لم يتجاوب المؤمنُ مع النداء الذي وصل إليه. فالله قد حقّق ملكوته على المستوى الزمنيّ. سبق وحقّقه. ولكن الله لا يعمل مكان الانسان. فما يجب أن يتحقّق بعدُ، يرتبط بكل واحد منا. هناك انشداد بين ما يفعله الله وما يفعله الانسان. وفي الشرارة التي تتفجّر من هذين القطبين يظهر ملكوت الله. أجل، بدأ ملكوت الله مع المسيح. ونحن نعيش فيه بإيماننا وتوبتنا، بانتظار كماله مع مجيء المسيح.
ب- أمثال الملكوت
ونبدأ بمثل الزارع (3:4-9). لم يفهمه التلاميذ. حينئذ قال لهم يسوع: "أنتم قد أوتيتم أن تعرفوا سرّ ملكوت الله. وأما أولئك الذين في الخارج (خارج الكنيسة، لم يؤمنوا بعد)، فكل شيء لهم بأمثال" (4: 11). سار الاثنا عشر على خطى يسوع، وإليهم توجهت كلمات تساعدهم على الانطلاق في مغامرة الايمان. أما الذين استبعدوا نفوسهم، لا مبالاة أو رفضًا، فلا يسمعون إلا خطبة ملغزة تبقيهم في الخارج.
بعد ذلك نقرأ مثل الزرع النابت من ذاته: "مثل ملكوت الله كمثل انسان ألقى الزرع في الأرض. فسواء نام أم استيقظ في الليل وفي النهار، فالزرع ينبت وينمو، ولا يدري كيف. فالأرض من ذاتها تثمر، تخرج الساق أولاً، ثم السنبلة، ثم الحنطة ملء السنبلة، فإذا أدرك الثمر أعمل فيه المنجل في الحال، لأن الحصاد جاء" (4: 26-29).
يصوّر النصّ هنا مسيرة تبدأ بالزرع وتنتهي بالحصاد. يرينا المزارع، الأرض، الزرع، النبات الذي سيُحصد. وأول شيء نلاحظه أننا لا نجد صورة عن ملكوت الله في أيّ من هذه العناصر. كما لا يشدّد النصّ على وقت من الأوقات. فالأوقات كلها مهمّة. والعناصر أيضًا. فملكوت الله لا يُقابل مع شخص أو مع شيء، أو مع وضع جامد. إنه صيرورة. إنه عمل مستمرّ، بدأ ولم ينته بعد. لا نستطيع أن ندلّ عليه باصبعنا. هو تطوّر وتحوّل. بدأ في الماضي ونحن نتأمّله في عبوره، في نموّه. فمن له عينان لا تريان، وأذنان لا تسمعان، لن يكتشفه (4: 12). هذا الملكوت هو حاضر في الكنيسة وإن كان أوسع من الكنيسة لأنه سيعمّ العالم كله.
ما الذي أراد الانجيل أن يشدّد عليه في هذا المثل؟ يشدّد على الحالات المتعاقبة التي يمرّ فيها الزرع دون أن تكون هناك حاجة إلى تدخّل بشريّ بين الزرع والحصاد. فالأرض تحمل نشاطها في ذاتها (4: 28). لا حاجة لأن نحمل السلاح ضد المحتلّ، كما أراد الغيورون أن يفعلوا لكي نقيم ملكوت الله. غير أننا لا نستطيع أن نهمل ما قيل عن الفلاّح (27:4): تتعاقب الليالي والنهارات، ويأتي النوم بعد اليقظة، وهو جاهل لما يحدث. وفي وقت الحصاد، يعود فيتدخّل من جديد. هكذا ينكشف تعارضان تُبنى عليهما ديناميّة ملكوت الله: تعارض بين نشاط الأرض ولانشاط الانسان وجموده. بين جهل الانسان وعمل الأرض. لا شكّ في أن الانسان يعمل من أجل هذا الملكوت، من أجل بقاء عالم المحبة. ولكن الله هو الذي يكلّل هذا العمل في النهاية.
وهناك تفسير آخر من النمط الاستعاري، يقال فيه أن الانسان يزرع، ينام ويقوم. وهو أيضًا ذلك الذي يحصد. والحصاد، في تقليد العهد الجديد، يدلّ على الدينونة. ومن هو الحاصد؟ هو ابن الانسان الذي يُشرف على الدينونة، فيرسل ملائكته لكي يميّزوا بين الأشرار والأخيار (مت 13: 40-42). أما النوم فهو صورة عن الموت. والقيام والنهوض يدلاّن على القيامة. وهكذا نكون أمام تاريخ الخلاص. رمى الانسان (يسوع) الزرع (الكلمة، 4: 14). نام (مات على الصليب) وقام (من القبر). وتوالت الأيام والليالي، والزرع (الكلمة) يحمل ثمرًا بعد القيامة دون أن يتدخّل الانسان أو يعرف متى تكون النهاية (13: 32). ولكن حين ينضج الثمر يتدخّل الربّ من جديد للحصاد (للدينونة). يتدخّل ليجعل عمل كل واحد منا في ملء نور الملكوت.
هكذا يتمّ تاريخ العالم في الحقبة الزمنيّة التي تفصل الكرازة بالانجيل عن الدينونة الأخيرة. يتواصل نموّ الكلمة وسط البشر، مع أن يسوع، زارع الانجيل، لا يبدي نشاطًا منظورًا وسط أخصّائه. فغيابه يتوافق مع العمل الانجيليّ، وإن لم يكن هنا لكي يتمّه. في هذا الاطار، لم نعد أمام لانشاط الانسان أو التلميذ، بل لانشاط المسيح الممجّد الذي "عُلِّق" عمله. حينئذ تصبح الأرض التي فيها تنمو الكلمة، البشريّةَ أو جماعةَ التلاميذ. تتحرّك الأمور على الأرض، ويبدو كل شيء في مكانه. هكذا يبدو ملكوت الله من الخارج. أما في الداخل، فالبناء يتواصل من خلال انتشار الكنيسة وحياة المؤمنين في إطار مشيئة الله.
ويرد مثل حبّة الخردل (4: 30-32)، فيعارض بين صغر البذار المزروع وقامة الشجرة التي تخرج منه. واقع فيه الكثير من التعارض، وهو يقدّم لنا صورة عن ملكوت الله. وهكذا بدا الملكوت واقعًا يسير مسيرته. فنحن لا نستطيع أن نجمّده في لحظة كما في صورة سينمائيّة. إنه مفتوح على امكانيّات عديدة. ولكن المهمّ هو أننا نحن معنيّون بظهوره وعمله.
ج- الدخول إلى الملكوت
بعد اعتراف قيصريّة فيلبس "أنت المسيح" والإنباء الأول بالآلام (8: 27- 33)، تتبدّل اللهجة في إنجيل مرقس. فنظرة يسوع إلى موته القريب تعطي الخبر لونًا مأساويًا. فآلام التلاميذ تُذكر مع آلام معلّمهم وابن الانسان الذي سيأتي ليدين العالم في نهاية الأزمنة. سيُقسم التلاميذ قسمين: أولئك الذين قبلوا أن يسيروا المسيرة الفصحيّة أي الموت والقيامة، وأولئك الذين رفضوا (8: 38: "من يستحي بي وبكلامي"). لا بدّ من مجيء الملكوت حتى وإن كنّا لا نعرف متى يأتي، ولا نعرف من يكون شاهدًا له.
كيف يتمّ الدخول إلى ملكوت الله؟ هناك شروط خلُقيّة. فالذين تجرّهم يدهم أو رجلهم أو عينهم إلى الخطيئة يُرمون في "جهنم" (9: 47)، لا يدخلون الملكوت. فهذا الملكوت يخصّ الذين يُشبهون الاطفال. يجب أن نتقبّله لكي نستطيع الدخول إليه (13:10-16). أما الأغنياء فيصعب عليهم الدخول بسبب هذه الأموال التي تُربكهم فتمنعهم من التحرّك.
ويقدّم لنا الانجيلي عبارة تقابل "الدخول إلى ملكوت الله". هي الدخول إلى الحياة، وهي تعارض "الطرح في جهنم" (43:9، 45): "خير لك أن تدخل الحياة وأنت أقطع من أن تذهب، ولك يدان، إلى جهنم". جهنم هي موضع محدّد، واد يقع جنوبيّ أورشليم وفيها تُحرق "زبالة" المدينة برائحة لا تُطاق. أما ملكوت الله فيشبه جنّة النعيم، وإن لم تكن مكانًا بالمعنى الحصري للكلمة. نحن هنا في عالم الرمز: هلاك وتعب في جهنم، سعادة وخلاص وحياة في ملكوت الله مع الذي هو الحياة. الخلاص عطيّة من الله، ولكن الانسان يستعدّ لكي يتقبّلها أو يرفضها.

2- ملكوت السماوات عند متّى
جاء إنجيل متى بعد إنجيل مرقس فاستفاد من سابقه. غير أنه قلّما يتحدّث عن ملكوت الله (28:12؛ 19: 24؛ 21: 31، 43)، بل يقول: "ملكوت السماوات". المعنى هو هو، ولكن العالم اليهودي يتحاشى ذكر اسم الله احترامًا، فيقول "السماء" بدل "الله". ويتميّز متّى أيضًا عن مرقس حين يُبرز البُعد الاسكاتولوجي في مدلول الملكوت. فهو يربطه بابن الانسان (13: 41؛ 16: 28) أو بالمسيح الممجّد.
وإذ يقدّم مُلك يسوع كواقع مقبل لم يتحقّق بعد، فهو يأخذ كثافته منذ بداية حياته على الأرض، بل قبل أن يبدأ كرازته. فمنذ الآية الاولى نقرأ عن يسوع أنه "ابن داود" (1: 1)، إذن، هو ملك. وحين جاء المجوس إلى الملك هيرودس لكي يستعلموا عن الطفل، طرحوا سؤالهم: "أين هو ملك اليهود الذي وُلد" (2: 2)؟ انتظر مرقس بداية الأحداث المرتبطة بالآلام القريبة، ليظهر وضع يسوع الملوكيّ، أما عند متى، فقد عُرف هذا الملك منذ بداية الخبر.
وقد أراد متّى أن يفتح الملكوت إلى أبعد من إطار كرازة يسوع، فبدأ يعلنه بشكل احتفاليّ بفم يوحنا المعمدان: "توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات" (3: 2). وبعد ذلك يقول يسوع للاثني عشر. "وفي الطريق بشّروا قائلين: لقد اقترب ملكوت السماوات" (10: 7). إن اعلان الملكوت سبق كرازة يسوع وجاء بعده، فامتدّ في مساحة زمنيّة لم يعرفها مرقس. وهذا الاعلان ليس خاصًا بيسوع، فقد قام به يوحنا المعمدان والاثنا عشر. ومن خلالهم، ينبغي على التلاميذ في كل عصر أن يعلنوا أن ملكوت الله قريب.
أ- ملكوت يمتدّ على العصور
إن الملكوت هُيّئ للأبرار "منذ إنشاء العالم" (25: 34). والحديث عنه كموضوع ميراث نهائيّ لهم، قد استعاده متّى في خطى بولس الرسول في لوحة الدينونة الأخيرة. نحن أمام واقع أبديّ يسميه متّى "مُلك الآب" (43:13؛ 29:26).
ولكن في تاريخ الخلاص، قد سُلّمت مسؤوليّةُ الملكوت أولاً إلى بني اسرائيل. فيسمّي الانجيلي الأول الشعب المختار "أبناء الملكوت" تجاه الوثنيين الذين "يأتون من المشرق والمغرب ليتّكئوا في الملكوت مع ابراهيم واسحاق ويعقوب" (8: 11-12). وإذ يفسّر يسوع مثل الكرّامين القتلة، يعلن لعظماء الكهنة والشيوخ الذين جاؤوا يسمعونه: "سيؤخذ منكم ملكوت الله ويُدفع لشعب يعطي ثمرًا" (43:21). هذه الآية التي تعلن انتقالاً من شعب الله في العهد القديم إلى الكنيسة، تعبّر في الوقت عينه عمّا كان عليه الوضع قبل آلام يسوع.
هناك مرحلة أولى في تاريخ الخلاص، مرحلة الأزمنة البيبليّة حيث سُلّم الملكوت إلى بني اسرائيل، كما سُلّمت كرمة الرب إلى الكرّامين الذين كُلّفوا باستثمارها. مسؤولية كبيرة وُضعت على عاتقهم، ولكنهم لم يقوموا بها. فالكتبة والفريسيون الذين طُلب منهم أن يفتحوا أمام الناس الطريق إلى ملكوت السماوات، قد أغلقوا هذه الطريق: "ما دخلوا هم ولا تركوا الآخرين يدخلون" (23: 13).
حينئذ أقام الله داود جديدًا: هو يسوع الذي وُلد في بيت لحم فاستحقّ لقب "ملك اليهود" (2: 2)، لا هيرودس. أما مهمّته التي تصوّرها التيّار الفريسي الذي انتظر مجيئه، فهي إقامة نظام جديد على العدالة واحترام شريعة الله. في هذا المجال قال يسوع لتلاميذه: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا كله يُزاد لكم" (6: 33).
لو سارت الأمور حسب منطق الانجيل الأول، لنجحت محاولة يسوع. ولكن اليهود عارضوه معارضة لا رجوع عنها. رُفض الملك وقُتل بمؤامرة من أخصائّه، واستخلص الله النتائج: انتقل الميراث من بني اسرائيل إلى العالم الوثنيّ. في هذا الإطار نقرأ مثل عمّال الساعة الأخيرة الخاص بمتّى (20: 1- 16). فالعمّال الذين استأجرهم ربّ البيت في بداية النهار هم الشعب اليهوديّ. لم يرضوا أن ينعم الذين جاؤوا بعدهم، أي الوثنيون، بالامتيازات ذاتها التي هي لهم، فرُفضوا. ولكن رب البيت يذهب إلى أبعد من هذا فيقول: "الأولون يصيرون آخرين، والآخرون أولين" (20: 16).
وأعطى يسوع أيضًا ثلاثة أمثال: مثل الابنين، ومثل العمّال القتلة، ومثل المدعوّين إلى العرس. في الأول، نجد ابنًا يقول نعم بشفتيه ولا يذهب إلى الكرم. إنه يمثّل رؤساء اليهود الذين ينسب إليهم متّى طاعة شكليّة. والذي بدأ ورفض دعوة أبيه، ولكنه ندم وقضى يومه في الكرم، يمثّل الخطأة والنجسين. كما يمثِّل الوثنيين. وفي المثل الثالث تحدّث يسوع عن ملك هو الله يقيم عرسًا (الأعراس المسيحانيّة) لابنه يسوع. فالخدم الذين كُلّفوا بحمل الدعوة يلقون المعاملة السيّئة وهذا ما قاساه مرسلو الانجيل. فأهلك الملكُ المدعويّن الأولين أي اليهود، وأحرقت مدينتهم أورشليم سنة 70. فاعتُبر دمار المدينة عقابًا من الله. وهكذا تنتهي المهمّة التاريخيّة للشعب اليهوديّ مع هذه الأحداث المأساويّة، بعد أن رفضوا الملك الذي قُدّم لهم.
ما الذي نستنتج من هذه الأمثال؟ صورة عن تاريخ الخلاص: نداء اسرائيل، ورفضه للمسيح وعقابه، وانتقاله الدعوة إلى آخرين، والواقع الذي يقول إن الانتماء إلى اسرائيل، شأنه شأن الانتماء إلى الكنيسة، لا يكفل الدخول إلى الملكوت إن لم نتجاوب مع ندائه. فالملكوت له وجه أخلاقيّ، والتعرّف إلى مملكة يسوع يجب أن يرافقه تصرّف ملموس يدلّ على صدقنا، فلا نكون مثل الابن الأكبر الذي أرسله والده إلى الكرم، فقال نعم ولكنه لم يذهب. فجاء كلامُ يسوع قاسيًا: "إن العشّارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (21: 31).
ب- تجليّات الملكوت
حين نقرأ الانجيل الأول نجد أن حياة يسوع هي إظهار لملكوت السماوات. فقد جعلنا "ملك اليهود" بأقواله وأعماله وكل كيانه نرى واقعًا لا نراه ولا ندركه. يكفي أن ننظر إلى يسوع لنستشفّ حقيقة الملكوت. فظهور القائم من الموت على جبل في الجليل، موضع اللقاء، مع الأحد عشر، هو ظهور ملوكيّ. سلطانه يعمّ السماء والأرض (28: 16-20). إن متّى، شأنه شأن سائر الانجيليين، يقرأ حياة يسوع على ضوء قيامته. فكأننا في قصر سماويّ تبرز أنواره من خلال رسالة يسوع.
أولاً: البداية
بعد العماد في الاردن، رفض يسوع بشكل واضح، في مشهد التجربة، أن يجعل نفسه في خدمة مملكة الشيطان (4: 1- 11). صوّر بدايات الكرازة الانجيليّة في ثلاث محطّات جليليّة: الإقامة في الجليل وإعلان الملكوت، دعوة التلاميذ الأربعة الأوّلين، إعلان الملكوت والأشفية الأولى. لقد قدّم يسوع تعليمه، وموضوعه هو الملكوت: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات" (17:4). "كان يطوف في الجليل... ويبشّر بانجيل الملكوت" (23:4؛ 35:9؛ 14:24).
العبارة الأولى كان قد قالها يوحنا المعمدان (3: 2). ولكن الإطار يختلف تمامًا. كرز يوحنا في بريّة يهوذا، في موضع منعزل. أما يسوع فأقام على شاطئ البحر، وهو الطريق إلى الأراضي البعيدة، في زبولون ونفتالي، في "جليل الأمم الوثنيّة". هناك نجد اليهود والوثنيين، وإلى هناك يذهب يسوع فيقوم برسالة شاملة على ما يقول أشعيا: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا (أش 8: 23؛ 9: 1). فاقتراب ملكوت السماوات الذي يعلنه يسوع، قد صار منظورًا بهذا النور الذي يفجّر حدود الجليل الصغير إلى أقاصي الأرض. لاشكّ في أننا، إذا أردنا أن نرى، يجب أن نرتدّ ونتوب. فمن يقبل بهذا الواقع يصل إلى رؤية تتعدّى جميع الظواهر التي يتخيّلها.
وتأتي الدرفة الاخيرة في هذه الشعبة الانجيليّة كأول علامات بشرية لهذا الوقع الكونيّ: إذ يعلن يسوع إنجيل الملكوت، فهو يشفي (4: 23-25). ويعدّد النص كل أنواع المرضى من مفلوجين ومتشيطنين ومصابين بداء الصرع. فملكوت السماوات ترافقه سعادةُ الانسان.
ثانيًا: علامات الملكوت
المعجزات هي علامات الملكوت، وهي تدلّ على أن الذي يجترحها هو المسيح. فالنشاط المسيحانيّ يدلّ على الملكوت، وهذا ما يبرزه الانجيليّ حين يكرّر لقب "ابن داود" في عدد من أخبار المعجزات (9: 27- 31؛ 15: 21- 28؛ 29:20-34).
نقرأ في الانجيل الأول، كما في والثالث، مقطعًا فيه يُرسل يوحنا المعمدان بعض تلاميذه إلى يسوع: "هل أنت هو الآتي..."؟ فأجابهم: "إذهبوا وأعلموا يوحنا بما سمعتم ورأيتم: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون، وطوبى لمن لا يشكّ فيّ" (مت 11: 4-5؛ لو 7: 22-23). فإعلان الانجيل للذين ينتظرونه، يترافق مع الآيات التي تواكبه.
وتنضمّ التقسيمات، أي طرد الشياطين، إلى المعجزات، فتدلّ على تجلّي الملكوت. وقد اتّهم الفريسيون يسوع بأنه يتعامل مع بعل زبول رئيس الشياطين، فقال: "إن كنت أنا ببعل زبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم أنتم بمن يخرجونهم؟... وأما إن كنت بروح الله... فذلك أن ملكوت الله قد انتهى إليكم" (27:12-28). يبقى على "المشاهدين" الذين لم يصلوا إلى درجة العمى، أن يتميّزوا ما أعطي لهم أن يروه.
ثالثًا: اختيار ملكوت الله
قبل أن نتحدّث عن الدينونة التي تتمِّ في نهاية الأزمنة، بدأ الناس يتّخذون موقفًا بالنسبة إلى يسوع. وهذا ما نجده منذ أن اجتمع الفريسيون من أجل مخطّط يُزيل هذا النبيّ الذي "يزعجهم". برمجوا كل شيء، فجاءت الخيارات جذريّة، ولم يعد بالامكان التوقّف عند أنصاف الحلول.
ونجد هذه الجذريّة في خطبة الامثال (13: 1-52). فالزرع الملقى في الأرض يسمّى "كلمة الملكوت" (13: 19). وهو يكشف طبيعة الأرض التي تستقبله. هناك حقول لا تعطي ثمرًا: قارعة الطريق، أرض صخريّة، بين الشوك. وحدها الأرض الطيّبة تقبّلت كلمة الملكوت فحملت الثمار الوافرة: "مئة، ستين، ثلاثين" (18:13).
وترد سائر الامثال: الزؤان، حبّة الخردل، الخمير، الكنز، اللؤلؤة، الشبكة. هي أمثال الملكوت. "يشبه ملكوت السماوات". ومثل الزؤان يقدّم صورة لافتة عن هذا الملكوت: الحنطة والزؤان، انتظار الحصاد للتفريق بين الحنطة والزؤان. مصير الحنطة والزؤان في النهاية: "إجمعوا أولاً الزؤان واربطوه حزمًا ليُحرق. أما الحنطة فاجمعوها إلى أهرائي" (13: 30). ويفسَّر المثل: الزرع الجيّد هم أبناء الملكوت. والزؤان يدلّ على أبناء الشرّير. وفي ساعة الدينونة، يلقي ابن الانسان الزؤان خارج ملكوته: "أما الأبرار فيشعّون كالشمس في ملكوت أبيهم" (13: 41-43). إن التقارب بين المثل وتفسيره، يدعونا إلى القول إن الملكوت هو هذا الواقع اللامنظور والاسكاتولوجي الذي يُدعى إليه جميع البشر والذي لا يدخله إلاّ الأبرار. وظهوره في هذا العالم، هو لوحة منظورة عن عالم يصير وينمو، حيث يعيش الأشرار بجانب الأخيار، فيُبرز خيارُ الفئة الأولى عظمةَ خيار الفئة الثانية. فالتلاميذ ليسوا قدّيسين ولا أبطالاً، وخيارهم يبدو صالحًا حين نقابله بخيار خصوم يسوع. وهذا ما يدلّ على الملكوت، كما دلّ عليه عمل يسوع في أشفيته، بمعنى أن الصحة هي علامة الملكوت لأنها خروج من المرض.
ولكن يأتي زمن يتحوّل فيه هذا الوضع. فالعالم الحاضر، الملتبس، الذي يدلّ دلالة عابرة على واقع دائم يتجاوز الزمان والمكان، هو موضع للمختارين، وموضع للهالكين، هذا العالم يزول من أجل عالم آخر يتنظّم حول ابن الانسان (13: 41؛ 28:16؛ 20: 21). ويتحدّث النصّ عن هذا العالم مستعينًا بصور تقدر وحدها أن تصوّر ما لا يصوَّر.
رابعًا: الملكوت والدينونة
يقدّم لنا المثلُ الأخير من الفصل 13، لا صورة آنيّة عن ملكوت السماوات، بل "صورة" عمّا سيكونه في المستقبل وساعة الدينونة. هكذا سيكون ظهوره الأخير: "يشبه ملكوت السماوات شبكة كبيرة ألقيت في البحر..." (13: 47-52). يشدّد هذا المثل لا على واقع العالم قبل الدينونة، بل على الدينونة نفسها التي هي آخر فصل في ظهور الملكوت. فيرسم موضعَ إقامة الأبرار بشكل مصوّر من خلال الأوعية التي تضمّ "الجيّد" لا الرديء. أما مصير الهالكين فيقال عنهم: "يُرمون خارجًا".
إذ أراد الانجيليّ أن يصوّر الدينونة كمرحلة في ملكوت السماوات، عاد إلى الصور التقليديّة في العالم اليهوديّ، وهذا ما أعطى المثل شكلاً خاصًا. لم يعد صورةً متأخّرة عن الواقع مع صور لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بهذا الواقع المصوَّر: الزرع هو الكلمة، الشوك يدلّ على الغنى... بل مزج الحديثَ الحقيقيّ بالحديث الرمزي. فالسلّة التي وُضع فيها الأخيار لا تعارض البحر أو الصخور حيث تُرمى السمكات الرديئة، بل أتّون النار والبكاء وصريف الأسنان. وما نلاحظه هو غياب لفظة "سمكة" في النصّ. فالحديث يدور حول "الشبكة" التي تجمع "من كل جنس". قد تجمع سمكًا جيّدًا، وقد تجمع أناسًا أخيارًا.
مقابل هذا، لا حديث عن الدينونة في السؤال الذي طُرح على التلاميذ، وتفسير يسوع حول الكاتب الذي صار تلميذًا في ملكوت السماوات. هذا الحوار القصير يختتم مجموعة الامثال التي نقرأها في ف 13. والملكوت الذي كان موضوع الحديث له بُعد آنيّ. ما هو الكنز؟ كنز الكتاب المقدس؟ كنز تعليم يسوع؟ كنز تعليم الكتبة؟
وهناك مثل الدائن الذي لا شفقة في قلبه (23:18-35)، الذي يشير إلى الدينونة الاسكاتولوجيّة. وفي الحوار بين يسوع والتلاميذ بعد لقائه مع الغنيّ، نرى المسيح جالسًا على عرش مجده، والاثني عشر جالسين حوله لكي يدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر (27:19-30). وفي مثل "الدينونة الأخيرة" (25: 31-46)، الديّان هو ابن الانسان والراعي والملك. والمُلك الذي يقدّمه ميراثًا للمختارين هو الذي يحتفظ به الله في الأبديّة على ما جاء عند بولس الرسول: "أما تعرفون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله" (1 كور 6: 9): "إن الذين يعملون هذه الأعمال لا يرثون ملكوت الله" (غل 5: 21).
إن صورة يسوع ابن الانسان الملكيّة، تجتاز الزمن منذ التجسّد حتى المجيء. فملك اليهود، في إنجيل الطفولة، هو ذلك الذي سيعلن بعد ثلاثين سنة اقترابَ ملكوت السماوات، ويقدّم لنا العلامات لكي نتعرّف إليه. وإدراك هذا الملكوت يفترض ارتدادًا ندلُّ عليه بالعمل لا بالكسل والنوم كما تخيّل أهل تسالونيكي. ولا بالخوف وبالتخاذل (1 تس 5: 6-14)، بل بالصبر. فمن يصبر إلى المنتهى فذاك يخلص.
غير أن هناك من يرفض. حينئذ يتمّ التمييز الذي هو جزء من ظهورات الملكوت، وهو استباق للدينونة الاسكاتولوجيّة التي فيها تنتهي مسيرة الزمن، والتي هي ظهور ملكي لابن الانسان المجيد الذي يُشرك في ملكه كلَّ مختاري الأرض.
ج- الملكوت والكنيسة
ويُطرح السؤال: هل يتماهى الملكوت مع الكنيسة؟ هل الملكوت هو الكنيسة؟ هناك مقطع انجيليّ مشترك بين متّى ولوقا قد يدلّ على هذا التماهي، حيث ترد كلمة يسوع عن يوحنا المعمدان: "الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه" (مت 11: 11؛ لو 28:7). ما معنى هذه العبارة التي تقع في جملة تؤكّد أنه "لم يَقُم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان"؟. قول غريب عند متّى الذي جعل المعمدان، شأنه شأن يسوع، يدشّن رسالته بكرازة حول اقتراب ملكوت السماوات (3: 2). وفي الواقع، لا ينتمي المعمدان إلى الكنيسة، لأنه مات قبل تأسيسها، ولأنه لم يكن من تلاميذ يسوع. لقد ظلّ على العتبة، ولم يدخل.
وهناك مقطع آخر خاص بمتّى يجعل رباطًا قويًا بين الكنيسة والملكوت، نجد فيه كلمات وجّهها يسوع إلى بطرس بعد اعتراف قيصريّة فيلبّس: "أنت صخر وعلى هذا الصخر أبني كنيستي... أعطيك مفاتيح ملكوت السماوات. كل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماء. وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (16: 18-19).
إذا كان النص يربط بين أساس الكنيسة وسلطة المفاتيح، فلا نستطيع أن نستنتج أن الكنيسة والملكوت شيء واحد. فالكنيسة هي واقع أرضيّ، مؤسّس على صخر يثبّته هو بطرس. أما الملكوت فهو سماويّ، وسلطانُ الحلّ والربط (نجد العبارة نفسها في 18:18 بالنظر إلى الرسل) يعني إمكانيّة أعطيت للرسل ولرؤساء الجماعة المسيحية. أعطي لهم أن يعالجوا الأخ الخاطئ الذي استبعد نفسه عن الكنيسة بتصرّفه السيِّئ. ينجم عن الكلام الذي وجّهه يسوع إلى بطرس أن المصالحات التي تتمّ في الكنيسة، تجد نتائجها على مستوى الملكوت. ولكننا لا نستطيع أن نماهي بين الملكوت والكنيسة بصورة دقيقة.
إن الخطبة الموجّهة إلى الكنيسة (18: 1-35)، وهي الخطبة الرابعة بين خطب إنجيل متّى، تبدأ بحوار بين يسوع والتلاميذ، وحديث مثلّث عن الملكوت. "وفي تلك الساعة تقدّم التلاميذ إلى يسوع، وقالوا: من الأعظم في ملكوت السماوات؟ فدعا ولدًا وأقامه في وسطهم وقال: الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا فتصيروا كالأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السماوات. فمن وضع نفسه مثل هذا الولد، فذاك هو الأعظم في ملكوت السماوات. ومن يقبل ولدًا كهذا على أنه لي، فإيّاي يقبل" (18: 1- 5).
السؤال المطروح على التلاميذ هو في صيغة الحاضر: "إذن، من هو الأعظم في ملكوت السماوات"؟ ولهذه الصيغة مدلولان. أولاً، مدلول آنيّ: من هو الأعظم اليوم في الكنيسة؟ ثانيًا، بُعد لا زمنيّ: بمعزل عن الأوضاع الكنسيّة الملموسة، من هو الذي يقدّم "أماكن الصدارة" للناس في نظر الله؟
إن ما أعطاه يسوع من جواب يلعب على تكامل بين الحاضر والمستقبل. فالدخول إلى الملكوت يحصل في الآتي من الأيام. غير أن الارتداد الذي يُتيح لنا أن ننعم به، وهو ارتداد يقوم بأن نرضى بالموقع الأدنى، هو واقع حاضر. فقبول هذه الوضاعة هو امكانيّة يعبّر عنها المستقبل. ولكن الذي يقبل ينال امتيازًا لازمنيًا. هذا يعني في الأساس أن وضعه جيّد.
الكنيسة هي موضع النداء إلى الملكوت. ولكنّنا نكون مغالين إن قلنا إنها تجلّي هذا الملكوت، لأن الجواب على النداء قد يكون سلبيًا. هذا ما يكشفه حدثُ ثوب العرس الذي يختتم مثل المدعوّين إلى عرس ابن الملك (22: 11-14). أما الملكوت، فالمهمّ ليس الوقت الذي فيه يظهر، بل الواقع القائل بأنه دومًا أمامنا، دومًا أبعد منا، فلا نستطيع أن نمسكه أو نمتلكه أو نحدّده. وأنه على المؤمن أن يعيش في انشداد باتجاه هذا الواقع الذي لا نستطيع أن ندركه.
هذا ما يبرزه نصّ التطويبات (3:5-10). فالأولى والثامنة تقولان عن الفقراء بالروح وعن المضطهدين من أجل البرّ: "ملكوت الله لهم" (3:5، 10). الفعل هو في صيغة الحاضر، فالملكوت هو الآن لهم. أما في التطويبات الست الباقية، فالأفعال هي في المضارع، وهي تدلّ على أوضاع حسنة محفوظة للودعاء والباكين... غير أن هاتين الصيغتين، الحاضر، المضارع، لا تملكان حقًا قيمة زمنيّة: إنهما تعبّران عمّا إليه يقود الفقر بالروح أو روح الفقر، روح الطفولة الروحيّة، والوداعة والبكاء. قد يتحقّق كل هذا الآن، أو غدًا، أو في الأزمنة الاسكاتولوجية، في نهاية الزمن بالنسبة إلى المؤمن ساعة موته، أو بالنسبة إلى الكنيسة في مجيء المسيح. هذا لا يهم. فالمهمّ هو أن نحيا حياة خاصّة يقدّم يسوع "دستورها" في هذه التطويبات. يجب أن نتأكّد بأن ما قاله يسوع سيتمّ حتمًا. أما متى يتمّ والظروف التي فيها يتم، فهذا أمر ثانوي.
وهكذا يتحرّر ملكوت السماوات من البعد الزمنيّ، أي متى يأتي، فيتّخذ بعدًا أخلاقيًا واضحًا. نحن اليوم نطلبه بتصرّف يتوافق و"الشريعة" التي قدّمها يسوع، مهما كان زمن تجلّيه الأخير.
منذ رُفض اسرائيل الذي نجد أفضل تعبير عنه في مشهد الازدراء بملك اليهود (27:27- 31)، والكنيسة هي المكان المميّز لاقتبال النداء إلى الملكوت. فيسوع الذي قال للأحد عشر: "أنا معكم كل الأيام حتى انقضاء الأزمنة"، (28: 20). ما زال يُرسل هذا النداء. والحقبة الانجيليّة لا تفترق أساسًا عن زمن الكنيسة؛ فالرب ذاته هو هنا وهناك. ونقول الشيء عينه عن ملكوت الله؛ ليس المهمّ الحاضر أو المستقبل. المهمّ هو يقين يعلن لنا بأن الملكوت الذي دُعينا إليه هو حقيقيّ، بل هو أكثر واقعيّة من أوضاع موقّتة (وقد تكون صعبة) يجب على المؤمن أن يمرّ فيها.

خاتمة
تحدّث مرقس عن ملكوت الله. ولكن متّى بدا وكأنه بني انجيله كلّه على ملكوت الله، أو بالأحرى على ملكوت السماوات. لهذا أطلنا مرافقتنا للانجيل الأول. وها نحن نعود في بداية مقالنا إلى الانجيل الثاني، إلى إنجيل مرقس بما فيه ارتباط بالزمان والمكان، فنتحدّث عن مُلك يسوع المسيحانيّ. فيسوع دخل إلى المدينة المقدّسة كالملك المسيح. ونجد هذا النموذج عنده حتى الساعة التي فيها يُسلم روحه على الصليب، فيدلّ على أنه سيّد هذا الملكوت الذي سلّمه إليه الآب. وسرف نرى كيف واجه خصومه بكرامة ملكيّة رفيعة.
فالملك الذي يأتي، والذي ترجوه الجموع وهي ترافق نبيّ الجليل الرب على جحش وضيع، يهتف له الناس: "مملكة أبينا داود" (11: 10). وهكذا يبرز بوجه واسع لقبُ "ابن داود" الذي أعطاه ابن طيما الاعمى ليسوع (10: 47- 48). ويبيّن يسوع، فيما بعد، سلطانه على ملكوت الله وكل ما يلامس هذا الملكوت، فيرسم الحدود بين مجال سلطة الله ومجال سلطة قيصر (12: 13- 17). ويقول لكاتب فهم فهمًا خاصًا متطلّبات الشريعة، إنه "ليس بعيدًا عن ملكوت الله" (28:12-34). ويذكّر السامعين أنه ان كان لقب ابن داود يليق بالمسيح، فالمسيح هو أكثر من ذلك. هو ربّ داود (12: 35-37). وفي النهاية وخلال العشاء الأخير، تحدّث يسوع عن الوليمة المسيحانيّة التي رافقتها الخمرة الجديدة: "لن أشرب بعد من ثمر الكرمة، إلى يوم الذي أشربه فيه جديدًا، في ملكوت الله" (22:14-25). وهكذا يوجّه يسوع أنظارنا إلى الأزمنة الاسكاتولوجيّة.
بدأ مرقس وتبعه متّى. ويدرك هذان الانجيلان أن مُلك يسوع لن يُفهم حقًا إلاّ في جوّ الآلام والموت. فعلى الصليب يُعلن يسوع "ملك اليهود". وبعد الموت، يفهم يوسف الرامي أنه يستطيع بعد اليوم أن "ينتظر ملكوت الله" (مر 43:15). بدأ الملكوت يتحقّق على الصليب وفي القيامة. وهو لن يتحقّق كليًا إلاّ في مجيء يسوع في المجد. يبقى علينا أن ننتظره بالايمان، وبالعيش اليومي بحسب وصايا الله وانجيل المسيح. يبقى علينا أن نعرف أن كل عمل من أعمالنا الصالحة، وكل فكر، وكل قول، وكل تصرف، تبني الملكوت حجرًا حجرًا. وما بدأه الله على الصليب يكمّله فينا يومًا بعد يوم حتّى ساعة عودته التي نكون قد عملنا لها ولم ننتظرها في حالة من الجمود والكسل.
عودة المسيح تملأنا منذ الآن فرحًا ورجاء، وتفتح لنا أبواب السماء، وتقوله لنا إننا أبناء الله وإن لم يتجلّ بعدُ للعبيد الذين لم يفعلوا إرادة سيّدهم. أما نحن فتفهمنا هذه العودة أن ذاك الذي خدمناه في حياتنا الخدمة الصادقة، "سيُتكئنا ويدور يخدمنا" (لو 12: 37). وهكذا نشاركه في أعراس السماء. أما متى يكون ذلك؟ فهذا أمر ثانويّ. وكل قلق وكل همّ يبعداننا عن هذا الملكوت الذي لا يأتي بالرصد والترقّب. فالملكوت هو في داخلنا ونحن نعيش فيه، فلا يبقى لنا ألاّ أن نهتف هتاف المؤمنين الأوّلين: "تعال أيها الرب يسوع". فيجيبنا: "نعم إني آت عن قريب" (رؤ 22: 20).
هذا هو مفهوم الملكوت عند يسوع. لقد اقترب في شخصه. جاء يسوع فجاء الملكوت معه. إنه الملك الذي بدأ يجمع كنيسته. وإذ يعلن لذلك الكاتب أنه ليس ببعيد عن الملكوت، فهو يعني أنه بدأ يدخل في روحانيّة الانجيل، في هذا الجديد الذي يقدّمه يسوع. يعني أنه صار من تلاميذ يسوع. هذا الملكوت هو في داخلنا. لا هو هنا ولا هو هناك. هو فينا منذ بدأنا نعيش متطلّبات الانجيل. لقد بدأ الملكوت يفعل في العالم، وهو سيكون في تجلّيه عند ساعة الموت ومجيء الرب في المجد. لهذا، لما طلب اللص من يسوع أن يذكره في ملكوته، وعده يسوع بالفردوس. لأن الملكوت هو في النهاية حالة السعادة التي يحفظها الله للذين غُفرت خطيئتهم. هذا اللص أو بالأحرى هذا الثائر على السلطة الرومانية قد يكون سمع بيسوع، وعند الصليب تفجّرت النعمة فيه فجعلته يطلق النداء نحو يسوع فيأتيه الجواب وعدًا بالسعادة في النعيم.
في النهاية تبقى نظرة بولس وما فيها من أمور عمليّة. قد حرّض أهل تسالونيكي على أن "يسلكوا حياة تليق بالله". وتابع قائلاً: "الله يدعوكم إلى ملكوته ومجده" (1 تس 2: 12). وتجاه هذا يقول لأهل كورنتوس: "أما تعرفون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله؟ لا السارقون ولا الفجّار... يرثون ملكوت الله" (1 كور 9:6-10). فملكوت الله ليس كلامًا ونوايا طيّبة. إنه قدرة الله (1 كور 4: 9-20) التي تتجلّى في حياة المؤمنين وفي أعمالهم. وليس ملكوت الله من الأرض: "وهو ليس أكلاً ولا شربًا. إنه برّ وسلام وفرح في الروح القدس" (روم 17:14). هو برّ حين يجعلنا في حياة حميمة مع الله الذي يبرّرنا، وعن هذا البرّ ينتج السلام والفرح.
هذا هو ملكوت الله الذي أعلنه يسوع في كرازته. هذا هو ملكوت الله الذي دخل فيه الرسل حين التحقوا بيسوع. هذا هو الملكوت الذي نناله حين نسلك سلوكًا يليق بالله. هو من عالم الأرض وهو من عالم السماء. ظنّه اليهود فقط من عالم أرضي مع صورة عن الوليمة التي يشاركون فيها دون سائر البشر. ولكن يسوع تعدّى هذه الصورة وأعطى للوليمة معنى يبدأ في سرّ الافخارستيا التي هي طعام روحيّ، وينتهي في الوليمة السماوية التي هي مشاركة في سعادة الله مشاركة لا تزول. حينئذ "يسلّم المسيح الملك لله الآب" (1 كور 15: 24)، بعد أن يكون جمع في شخصه "كل ما في السماء وما على الأرض" (أف 1: 10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM