الفصل الثالث عشر: من جبل سيناء إلى جبل طابور

الفصل الثالث عشر
من جبل سيناء إلى جبل طابور

مقدّمة
أن حدث التجلّي على الجبل، بمشهد من بطرس ويعقوب ويوحنا، قد أثّر في التلاميذ أيّ تأثير. فتأمَّلت فيه الكنيسة، ودوّنه كلّ من الانجيلييّن متّى ومرقس ولوقا، وذكرته رسالة بطرس الثانية لتبيّن حقيقة التعليم عن مجيء المسيح في نهاية الأزمنة.
أورد متّى الحدث، فأبان فيه كيف أن الرسل تذوّقوا لذّة الحياة مع المسيح التي لن تكون كاملة لهم إلاّ إذا شاركوه في آلامه. وأورد مرقس الحدث، فأرانا فيه ظهور الرب في شخص يسوع، ظهورًا لن يفهمه التلاميذ قبل القيامة. وأورد لوقا الحدث، فوضع أمامنا صورة مسبقة لمجهـد سيكشف عنه الرب بقيامته وصعوده.
جعل الانجيليون حدث التجلّي في الحقبة الثانية من حياة المخلّص. اعترف به سمعان بطرس باسم التلاميذ مسيحًا وابن الله الحي، ولكنّ الشعب رفض أن يؤمن به. حينئذ أخذ يسوع يولي اهتمامه لتلاميذه، فكشف لهم سرّ شخصه عبر المصير المعدّ له، وأفهمهم أن المسيح الذي هتفوا له هو أيضًا ابن الانسان الذي يصعد إلى أورشليم ليموت هناك ويقوم.
والسر الذي يكشفه يسوع لتلاميذه له وجهان، وجه مظلم ووجه مجيد. ولكن التلاميذ يصطدمون بالوجه المظلم ولا ينتبهون إلى الوجه المجيد. يعتبر المسيح صعوده إلى أورشليم دخولاً في المجد، ولكن التلاميذ يرون في هذا الصعود مسيرة إلى الموت. يعلن لهم عن موته ويتبع إعلانه هذا بذكر قيامته في اليوم الثالث. ولكن التلاميذ لا يفهمون شيئًا من ذلك فيتشكّك بطرس، ويحزن الباقون، ويبقى مخطّط الله غريبًا عنهم.
فكيف السبيل إلى ادخال الرسل في سرّ المسيح قبل القيامة؟ بالتجلّي. في ذلك الوقت سيرون مجد يسوع في دقيقة عابرة فيجدون بعض الجواب لتساؤلهم. قال لهم يسوع: "في الحاضرين هنا من لا يذوقون الموت حتى يشاهدوا ابن الانسان آتيًا في ملكوته" (مت 16: 28).
ولم ينتظر اليوم الأخير حين يجيء "في مجد أبيه مع ملائكته فيجازي كل واحد حسب أعماله" (مت 16: 27)، بل أراد لثلاثة من تلاميذه أن يروا مجده. من أجل هذا تجلّى أمامهم فعرفوا من الصوت السماوي أنّ عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه، وأن يثقوا به ويتبعوه في الطريق التي تؤدّي إلى أورشليم، في طريق المجد التي تمرّ عبر الصليب.
وأخبر التلاميذ الثلاثة بما رأوا على الجبل، فلجأوا إلى لغة الكتاب المقدس في العهد القديم ليعبّروا عن اختبار يفوق الادراك البشريّ، وانطلقوا من أساليب عرفوها في التوراة ليملأوا قلوب السامعين خوفًا ويدعوهم إلى سماع كلمة الله والعمل بها.
تأمّلوا في هذا الحدث الذي عاشوه على جبل طابور، كما يقول التقليد، فتذكّروا حدثًا آخر، لا بل أحداثًا وقعت على جبل سيناء يوم ظهر يهوه (أي الرب) على شعبه وسط الغمام والبروق والرعود، فكلّم موسى وأعطاه وصاياه؟ ويوم ظهر لإيليا فنفحه بالقوّة ليتابع رسالته النبوية وسط شعبه. سنعود إلى هذه النصوص وغيرها من العهد القديم فنستلهمها وندرك على ضوئها ما خفي علينا من سرّ الله.

1- على جبل سيناء
يروي سفر الخروج كيف تجلّى الله على جبل سيناء، فيقولن: "وحدث في اليوم الثالث عند الصباح أن كانت رعود وبروق وسحاب كثيف على جبل سيناء، وصوت بوق شديد جدًا، فارتعد جميع الذين في المحلّة. فأخرجهم موسى من المحلّة لملاقاة الله، فوقفوا عند أسفل الجبل، والجبل يلفّه دخان، لأن الرب نزل عليه بالنار، فتصاعد دخانه كدخان الأتون واهتزّ الجبل اهتزازًا شديدًا. وكان صوت البوق يرتفع جدًا، وموسى يتكلّم والله يجيبه بهزيم الرعد" (خر 16:19-19).
في هذا الاطار المهيب الذي يصوّر أمامنا انفجار بركان، أحسّ الشعب بحضور الله: رعد وبرق، نار ودخان، صوت بوق يجعل الجبل يهتزّ اهتزازًا. كان الشعب قد استعدّ للقائه بالرب ثلاثة أيام، فطّهروا أنفسهم وغسلوا ثيابهم. وها هو موسى يتقدّمهم إلى أسفل الجبل ليعبدوا الرب هناك ويسمعوا صوته. ولما أخبر موسى الشعب بجميع كلام الرب وأحكامه، أجاب جميع الشعب بصوت واحد: "كل ما تكلّم به الرب نعمل" (خر 3:24).
في هذا الاطار المهيب، صعد موسى إلى الجبل مع هارون وناداب وأليهو وسبعين شيخًا من شيوخ بني اسرائيل، ولكنه اقترب وحده من مكان حضور الله، وخاطب الله: "إن كنت رضيت عني فأرني طريقك حتى أعرفك وأحتفظ برضاك. فقال له الرب: أنا أسير معك وأهديك. فأجاب موسى: كيف لأحد أن يعرف أنك راض عنّي. فقال الرب لموسى: هذا الذي قلته لك (ووعدتك به) أفعله، لأني رضيت عنك وعرفتك باسمك. فقال موسى: أرني مجدك. فقالت الرب: سأعرض كلّ جلالتي أمامك وأنادي باسمي أنا الرب على مسمعك، وأتحنّن على من أتحنّن وأرحم من أرحم. وقال: أما وجهي فلا تقدر أن تراه، لأن الذي يراني لا يعيش. وقال الرب: هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة، وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخرة وأغطّيك بيدي حتى أمرّ. ثم أزيح يدي، فتنظر قفاي. وأما وجهي فلا تراه" (خر 13:23- 22).
هذا الاختبار الروحي الذي عاشه موسى على جبل سيناء، طبع حياته كلها بطابع الحضور الالهي وارتسم على وجهه، فما عاد بنو اسرائيل يستطيعون أن ينظروا إلى هذا الوجه المشعّ (خر 34: 20) لمجد طلعته (2 كور 3: 7). وعرف موسى ثلاثة أمور.
الاول: لا يستطيع الانسان أن يعرف الله في ذاته وواقعه الحميم، بل في ما يترك وراءه من آثار حنانه ونعمته ورحمته. هو الرب بالذات الذي أعلن اسمه على مسمع موسى: يهوه، أي الكائن الذي هو وليس أحد سواه. الثاني: يستطيع الانسان أن يرى قفا الله، أي أن يرى الله بعد أن يكون قد مرّ. وهذا يعني أنه يرى أعماله المجيدة في الكون، ولكنه لا يستطيع أن يرى الله وجهًا لوجه فيدرك مسبقًا مخططاته ويحدّد له أعماله. والثالث: لا يستطيع الانسان أن يعرف الله بذاته ما دام حيًا على هذا الأرض. بإمكانه أن يرى الله من خلاله أعماله كما في مرآة، وبعد موته يراه وجهًا لوجه (1 كور 13: 12)، يراه كما هو (1 يو 3: 12). ولكن بطرس ويعقوب ويوحنا قد شاهدوا لحظة مجد الله بالذات متجلّيًا على وجه يسوع، فانطبعت حياتهم بهذا الحدث الذي سيرافقهم إلى أن يلاقوا الرب يسوع في مجده.
ويروي سفر الملوك الأول أن إيزابيل، زوجة أخاب ملك السامرة، هدّدت إيليا بأن تقتله فتجعله مثل كهنتها المقتولين بحدّ السيف. "حينئذ خاف إيليا وقام وذهب هائمًا على وجهه... ثم سار في البريّة مسيرة يوم حتى جاء وقعد تحت شجرة وزّال وتمنّى الموت لنفسه. ولكن لمسه ملاك الله وأعطاه طعامًا جعله يسير بقوته أربعين يومًا وأربعين ليلة إلى أن يصل إلى جبل حوريب أو سيناء. ودخل إيليا المغارة، تلك التي قعد فيها موسى قبله، وبات هناك. فخاطبه الرب بقوله: ما بالك هنا يا إيليا؟ فقال: غيرة للرب الاله القدير... وها هم (الملكة وحاشيتها) يطلبون حياتي ليأخذوها. فقال: أخرج وقف على الجبل أمام الرب فالرب عابر أمامك. وهبّت ريح عظيمة وشديدة شقّت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب، ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة، ولم يكن الرب في الزلزلة. وبعد الزلزلة نار، ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت هادئ خفيف. فلما سمع إيليا الصوت (عرف أنه صوت الرب) ستر وجهه بعباءته وخرج ووقف بمدخل المغارة" (1 مل 19: 3-13). وكلّمه الرب ثانية.
من خلال هذه الرؤيا عرف إيليا أن الرب حاضر في عمله الشديد القوي الذي به يهزّ الأشجار ويعرّيها من أوراقها (مز 29: 19)، كما هو حاضر في صوت النسيم الرقيق الذي حضر يوم الخلق روحًا (تك 1: 2) يحمل الحياة والخلاص. وعرف أن الرب هو إله الصمت والسكوت، لا إله الضجة والصخب، هو الاله الذي يُعبد عبادة القلب قبل هتاف الشفاه. وعرف أخيرًا كما عرف موسى قبله أن لا أحد يستطيع أن يرى الله وجهًا لوجه. من أجل هذا ستر وجهه بعباءته، فسمع الصوت دون أن يرى الوجه.
هذان المشهدان على جبل سيناء يهيّئان المؤمن ليذهب إلى جبل آخر، هو جبل طابور، حيث تجلّى يسوع، ابن الله، فرأى بطرس ويعقوب ويوحنا مجده، وسمعوا صوتًا من السماء يدعوهم.، كما دعا بني اسرائيل في ما قبل، إلى سماع كلام المرسل إليهم: "هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا".

2- على جبل طابور
قبل أن نقرأ خبر التجلّيّ على ضوء العهد القديم، سنورد ما قاله الرسل عن هذا الحدث الفريد في حياة يسوع، والذي كان صورة مسبقة للمجد الذي سيكون له بعد قيامته من بين الأموات.
أ- إنجيل متى (17: 1-13)
بعد أن أورد متّى شهادة بطرس بحقيقة يسوع وأول إنباء ليسوع بموته وقيامته، قال: "وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا..." (17: 1)، فربط حدث التجلي بآيتين: الاولى تعلن ما يطلبه يسوع من الذين يريدون أن يتبعوه (16: 24). والثانية تصرّح بأن بعض الحاضرين هنا سيشهدون مجد ابن الانسان (28:16). أجل، جاء حدث التجلّي في هذا المكان من إنجيل متّى ليعطي الرسل الثلاثة تذوّقًا مسبقًا لحياة حميمة مع يسوع لن يكتشفوها كاملة إلاّ بعد أن يشاركوه في آلامه المجيدة.
في التجلي هَمُّ يسوع همَّان. أوّلهما الاستعداد للآلام له وللتلاميذ؛ ولهذا جاء الحدث كشعاع شمس يضيء ظلام هذه الحقبة التي تقوده إلى الموت. وثانيهما تعليم الجماعة التي ستتابع رسالته من بعده، فتفهم أن يسوع هو عبد يهوه والنبي منذ عماده، وأنه موسى الجديد وحامل الشريعة الجديدة منذ خطبته على الجبل (مت 7:5)، وأنه في النهاية سيرسل تلاميذه ليعلّموا تلاميذ جددًا ليحفظوا جميع ما أوصاهم به (مت 28: 19-20). أما حدث التجلّي فسيجمع هذه العناصر كلّها في لحظة نفهم من خلالها أن يسوع هو ابن الله الذي نسمع له، وأنه ابن الانسان الذاهب على طريق المجد رغم الآلام التي تسبق القيامة.
نقرأ حدث التجلّي عند متّى فنلاحظ أن الاطار الرمزي لما يحصل ليسوع هو إطار النور: "أشرق وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور" (17: 2). ويقول عن الرسل: "ظلّلتهم سحابة مضيئة" (17: 5). النور علامة تدلّ بطريقة حسيّة على حضور الله. إنه انعكاس لمجد الله. من أجل هذا، ومن أجل الصوت، وقع التلاميذ الثلاثة "على وجوههم وهم في خوف شديد".
ويعبّر متّى عن اختبار الرسل في ثلاث مراحل. في مرحلة أولى يتدخّل بطرس فيقول: يا سيّد، يا رب، معتبرًا أن يسوع هو الله (كيريوس هو لقب الرب في الترجمة السبعينية)، ويعرّف به كمسؤول في جماعة الاثني عشر. رأى إشعاع وجه الربّ (رج خر 29:34-30؛ رؤ 1: 16)، وفهم من حضور موسى وإيليا أن الازمنة المسيحانية قد حلّت وأن يسوع جاء يدشّنها. في مرحلة ثانية تأتي الغمامة وتقطع على بطرس كلامه. لاشكّ في أن العالم الجديد جاء في شخص المسيح، ولكن لا بالطريقة التي ينتظره فيها الناس. من أجل هذا كانت الغمامة التي رآها الشعب في الزمن القديم، والتي سيراها في الازمنة المقبلة، لتبيّن لنا حضور الله في شخص يسوع حضورًا حقًا وإن خفيًا. وفي مرحلة ثالثة يسمع التلاميذ الصوت الالهي: هذا هو ابني الحبيب (مز 2: 7؛ تك 22: 2؛ أش 42: 1) الذي به رضيت (دا 9: 23؛ 10: 11-19)، فله اسمعوا (تث 18: 15). ووقع التلاميذ (دا 10: 10) كما يقع كل الذين يرون رؤى، فأقامهم يسوع كما من الموت فساروا وراءه.
ب- إنجيل مرقس (9: 2-13)
أورد مرقس حدث التجلّي فنقل إلينا وحيًا عن دور يسوع في نهاية الازمنة. غير أن هذا الوحي يرجع هنا إلى يوم خاص ولحظة خاصة، ويتوجّه إلى بضعة أشخاص فقط، ويجعلنا أمام سرّ لا أمام رؤية واضحة ونهائية.
يقول الانجيلي: "بعد ستة أيام". هذه العبارة تذكّرنا بالوقت الذي قضاه موسى على جبل سيناء قبل أن يدخل في الغمام (خر 16:24). إذًا نحن أمام فترة من الزمن تشكّل استعدادًا لوحي عظيم. ويسوع هو كلمة الله، وهو يحمل إلينا لوحة الوصايا الجديدة. وبما أن الشريعة الأولى أعطيت مع موسى في اليوم السابع، فالتجلّي في اليوم السادس يذكّرنا بأن الرسل عاشوا الزمن السابق ليوم ملء الزمان وكماله.
أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا، أخذ ثلاثة شهود ليدخلوا في وحي يكشف شيئًا عن هويّة يسوع، ابن الانسان، الآتي ليدشّن ملكوت الله المنتظر في نهاية الازمنة. نحن أمام سر خفي، أمام سر مسيحاني يكشفه المخلّص للتلاميذ عندما يأخذهم على حدة (6: 31-32؛ 13: 3).
المكان الذي تجلّى فيه المسيح هو جبل عال، هو الموضع المميّز للقاء الانسان بالله. بعد أن صعد موسى الجبل وكلّمه الله هناك، صار الجبل مركز الوحي في نهاية الازمنة. إن ما حدث ليسوع يوم التجلي سيحدث للقديسين في نهاية الازمنة. انطلاقًا ممّا قاله الكتاب بأن أديم وجه موسى كان يشعّ (خر 34: 29)، تصوَّرت الاسفار الجليانية تحوّل الكائنات بعبارات تدلّ على النور، على اللون الأبيض، على الثياب التي تتلألأ. وعندما أورد مرقس هذه الصور أراد أن يبيّن لنا أن نهاية الازمنة التي فيها تتحوّل البشرية من حالة إلى حالة قد جاءت مع يسوع.
يسوع تجلى، وتجلّيه لم يكن اشعاعًا خارجيًا فحسب، بل كشف عن عمق كيانه الالهي. تجلّى فظهرت حياته الحميمة عبر بشريته.
ج- إنجيل لوقا (28:9- 36)
يورد لوقا حدث التجلي فيذكّرنا بعماد يسوع وتجاربه في البريّة. ففي حدث التجلي كما في حدث العماد نراه يصلي، ونسمع صوتًا من السماء. وفي حدث التجلّي كما في حدث التجارب، تتوجّه أفكارنا في النهاية إلى أورشليم التي هي خاتمة الطريق التي سيسلكها قبل خروجه من هذا العالم. ونقرأ حدث التجلّي فنذكر ما حدث في بستان الزيتون ليلة نزاعه. في الحالتين يبدأ الخبر بصلاة يسوع، فتتمّ الرؤية، ونجد الرسل نائمين. في الحالتين نستشفّ جوّ القيامة المجيدة فيذكرنا الرجلان قرب يسوع بالرجلين الواقفين أمام القبر المفتوح (24: 4)؛ ونتطلّع إلى تجلٍّ آخر ليسوع في أورشليم يوم أظهر مجده عبر الغمام وصعد إلى السماء (أع 1: 1- 5).
بعد مقدّمة تذكر الظروف والزمن والاشخاص والمكان، يحدث شيء ما يتعلّق بيسوع، ثم يصل رجلان يشهدان عن مصيره. تجاه هذا الحدث يبدو الرسل بين النوم واليقظة، ويتكلّم بطرس دون أن يدري ما يقول. وجاءت غمامة فخاف التلاميذ، ثم سمعوا صوتًا يكشف لهم سرّ الابن. بعدما حدث ما حدث، ها هو يسوع وحده، وها هم الرسل ساكتون صامتون.
أول ما يلفت انتباهنا هو أن كل هذا حدث بينما كان الرب يصلّي، فيعبّر في صلاته عن اتحاده التام بأبيه عبر مخطّطه الذي هو خلاص العالم في مجابهة الخطيئة والموت. وهنا نرى، بوجه خاص، أنه يُدخل تلاميذه الثلاثة في عمق شخصه الذي لم يعد غامضًا بالنسبة إليهم، بل مشعًا. لقد صار وجهه "آخر". تغيّرت هيئته الخارجية، ولكن شخصه لم يتغيّر. إنه هو هو قبل التجلّي وبعده.
يقول لوقا: "بعد نحو ثمانية أيام". كان عيد المظال يدوم سبعة أيام، ستة منها للتكفير وسابع للابتهاج والفرح (لا 33: 34-36). بعد أن انتهى عيد المظال، بدأ عيد آخر ليسوع وتلاميذه. وحدث التجلّي يتمّ في جوّ عيد المظال، يوم تصعد جميعُ الأمم إلى أورشليم ليسجدوا للرب القدير (زك 14: 16).
ذهب الفادي إلى الجبل، كما كان يذهب إلى البريّة (5: 16) ليصلّي هناك. قبل أن يختار رسله قضى ليله كلّه في الصلاة (6: 12). أيكون أن صلاته يوم التجلّي تمّت في الليل، وهذا ما يفسّر النعاس في بطرس ورفيقه (9: 32)، كما سيحدث لهم ليلة نزاعه في بستان الزيتون (رج مت 26: 43؛ مر 14: 40).
"وإذا رجلان". هذه العبارة توجّه نظرتنا إلى الشرع اليهوديّ الذي يعتبر وجود شاهدين أمرًا ضروريًا ليصح القول (رج دا 12: 5). بعد قيامته سيكون على قبره رجلان (24: 4)، وفي الطريق سيتراءى لرجلين (24: 13) ويرسلهما ليشهدا للقيامة. وعند صعوده سيظهر رجلان في ثياب بيضاء (أع 1: 10) يعلنان للرسل عودة الرب إليهم كما ذهب إلى السماء. وهذان الرجلان حدّثاه عن رحيله الذي سيتم في أورشليم، وأورشليم هي مركز خلاص البشر، ورحيل يسوع هو مجمل حياته على الأرض التي تشبّه بطريق أو رحلة تبدأ بدخوله إلى العالم وتنتهي بخروجه منه بموته وقيامته وصعوده. وهكذا يكون التلميح إلى الآلام واضحًا. بالآلام يدخل مجده ويجرّ البشريّة كلّها وراءه، وهكذا يتمّ مخطّط الله في السرّ الفصحي.
أمام هذا الحدث كان الرسل بين اليقظة والنوم، وهذا يعني أن السر كان بالنسبة إليهم واضحًا وغامضًا معًا. هم لم يدخلوا بعد في سر الحدث بإيمان. إنهم يدركون حضورًا يسكن يسوع، ولكنهم لا يستطيعون أن يفسّروه بعد، ولا حقّ لهم في أن يخبروا به قبل أن يقوم ابن الانسان من بين الأموات (مت 9:17).
د- إنجيل يوحنا (12: 20- 32)
إن لحدث التجلّي أهميّة في سيرة حياة المسيح، وقد ذكره يوحنا كما ذكره الانجيليون الازائيون، ولكنه لم يذكره كما ذكروه. بالنسبة إلى يوحنا، ليس التجلّي واظهار مجد الرب حدثًا ورد مرّة من المرّات، في النهار أو في الليل، وانتهى أمره، بل هو واقع يرافق وجود الكلمة المتجسّد طوال حياته على الأرض. والتجلّي لا يتمّ أمام تلاميذ ثلاثة اختارهم الرب، بل أمام بعض اليونانيين (وهم يمثّلون الأمم الوثنية كلها) الذين جاؤوا إلى أورشليم بعد دخول يسوع الهًا وطلبوا باهتمام أن يروه.
نقرأ أولاً كلام يسوع: "من أحبّ نفسه خسرها، ومن أنكر نفسه في هذا العالم حفظها للحياة الابدية. من أراد أن يخدمني، فليتبعني، وحيث أكون أنا يكون هو خادمي" (12: 25-26). واضح أن هاتين الآيتين قريبتان من آيات نقرأها في متّى (16: 24-25) ومرقس (8: 34-35) ولوقا (9: 23-24)، وهي تسبق حدث التجلّي وتلقي ضوءًا على مصير ابن الانسان الذي سيمجّده الآب السماوي.
ثم نقرأ: "أتت الساعة التي فيها يتمجّد ابن الانسان" (23:12)؛ "يا أبي، مجّد اسمك! فإذا صوت من السماء يقول: مجّدته وأمجّده أيضًا" (12: 28).
تخلّى يوحنا في هذا النص عن عناصر الخبر الرؤيوي، من غمام ونور وشعاع وثياب، واقتصر معه الكلام على العنصر الجوهري الذي هو الصوت السماوي المعلن لمجد يسوع. وهذا المجد لا نستشفّه فقط من خلال وجهه وثيابه، بل هو يرتبط باسم الآب. هذا المجد ليس ظهورًا عابرًا ونقطة نور في مسيرة الزمن، بل حضور يرتدّ إلى الماضي ويفيض على المستقبل. هذا المجد ليس قمّة من حياة المسيح نراها وقتًا قصيرًا عندما تتمزق السماوات، بل نور دائم هو نور حضوره على الأرض. فالمؤمنون تتجلّى أمامهم أعمالُه بفعل ينبوع نور داخلي فيه فتصبح لهم آيات يتعرّفون من خلالها على أعمال الآب ويرون فيها مجد الابن. منذ بداية انجيله قال يوحنا: "رأينا مجده" (1: 14)، وليس فقط وقت التجلي (لو 9: 32)، وهذا المجد لم يره فقط ثلاثة رسل محظوظون، بل كلُّ المؤمنين الذين يمكنهم أن يشاهدوا مجده لأنه لأجلهم كان هذا الصوت الذي دوى من السماء (12: 30).
هـ- رسالة بطرس الثانية (16:1-18)
نقرأ في رسالة بطرس الثانية شهادة عن حدث التجلّي: "فما اتّبعنا نحن خرافات ملفقة حين أطلعناكم على قوّة ربنا يسوع المسيح وعلى مجيئه، لأننا بعيوننا رأينا عظمته. فحين نال من الله الآب اكرامًا ومجدًا وجاءه من مجد الله تعالى صوت يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت، سمعنا نحن هذا الصوت آتيًا من السماء، وكنا معه على الجبل المقدس".
لا يذكر هذا النصّ الغمامة ولا المظلّة ولا أشخاصًا جاؤوا من السماء. وإن تحدث عن الصوت فهذا الصوت آت من السماء لا من الغمام. وإن تحدّث عن الجبل فهو الجبل المقدس لا جبل عالم. وإن شدّد على مجد الله وعظمته فهو لا يقول للمؤمنين: اسمعوا له، بل يعلن لهم أهمية سماع صوت الرسل الشاهدين للمسيح بعدما صارت أحداث الماضي أساسًا لتعليم الكنيسة للمؤمنين.
أوردت الرسالة هذا الحدث كضمانة إلهيّة عن مجيء الرب في نهاية الازمنة، وكبرهان للذين يشكّون في هذا المجيء (3: 4- 5). كان بإمكان بطرس أن يورد ظهورات القيامة، ولكنه فضّل إيراد حدث التجلّي لأنه يرينا مجد يسوع في زمن الشقاء فيعطي لاحداث التاريخ معناها على ضوء نهاية الازمنة.

3- المعاني الكتابية
بعد أن أوردنا النصوص الكتابيّة عمّا حدث على جبل سيناء وما حدث على جبل طابور، نتطرّق إلى المعاني الكتابية التي رجع إليها الكتّاب الملهمون ليصوروا اختبارًا يفوق ما يتصوّره العقل ويتعدّى ما يصل إليه الادراك. وهذه المعاني هي خمسة: الجبل، ضياء المجد، موسى وإيليا، المظال أو الخيام، الغمام أو السحاب.
أ- الجبل
قال لوقا: "وصعد إلى الجبل". وقال متى ومرقس: "إلى جبل مرتفع". الجبل هو، أولاً، مكان الانفراد والاعتزال. وهو، ثانيًا، مكان اللقاء بالله. الجبل هو عادة أقل سكانًا من السهل المحيط به. من أجل هذا تعوّد المخلّص أن يتفرد فيه، أن يذهب إليه كمكان قفر (رج مت 18: 12؛ لو 15: 4) يكون فيه وحده. هذا ما فعل بعد تكثير الخبز. أراد أن يبتعد عن الضجة والشهرة التي لا تنفع "فصرف الجموع وصعد إلى الجبل ليصلي في العزلة". وكان في المساء وحده هناك. ويقول يوحنا: "وعلم يسوع أنهم يهمّون باختطافه ليقيموه ملكًا، فانصرف وعاد وحده إلى الجبل" (يو 6: 15).
والجبل هو مكان اللقاء بالله. ففي تاريخ الديانات، تلتقي السماء بالأرض على الجبال العالية. وإذا أراد الله أن ينزل إلى الأرض ليزور البشر، فهو يجعل من الجبل موطئًا لقدميه. وعلى جبل التجلي سيشاهد التلاميذ الله في شخص يسوع المسيح.
ولكننا نتساءل: ما اسم الجبل الذي أنعم الله عليه بنوره؟ لا يجيبنا الانجيليون على سؤالنا، لأن كل جبل هو جبل الرب؛ وكل جبل يمكن للرب أن يتجلّى عليه، أكان جبل طابور أو جبل سيناء أو جبل حرمون أو غيره من الجبال.
جبل صهيون هو الجبل المقدس الذي عليه أقام الله ملكه (مز 2: 6)، وفيه يقول صاحب المزامير: "جبل صهيون، يا جبل الله! جبال باشان يا جبال القمم، لمادْا ترصدين بعين الحسد جبلاً ارتضاه الله مقامًا له، بل إلى الأبد يسكنه الرب" (مز 68: 16-17).
جبل صهيون سيتَّخذ في تقليد الأنبياء والمعلمين معنى اسكاتولوجيًا، فيوجّه أنظارنا إلى نهاية الازمنة. يقول أشعيا مثلاً: "في آخر الأيام يكون جبل بيت الرب في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال. تقصده كل الأمم، وينطلق إليه شعوب كثيرون ويقولون: هلمّ نصعد إلى جبل الرب، إلى جبله المقدس" (أش 2:2-3).
ولكن الانجيليين يهمّهم أن يقولوا إن الجبل ليس جبل صهيون القائم منذ الازمنة القديمة. فالمسيح قد اختار جبلاً غير جبل صهيون فنزع الهالة عنه. قلّل يسوع من عظمة اليهودية حيث تقوم أورشليم وهيكلها، ورفع مقام الجليل، لأن الجليل الذي تلتقي فيه الأمم قد تلقّى زيارة الله له. قال متّى في بداية انجيله: "الشعب الجالس في الظلمة، في جليل الأمم، أشرق عليهم نور الرب" (4: 15- 16)؛ وقال في نهايته، إن يسوع سيتراءى لتلاميذه في الجليل، ومن هناك يرسلهم بعد أن يوليهم كل سلطان في السماء والأرض (28: 6).
كان الرب قد اختار جبل سيناء فأظهر مجده لشعبه في البرية. ثم اختار جبل صهيون: ولما بنى عليه سليمان الهيكل، ملأ الرب الهيكل من مجده (1مل 8: 10- 11). وها هو يسوع يختار جبلاً في أرض الجليل، ويختار هذه الأرض التي تنفتح على جميع الأمم، لأن خلاص الله أرسل إلى الوثنيين وهم سيستمعون إليه. وإذ أراد الرب أن يكشف لنا وحيًا جديدًا، اختار أرضًا جديدة. إنه موسى الجديد الحاضر على جبل طابور، على مثال موسى الأول، السامع لكلام الرب على جبل سيناء.
جبلُ العهد القديم الذي هو موضع ترائي الله هو جبل سيناء، حيث أعطى الله موسى لوحَي الوصايا (خر 24: 12) واستقبل إيليا (1 مل 19: 8) بعد مسيرة دامت، لا أربعين سنة كالعبرانيين، لكن أربعين يومًا وأربعين ليلة (رج مز 28:34 عن موسى). أما الجبل الذي تجلّى عليه يسوع فهو سيناء الجديد. وكما انتظر موسى ستة أيام قبل أن يدعوه الرب ويكلّمه (خر 24: 15-16)، كذلك انتظر الرسل ستة أيام قبل أن يشاهدوا مجد ابن الانسان وملكوت الله آتيًا بقوّة.
ب- ضياء المجد
كيف السبيل إلى التعبير عن مجد الله؟ كيف السبيل إلى رسم النور المتجلي على الوجه الالهي؟ رجع الانجيليون إلى الصور والتشابيه. قال متى ومرقس إن يسوع تجلّى أمام عيونهم، تراءى فشاهدوه. ولكن ماذا شاهدوا؟ صوّر متى ضياء وجه المسيح وشبّهه بالشمس، ومثَّل بالنور بهاء ثيابه. أما مرقس فتحدّث عن لمعان ثيابه وشبّهها بالثلج، واعتبر أن الانسان لا يمكنه أن يأتي بمثل هذا البياض. أما لوقا فشاهد منظر وجهه يتبدّل من حال إلى حال، يتّخذ شكلاً آخر غير الذي تعوّد عليه التلاميذ، ونظر ثيابه بيضاء لامعة كالبرق. هكذا تراءى المسيح بعد قيامته لتلميذي عمّاوس، تراءى لهما يشكل آخر (مر 16: 12).
كانت رغبة الناس في القديم أن يتحرّروا من عبودية الجسد ليدخلوا في حالة من المجد. ولكنهم كانوا يعتبرون أن هذا التحوّل سيكون نتيجة مجهود شخصي أو طقس سحري. أمّا في التقليد اليهودي، فالكاتب يصوّر لنا هذا التحوّل بصيغة المجهول ليدلّ على أن الفاعل هو الله وحده، وأنه يفعل بطريقة تخفى عن البشر. الانسان يتأمّل، والله هو من يُشبع رغباته إذا شاء. وهذا التحوّل سيتم في نهاية الازمنة: تتبدّل وجوه الأبرار إلى جمال مضيء ويتلألأون كالملائكة الذين يشبهونهم، ويمتلئون مجدًا.
هذا الرجاء الاسكاتولوجي يستند إلى الماضي ويصوّر المستقبل. يستند إلى الماضي فيتذكّر موسى الذي كان أديم وجهه يشعّ بعد أن يخاطبه الرب. ويصوّر المستقبلَ على ضوء سفر دانيال القائل: "ويضيء العقلاء كضياء الفلك، والذين علّموا الناس الصدق يكونون كالكواكب إلى الدهر والأبد" (دا 12-3). واليوم، وأمام أعين التلاميذ سيصبح أمل الناس واقعًا منظورًا عبر هذا الانسان يسوع المسيح، وعلى هذا الجبل. وإذا كانت كلمة الآب: "هذا هو ابني" تذكّرنا بابن الله الموجود منذ الازل، ففعل التجلّي يدلّنا على حضور مجد الله النهائي في شخص يسوع المسيح.
انطلق الانجيليون من صُوَر عرفوها فعبّروا عن الحدث قدر استطاعتهم. تحدّثوا عن البياض، ولكنه ليس بياضًا عاديًا: إنه لونُ ما في السماء، لون ما نجده في الأيام الأخيرة. فسفر دانيال (9:7) يصوّر لنا شيخًا بلباس أبيض كالثلج وبشعر كالصوف نقي. وسفر الرؤيا يصوّر لنا ابن الانسان بلباس أبيض كالصوف الأبيض أو كالثلج (14:1)، جالسًا على سحابة بيضاء. فالبياض هنا يعني اللمعان أو الضياء، وهو يغيّر وجه يسوع. وإذا كان الوجه مرآة القلب، فالضياء في وجه المسيح يخرج من نبع خفي عن أنظار البشر، هو مجده الذي شهده الرسل.
أجل، إن الضياء يكشف كشفًا منظورًا عمّا في الله ويعكس لنا مجده. في هذا المجال يدخل الضياء كعنصر يساعد الكاتب على تصوير ظهور الرب. فالضياء لباس يختلف به الرب (مز 2:104) الذي يجيء كلمعان البرق ومن يده يسطع نور (حب 4:3). قبّة السماء التي يجعل الله فيها عرشه تبدو كالياقوت الأزرق (خر 24: 10؛ حز 1: 22)، والنار تحيط به (خر 19: 18؛ 17:24)، وسهامه ترسل بروقًا وسط العاصفة (مز 18: 15). كل هذه اللوحات الرمزية تربط بين حضور الله وتأثير الضوء الباهر في الانسان فيقع على الأرض. وعندما يتحدّث سفر الحكمة عن النور فهو يجعله ملازمًا لجوهر الله. يذكر الحكمة التي هي اندفاق المجد فيقول إنها "ضياء النور الأزلي... وهي أبهى من الشمس وأسمى من النجوم، إذا قيست بالنور تقدّمت عليه" (حك 17:17-29).
الضياء يكشف عن مجد الله، ومجد الله هو الله بالذات، كما يكشف عن ذاته في جلالته وقدرته وبهاء قداسته ونشاط كيانه. ومجد الله يتجلّى للبشر فيرونه في أعماله العظيمة وفي ظهوره. هذا المجد ظهر في الغمام أمام هارون وجماعة بني اسرائيل في البريّة (خر 16: 10)، وقد طلب موسى أن يراه في صلاة خاشعة حين قال: "أرني مجدك" (خر 18:33). في سيناء اتّخذ مجدُ الرب شكل اكليل من نار (خر 24: 5-7؛ تث 5: 22). وبعد سيناء أحاط مجد الله بالمعبد الذي كرّسه بحضوره. هذا المجد الذي رآه أشعيا (6: 1) في الهيكل بشكل ملوكي سيعمّ البشريّة كلها عندما يجمعهم الرب ليأتوا ويروا مجده (أش 66: 18).
هذا المجد الذي هو خاص بالله، لأنه وحده القدوس، قد دخل في هذه الساعة في هذا الانسان يسوع، فتدفّق على ثيابه وانعكس على وجهه وكشف لنا عن عمق كيانه الالهي. فهو "بهاء مجد الله وصورة جوهره" (عب 1: 3)، وهو "رب المجد" (1 كور 2: 8)، وفي وجهه نرى مجد الله (2 كور 4: 16). هذا المجد الالهي الذي لفّ الرعاة بضيائه ليلة الميلاد (لو 2: 9- 10)، قد رآه التلاميذ في الرب فاكتشفوا ما سيكونه عندما يرتفع بالمجد أو عندما يعود بمجد أبيه مع ملائكته القديسين. هذا المجد شاهده اسطفانس قبل موته، وعمي بولس من نوره؛ وهو سينعكس على وجهنا، نحن المؤمنين.
ج- موسى وإيليا
"وتراءى لهم موسى وإيليا". ما هو سبب وجود هذين الشخصين قرب يسوع في تجلّيه؟ التفاسير عديدة. تفسير أول يقول: موسى يرمز إلى الشريعة وايليا إلى الأنبياء. ولكننا نقول إن الصوت السماوي ألمح إلى أن النبي الآتي يكون على مثال موسى، لا على مثال إيليا. تفسير ثان يقول: موسى وإيليا هما الشاهدان اللذان تحدّث عنهما سفر الرؤيا (11: 3-7): واحد أغلق السماء فما نزل مطر في أيام نبوءته، وواحد خرّب الأرض بالبلايا.
وتفسير ثالث ينطلق من نصوص الرابينيّين (أي المعلمين اليهود). فيرى في إيليا صورة عن المسيح المتألم. نلاحظ ذلك في الحوار بين يسوع والتلاميذ وهم نازلون من الجبل، بعد التلميح إلى إيليا الذي سبق له فتألم في شخص يوحنا. قال يسوع: "جاء إيليا فما عرفوه، بل فعلوا به على هواهم. وكذلك ابن الانسان سيتألم" (مت 17: 12-13). لهذا لا يستبعَد، بحسب التقليد المستند إلى ملاخي (23:3-24)، والذي يلمّح إليه يسوع في جوابه للتلاميذ، أن يكون إيليا هو سابق المسيح الذي جاء إلى الأرض بشخص يوحنا المعمدان، وقد جاء على الجبل لأنه السابق للمسيح. ولقد قال أحد المعلّمين: "قال يوحنا بن زكاي: قال الله لموسى: عندما أرسل النبي إيليا ستأتي معه". لاشك في أن هذه الأفكار كانت تتفاعل في فكر التلاميذ فتصوّروا أن موسى "النبي" أتى ليحيّي النبي الأخير، وأنه أتى برفقة إيليا "السابق" للمسيح. إذًا موسى وإيليا أتيا على جبل سيناء الجديد، وكانا قد صعدا جبل سيناء القديم، ليدلاّ على أن الزمان قد تمّ والمسيح جاء.
د- المظال أو الخيام
"ما أجمل أن نكون هنا"! هذا ما قاله بطرس ليعبّر عن سعادته بوجوده مع رفيقيه على الجبل المقدس. فلننصب ثلاث مظال، فالأيام أيام عيد، والعيد عيد المظال.
عيد المظال هو العيد الثالث في روزنامة اليهود الدينية. يسمَّى العيد (1 مل 2:8)، ويُحتفل به في شهر أيلول بعد قطف الأثمار. لهذا هو أيضًا عيد القطاف (خر 23: 16).
لعيد المظال، كما لعيد الفصح وعيد العنصرة، طابعان اثنان. الأول يعود إلى أصله: هو عيد زراعي واسمه يدلّ على معناه. فكلمة مظال تذكّر الناس بخيم بصنعونها من أوراق الشجر ويقيم فيها أفراد العائلة عندما ينضج العنب ويطيب. والثاني يربط عيد المظال بذكرى تاريخية من حياة بني اسرائيل، هي إقامتهم في البرية أربعين سنة تحت الخيام: "تقيمون في المظال سبعة أيام... لكي يعلم أبناؤكم أني في المظال أسكنت بني اسرائيل حين أخرجتهم من أرض مصر" (لا 23: 42-43).
كيف كان المؤمنون يحتفلون بهذا العيد في زمن المسيح؟ تورد المشناة الطقوس التالية: خلال ذبيحة الصباح يحرّكون سعف النخل وأغصان الأشجار (لا 23: 40) ويدورون حول المذبح فينشدون:" يا رب خلصنا، يا رب أنقذنا. أنت الهي فاعترف لك، أنت الهي فارفعك" (مز 18: 25-28). كل يوم يذهب الكهنة إلى عين سلوان فيأتون بالماء يسكبونه عند زاوية مذبح المحرقات. في الليلة الأولى من العيد يضيئون الأنوار، وفي اليوم السابع، آخر أيام العيد، يدورون مرات وهم ينشدون".
في إطار هذا العيد، عيد الفرح، أحسَّ التلاميذ بالنشوة أمام الرب المتجلي: ثلاث مظال ليسوع ورفيقيه في العلاء، وثلاث مظال لبطرس ورفيقيه على الأرض؟ وما يحدث على الأرض صورة لما يحدث في السماء. نزلت السماء على الأرض، وعلى أهل الأرض أن يستقبلوا زوّارهم كما فعل ابراهيم مع ضيوفه الثلاثة الذين جاؤوه عند الظهيرة (تك 18: 1).
ثم إن التقليد اليهودي ينبّهنا إلى أن المظال الابدية التي يتحدث عنها لوقا (16: 9) ترمز إلى المسكن السماوي، والسكن في الخيمة يذكّر المؤمن بإقامة الرب وسط شعبه وبزيارة الأبرار في نهاية الأزمنة. كل هذا دفع بطرس إلى الظنّ أن نهاية الازمنة قد جاءت، وأن السماء نزلت على الأرض، وأن ما ظهر من المسيح في لحظة من اللحظات سيدوم إلى الأبد.
ولكن بطرس لم يكن يدري ما يقول، بسبب الخوف الذي استولى عليه وعلى رفيقيه. أمام الله الذي يزور الانسان، يشعر الانسان بالخوف الشديد. أحسَّ النبي أشعيا (6: 5) أنه قريب من الموت بعد أن رأى الله، وصُعق النبي حزقيال (2: 1-12) أمام عظمة الله، وسقط التلاميذ على وجوههم إلى الأرض حين سمعوا الصوت الآتي من السماء (متى 17: 6). ولكن يسوع سيِّد الحياة دنا ولمسهم وقال لهم: "قوموا، لا تخافوا".
ضاع بطرس. هل يريد أن يجعل دقيقة من الزمان زمانًا لا نهاية له؟ هل نسي أنه في آخر الازمنة سيجمع الله الشعب كله، بل كل الشعوب، ولن يكتفي بثلاثة أشخاص؟ قال: "لنصنع ثلاث مظال" وهو يطلب أن تكون هذه اللحظة دائمة أبدية. كيف يستطيع أدن يصنع لله مسكنًا في السماء؟ هل السماء هي كالأرض، أم تكون الأرض مثل السماء؟ ضاع بطرس، ولم يفهم السر الذي أمام عينيه، كما لن يفهم سرًا آخر سيكون شاهدًا له، ألا وهو سر نزاع يسوع في الجسمانية (مر 37:14). غير أنه فهم أمرًا واحدًا وهو أنه أمام زيارة السماء للأرض، فعبّر عن سعادته وصوّر انخطافه وتمنّى أن لا تنتهي تلك الرؤية السماوية، وأن يبقى يسوع متجليًا فلا يرجع إلى الأرض ليعرف العار والألم والموت. كان قد قال للرب: "لا سمح الله يا سيد! لن تلقى هذا المصير" (مت 6-22)، ولكن أفكار الله غير أفكار البشر!
هـ- الغمام أو السحاب
طلب بطرس من الرب أن يجعل ثلاث مظال (أو خيام) لتظلّل يسوع ورفيقيه، لتغطيهما وتحميهما من عيون الناظرين، فجاءت الغمامة. الخيمة من صنع البشر، أما الغمامة فمن صنع الله. الخيمة تجعلنا في الظلام، أما الغمامة فمضيئة نيّرة. ولكنها حين تدلُّ على الله تُخفيه عن عيوننا، وإذ تكشف لنا سرّ حضوره تجعلنا نحسُّ ببعده وغيابه.
تأمَّل المؤمنون في الغمام، فوصل بهم تأملهم إلى حكمة الله القديرة: "إن الله عظيم فوق ما نعلم... يجذب قطرات الماء ثم تهطل مطرًا لثقلها. تفيضها الغيوم وتصبّها على البشر مطرًا جديدًا. من يفهم كيف تنتشر السحب وكيف يقصف الرعد في السماء" (أي 26:36-29). تأمل المؤمنون في الغمام، فاختبروا من خلالها حضور الله الفاعل في الأرض. السحاب خفيف سريع؛ لذا هو رسول الله وحامل خيره على البشر (أش 5: 6؛ مز 78: 23) ومركبته إليهم. وهو ثقيل مظلم، لذا فهو حجاب كثيف حول السماء (أي 3:22!)، وحول مسكن الله (مز 18: 12)، وهو يغطي الأرض بظلمته كزوبعة رهيبة تهدد البشر.
يقول سفر الخروج "إن الرب كان يسير أمام شعبه نهارًا في عمود من غمام وليلاً في عمود من نار ليسيروا نهارًا وليلاً" (13: 21). الرب حاضر دومًا مع شعبه فلا تتوقّف مسيرته. ويقول أيضًا (14: 20): "إن الغمام كان مظلمًا من هنا (من جهة المصريين، ومصر ترمز إلى عالم الخطيئة) ومنيرًا من هناك" (14: 20) (من جهة بني اسرائيل). أجل إن سرّ الله وقداسته يجعل الخاطئ بعيدًا عنه، ونعمته تجعل البارَّ قريبًا منه.
تكلّم الرب على جبل سيناء؟ ولما تكلّم غطّى الغمام الجبل مدة سبعة أيام، ونزل الله على الجبل بشكل نار، فارتجف الجبل كله (خر 19: 16). ومن الغمام الذي غطّى الجبل كلّم الرب موسى، الذي له وحده الحق في دخول الغمام (خر 24: 14-18). فالغمام يحمي مجد الله ويدلّ عليه: "ظهر مجد الرب بشكل غمام" (خر 19: 10)؛ فكان إذا "ارتفع السحاب تابع بنو اسرائيل سيرهم، وإذا ظلَّ السحاب لزموا مكانهم" (خر 40: 36-37).
والغمام هو أيضًا علامة حضور الرب. ولكننا في هذا النص نتطلّع إلى الغمام الذي يحمل شخصًا هو ابن الانسان الآتي في نهاية الازمنة، ونتوقف عند صورة الغمام التي هي خيمة للرب تحميه وتغطّيه: "جعل الظلمة سترًا له والغيوم الداكنة مظلّته" (مز 18: 21). ويبدو أننا هنا أمام حدث يتمّم نبوءة قيلت سابقًا، وقد حفظها التقليد اليهودي: "وحينئذ يُبرز الرب من جديد (في نهاية الازمنة) آنية العبادة ويبدو مجد الرب في الغمام كما ظهر في أيام موسى، وكما ظهر حين سألت سليمان الرب أن يقدّس الهيكل تقديسًا الهيًا" (2 مك 8:2). فكما أن الغمام غطّى الغمام والمجد، هكذا يكون في نهاية الازمنة. فمجد الرب الذي ترك الهيكل، سيعود مع الغمام. وعلى جبل التجلّي الذي ينيره المجد المفاض على المسيح والمتلأليء عبر ثيابه، نزل الغمام علامة حضور الله بالذات. نزل الله بذاته في شخص يسوع المسيح بشكل ممجّد على الأرض؛ نزل لحظة، بانتظار أن يدوم مجده بعد قيامته من بين الأموات.
والغمام لا يغطّي فقط يسوع ورفيقيه، بل التلاميذ الثلاثة أيضًا: "وخاف التلاميذ عندما دخلوا الغمام" (لو 9: 34)، "الذي ألقى عليهم ظلّه" (مت 17: 5؛ مر 9: 34). هذا يعني أن الرسل ليسوا مجرد مشاهدين ينظرون إلى الامور من بعيد وكأنها لا تعنيهم، بل هم أشخاص قد أدخلوا في سرّ حدث يتعدّى ادراكهم، ولكنه يتّصل بهم مباشرة. فالنبوءة التي أشرنا إليها عن ظروف مجيء المجد والغمام، قد قرب وقت اتمامها، والموضع الذي تُخبّأ فيه آنية العبادة، والذي "سيبقى مجهولاً إلى أن يجمع الله كل الشعب ويرحمهم" (2 مك 2: 7) صار معروفًا. من أجل هذا أدخلنا الانجيليون في إطار حدث التجلّي، وهو إطار تكوين جماعة التلاميذ التي ترمز إلى الكنيسة. أجل! إن عمل الجمع بدأ، وقد ظهر في وحدة التلاميذ الثلاثة الذين يمّثلون جماعة التلاميذ كلهم في وحدتهم مع الشخصين السماويين، أي وحدة السماء بالأرض. كان يسوع قد جمعهم حول كلمته؛ وها هو الآن يكرّس هذا التجمع بالغمام الذي يغطّي موسى وإيليا والتلاميذ الثلاثة، أي أنه يغطي السماء والأرض. ولم يتجلَّ يسوع لنفسه، بل من أجل التلاميذ الذين يسمعونه، وهم يؤلفون جماعة واحدة معه ومع السماء بقدر ما يسمعون صوته ويعملون بكلامه.

خاتمة
إن قمّة حدث التجلّي هي الكلمة السماوية. وهذه الكلمة الآتية من العلاء تجدّد ما قاله الآب يوم عماد يسوع: "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" (مت 17:3)؛ وتضيف: "فله اسمعوا". ونحن نسمع ونتأمل فنكتشف في حدث التجلّي ثلاثة أمور عن يسوع: هو ابن الله، هو عبد يهوه، هو النبي.
يسوع هو ابن الله. فعبارة "هذا هو ابني الحبيب" هي قول على الابن الكائن منذ الأزل، وليس على المسيح المختار فحسب. ولقب ابن الله يرجع إلى تفسير الجماعة المسيحية للمزمور القائل: "قال الرب لي: أنت ابني وأنا المجرم ولدتك" (2: 7). وفي يوم العماد جاء يسوع بصورة انسان خاطئ إلى يوحنا المعمدان، فأعلن الآب: "هذا هو ابني الحبيب". وفي يوم التجلّي بدا يسوع ذلك الانسان المتألّم، فأكّد الآب: "هذا هو ابني الحقيقي".
ويسوع هو عبد يهوه الذي رضي الله عنه: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرّت به نفسي" (أش 42: 1)؛ "هذا هو ابني الذي اخترته" (لو 9: 35). فكان هذا الكلام بمثابة ختم على تصرّف المسيح الذي اختاره الرب ومسحه، وأرسله إلى العالم.
ويسوع هو النبي. إن الصوت الالهي القائل للتلاميذ: "فله اسمعوا" يذكّرنا بما قاله موسى في القديم: "سيقيم لكم الرب نبيًا. فاسمعوا له في جميع ما يقول لكم" (تث 18: 15). وهذا الكلام أورده بطرس في خطابه (أع 3: 22)، فأبان لنا أن الرب عندما أقام يسوع أرانا فيه موسى الجديد النبي المنتظر لنهاية الازمنة (أع 37:7). أجل! إن الصوت الآتي من السماء هو الكفالة الالهية بأن يسوع هو النبي الذي يجب أن يسمعوا له، وأنه به يرتبط الخلاص الذي وعد به كل من يحمل صليبه ويسير وراءه. فعلى التلاميذ أن يجعلوا ثقتهم بيسوع الناصري الذي يعيش معهم ويُسمعهم تعاليمه.
في حدث التجلّي أعلن الآب لممثّلي الرسل أن يسوع هو ابنه الحبيب ومختاره وعبده الذي رضي عنه، أنه النبيّ الذي يجب أن يسمعوا له ويعملوا بأقواله ويسيروا على خطاه على طريق المجد عبر الصليب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM