الفصل الثاني عشر :يسوع وعائلته، الحبل البتولي

الفصل الثاني عشر
يسوع وعائلته، الحبل البتولي

كثرت الشيع فتكاثرت الأسئلة حول بتولية العذراء. حوله ولادة يسوع. حول إخوة يسوع. منذ القديم نادت الكنيسة ببتولية العذراء. قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة. كما فهمت النصّ الإنجيلي حول يسوع الذي كان الابن الوحيد لمريم. لهذا، جاء هذا المقال يقدّم دراسة تنطلق من النصّ الإنجيلي عن يسوع عائلته، وعن الحبل البتولي.
منذ زمن بعيد، ترك العقلانيون (لا يؤمنون إلاّ بالعقل) ما يقوله الانجيل عن الحبل البتولي بيسوع. هم ينطلقون من علم الولادة والوراثة، فيجدون أن مثل هذا الحبل غير معقول. ولكننا نقول نحن إننا أمام عمل خلاّق قام به الله، ولا يستطيع أن يتصوّره عقل بشر.
لماذا نطرح هذا الموضوع؟ لأن جاك دوكان يرفض هذه الحقيقة الايمانيّة في كتابه "يسوع". يسمّي هذا الكاتب نفسه "كاثوليكيًا مقتنعًا في إيمانه". ومع ذلك نراه يتخلّص من هذه العقيدة باسم النقد الكتابي الذي تعلّمه لدى العقلانيّين والبروتستانية المتحرّرة من كل تقليد. إذن، يجب أن نلغي من "نؤمن" عبارة: "ووُلد من مريم العذراء". بل لماذا لا نقول: "وُلد من مريم"؟
نتوقّف أولاً عند الشهادة الإنجيلية، ثم عند خبرَي الطفولة لدى متى ولوقا. وفي النهاية، نتحدّث عن عائلة يسوع.

1- الشهادة الانجيلية
نبدأ فنطرح السؤال: لماذا لم يُعلن الحبل البتولي بيسوع منذ بداية نشر الإنجيل؟ والجواب: لأنه وجب تثبيت القول الأساسي بأن يسوع هو "ابن الله"، وهذا انطلاقًا من أحداث حياته العلنية وآلامه وموته وقيامته من بين الأموات. ويقين هذه القيامة المؤسّسة على ظهورات القائم من الموت لتلاميذه ولشهود آخرين (أكثر من 500 أخ، رج 1 كور 15: 5-7)، كشف في النهاية "لشهوده" معنى أقواله وحياته وأزال الشكّ الذي سبّبه موته.
وانطلق "الشهود" من هذه الخبرة، ففهموا الطريقة التي بها نتوجّه إلى الله فقالوا: "أبّا، أيها الآب". وكان لهذه الطريقة بُعدٌ خارق يتجاوز الشعور "ببنوّة بالتبني". إنه ابن الله حقًا لا عن طريق الاستعارة. ابن الله في الطبيعة، لا في النعمة. ومجيئه على الأرض كان نتيجة مخطط الله الذي جعله وسيط خلاصنا. قال عنه بولس: "وُلد من امرأة، وُلد تحت الشريعة" (غل 4: 4). وُلد من امرأة فكان إنسانًا حقيقيًا متضامنًا مع جميع البشر. ووُلد تحت الشريعة لكي يتمّ المواعيد الالهيّة التي نقلها إلينا الأنبياء. وزاد بولس الرسول في روم 1: 4: "ثبت أنه ابن الله في القدرة بقيامته من بين الأموات".
وصارت كنيسته "الموضع" الذي فيه تُمنح نعمة الخلاص إلى البشر، بواسطة الايمان: إيمان بالله الذي "أرسل" إلى الأرض ابنه يسوع. إيمان بيسوع الذي أتمّ رسالته الخلاصية حتى مات بإرادته، فقدّم حياته لخلاص إخوته البشر.
ذاك كان الموضوع الأساسي في الكرازة الانجيلية، التي بدأت شفهية بشكل إعلان احتفالي، ثم تثبّتت في مواد مكتوبة في كتاب "رفيق الواعظ"، وأخيرًا جمعت في إنجيل أول هو إنجيل مرقس. ونحن نجد رسمة هذه المجموعة بشكل موجز في خطبة بطرس في أع 36:10-42: كل شيء بدأ في عماد يسوع على يد يوحنا. وكل شيء انتهى بقيامة يسوع الذي بعث رسله في مهمة التلمذة والتعميد والتعليم: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به" (مت 19:28).
بعد أن "فهموا" شخص يسوع، وفسّروا أعماله وموته، وتيقّنوا من حضوره الخفيّ في كنيسته، إستطاعت الجماعات المسيحية الأولى أن تنتقل إلى سؤال آخر: كيف ومتى أقيم يسوع في وضع فريد في الكون، وضع ابن الله؟ هل كان ذلك منذ قيامته؟ ولكن القيامة كشفت عن شخص يسوع خلال حياته على الأرض. هل كان ذلك منذ معمودية يوحنا؟ فالتقليد الذي سلّمه الرسل، يقول بأن هذا العماد كان موضوع ظهور حميم (هذا هو معنى "دنح" في العالم السرياني، أبيفانيا في العالم اليوناني) لله: "أنت ابني الحبيب الذي عنه رضيت" (مر 1: 11). لكن هذا لم يكن إلاّ إعلانًا لواقع وُجد قبل المعمودية. إذن، وجب على الفكر المسيحي أن يعود أيضًا إلى الوراء، إلى ميلاد يسوع والحبل به.

2- خبرا الطفولة في متى ولوقا
وُجدت في الوسط المسيحيّ الأوّلاني تقاليد تتعلّق بطفولة يسوع. وفي ساعة موته وقيامته، وُجد أقلّه شاهد مميّز لهذه الطفولة. هو مريم أمه. لاشكّ في أن مريم حافظت على سرّها تجاه الفضوليّين، ولكنها باحت ببعض الشيء لأقرب المقرّبين إليها في الكنيسة. لا شكّ في أننا لا نجد تفاصيل وتوسّعات كما في أحداث حياة يسوع العلنيّة، أو في مضمون كرازته. ولكن جوهر هذا السرّ وصل إلينا بشكل تلميح في إنجيل يوحنا، وبشكل واضح عند متى ولوقا.
عرف متى ولوقا- اللذان كتبا في السنوات 80-85- سرّ مريم، وتحدّثا عنه في مقدّمة لإنجيل يستعيد تصميم إنجيل مرقس الذي دوّن في السنوات 67-70. وصلت إلى متى ولوقا تقاليد تتعلّق ببداية يسوع في طريقين مختلفين. إنطلقا من هذه التقاليد ودوّنا ما دوّنا في أسلوب بيبلي يدلّ على معرفتهما العميقة بالكتب المقدّسة.
لم يكن همّهما أن يرويا "خبرًا تقويًا عن الطفل يسوع"، بل أن يفهما فهمًا صحيحًا بداياته، ويدلاّن على أنه أتمّ الكتب المقدسة (رج مت 1: 23: حدث هذا لكي يتم). فبحث نقدي يتوقّف عند مادية التفاصيل التاريخية، عند مادية تتطرّق إلى الواقع دون أن تفسّره، يمرّ قرب النصّ دون أن يفهم مضمونه الحقيقي. وبحث يلغي هذه التفاصيل التاريخية من أساسها لأن متى ولوقا أعطياها بعدًا روحيًا رمزيًا، يصل بنا إلى إنجيل نكتبه من عندياتنا وتصوّراتنا، إلى إنجيل لا يتحدّث عن يسوع المسيح ابن الله الذي تجسّد لأجلنا من مريم البتول. إذن، يجب أن نأخذ أسلوبًا آخر من أجل قراءة النص.
ونبدأ فنتفحّص النقاط التي فيها تتقاطع الأخبار الانجيلية، مهما تنوّعت المراجع التي استقي منها، والطريقة التي بها عرض مضمونها. فمنظار متى يختلف عن منظار لوقا. أعاد لوقا قراءة الأحداث من وجهة مريم. ورواها متى من وجهة يوسف. ولهذا، سوف نرى اختلافات لافتة في مسيرة هذين الخبرين.
إذا عدنا إلى لوقا، رأينا أن كل شيء ينطلق من الناصرة. لهذا وجب عليه أن يفسّر لماذا ولد يسوع "الناصري" (الذي من الناصرة) في بيت لحم. ويجد الجواب في إحصاء فرضه الامبراطور ونفّذه كيرينيوس (لو 2: 2). قد يختلف العلماء حول شخص كيرينيوس واحصائه. ولكن الانجيلي لا يشدّد على هذه الوجهة الخارجية من التاريخ، بل على المعنى الالهي لهذه الولادة. وُلد يسوع كما يولد البشر، ووُضع في القمط واضجع في مذود. ولكن هذا الطفل يتجاوز جميع البشر. فقد قال عنه الملاك: "وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب" (لو 2: 11-12).
أما عند متى، فكل شيء ينطلق من بيت لحم: هناك وجد المجوسُ الطفل مع والديه "في بيت" (في منزل) (مت 2: 11). بقي على الانجيل الأول أن يفسّر لماذا أقام يسوع أخيرًا في الناصرة. فذكرَ وصول أرخيلاوس بن هيرودس إلى الحكم (مت 2: 22).
نستطيع أن نجادل إلى ما لا نهاية لنعرف أيًا من التقليدين كان قريبًا من التاريخ "الواقعي" (أي كما حصل حقًا. هذه فضولية مريضة). فتقليد متى يعود إلى أسرة يسوع. أما وراء خبر لوقا، فنجد ذكريات مريم التي وصلت إلى الانجيلي الثالث بشكل أو بآخر.
ولكننا نتوقِّف عند نقاط التقاطع الأربع بين إنجيلَي متى ولوقا. فقد اهتمّ بها الايمان المسيحي في زمن الانجيليين. فهذا الايمان متطلّب على مستوى التاريخ وإن لم يساعدنا الطابع اللامحدّد للتقاليد المحفوظة على إعادة بناء التفاصيل في لوحة تاريخية متكاملة. انطلق متى ولوقا من هذا الايمان فدلاَّ على ثبات هذه الأمور التاريخيّة، ودوّنا ما فهما في أسلوب "بيبلي" يتوسّل الصور والرموز ليعبّر عن واقع إلهي يتعدّى مفهوم البشر.
وإليك هذه النقاط كما برزت عند الانجيليين.
الأولى: إن مريم العذراء حبلت بيسوع قبل أن تسكن مع يوسف تحت سقف واحد. نقرأ في مت 1: 18: "تبيّن قبل أن تسكن معه أنها حبلى من الروح القدس". وفي لو 1: 34 نقرأ تساؤل مريم: "كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً"؟ فجاءها الجواب: "الروح القدس يحلّ عليك". هذا ما لخّصه قانون الايمان فقال: "تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء".
النقطة الثانية: حين خُطبت مريم ليوسف وأقاما معًا، صار يسوع الوارث الشرعي للمواعيد التي أعطيت لداود ولنسله، فكانت تلك إشارة أولى إلى وظيفته المسيحانية المقبلة. لقد رأى مت 1: 1 انتساب يسوع إلى داود وابراهيم. وأنهى سلسة أجداده فقال: "ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولدت يسوع الذي يُدعى المسيح" (مت 1: 16). وقال لو 23:3 عن يسوع إن الناس كانوا "يحسبونه ابن يوسف". ونقرأ في يو 6: 12 تساؤلا الناس: "أما هو يسوع ابن يوسف؟ نحن نعرف أباه وأمه".
النقطة الثالثة: وُلد يسوع في بيت لحم. وقد جعل متى كل أحداث طفولة يسوع في هذه المدينة الداودية التي كانت صغيرة فكبرت حين وُلد فيها من يرعى شعب الله (مت 2: 6). أما لوقا، فيحدّثنا عن صعود يوسف من "الجليل، من مدينة الناصرة، إلى اليهودية، إلى بيت لحم مدينة داود، لأنه كان من بيت داود وعشيرته" (لو 2: 4). ويلمّح يوحنا (7: 42) إلى هذا الأمر فيضع في فم اليهود سؤالاً يفرض جوابًا إيجابيًا: "أما قال الكتاب إن المسيح يجيء من نسل داود، ومن بيت لحم مدينته"؟
والنقطة الرابعة تقابل الثالثة فتقول: لقد أقام يسوع في الناصرة. في إنجيل لوقا، بشّر الملاك مريم في الناصرة (1: 26). ومن الناصرة ذهبت مريم إلى اليهودية (إن بيت لحم تقع في اليهودية، أما الناصرة ففي الجليل) (لو 1: 39). ومن الناصرة صعد يوسف إلى بيت لحم لكي يكتتب هناك. وفي نهاية إنجيل الطفولة حسب لوقا، عاد يسوع إلى الناصرة بعد أن قدّم في الهيكل (2: 39)، وبعد الحج وهو في الثانية عشرة من عمره (2: 51: رجع معهما إلى الناصرة). أما متى فيرى في مجيء يسوع إلى الناصرة ليقيم فيها، تتمة لما قاله الأنبياء: "يُدعى ناصريًا" (23:2). وبسبب هذا اللقب سيُدعى المسيحيون الأولون: "شيعة النصارى" (أع 32: 5). ويتكلّم يوحنا عن "يسوع ابن يوسف من الناصرة" (1: 45)، وعن تساؤل اليهود عن أصل يسوع من "الجليل" (7: 41، 52) حيث تقع الناصرة.
بعد أن نثبت هذه النقاط الأربع، نحاول أن نقرأ خبري متى ولوقا، فنكتشف الخلفيّة اللاهوتيّة في البناء البيبلي. لسنا أمام فيلم مصوّر عن الأحداث رآه شاهد حاضر، ولا أمام نقل حرفي لكلمات "سُجّلت" في ذلك الوقت. ليس لوقا ومتى صحافيين يبحثان عن أحداث مثيرة، ولا مؤرخين يطلبان دقّة التفاصيل. فإن كانا قد عرفا التفاصيل، فقد توخّيا أمورًا أخرى: أرادا أن يبّينا كيف سار مخطط الله في تاريخ سيرى فيه يسوع المسيح وابن الله دعوته تتّخذ شكلها وتهيّئه للحياة العلنية.
فقبل دعوة يسوع والحبل به وولادته، يجعلنا هذان الانجيليان نشهد دعوة مريم ويوسف. روى لوقا دعوة مريم من خلال مشهد البشارة، ومتّى دعوةَ يوسف من خلال "حلم" رآه فدعاه بأن يأخذ مريم امرأة له (مت 1: 20).
من الواضح أننا أمام خبر رؤية لا يُرى في العين المجرّدة: إنه يُبنى بتعابير جليانية (جلا، أي كشف) لكي يفهمنا ما حدث في حميمية العلاقات بين "الرائي" والله نفسه. من هذا القبيل، يكون تدخّل "الملاك جبرائيل" عنصرًا ثانويًا يرتبط بالاسلوب البيبلي في إيراد الخبر (رج دا 8: 5-8؛ 9: 21-22: جبرائيل الرجل الذي رأيته في الرؤيا طار سريعًا). ونقول الشيء عينه عن "حرفية" الحوار بين مريم والملاك جبرائيل. لسنا أمام تسجيل حرفي للخطبتين، بل أمام المعنى العام الذي تأمّلت فيه مريم طويلاً (لو 19:2) ودوّنه لوقا بطريقته الخاصّة.
حين أعلن الملاك إعلانًا غير متوقع بأن مريم ستكون أمًا، اعترضت اعتراضًا شديدًا: لا علاقة لها الآن برجل. لهذا ارتبط التشديد على هذه الأمومة التي لا تُفهم بتدخّل الروح الخالق (لو 1: 35). مثل هذا الحبل مستحيل. "فما من شيء غير ممكن عند الله" (آ 37). لا حبل "العاقر" اليصابات، ولا حبل البتول مريم.
أما الطفل الذي يولد هكذا خارج الطرق العادية، فيحدَّد وضعُه الدقيق في مخطّط الله بشكل موجز: سيكون المسيحَ ووارثَ عرش داود (آ 31-32) بصفته "ابن الله". سيكون "الابن" بمعنى تشرحه فقط "قدرة الله" (التي تظلّل الأمّ والطفل معًا) (آ 35). وسيتوضّح معنى كل هذا على ضوء حياة يسوع، موته وقيامته.
وتحدّث متّى عن دعوة يوسف الذي سيلعب هو أيضًا دورًا في مخطّط الله لا يحلّ فيه أحد محله. لا يقول الانجيلي شيئًا عن الوقت الذي مرّ بين دعوة مريم "التي حبلت من الروح القدس" (مت 1: 18) والسؤال الذي طرحه يوسف على نفسه: هل يأخذ إلى بيته مريم التي خطبت له؟ هنا لا نستطيع إلاّ أن نفكّر بأن مريم حدّثت يوسف عن دعوتها وعن الحبل بابن أعلنته السماء.
ولكن يبقى أنه لا يعرف ما يجب عليه أن يفعل تجاه هذا الوضع غير المتوقع، هذا مع العلم أنه لا يشكّ أبدًا في أمانة مريم. لهذا ما أراد أن يعطيها بشكل علني كتاب الطلاق (آ 19). فنبّهته السماء بأن عليه أن يدخل في مخطّط الله: أن يأخذ امرأته إلى بيته. أن يكون أب الطفل لا على مستوى الوراثيات، بل على مستوى العلاقة الحميمة التي تجعله أبًا حين يعطي الطفل اسمه. أن يسمّي الطفل يسوع (= الرب يخلّص) "لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم" (آ 21).
إن دعوة يوسف، شأنها شأن دعوة مريم، تقع خارج القواعد البشرية: سيكون أب الطفل بواسطة علاقته به، ولا يكون فقط مربّيه ومعيله. وهو يشارك مريم في تربيته فيعلّمه كيف يكون رجلاً في محيطه ومؤمنًا يدخل في مخطّط إله العهد. لا شكّ في أن هذا سينكشف شيئًا فشيئًا في الممارسة، مع طفل "ينمو في الحكمة والقامة والنعمة أمام الله وأمام الناس" (لو 2: 52).
نستطيع أن نستعيد الأحداث التي تتتابع في مت 1-2 ولو 1-2 فنرى انتقال هذا الطفل منذ الحبل والولادة إلى حياة يسوع في الناصرة وهو "عمانوئيل" أي إلهنا معنا" (مت 1: 22). وسيرينا لوقا كيف أن يسوع وعى ذاته وأكّد على مسؤوليته حين شارك للمرّة الأولى في الحج إلى أورشليم مع والديه (لو 2: 31-50). تحدّث يسوع عن الله مستعيدًا اللغة التي تعلّم أن يستعملها حين يتحدّث إلى يوسف "أبيه". قالت له مريم: "يا ابني، لماذا فعلت بنا هكذا؟ فأبوك وأنا بحثنا عنك معذَّبين". أجاب يسوع: "لماذا بحثتما عني؟ أما تعلمان أنه يجب أن أكون عند أبي" (آ 48-49)؟
في الواقع، حين نجمع كلمات يسوع وهو يصلّي إلى الله خلال حياته العلنية، نجده يستعيد هذه اللفظة المدهشة التي دوّنها مرقس في لغة أجداده: "أبّا، أيها الآب" (مر 14: 36)! ستعود هذه اللفظة في مت 11: 25-27= لو 10: 21-22 (أشكرك يا أبت)، في مت 42:26= لو 22: 42 (يا أبت إن شئت)، وفي مواضع أخرى عديدة.
ماذا نستنتج من هذه الملاحظات؟ يرى متى ولوقا أن الحبل البتولي بيسوع ووظيفة يوسف الأبوية ليسا صورًا أسطورية نُسقطها على ولادة سارت حسب الطبيعة البشريّة. لقد ارتبط هذا الحبل وهذه الأبوّة ارتباطًا حميمًا بدعوة مريم ويوسف التي ارتبطت بدورها بوضع يسوع الفريد: يسوع المسيح وابن الله. ولقد كان الحبل البتولي علامة ضرورية ليتعرّفا إلى واقع دعوتهما التي لا تدخل في معايير البشر. فالذين لا يقبلون بهذا الحبل لاجئين إلى "نواميس الطبيعة" يدلّون على أنهم غير مستعدين أن يعترفوا ببنوّة يسوع الالهيّة، أن يقرّوا بها كواقع إيماني خارق وغير منتظر، وهو يتجاوز معجزة الحبل البتولي.

3- عائلة يسوع
نحن هنا أمام مسألة مطروحة في أحداث تضع أمامنا "إخوة وأخوات يسوع" الذين لا تبدو صورتهم مشرِّفة في الأناجيل. حين ترك يسوع مهنته كنجّار في الناصرة، أرادوا أن يعيدوه إلى رشده (مر 3: 20- 31). وقفوا خارج البيت حيث يعلّم سامعين جلسوا حوله. فجاء من يقول له: "أمك وأخوتك يطلبونك" (مر 3: 32). أما هو فأجاب: "من هي أمي، ومن هم أخوتي"؟ ونظر إلى سامعيه وقال: "هؤلاء هم أمي وإخوتي! لأن من يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمي" (آ 33- 35).
وعرض يوحنا الأمور بشكل يختلف بعض الشيء. فبعد فترة من الكرازة في الجليل، قال ليسوع أخوته: "إنتقل من هنا إلى اليهوديّة حتى يرى التلاميذ الأعمال التي تصنعها: ما دمت تعمل هذه الأعمال، فأظهر نفسك للعالم" (7: 3-4)! ويلاحظ الانجيلي أن "اخوته أنفسهم لم يكونوا يؤمنون به" (آ 5).
نظرتهم ليست نظرة يسوع. نترك هنا جانبًا مسألة إيمان مريم التي عرفت في دعوتها من هو ابنها، ولكنها ستكتشف برفقة الأحداث هذه المهمّة غير المنتظرة. السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو سؤال إخوة يسوع وأخواته. فالقرّاء العقلانيون للأناجيل والبروتستانت الذين لا يظهرون مستعدين لقبول بتولية مريم وزواج يوسف الغريب (لم يكن له ولد من زوجته)، يرون طوعًا في هؤلاء الإخوة والأخوات أولادًا عديدين في أسرة واحدة. أما القرّاء الكاثوليك فيرون في إخوة يسوع وإخوته أقرباء له. أما معارضوهم فيرون في موقفهم جهلاً لقيمة العلاقات الجنسية بين الزوجين!
نطرح أولاً مسألة نقد أدبي. إن مرقس يذكر أسماء حين يتحدّث عن إخوة يسوع. في الناصرة، حيث يُستقبل استقبالاً سيئًا في المجمع (مر 6: 2-6)، قال الناس: "أما هو النجّار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي (أو: يوسف) ويهوذا وسمعان؟ أما أخواته عندنا هنا" (آ 3)؟ إذن، نحن أمام عائلة كبيرة. مريم هي أرملة (وإلاّ لما تحدّثنا عن ابن مريم) وعندها سبعة أو ثمانية أولاد من البنين والبنات!
ولكن يجب أن نقرأ في الانجيل نفسه لوحة الصليب. غاب التلاميذ، ولكن هناك نساء ينظرن عن بعد إلى يسوع الذي ينازع: "فهنّ مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي (أو: يوسف) وصالومة" (مر 15: 40). وتختلف اللائحة بعض الشيء في الانجيل الرابع: "وقفت عند صليب يسوع أمه وأخت أمّه، مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية" (يو 19: 25). فمريم أم يسوع لا يمكن أن يكون لها أخت اسمها مريم.
ومهما يكن من أمر، نحتفظ بما أشار إليه مرقس: "مريم الأخرى" هي أم "يعقوب الصغير ويوسي". هذان الاسمان نجدهما في مر 3:6. لقد ارتدا ودخلا في الكنيسة على خطى أمهما بعد إعلان القيامة (يو 17:20؛ أع 1: 14: مريم أم يسوع وأخوته).
ولكن جاء قول مبدأي لا يسنده أي برهان: كان لمريم أولاد أخرى مع يوسف واسمهم كاسم إخوته. وهكذا كان لمريم بنون وبنات هم أخوة وأخوات يسوع! وقدّم جاك دوكان ملاحظة اعتبرها حاسمة: لو أراد الانجيلي أن يتكلّم عن أبناء عمّ يسوع لاستعمل الكلمة اليونانية الملائمة (أنابسيوس). ولكنه استعمل "ادلفوس". أجل، إن التقليد اليوناني ميّزَ بين الأخ وابن العمّ (مرقس ابن عم برنابا، كو 4: 10). أما التقاليد الانجيلية التي تكوّنت في مناخ سامي (في المحيط الأرامي) فلجأت إلى الاصطلاحات الحضارية المعمول بها في هذا المناخ.
أخذ الانجيليون بأسلوب التوراة كما وصلت إليهم في اليونانية. فكيف تستعمل التوراة الالفاظ المتعلّقة بالاقارب؟ نلاحظ أولاً أن استعماله كلمة "أنابسيوس" (ابن عمّ) نادر جدًا. في عد 36: 11، تدلّ على "أبناء العمّ" (بنات صلحفاد زوجات لبني أعمامهنّ). في سفر طوبيا، نجد نسختين للترجمة اليونانية نقلتا عن أصل أرامي. قدّمت لنا مغارة قمران الرابعة عنه، ثلاث نسخات (مفتّتة) وترجمة عبرية. ترد لفظة "أنابسيوس" مرتين في إحدى النسخات لتدلّ على "ابن عمّ طوبيت" (7: 2؛ 9: 6). ولكن في إحدى النسخ تحل لفظة "أخ" (ادلفوس) محل "ابن عمّ" (أنابسيوس) (7: 2). ثمّ إن طوبيا طلب من الملاك أن يأخذه إلى أخيه رعوئيل (7: 1) الذي هو في الواقع ابن عمّ أبيه.
وماذا نقول عن "الاخوات"؟ إن الترجمتين اليونانيتين لنص طوبيا (تعودان إلى القرن الثاني أو الأول ق. م.) تقدّمان لنا حاجتنا لكي نتحدّث عن "ابنة العم". فعلى اثنتي عشرة دفعة ترد كلمة "أخت" لتدلّ على "بنت العم" التي يتزوّجها طوبيا. نقرأ مثلاً في 7: 11: "إقبل أختك، فأنت أخوها منذ الآن، وهي أختك، وهي مزفوفة إليك منذ الآن إلى الأبد". وفي 8: 4 قال طوبيا لسارة: "قومي، يا أختي، نصلّي". وفي 7:8: "أنا أتخذ هذه زوجة". وسيقول رعوئيل لطوبيا: "نحن معك كما أننا مع أختك من الآن إلى الأبد" (8: 21؛ رج 10: 6). هذه هي الطريقة المتّبعة في الأوساط الأرامية كما عرفها الجليل في أيام يسوع. وقد طُبّق هذا الاسلوب في التقاليد الانجيلية على أبناء عمّ يسوع.
ونقدّم ملاحظة أخيرة تثبت هذه النظرة إلى عائلة يسوع وتفسّر حضور مريم أم يسوع بين مجموعة الأقارب الذين يريدون أن يضعوا حدًا لرسالته الانجيلية (مر 3: 31). قلقت العائلة كلها. وخافت أن تصبح مريم من دون معيل إذا حصل شرّ لابنها. أخذوها معهم لكي تقنع يسوع. وفي الواقع، عند الصليب، هل سيهتمّ أقارب يسوع بمريم؟
إن إنجيل يوحنا يقدّم تقليدًا ثابتًا يدلّ فيه على أن يسوع سلّم أمّه إلى يوحنا. ومنذ تلك الساعة "أخذها التلميذ إلي بيته" (يو 27:19). لا نستطيع أن نتخيّل هذا الوضع لو كان لمريم إخوة غير يسوع. أما إذا توقّفنا عند إنجيل يوحنا، فنفهم أن مريم كانت عند أختها صالومة، أم يعقوب ويوحنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM