الفصل الحادي عشر: الرحمة في الأناجيل الازائية

الفصل الحادي عشر
الرحمة في الأناجيل الازائية

في مقال أوّل، توقّفنا عند الرحمة والرأفة بشكل عام في العهد الجديد. وها نحن في مقالين لاحقين نعود إلى الرحمة في الأناجيل الازائيّة، بانتظار دراسة هذا الموضوع في الرسائل البولسيّة.

1- قلب الله الآب
صوّر لنا يسوع ملامح الآب برحمته الإلهيّة. فالخطأة الذين استُبعدوا من الملكوت بسبب ضيق قلب الفريسيّين، صاروا أبناء رحمة الله، صاروا موضوع فرح الآب. كلّ هذا نكتشفه في الأناجيل منذ خبر الطفولة حتى الموت على الصليب.
ففي لو 1: 67-79، صوّر "زكريا" دعوة ابنه يوحنا الذي سيكون "نبي العلي" الذي "يسبق الربّ ليعدّ له طرقه". وهكذا بدأ "عهد جديد" يحمل الخلاص ويحقّق العمل الذي لا يحقّقه إلاّ إله الرحمة. فالزيارة المسيحانيّة سوف تتجاوز كلّ انتظار بفعل حنان الربّ. "بأحشاء رحمة إلهنا" (آ 78).
وهكذا بدأت علاقة شخصيّة بين الله والإنسان. مع زكريا ويوحنا. وخصوصًا مع مريم أم المسيح. فلوقا يستعمل في نشيد التعظيم (46:1-55: تعظّم نفسي الرب) لفظة "الايوس" ليدلّ على رحمة الله التي تجمع في إضمامة واحدة كلّ تاريخ الخلاص بقوّة فائقة. "رحمته من جيل إلى جيل للذين يتقونه" (آ 50). وحين افتقد الله مريم "عضد اسرائيل فتاه" و"تذكّر رحمته" (آ 54) حسب المواعيد التي عقدها مع ابراهيم وسائر الآباء. وعملُ الرحمة هذا يتمّ أوَّل ما يتمّ في مريم.
وسوف يرينا متّى يسوع وقد أخذته الشفقة من أجل الجموع التي تبعته. رآها في شقائها الروحيّ والدينيّ كخراف لا راعي لها. رأى أنَّ ليس لها من يقودها إلى الآب، فتحنّن عليها. عواطفه هي عواطف أبيه، ومن رآه رأى الآب (يو 14: 9) الذي في السماء. وهكذا يحقّق العهدُ الجديد ما تاق إليه العهد القديم (إر 23: 1ي؛ حز 34: 1ي). الله نفسه هو الراعي الجديد وقائد شعبه: "أنا هو الراعي الصالح" (يو 10: 11).
والطابع الشخصيّ للعلاقات الجديدة بين الله وشعبه، قد ظهر في شخص يسوع، ولا سيّما حين يقف أمامه مريض من المرضى. جاء إليه أبرص متوسلاً: تحنّن عليه يسوع، ومدّ إليه يده وشفاه (مر 1: 41). ونقول الشيء عينه عن الأعميين في أريحا (متى 34:20). لمس يسوع أعينهما فاستعادا النظر.
ونحن نكتشف قلب الله الآب بشكل خاص في مثل الابن الضال (لو 15: 11-32). حين كان الابن بعيدًا كان الأب ساهرًا يتوقّع مجيء ابنه. رآه من بعيد فتحرّكت أحشاؤه. ركض إليه، وألقى بنفسه على عنقه وقبّله (آ 20). ذاك هو المثال النموذجيّ الذي يصوّر رحمة الله تجاه الخطأة، تجاه البعيدين، تجاه الذين ينبذهم المجتمع. عاد الابن إلى كرامته الأولى وكأن شيئًا لم يكن. برزت رحمة الله في كلّ غناها الملموس، فلم يفهمها الابن الأكبر، الذي يمثّل الفريسيّين، وهو الباحث عن عدالة بشريّة مبنيّة على الأخذ والعطاء، وعلى حسن توزيع الخيرات بين الناس. ولكن في منطق الله صار الاولون آخرين والآخرون أوّلين (مر 10: 31). بل إنَّ الآب يهتمّ بالمرضى أكثر ممَّا يهتمّ بالأصحّاء، بالخطأة أكثر ممّا يهتمّ بالأبرار (مت 9: 12-13). وهو مستعدّ أن يترك 99 خروفًا في الحظيرة آمنين ويذهب في طلب الضالّ (مت 18: 12- 14). فالآب السماوي لا يريد أن يهلك أحد. بل هو سيفرح بخاطئ واحد يتوب، أكثر ممّا يكون بتسعة وتسعين صدّيقًا لا يحتاجون إلى التوبة (لو 7:15، 10).
ويقدّم لنا مت 18: 21 ي مثالاً لحياتنا، سيّدًا تتحرّك أحشاؤه شفقة على عبد لا يستطيع أن يفي ديونه، لا يستطيع أن ينال غفران خطاياه. ومتى يستطيع الانسان مهما فعل أن يرضي الله؟ كلّ عمل تبرير هو مبادرة من قلب الله الرحيم. ولو لم يعف السيّد عبده من ديونه لما استطاع أن يكفّر عنها حياته كلّها. فإغاظة الله اللامحدودة هي غير محدودة في ثقلها، والله وحده ينساها ويمحوها. والابن الضال نفسه ما كان ليستحقّ هذا الاستقبال بسبب ندامته "العميقة". كانت ندامته سطحيّة. وما فكّر إلاّ بحياة منتقصة مع الأجراء وبخبز يشبعه فلا يعود يزاحم الخنازير على خروب تأكله.
إنَّ مثَل العبد القاسي (مت 18: 21 ي) يعلّمنا كيف نعامل إخوتنا بالرحمة كما عاملنا الله. والخاتمة تنقلنا إلى النهاية، إلى عالم الآخرة. إن رحمتَ أخاك تُرحم. وإن أنت لم تَرحم فلا تُرحم. هل يعني هذا أن رحمة الله ترتبط برحمتنا؟ كلا. ولكن من لا يكون قلبه طريئًا كالاسفنجة لا يستطيع أن يتشرّب المياه التي أمامه. ومن لا يكون في قلبه ذرّة من الرحمة، لا يستطيع أن يستفيد من رحمة الله المقدّمة له. وكذا نقول عن المغفرة التي هي وجه من وجوه الرحمة. قال يسوع: إن تغفروا للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم. وإن لم تغفروا لا يغفر الله لكم زلاتكم (مت 6: 14-15). فمن لا يعرف أن يغفر لا يكون له ذاك القلب المستعدّ لتقبّل غفران الله.
أجل، في ساعة الدينونة نُرحم إذا عرفنا أن نرحم. وقد قال الربّ: "بالدينونة التي بها تدينون تدانون (أي: يدينكم الله). وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (مت 7: 12). إذا كانت دينونتنا للآخرين قاسية، تكون دينونة الله لنا قاسية. وإذا كانت رحيمة، فلا نستطيع أن نغلب الله بالرحمة. أما في لو 37:6-38 فنقرأ كلامًا حول الغفران والعطاء: نُعطى في أحضاننا كيلاً ملبدًا مهزوزًا فائضا. هكذا يعطي الله بلا حساب، ويغفر بدون حساب، لأنَّه العطاء الكامل والرحمة الواسعة. ونحن نحاول أن نقتدي به حسب المبدأ: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم". فصيغة المجهول وهنا تدلّ على الله.
وفي خطّ الرحمة التي تصبح عطاء وإحسانًا، نتكلّم عمّا سمِّيت "أعمال الرحمة". قال يع 13:2: "إنَّ الدينونة ستكون بلا رحمة على من لا يصنع الرحمة" نتطلّع إلى العريان فنكسوه ثوبًا والجائع فنقدّم له بعض قوته اليوميّ. ولا نكتفي بالكلام الفارغ: "استدفئا واشبعا". فأعمال الرحمة هي الدلالة على إيماننا. فمن يؤمن يمارس أعمال الرحمة تجاه القريب، وإلاّ كان إيمانه كاذبًا. في هذا الخط يقوله يوحنا في رسالته الأولى: "من كانت له خيرات هذا العالم ورأى أخاه في فاقة فحبس عنه أحشاءه، فكيف تثبت فيه محبّة الله" (3: 17)؟ لم تتحرّك له أحشاؤه. لم يعامله بالرحمة. إذن، أين هي المحبّة التي يتغنّى بها؟ وهكذا من يعقوب إلى يوحنا ترتبط الرحمة بالفضيلَتين الالهيّتَين الإيمان والمحبّة.
هذان النصّان هما امتداد لكلام يسوع في "الدينونة الأخيرة"، حيث يُدان كلّ إنسان، سواء كان مسيحيًا أو غير مسيحيّ، على أعمال الرحمة التي قام بها خلال حياته. ويذكر يسوع بعضها: الاهتمام بالجائع نطعمه، والعطشان نسقيه، والغريب نأويه، والعريان نكسوه، والمريض نزوره، والمحبوس نذهب إليه في سجنه (رج مت 25: 31-46). وربط يسوع أعمال الرحمة هذه بشخصه: "ما نفعله إلى واحد من هؤلاء الصغار إليه نفعله" (آ 4). فيقولن لنا: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ انشاء العالم" (آ 34). وما لا نفعله إلى واحد من هؤلاء الصغار، لم نفعله إلى الربّ. حينئذ يقول لنا: "إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبديّة" (آ 41).

2- يسوع المسيح وفعلات الرحمة
حين كشف الله عن اسمه لموسى، دلّ على سرّه فبيّن له كيف يتصرّف بالرحمة مع شعبه. فيقول: "رأيت رأيت شقاء شعبي... أملت أذني لأسمع صراخهم... عرفت (صرت قريبًا، جعلت في قلبي) بالضيق الذي هم فيه... فنزلت (عزمت أن) لأنقذهم" (خر 3: 7-8). الله هو الذي يلامس شقاءنا، هو الذي يأتي لأجل خلاصنا. وسوف يصف شخصه في ما قاله لموسى: "الربّ، الربّ هو إله الرحمة والحنان، الطويل الأناة والغني بالرحمة والأمانة" (خر 6:34).
فإله الرحمة هذا الذي عرفناه في العهد القديم، قد تجلّى في يسوع المسيح، الكلمة الذي صار بشرًا. فيه تمّت كلمات الله. فيه انكشف "لطف الله مخلّصنا (أو: محيينا بحسب النصّ السريانيّ) ومحبّته للبشر" (تي 3: 4). "فيه عرفنا محبّة الله لنا وآمنا بها" (1 يو 4: 16). فإذا أردنا أن نتعرّف إلى رحمة الله، ننظر إلى ابنه كيف عاش وسمع وتكلّم، كيف تصرّف مع الناس الذين كانوا حوله ورافقوه في حياته اليوميّة.
عرف يسوع الشقاء الإنسانيّ، فجاء إلى البشر مجيء الرحمة. وقال: "تعالوا إليَّ أيُّها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم... فأنا وديع ومتواضع القلب" (مت 28:11-29). ما عرفه يسوع على طريق الجليل ليس فقط جمال الطبيعة التي يتكلّم عنها في أمثاله (طير السماء، زهور الحقل)، بل آلام البشر وصراخ المرضى من عرج وعميان، ونداء الذين سيطر عليهم الشيطان. في كل يوم يتكرّر المشهد عينه: هجمة البؤساء بجراحهم وعاهاتهم. وكان يشفيهم جميعًا. ومع ذلك، سيلتقي بآخرين في المحطّة التاليّة.
يبدأ إنجيل متّى فيقدّم لنا لوحة عمّا يفعله يسوع: يبشّر ويشفي. قال: "وكان يطوف الجليل كلّه، يعلّم في مجامعهم ويبشّر بإنجيل الملكوت، ويشفي كلّ مرض وكلّ سقم في الشعب. وذاع خبره في سورية كلّها (أي فلسطين ولبنان وسورية) فأتوا إليه بكلّ من كان به سوء: المعذّبين بشتّى الأمراض والأوجاع، والمجانين والمصروعين، والمخلّعين، فشفاهم" (4: 23- 24). وما قاله هنا سيعود ويقوله في مت 9: 35: "كان يسوع يعلّم في المجامع ويكرز بإنجيل الملكوت، ويشفي كلّ مرض وكلّ سقم". رأى الجموع فتحنّن عليها. تحرّكت أحشاؤه لهم "لأنّهم كانوا منهوكين، منطرحين مثل غنم لا راعي لها" (آ 36).
تردّدت لفظة "كلّ" أكثر من مرّة، فدلّت على حنان يسوع الذي يريد أن يغمر الجميع، وأن يلبّي كلّ حاجة روحيّة أو زمنيّة. أمّا شفاء المرضى فعلامة على أنَّ ملكوت الله صار قريبًا، بل وصل إلى أبواب البشر. وهذا يعني أنَّ ملكوت الله هو في العمق ممارسة الله لرحمته وسط البشر بانتظار ذلك اليوم الذي فيه "يمسح الله كلّ دمعة من عيونهم، فلا يكون بعد موت ولا نوح ولا نحيب ولا وجع، لأن العالم القديم قد زال" (رؤ 21: 4).
ويسوع في رحمته لم يكتف بأن يرى هذه الأمراض وهذه العاهات، فيرسل إليها الدواء من بعيد، بل أراد أنَ يلامسها، بل أن يأخذها في جسده. هنا تذكّر متّى نشيد عبد الربّ في أش 53: 4 وطبّقه على يسوع: "أخذ عاهاتنا، وحمل أوجاعنا" (مت 8: 17). وسوف يزيد نصّ أشعيا: "حسبناه ذا برص، مضروبًا من الله ومذلّلاً". أجل، أخذ يسوع على عاتقه أمراضنا كما أخذ خطايانا واللعنة التي حلّت بنا. قال بولس في 2 كور 5: 21: "إنَّ (يسوع) الذي لم يعرف الخطيئة، جعله (الله) خطيئة من أجلنا، لكي نصير نحن به برّ الله". صار ذبيحة عن خطايانا، يوم أرسل "من أجل الخطيئة، في شبه جسد الخطيئة، فقضى على الخطيئة في الجسد" (روم 3:8). رحمته دفعته فتبنّى وضعنا المحمّل بالخطيئة دون أن يعرف الخطيئة. وستقول غل 3: 13 في الخط عينه: "إنَّ الذي افتدانا من لعنة الناموس هو المسيح، إذ صار لعنة لأجلنا، على ما هو مكتوب: ملعون كلّ من علّق على خشبة". قد قبل يسوع الموت لكي ينجّينا من الخطيئة. إلى هذا الحدّ وصلت محبّته كما قال بولس عن نفسه: "أحبّني (يسوع) وأسلم نفسه لأجلي" (غل 2: 20). وكما قال يسوع عن نفسه: "ما من حبّ أعظم من حبّ من يبذل نفسه عن أحبّائه" (يو 13:15).
هنا نستطيع أن نتوقّف عند بعض "فعلات" يسوع، ما فعله بيده، برأسه، بعينه، فحمَّل فعلته مدلولاً خاصًا. جاءه الأبرص (مر 1: 40-45). ما عامله بقساوة كما كان الناس يعاملونه: هو يستَبعد من كلّ جماعة، يمزّق ثيابه، يكشف عن رأسه. يغطّي شاربه، وينادي: نجس، نجس (أي لا تقتربوا إلى هنا لئلا تتنجّسوا). ويكون مقامه خارج المحلّة. بل إنّ يسوع عامله بالرحمة. اقترب الأبرص منه فما عارض. وقع على قدميه فما أبعده. ابتهل إليه فاستجاب له. وهو لم يشفه من بعيد وكأنّه يخاف من نجاسته. فليس الأبرص هو الذي ينجّس المسيح، بل المسيح هو الذي يطلق الأبرص. وتصرّف يسوع بحنان. مدِّ يده ليدلّ على أنّه يريد مساعدته. لمسه فما خاف من لمسته. وأحسّ الأبرص بدفء تلك اليد الإلهيّة. شُفي كما شُفي كلّ إنسان، وعاد إنسانًا كسائر الناس بعده أن طُرد من بينهم. هو لن يستَبعد بعدُ من الجماعة، بل يستطيع أن يذهب إلى الهيكل ويشهد للمسيح (آ 44). كان ذلك الانسان المنكمش على ذاته، العائش في البراري كالوحوش الكاسرة، فصار رسولاً "يذيع خبر" يسوع، فيأتي الناس إليه من كل جهة.
والخبر الثاني الذي يلفت انتباهنا هو إقامة ابن أرملة نائين من الموت (لو 7: 11-17). مات الزوج. وها هو الابن الوحيد قد مات. هذا هو "القدَر" الذي يخضع له الجميع. فما في اليد من حيلة. ولكن رحمة الله في شخص يسوع هي هنا. بدأ فاستعلم عن تلك المرأة، فعرف بخبرها: "ابن وحيد لأمّه التي كانت أرملة" (آ 12). هنا يحدّثنا الإنجيليّ عن يسوع في ستة أفعال. رآها. كان بإمكانه أن لا يراها. كان بإمكانه أن يميل بنظره عنها كما فعل الكاهن اللاوي في خبر السامري الصالح. والفعل الثاني: تحنّن عليها. تحركّت أحشاؤه كالأم مع ابنها. تمّ كلّمها قال: "لا تبكي". وهكذا حمل إليها كلمة التعزية. دنا، ولم يظلّ بعيدًا كمن لا يريد أن ينزعج بمشاكل الناس. والفعل الخامس: لمس النعش. ولكن من يلمس الميت يتنجّس ويصبح كالميت فلا يحقّ له أن يُشارك في عبادة الهيكل. أما يسوع فخرجت قوّة منه جعلت الحاملين يتوقّفون (آ 13). وكلّم الشاب الميت فشرع يتكلّم. والفعل الأخير: "سلّمه إلى أمّه". كان ضائعًا فوُجد. كان ميتًا فعاش. أعاده إلى أمه فقدّم لها ملء العزاء ففهم الناس أنَّ الله افتقد شعبه. لقد تدخّل الله بحنانه ورحمته، فكانت نتيجة تدخّله في ما فعله يسوع من أجل هذه المرأة وابنها.
ونستطيع أن نذكر المرأة الحدباء. هي ملتصقة بالأرض. خسرت صفتها كإنسان، فصارت كالحيوان على قوائمه الأربع. أبصرها يسوع بين الناس وكأنَّها وحدها في المجمع. هي تحتاج إلى قلبه الحنون. دعاها، ناداها، شفاها. وماذا فعل؟ "وضع يديه عليها" (لو 13:13). "فانتصبت في الحال وجعلت تمجّد الله". عادت إنسانًا مثل سائر الناس. ما عادت امرأة منبوذة بعد أن "قيّدها الشيطان"، بعد أن سيطر عليها "روح سقم". كما نستطيع أن نقابل رحمة يسوع مع قساوة الفريسيّين تجاه الرجل الذي كانت يده يابسة (مر 3: 1-6). أقامه يسوع في الوسط فجعله "بطل" المشهد. وجعل أمام الحاضرين خيارًا بين الخلاص والقتل (آ 4)، بين الرحمة التي تحيي والقساوة التي تقتل، بين الحبّ والبغض. في هذا المجال قال يوحنا في رسالته الأولى: "نحن نعلم أنَّا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأنّا نحبّ الأخوة. من لا يحبّ لا يثبت في المحبّة. وكلّ من يبغض أخاه فهو قاتل. وتعلمون أنّ كلّ قاتل ليست له الحياة الأبديّة ثابتة فيه" (3: 14-15). أعاد يسوع هذا الرجل إلى الحياة، إلى المجتمع، إلى العمل، واليد أساسيّة في هذا المجال، لاسيّما وأنَّ لو 6: 6 يتحدّث عن اليد اليمنى التي كانت يابسة. أعاد يسوع "خلق" هذا الإنسان وغيره، فهتفت الجموع: ما أحسن ما عمل. وهكذا عدنا إلى الخليقة الأولى حيث نظر الله إلى جميع ما صنع فإذا هو حسن جدًا.
قد يطول بنا الحديث عن فعلات يسوع، عن نظره المليء بالحنان، عن لمسته المليئة بالشفقة، عن أشفيته التي تدلّ على عمق قلبه وما فيه من محبّة تجاه والدين لهما ابنة وحيدة. تجاه أرملة فقدت وحيدها، تجاه والد حلّ الجنون بابنه الوحيد. كما نستطيع أن نتوسّع في الحبّ الذي يعتمر قلب يسوع، والذي يقابل الرحمة في العهد القديم. ولكنّنا نودّ أن نتأمّل ناحية ثانيّة من نواحي اهتمام يسوع بالشقاء البشريّ. هو تعامله مع الخاطئين. لهذا ندرس خبر "المرأة الخاطئة" (لو 7: 36-50).
امرأة خاطئة لا يحقّ لها أن تزور بيت رجل "بار" مثل سمعان الفريسيّ. ومع ذلك، فقد جاءت إلى هنا لأنَّ يسوع هو هنا، وقد اقتنع الكتبة والفريسيّون أنَّ لا خير منه لأنّه "يقبل الخطأة ويأكل معهم" (لو 15: 12). لهذا جاؤوا إليه (مع العشّارين) ليسمعوه. وجاءت هذه المرأة مثلهم. وسيُفهم يسوع هؤلاء "الأبرار" الذين "لا يحتاجون إلى توبة" (لو 15: 7) أنَّ الله هو أب وأم يحنّ على أولاده وتتحرّك أحشاؤه من أجلهم (لو 15: 20). أمّا الصورة الكاملة عن الله فنجدها في يسوع الذي بذّر أموال أبيه لدى أشخاص لا يستطيعون أن يدفعوا ديونهم. فدفعها هو.
امرأة خاطئة لا يحقّ لها أن تلمس إنسانًا لئلاّ تنتقل إليه خطيئتها كما في العدوى. ومع ذلك فقد اقتربت من هذا" النبيّ" (آ 39)، ولمسته، بل قبّلته، قبّلت رجليه اللَتين غمرتهما بالدموع ومسحتهما بشعرها (آ 38). لماذا كلّ هذا الإذلال؟ لأنّها عرفت أنَّ ذاك الذي جاءت إليه سوف يرفعها. سوف يغفر لها جميع خطاياها (آ 47). بل سوف يحبّها أكثر من سمعان الذي اعتبر نفسه من طينة غير طينتها.
كيف تُعامل امرأة خاطئة ومعروفة في المدينة؟ في منطق اليهود، هي تُرجم كما أوصى موسى. هذا ما قاله الكتبة والفريسيّون ليسوع عن امرأة أخذت في فعل زنى (يو 8: 1- 11). أمّا في منطق يسوع، فالأمر يختلف كلّ الاختلاف: "من هو فيكم بلا خطيئة، فليبدأ ويرمها بحجر" (آ 7). هو لم يحكم عليها، بل غفر لها خطيئتها وقال لها: "إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة من بعد" (آ 11). هكذا يعامل الله الخطأة: يغفر لهم ذنوبهم. يعاملهم بالرحمة ويرسلهم في السلام الذي يحمل بركة الربّ وحضوره.

خاتمة
هذا ما قدمته لنا الأناجيل عن الآب السماوي ورحمته، وعن يسوع المسيح الذي دلّ على هذه الرحمة بأقواله ونظراته وحركات يده وحنان قلبه. كانت المرأة محتقرة فأعاد لها كرامتها. كان الغريب كلا شيء فصار مثالاً للقريب، للشعب اليهودي. كان الخطأة مبعدين فوجدوا فيه صديقًا لا يخاف أن يعيش معهم ويحبّهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM