الفصل السادس :المعجزات

الفصل السادس
المعجزات

1- إطار خلاص ووحي
لا معنى للمعجزات إلاّ في التدبير المجّاني، تدبير الخلاص في يسوع المسيح. أراد الله أن يكشف عن نفسه للإنسان، وأن يخلّصه بطرق التجسّد والصليب، وأراد أيضًا أن يجعل في امتداد تدبير التجسّد تدبير آيات تشدّد على حضور الخلاص الفاعل هنا. وكل هذا يدلّ على محبته. فالمسيح والمعجزة ينتميان إلى الحدث عينه: إنهما يدلاّن على مجد الذي هو بيننا كابن للآب يشارك في قدرته وحكمته وقداسته.
ونقول أيضًا إن المعجزة لا تُفهم إلاّ في إطار وحي يتمّ بالأعمال والأقوال. فالوحي الكتابيّ هو حدث وتفسير لهذا الحدث، عمل وكلام يدلّ على هذا العمل. هو كلمة فاعلة. لهذا نجد في العهد القديم خطّين متكاملين: خط الأحداث التي تحصل، وخط الأنبياء الذين يعلنون باسم الله الأحداث ومعناها الأخير. وفي العهد الجديد يبدو المسيح كنبيّ آخر الازمنة: إنه قدير في القول والعمل. إنه في الوقت عينه الحدث وتفسير الحدث. فالوحي ليس تعليمًا ومعرفة فقط. قد أعلن المسيح حدث ملكوت الله، وأتمّ في الوقت عينه أعمال الملكوت: بالكرازة، بطرد الشياطين، بالأشفية، بإقامة الموتى.
من الضروري أن نتنبّه إلى هذه الوحدة بين الكلمة والأعمال في وحي الخلاص، حتى نفهم جوهر المعجزة.

2- ماذا تعني المعجزة
المعجزة علامة متعدّدة المعاني: هي تعمل على مستويات عدّة، وتتطلّع إلى وجهات مختلفة. وهذا التعدّد والتنوّع في معاني المعجزة يبدو بصورة خاصّة في الأناجيل، لأن معجزات المسيح هي النموذج الأول لكل معجزة حقيقيّة، سواء في العهد القديم كما في العهد الجديد، في الكنيسة كما في حياة القديسين.
أ- علامات عن قدرة الله
المعجزات هي أعمال قدرة، أي أعمال خاصة بالله ومستحيلة على الانسان. هذا هو معنى الكلمة في العربية. المعجزة: أمر خارق يعجز البشر عن أن يأتوا بمثله. والعجيبة أو الأعجوبة: أمر يدفعنا إلى الاعجاب والدهشة.
المعجزات هي علامات عن قدرة الله، هي نتائج هذه القدرة (كالثمرة في الشجرة)، هي أعمال الله والمسيح الذي هو ابن الله. إذا نظرنا إلى المعجزات في ينبوعها كأعمال قدرة، فهي تنتمي إلى العمل العظيم الذي بدأه الله مع الخلق وأتمَّه في الفداء. ففي نظر الأناجيل، عجائب المسيح هي ظهورات الله المخلّص وتعبير عن فاعلية كلمة الخلاص.
يلفت متّى انتباهَنا إلى شخص يسوع الذي يتدخّل فيبدو تدخّله شاملاً ساميًا ونوريًا. يأمر المسيح (مت 8-9) المرض والموت والرياح والبحر والشيطان، فيطيعه كلّهم.
وتعبّر المعجزة عند مرقس عن فاعليّة كلمة يسوع. فالمسيح يشفي بكلمة واحدة (مر 1: 41). يطرد الشياطين (25:1؛ 8:5)، يهدئ العاصفة (5: 39)، يقيم الموتى (5: 41). إلاّ أن هذه القدرة تخفَّف بسبب تواضع ابن الانسان. فعجز يسوع أمام ثورة البشر وبغضهم، وضعفه أمام الآلام، يكشفان عن عمق حبّه المتواضع والوديع. ونحن نجد الحدود الحقيقية لقدرته في حبّه الذي يسلم ذاته (6: 1-6) من أجل خلاص جميع البشر.
ويشدّد لوقا في عجائبه على عمل الله: أفعاله هي حسنات من أجل الضعفاء والمساكين. ولهذا تهتف الالسنة بالشكر والمديح. حمل المخلع فراشه وهو يمجّد الله، فدُهشوا جميعًا ومجدّوا الله، وقالوا، وقد امتلأوا خوفًا: "لقد رأينا خوارق" (5: 25-26). وأحيا ابن أرملة نائين، فاستولى على الجميع خوف، ومجدوا الله قائلين: "لقد قام فينا نبيّ عظيم، وانتقد الله شعبه" (16:7). ووضع يده على المرأة الحدباء، "فانتصبت في الحال، وجعلت تمجّد الله" (13:13).
وفي إنجيل يوحنا، المعجزات هي عمل الآب والابن. وهي تدلّ على قدرة الله في الابن كما في الآب. فالمسيح هو الله نفسه الحاضر بيننا بقدرة الله الحي.
ب- علامات عن محبّة الله
ليست المعجزة علامة قدرة وحسب: فهذه القدرة هي في خدمة المحبّة. فمعجزات يسوع تدلّ على حبّه الناشط والرحيم الذي يحنو على كل شقاء. قد تأتي المبادرة من المسيح نفسه الذي يستبق توسّل البشر. هذا ما فعل عندما كثَّر الارغفة، وأقام ابن أرملة نائين، وشفى المرأة الحدباء وصاحب اليد اليابسة.
وفي حالات أخرى تبدو المعجزة كجواب يسوع إلى صلاة واضحة أو صامتة تخفيها فعلة أو مسعى خاشع. تبعه أعميان يصيحان ويقولان: "يا ابن داود ارحمنا" (مت 9: 27). وأقبلت المرأة الكنعانية تصيح قائلاَّ: "يا سيدي، يا ابن داود ارحمني. إن ابنتي بها شيطان يعذّبها" (مت 15: 22). وتقدّم إليه أبرص وسجد له قائلاً: "يا سيدي، إن شئت فأنت قادر أن تطهِّرني". فمدَّ يسوع يده ولمسه قائلاً: "لقد شئتُ فاطهر". فطهر للوقت من برصه (مت 2:8-3).
وتقدّم إليه إنسان وجثا له وقال: "يا سيدي، ارحم ابني، فإنه مصروع يتألّم جدًا" (مت 17: 14-15). وجاءه يائيرس، رئيس المجمع، فدنا إليه وسجد له قائلاً: "إن ابنتي قد ماتت الساعة. ولكن، هلمّ وضع يدك عليها فتحيا" (مت 9: 18). وقالت مرتا ليسوع: "يا سيدي، لو كنت ههنا لما مات أخي. ولكني أعلم أنك، الآن أيضًا، مهما سألت الله، فالله يعطيك" (يو 11: 21-22). وقالت مريم القول نفسه وخرّت على قدمي يسوع وهي تبكي (يو 11: 32-33).
أجل، إن الله يفتقد الانسان في قلب عجزه وضعفه: يرأف به يشفق عليه، يتأثّر بحاله. فالله هو محبّة. وهذه المحبّة اتخذت في المسيح وجهًا بشريًا وقلبًا بشريًا ولغة بشريّة، لتدرك الانسان في شقائه وتدخله في عمق حب الله له.
ج- علامات عن مجيء ملكوت المسيح
إن المسيح شفى قبل كل شيء المرضى، وطردَ الشياطين (مر 1: 35-39). ولكنه ما أراد أن يظنّه الناس "ساحرًا" يحمل الشفاء. ولقد أشار بنفسه إلى معنى أعمال قدرته. إن معجزاته ترتبط بموضوع الملكوت. وهي امتداد، بشكل أفعال، لكرازة المسيح حول مجيء الملكوت. ففي يسوع الناصري تمّت المواعيد وصار المسيح حاضرًا. وهكذا شُفي البشر من أمراضهم، وتحرّروا من خطاياهم، ونال المساكين بشارة الانجيل. قال أشعيا (35: 5-6): "حينئذ تنفتح عيونُ العميان وآذان الصم. حينئذ يطفر الاعرج كالأيِّل ويترنَّم لسان الأبكم". وقال أيضًا: "ستحيا الموتى وتقوم الاشلاء. استيقظوا ورنّموا يا سكّان التراب" (أش 26: 19). فردّد لوقا كلمات يسوع ليوحنا المعمدان: "العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون" (لو 7: 22).
تنبأ أشعيا (49: 25) عن تبدّل في وضع، وها قد تمَّ هذا التبدّل. فحملت كلمةُ يسوع وأعماله قدرة أزاحت الشيطان عن عرشه وأقامت مملكة الله: "إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فهذا يعني أن ملكوت الله انتهى إليكم" (مت 28:12).
وتخليص الممسوسين (فيهم شياطين) لا يقلّ أهميّة في نظر يسوع عن شفاء المرضى. فإذا كان الخلاص قد جاء، فهذا يعني أن الله انتصر بواسطة مرسله على قدرة الشرّ والشيطان الخفيّة. ليس ملكوت الله خيالاً وسرابًا ولا واقعًا بعيدًا: إنه حاضر منذ الآن. فالشفاء وإخراج الشياطين هما شكلان من أشكال التحرّر يدلاّن على أن مملكة الشياطين دمِّرت وحلّ محلها ملكوت الله: "رأيت الشيطان يهبط من السماء كالبرق" (لو 17:10-18). حين أخرج المسيح الشياطين وشفى المرضى، دلّ على أنه حقًا حطّم سلطة إبليس. فحيث المسيح هناك تعمل قدرة الخلاص والحياة التي أعلنها الأنبياء. قضت على الموت والمرض. قضت على الشيطان والخطيئة. قالت للمخلع: "مغفورة لك خطاياك". وقالت له: "قم، واحمل فراشك وامض إلى بيتك" (مر 2: 9، 11).
وتعمل قدرة الله في المسيح فلا شيء يقف في وجهها. تعمل فتحوّل الانسان كله، نفسًا وجسدًا، على صورة الله. لكن، لكي يفهم البشر أنّ أقوال الأنبياء تمّت، وأن سلطة إبليس تحطّمت، وأن العالم الجديد حضر في العالم القديم، جعل المسيح الخلاص الذي أعلنه أمرًا منظورًا. كان إنسانٌ مستعبد للشيطان، فجعل منه يسوع أنسانًا مبررًا ومقدّسًا. فانتصاره على الخطيئة والمرض والموت هو في الوقت عينه عربون عالم جديد يدشّنه بقيامته.
د- علامات رسالة إلهيّة
للمعجزات وظيفة قانونية تدلّ على شرعيّة التي يجترحها. فإذا عدنا إلى التقليد الكتابي، فالوظيفة الرئيسية للمعجزة هي أن تعطي كفالة لمهمّة يقوم بها مرسَل من قبل الله: إنها أوراق اعتماد. هكذا يصدّقون موسى بالمعجرات التي يتّمها الله على يده أمام كل الشعب (خر 4: 1-9؛ 14: 31). وحين جاء يسوع، وجب عليه أن يواجه هذه المتطلّبة التقليدية. طُلب منه مرتين أن يقدّم علامة تبرّر أعماله وتدلّ على أنه مرسل من عند الله. "خاطبه اليهود وقالوا له: أيّة آية ترينا لتبرهن لنا أنه يحقّ لك أن تفعل ذلك" (أي أن تخرج الباعة من حرم الهيكل) (يو 18:2)؟ وبعد تكثير الخبز، قال له اليهود أيضًا: "أية آية تصنع فنرى ونؤمن بك" (6: 30)؟
لهذا حين شفى يسوع المخلعّ (مر 2: 10) وأقام لعازر (يو 11: 41-42)، وحين وبّخ كورزين وبيت صيدا (مت 11: 21)، استند بصورة واضحة إلى معجزاته التي تكفل رسالته وسلطته.
وتبرز هذه الوظيفة القانونية بصورة خاصة في إنجيل يوحنا: "وحين رأى عددٌ كبير آيات يسوع، آمنوا به" (يو 2: 23). وأقر نيقوديمس أن المسيح جاء من الله "لأنه لا يقدر أحد أن يعمل الآيات التي يعملها إن لم يكن الله معه" (يو 3: 2). وسيقدّم المولود أعمى البرهان التقليدي بوجه الفريسيين الذين يلاحقونه: "لو لم يكن هذا الرجل من الله، لما استطاع أن يفعل شيئًا" (يو 9: 33). وسيقول بطرس عن المسيح لليهود غداة العنصرة: "هذا الرجل الذي أيَّده الله لديكم بالعجائب والمعجزات والآيات التي أجراها على يديه بينكم" (أع 2: 22). إذا كان المسيح أجرى أشفية وأخرج شمياطين، فهذا يعني أن الله كان معه (أع 38:10).
وما نقوله عن عجائب أتمَّها يسوع، نقوله عن عجائب أتمَّها الرسل: إنها آيات تشهد على صحّة رسالتهم ككارزين للانجيل (مر 16: 20). "كان الرب يشهد لكلمة نعمته بالآيات والعجائب التي يجريها بأيديهما" (أع 14: 3).
وفي رسائل القديس بولس نقرأ أن المعجزات تؤيّد الرسول وكلمته: "إن علامات الرسول المميّزة قد تجلّت فيما بينكم: طول الأناة، والآيات والعجائب والمعجزات" (2 كور 12: 2!). وفي المعنى ذاته تحدّثت عب 3:2-4 عن الخلاص الذي أعلنه الرب أولاً ثم ثبته لنا أولئك الذين سمعوه، والله يؤيّد شهادتهم بالآيات والعجائب وشتى المعجزات، وبتوزيع مواهب الروح القدس على حسب مشيئته.
إن المعجزة تؤيِّد كلمة الرسل وتجعلهم سفراء حقيقيّين للمسيح.
هـ- علامات مجد المسيح
المعجزات هي أعمال الابن، وترتبط بوعي المسيح لسرِّ بنوّته. فالمعجزات، وهي أعمال المسيح، تمثّل نشاط الابن وسط البشر، وتكفل رسالته لا كنبيّ بسيط ولا كملك بشريّ، بل كابن الله الذي يشارك الآب في معرفته (مت 27:11) وفي قدرته (مت 28: 18؛ يو 3: 35).
فالمعجزات التي هي مآثر الله هي عينها مآثر المسيح. إنها أعمال مشتركة بين الآب والابن، وهي تدلّ على المسيح في مجده كابن وحيد. ولهذا لا يني المسيح يحيل سامعيه إلى معجزاته وإلى شهادة الآب من أجله. "الأعمال التي خوّلني الآب أن أتمّمها، هذه الأعمال التي أنا أعملها، هي تشهد لي بأن الآب قد أرسلني" (يو 5: 36-37؛ 10: 25).
وكشفُ أعمال الابن وكشفُ شخصه قد انتهيا إلى الفشل: "حينئذ تناول اليهود حجارة لكي يرجموه. فأجابهم يسوع: لقد أريتكم أعمالاً حسنة كثيرة من عند الآب، فلأي عمل منها ترجموني؟ أجابه اليهود: لسنا لعمل حسن نرجمك، بل لأجل تجديف، ولأنك تجعل نفسك إلهًا، وأنت إنسان" (يو 10: 31-33).
توخّى هذا الكشف أن يعرِّف اليهودَ إلى مجد الابن الوحيد من خلال أعماله (يو 1: 14؛ 2: 11؛ 11: 40). فالمعجزة هي فعلة الكلمة الذي صار بشرًا، هي العلامة التي تدلّ على مجده.
ورأى الازائيون (متى، مرقس، لوقا) في معجزات المسيح علامة عن مجيء الملكوت. أما يوحنا فربطها مباشرة بشخص يسوع. تصدر الأعمال عن شخص الابن وهي إشعاع كيانه الالهي. فالمعجزات كآيات تدعونا للتعرّف إلى المسيح كمركز هذا الاشعاع، وللإيمان به.
و- وحي سر الثالوث
المعجزات هي عمل يشارك فيه الابن الآب، وهي تدخلنا في سرّ حياة الثالوث. فإن كانت أعمال المسيح هي أعماله الخاصّة (يو 5: 36؛ 7: 21؛ 10: 25) وأعمال أبيه (يو 9: 3-4؛ 10: 32؛ 37؛ 14: 10) الذي له المبادرة في كل شيء (يو 5: 19، 20، 30؛ 14: 10). وإن ارتبطت بالابن الذي منحه الآب كل قدرة ليتمّ معجزاته كما لو كانت أعماله الخاصّة، فهذا يدلّ على عهد فريد وعن سرّ حبّ بين الآب والابن.
إن المعجزات تدلّ على أن الآب هو في الابن وأن الابن هو في الآب، وأنهما متّحدان في روح واحد (يو 14: 10- 11؛ 10: 37-38). ففي معجزات المسيح، يعمل الابن بقدرة الآب. ثم إننا لا ندرك أعماق الحياة الثالوثية من خلال المعجزات إلاّ على ضوء خطبة يسوع التي ترافقها. فالمعجزة والكلمة متّحدتان اتحادًا وثيقًا في تدبير الوحي الالهي.
ز- رموز التدبير الأسراري
لا تكتفي معجزات يسوع بأن تؤيّده كمرسَل الله وكابن الآب. فهي في حدّ ذاتها وحي ونور وإنجيل وتعليم وكلمة. إنها تفسّر السرَّ وتصوِّر حقيقته.
ومجيء المسيح يحمل إلينا عالمًا جديدًا هو عالم النعمة. ويجري تحولاً هو الخلاص بالصليب. وإن المعجزة ترينا عبر شفافيته التحوّل الذي يتم فينا. إنه صورة ورمز عن المواهب الروحية التي ينالها البشر في شخص المسيح.
إذا عدنا إلى الأناجيل الازائية، وجدنا رسمة لرمزية المعجزات. فالمخلَّع الذي شُفي (مر 2: 1-12) شهد نشاط المسيح الخلاصي الذي يحقِّق خلاص الجسد والروح معًا. وشفاء الأبرص (مر 1: 40-45) يرمز إلى عودة الخاطئ إلى مجتمع ملكوت الله. وشفاء المرأة الحدباء (لو 13: 16) والابن المصروع (مر 9: 14-29)، وشفاء المرض بوضع اليد (مت 18:9، لو 13:13)، كل هذا فعلات خلاصية للمسيح الذي ينجّي البشريّة المستعبدة. ولكن هذه الفعلات تعلن مُسبقًا غنى التدبير الاسراري.
وتسطع رمزية فعلات يسوع بصورة خاصّة في إنجيل يوحنا. إن معجزاته تكشف عن تدبير النعمة الذي يدشّنه بواسطة الاسرار. فمعجزة قانا (يو 2: 1- 11) هي آية العهد الجديد في المسيح، هي علامة دخولنا في الكنيسة بالماء والدم، أي بالمعمودية والافخارستيا.
وشفاء المخلع بكلمة المسيح التي تغفر الخطايا (يو 5: 14) وبمياه البركة، هو رمز ولادة الانسان الجديدة بالكلمة وبمياه المعمودية. وشفاء المولود أعمى في بركة شيلوحا (أو سلوام) تدلّ على المعمودية التي هي استنارة (ف 9).
وفي تكثير الارغفة (ف 6) وفيض الكسر، يدعونا المسيح لكي نرى علامة عن الخبز الحقيقي الذي ينزل من السماء ويعطي الحياة الفيّاضة: نحن أمام رمز الافخارستيا. وأخيرًا، إن قيامة لعازر (11: 1-44) تدلّ على المسيح الذي هو القيامة والحياة، الحياة التي تحيي ما قد مات. إنها ترمز إلى انتصار المسيح التامّ على الموت، وتدلّ مسبقًا على قيامته وعلى قيامتنا.
ح- علامة تحوّل العالم
وأخيرًا، إن المعجزة هي علامة تصوّر مسبقًا التحوّلات التي ستتمُّ في نهاية الازمنة، في جسد الانسان وفي الكون. فالفداء سيجدّد كلّ ما أصابته الخطيئة فشوَّهته.
المعجزة هي أولاً علامة تحرّر وتمجيد للأجساد. فجسد المسيح الذي قام وتمجّد، وجسد مريم الذي شارك جسد يسوع في مجده، يدلاّن على أن الله "سيحوّل جسد شقائنا (جسدنا الشقي) على صورة جسد مجده (جسده المجيد) بتلك القدرة التي تمكّنه من أن يُخضع لنفسه كل شيء" (فل 2: 21). حين يتمّ كل شيء، يتحوّل الجسد إلى المجد. وإن معجزات المسيح تعلن مسبقًا عمل الروح هذا في كل جسد. والاجساد التي عرفت النجاة والصحة والحياة والقيامة، تكشف نصر الروح النهائي الذي يحيي أجسادنا المائتة ويلبسها الخلود. فالمستقبل يجتاح الحاضر، والتحوّل الحاصل الآن يستبق التحوّل النهائي.
والعالم المادي ينتظر هو أيضًا هذا التحوّل. إنجرَّ على خطى الانسان، فشاركه في خطيئته، وعليه أن يشاركه في مجده. انقطعت العلاقة بين الانسان ومحيطه بفعل الخطيئة، ولكن أعادها المسيح، آدم الجديد، الذي فيه عادت الطبيعة فخضعت وسلست قيادتها. فالمعجزات التي أتمّها يسوع (مر 6: 30- 45) والرسل (مر 16: 17-18) في عالم الطبيعة، هي علامات تدلّ على تحوّلات العالم الاسكاتولوجي (أي في نهاية الازمنة). وإن القديس بولس يرى الانسان والكون محمولَين في تيار الفداء نحو التمجيد الأخير (روم 8: 19- 21). فالكون شي نظر القديس بولس لن يزول، بل يتحوّل ويمجَّد. وإن المعجزة تعلن هذا التحوّل وتبدأ بتحقيقه. كما أن قدرة الله ستقيم كل شيء في جديد دائم بعد أن تدمّر الموت والخطيئة.

3- وظائف المعجزة
وهذه المدلولات للمعجزة لا تستقلّ الواحد عن الآخر، بل إن الواحد يفترض الآخر، ويلقي الضوء على الآخر، وأنت تنتقل من مدلول إلى مدلول بطريقة لاشعورية. ومع هذا نستطيع أن نعيد وظائف المعجزة الرئيسية إلى اثنتين: وظيفة وحي ووظيفة شهادة.
أ- وظيفة وحي
نحن نتكلّم في المعنى عينه عن وظيفة نبويّة رمزيّة وحاملة وحي في المعجزة. فالمعجزة تبدو كعنصر مكوّن لوحي يتم "بالاقوال والاعمال"، "بالآيات والمعجزات". فالمسيح يمارس وظيفة الوحي بكل سبل التجسد: بأقواله وبأعماله ولا سيّما بعجائبه وقيامته. فالانجيل يعلن أن المسيح جاء يحرّر الانسان وينقّيه ويحييه ويخلّصه. وتدلّ المعجزة على عمل كلمة الخلاص هذه. إنها بطريقتها إنجيل وإعلان وتعليم. فلولا المعجزة التي تحيي الاجساد وتخلّصها، لم نكن لنفهم أن المسيح يحمل الخلاص إلى الانسان كله. إذن، المعجزة هي عنصر هام في الملكوت الذي ليس شيئًا جامدًا بل واقعًا ديناميكيًا يبدّل وضع الانسان، ويؤسِّس سيادة المسيح على كل شيء بما فيه الكون والاجساد.
ب- وظيفة الشهادة
ونتكلّم أيضًا عن المعجزة على أنها علامة تثبت وتشهد. حينئذ تبدو المعجزة كرسالة اعتماد يحملها مرسل الله، كختم قدرة الله على مهمّة أو كلام يرتبط به. أما في وضع المسيح، فموضوع هذه الشهادة هو تأكيد على وضعه كمرسل الآب، كالمسيح الابن. فالمعجزات والقيامة وعظمة المحبّة التي ظهرت في الآلام والموت تدلّ على شهادة الله الذي يثبت الوحي. واشعاع عمل المسيح يشهد أن المسيح هو حقًا بيننا عمانوئيل أي الله معنا لكي ينتزعنا من ظلمة الخطيئة والموت وليقيمنا للحياة الابدية. وفي الوقت عينه تؤكّد المعجزة أن إنجيل المسيح هو حقًا كلمة الله.


4- النظرة المسيحية إلى المعجزة
هناك تحديدات خاطئة للمعجزة: ثغرة في نواميس الطبيعة، نتاج عقلية أولانية، فن أدبي مشترك بين كل الديانات. وقد تكون المقاومة للمعجزة متأتية من عرض كريكاتوري لها. فلا معنى للمعجزة إلاّ في إطار الخلاص في يسوع المسيح. فكل محاولة لاخراجها من هذا الاطار تشوِّهها.
إذن، التحديد الحقيقي للمعجزة يدخل معطيات الكتاب والتقليد الجوهرية. وانطلاقًا من هذه المعطيات نقترح التحديد التالي: "المعجزة هي عمل ديني خارق يعبِّر في نظام الكون والانسان عن تدخّل خاص ومجاني من قبل الاله القدير والمحب الذي يوجّه إلى البشر، عن مجيء كلمة الله وخلاصه إلى العالم". وها نحن نشرح العناصر الجوهريّة في هذا التحديد.
أ- المعجزة عمل خارق أي ظاهرة غريبة في مسيرة الاشياء العادية كما نلاحظها عبر العصور: "ما رأينا قط مثل هذا" (مر 2: 12). "لم يُسمع قط أن أحدًا فتح عيني من وُلد أعمى" (يو 9: 32). لهذا، تحصل على أثر المعجزة دهشة وصدمة. تتمُّ المعجزة في الواقع الزماني والمكاني الذي تدركه حواسنا. وهكذا تتميّز المعجزة عن النبوءة والقداسة والاسرار (مثل تحوّل الخبز إلى جسد المسيح والخمر إلى دمه).
ب- المعجزة هي عمل ديني ومكرس. إذن، نحن بعيدون عن كل ما هو من عالم العجب والاسطورة "والسحر" والميتولوجيا. فالاطار الديني هو مجموعة ظروف تمنح المعجزة بنية علامة الهية. مثلاً، تأتي المعجزة بعد صلاة متواضعة وواثقة. وترافق المعجزة حياة مقدسة ومتحدة بالله كعلامة عن رضى الله. المعجزة تؤكِّد على صدق رسالة المسيح والأنبياء والرسل. وهذا الاطار المباشر يرتبط بإطار أوسع هو إطار المسيحية كلها كتاريخ ووحي خلاص في يسوع المسيح. فالمعجزة ليست واقعًا معزولاً، بل هي تدخّل في عدد من العلامات تقف على المستوى نفسه (تعليم ديني، قداسة بطولية، الاستشهاد، القيامة) من هذا التدبير الكامل الذي به يخلص الله الانسان بواسطة المسيح. فلا معنى للمعجزة إلا بعلاقتها بالمسيح، ابن الآب، وبالكنيسة التي هي امتداد لحضوره عبر الأجيال. وخارج هذا الاطار، لا معنى للمعجزة.
ج- المعجزة تدخّل خاص ومجاني من قبل الله. إذ نشدّد على هذه الوجهة الكتابية والتقليدية، لا نريد أن نبرز اللغة العلميّة التي بها نشدّد على ما يشذ عن نواميس الطبيعة، ولا اللغة الفلسفية التي تتحدّث عمّا يتعدّى جوهر الاجساد. ويتحدّث المفكرون عن تجاوز جذري لحدود لا يتجاوزها الانسان، عن تسريع لعملية الاحياء، عن فجائية تعارض مسيرة الزمن وتواصلها. ومهما يكن من أمر، فالمعجزة كعلامة وتسبيق لخلاص علوي (فائق الطبيعة) ترتبط بمبادرة خاصة ومجانية (شأنها شأن الخلاص)، وهي تختلف عن تدبير الكون العادي وحفظه في الوجود. المعجزة هي عمل قدرة الله وهي تعارض الطبيعة في وجهها الظاهر والخارق، ولكنها تسمو على الطبيعة كعلامة لتحوّل الانسان والكون تحوّلاً مجانيًا بمحبة الله الذي يخلّص ويجدّد كل شيء. هو لا يجدّد فقط الظاهر بل الحقيقة الداخلية، هو لا يخلص فقط إنسان الأمس بل إنسان اليوم وكل العصور.
د- المعجزة هي علامة مجيء كلمة الخلاص إلى العالم. نحن أمام علاقة بين شخص وشخص. بين الله والانسان. الله يوجه كلامه إلى الانسان عبر عمل يُفهمه أن الخلاص قريب. فالمعجزة ترتبط دومًا بحدث كلمة الخلاص، كلمة الوحي. المعجزة هي في خدمة الكلمة كعنصر وحي أو كشهادة على صدق هذا الوحي.

5- المعجزة، الارتداد، الايمان
إذا نظرنا إلى مسيرة الانسان نحو الايمان رأينا أن المعجزة ليست العلامة الأعمق والأنقى والحاسمة في نظر الانسان المعاصر. ومع ذلك، فهي تلعب دورًا هامًا في الأناجيل حيث التحوّل الجسدي يمتدُّ في تقبّل رحمة الله وعطيّة الايمان.
أ- استعدادات داخلية
لا بدّ من بعض استعدادات لندرك المعجزة. إنها علامة، وبالتالي لا تفرض نفسها. فلا بدّ من تفسيرها لأن هناك هامشًا من السرّ بين العلامة ومعناها. قد يكون الشفاء واقعًا ولكننا لا ندركه بالضرورة كعلامة إلهية. واكتشاف المعجزة وتمييزها عن غيرها من أمور لا يرتبطان بإعمال الفكر أو بنظرة تقنية، بل بموقف أخلاقي وديني. فاكتشاف المعجزة يعني انفتاحًا على سرّ الله الذي يحدّثنا في يسوع المسيح، واعترافًا بأن الانسان ضعيف ولا يكفي نفسه بنفسه. مثل هذا الموقف يطلب من الانسان أن يدخل في نفسه إلى هذا المستوى من العمق الذي فيه يجد معنى حياته. فإن حضر هذا الاستعداد أو غاب فسَّرنا المعجزة كعلامة من الله أو كواقع محيّر بل مشكّك للناس.
ب- المعجزة والارتداد
لا تنفصل المعجزات عن مجيء الخلاص في يسوع المسيح، لهذا فهي نداء إلى الارتداد ودعوة إلى التعرّف إلى الملكوت وإلى الشخص الذي جاء يدشّن هذا الملكوت. وحين يُجري يسوع أعجوبة، فهو يدعو في الوقت عينه إلى الارتداد والايمان برسالته، أو يكافئ موقف التقبّل لدى الطالب منه. أجل، من السمات الخاصّة في المعجزة المسيحية: ارتباطها بالارتداد (التوبة) الداخلي، التشديد على علاقة شخصية وجديدة ومحوّلة بين المسيح وذاك الذي نعمَ بعطيته.
هناك تشديد على ارتباط المعجزة بالارتداد في شفاء المخلع (مر 2: 1-12) في شفاء مقعد بيت زاتا (يو 5: 14). ليس الهدف ضبط أعداء الانسان. المطلوب هو تبديل الانسان وشفاؤه. ونجد تعبيرًا عن هذا الرباط في مت 11: 20-24 ولو 13:10-15 مع توبيخ يسوع لمدن الجليل التي رفضت أن تتوب: لم تُرد كورزين وكفرناحوم وبيت صيدا أن ترى في أشفية يسوع وإخراجه للشياطين حضورَ ملكوت الله. إن هذه المعجزات هي آيات، هي نداءات من قبل الله من أجل التوبة والارتداد حيال مجيء الملكوت القريب. لم يعرف سكّان هذه المدن كما لم يعرف الشعب اليهودي أن يكتشف علامات الملكوت فأغلقوا قلوبهم أمام كرازة يسوع.
إن الارتداد الذي يدعو إليه يسوع في معجزاته، هو رفض لكل ما يعارض ملكوت الله. هذا يفترضُ التصاقًا بالمسيح، لأن الملكوت والارتداد يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالايمان.
ج- المعجزة والايمان
الايمان هو في الأناجيل الازائية مدخل إلى المعجزة. لقد لبّى يسوع طلب المخلع وقائد المئة والمرأة الكنعانية لأنه رأى إيمانهم. لا شكّ في أن إيمانهم ليس كاملاً، ولكنه يقع في خط إنكار الذات وعطائها للمسيح. إنه طلب خاشع وواثق بذلك الذي يعلن الملكوت والذي فيه تظهر قدرة الله. نحن أمام جواب أول إلى النداء المسيحاويّ وإن لم يصل إلى كل سرّ مرسل الله. يشدّد لوقا على دور هذا الايمان في اكتشاف المعجزة. المعجزة لا تفرض نفسها، بل نتقبَّلها في قرار شخصي هو استعداد وانفتاح على الخلاص الآتي. ففي لو 17: 15-19 واحد من عشرة برص رأى في شفائه عطيّة من الله. أما عند يوحنا فالايمان هو نتيجة المعجزة، هذا إذا جعلنا جانبًا الضابط الملكي (يو 47:4-50) ومرتا (يو 11: 25) اللذين يطلب منهما يسوع الايمان. الايمان هو اعتراف بمجد يسوع الظاهر في معجزاته (يو 2: 11، 23؛ 53:4؛ 38:9؛ 10: 37؛ 11: 45؛ 20: 30). غير أن المعجزة وإن هيَّأت الطريق إلى الايمان فهي لا تفرضه. إنها في خدمة الكلمة وهي تعلن الخلاص وتدعونا إلى قرار الايمان.

6- المعجزة والقداسة
اعتادت الكنيسة أن تقرّب بين المعجزة والقداسة، لاسيّما حين تطوّب (أي تعلن قداسة) أحد أولياء الله. فالمعجزة والقداسة هما علامتان عن العالم الجديد كما دشنّه المسيح: فالقداسة تحقّق في الانسان ما تفعله المعجزة في الكون. القديس واحد منا وهو يسكن فيما بيننا. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، هو ينتمي إلى عالم جديد ويقدّم صورة مسبقة عن وضعنا كأناس قاموا من بين الأموات. فبطريقة حياته النبوية يذكّرنا بحريّة يسوع، الذي بانت حريته من خلال محبته. فالقديس هو نبي (يتكلّم باسم الله) الدهر الآتي. وهو يشهد بوجوده على الوضع الجديد الذي يعرفه أبناء الله. بعد هذا لن نعجب إن رافقت المعجزة حضور القداسة في عالمنا. وتبرز المعجزة كعلامة عن حسنات الله تجاه الذين صوَّروا حياتهم على حياته.
وفي المسيح يظهر أكثر ما يظهر هذا الرباط بين المعجزة والقداسة. فمعجزاته تبرز الخلاص عبر عالم ارتفع وتحوّل. وهذا التحوّل يتصل اتصالاً عميقًا بمجده كقائم من الموت. وجسده الممجَّد هو معجزة دائمة. ففي المسيح القائم من الموت، يتمُّ عمل الخلاص ويجري تجديد الانسان وينال الكون نتائج هذا الخلاص وهذا التجديد. في المسيح القائم من الموت يلتقي واقع الخلاص غير المنظور وواقع تحوّل العالم المنظور. وهكذا تكون المعجزة علامة منظورة لتحوّل عميق ينطلق من يسوع المسيح فيصل إلى الانسان كله وإلى الكون الذي يسكن فيه. إنه بروحه يحيي ويقدّس كل جسد. فالمعجزة والقداسة هما شعاعا مجده، شعاعا كيانه الالهي عبر جسده البشريّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM