الفصل السادس إنجيل لوقا، إنجيل الكنيسة والرسالة
 

الفصل السادس
إنجيل لوقا، إنجيل الكنيسة والرسالة
1: 1-4، 14:4-15

تقرأ الكنيسة في ليتورجيّتها عددًا كبيرًا من نصوص إنجيل لوقا على مدار السنة الطقسيّة. بعض هذه النصوص أخبار تتعلّق بشخص يسوع وبعمله، والبعض الآخر يتطرّق إلى تعليمه. لهذا نودّ أن نعطي هنا بعض المعالم التي ستساعدنا على التعرّف إلى الإِنجيليّ لوقا في إطار كنيسة عصره.
أ- لوقا إنسان مسيحيّ
كان لوقا سوريًّا من أنطاكيّة وكان طبيبًا. تتلمذ للرسل عامّةً (2:1) وبصورة خاصّة لبولس الذي رافقه حتى استشهاده. هذه هي المعطَيات السيرويّة الرئيسية التي سنستخلصها من مقدّمة الإِنجيل اللوقاويّ التي كتبت حوالي سنة 160- 180 ضدّ التيّار المرَقيوني.
كانت أنطاكية عاصمة مقاطعة سورية الرومانيّة. وكانت ثالث مدن الإمبراطوريّة، بعد رومة والإسكندريّة، وكان يقيم فيها الحاكم العامّ (2: 2). بُنيت على ضفاف نهر العاصي وابتعدت 550 كلم إلى الشمال من أورشليم، فكانت على مدى ثلاثة أجيال منطلقًا للتجارة في البحر المتوسط، ومركزًا للحضارة الهلنستيّة. لا شكّ في أنّ المُناخ الثقافيّ الرفيع والدوليّ الذي سيطر على المدينة، قد أثّر تأثيرًا كبيرًا على لوقا.
حوالي سنة 40، أقامت جماعة مسيحيّة في هذه المدينة، على أثر الاضطرابات التي انفجرت في أورشليم، فأجبرت المسيحيّين المتهوّدين والمتكلّمين باللغة اليونانيّة، على التشتّت في اليهوديّة والسامرة (اع 8: 1) والانتقال "إلى فينيقية وقبرس وأنطاكية" (أع 11: 19).

ب- لوقا عاش في الكنيسة ومن أجل الكنيسة
كان لوقا مسيحيًّا من الجيل الثاني، فلم يعرف يسوع الناصريّ، ولم يكن شاهدًا مباشرًا لقيامته. غير أنه انتمى الى كنيسة عاشت حدَثًا هامُّا هو هَجمة الملكوت: لقد جاء الله يحرّر البشر. هذا هو الخبر الطيّب (البُشرى، الإِنجيل) الذي تعلنه الكنيسة منذ 40 سنة. فبعد بولس ومرقس ومتى وعدد من الأشخاص الذين تظهر أسماؤهم في صفحات أسفار العهد الجديد، تسجَّل عملُ لوقا في هذه الحركة الرسوليّة والكنسيّة الواسعة، حركة الجماعة التي تعترف بربّها. لا بدّ من أن نتذكّر هذا حين نقرأ مؤلفه (لو+ أع). ولكن، إن نحن فكّرنا أنّ لوقا كتب بعد سنة 70 كتابًا يرسم "كل ما عمله يسوع وعلّمه" (أع 1: 1)، فقد أراد أيضًا أن يسند كنيسة رسوليّة محدّدة تحتاج إلى التعرف إلى وجهها واهتماماتها وتساؤلاتها.
1- كنيسة تبحث عن نفسها
لما أخذت الكنيسة تنفتح شيئًا فشيئًا على العالم الوثنيّ، دُفعت بقوّة الأحداث إلى التجرّد تدريجيًّا عن محيطها الأصليّ الذي هو العالم اليهوديّ. مرّت ثلاثةُ عقود طُرحت فيها مسألة شرعيّة إعلان الخلاص للوثنيّين. هل نستطيع أن نحمل البشارة إلى خارج العالم اليهوديّ؟ هل ننظّم الرسالة لدى الوثنيّين وعلى أيّ أُسس؟ هل نستطيع أن نتحرّر من الشريعة اليهوديّة دون ان نحطّم في الوقت عينه تاريخ الخلاص والوعد المحفوظ لإسرائيل، شعبِ الله في القديم.
يكفي أن نقرأ أع 11 لنتعرّف إلى هذه الدراما الوجدانيّة التي عاشتها الجماعة الأولى، ولنفهم الهجوم العنيف الذي لقيه بطرس بعد أن عمّد كورنيليوس وعددًا من الوثنيّين في محيطه، فأُجبر على أن يؤدّي حسابًا للكنيسة الأمّ في أورشليم.
منذ أعلن المجمع الأوّل في أورشليم (أع 15) حلاًّ مبدئيًّا، لم تعُد القضيّة موضوع نقاش، بل صارت في ذمّة التاريخ. ولكنها لم تزل حاضرة في العقول وفي الواقع، فتلقي بثقلها على أفكار المرسلين. فهل نَعجب إن رأيناها تتحرّك من جديد في صراع يبدأ في بداية الإِنجيل (22:4- 30) ويُختم في نهاية سفر الأعمال، ساعةَ يقول بولس: "تحجَّر قلب هذا الشعب (المختار) فسدّوا آذانهم وأغمضوا عيونهم... إذن، ليكن معلومًا أنّ خلاص الله أُرسل الى الوثنيّين وهم سيستمعون إليه" (أع 28: 27- 28).
ليس موقف الرفض لدى اليهود وحده هو الذي يجعل لوقا يعتبر أنّ الرسالة الحاليّة لدى الوثنيّين هي شرعيّ: فحَمْل الخلاص إلى كلّ بشَر (أع 7:2) جزء لا يتجزّا من المخطّط الإلهيّ (32:2؛ 6:3، 23- 38) الذي نأخذه بجِدّيّة وعزيمة لا تتراجع.

2- كنيسة تتساءل
وشغَلَ كنيسةَ السنوات 70-90 سؤالٌ آخر هو تأخّر مجيء الربّ (باروسيا). وعى المسيحيّون الأوّلون أنّهم دخلوا مرحلةَ التاريخ الأخيرة، وأنهم يعيشون منذ الآن الأيَّام الأخيرة لعالم دشّنته قيامة يسوع. فانتظروا عودته في المجد بعد زمان يسير. وبولس نفسه أمل في بداية عمله الرسوليّ أن نكون "لابسين لا عُراةً" (2 كور 3:5) أن نكون من "الأحياء الباقين إلى مجيء الربّ" (1 تس 15:4).
ومرّت السنون وطُرحت أسئلة جديدة فزيدت على إسئلة التسالونيكيّين فيما يتعلق بمصير موتاهم. أجابهم بولس: "فإن كنّا نؤمن بأنّ يسوع مات ثم قام، فكذلك نؤمن بأنّ الذين رقدوا في يسوع، سينقلهم الله اليه مع يسوع" (1 تس 14:4).
ولكن ماذا يعني موعد رجوع المسيح القريب بعد أن تأخّر هذا المجيء الثاني؟ أين صار مجيء ملكوته الأخير؟ كيف نتصوّر وجود المسيحيّ الحاليّ وكيف ننظّم العمل الكنسيّ؟
واجه لوقا هذه التساؤلات فحدّد بألفاظ جديدة وبنظرة خاصّة مراحل تاريخ الخلاص. فنظر إلى الزمن الحاضر، زمن الكنيسة، وكأنه حقبة جديدة وضروريّة في هذا التاريخ. وأعطى هذه الحقبةَ ذاتَ المدى غيرَ المحدود، هذه الحقبةَ التي تفصل الفصحَ عن عودة المسيح، أعطاها كثافةً خاصّة، وربطها بزمن المسيح وبامتداد هذا الزمن.
وهكذا اغتنى تصوّره لتاريخ الخلاص. فبعد زمن الوعد، أي زمن الشريعة وأنبياء العهد القديم، جاء زمن التتمّة (كما عند متى ومرقس) أي الأزمنةِ الأخيرة التي يدشنها مجيء يسوع. ولكنّ هذه الأزمنة الأخيرة تمتدّ في مؤلّف لوقا في حقبتين متعاقبتين، تتميّز الواحدة عن الأخرى وترتبط الواحدةُ بالأخرى: من جهة زمن يسوع التاريخ الذي سيرسُم الإنجيلُ حياتَه وعمله؛ ومن جهة ثانية، زمنُ الكنيسة التي يورد سفرُ الأعمال خطواتِها الأولى.
في هذه الأطًر الموسَعة استطاع لوقا، لا ان يؤسّس فقط تأسيسًا لاهوتيًّا معنى الصيرورة المسيحيّة، بل أن يرتّب الموادّ الإنجيليّة لتحمل مدلولاً مباشرًا للذين يحيون منها في هذا الوقت عينه. وهذا يتحقّق بصورة خاصّة في الجزء المِحْوَريّ من إنجيله (9: 51- 14:18) حيث جمع لوقا عَمْدًا سلسلة من التعاليم وجّهها يسوع في الماضي إلى تلاميذه، جمعها ليعطي غذاء روحيًّا للذين ينتمون اليوم الى المسيح ويريدون أن يخضعوا له. وهذا يفسّر أيضا ميل الإِنجيليّ الثالث إلى أن يلبس حلّة تاريخيّة (على مستوى عرض الأمور) لبعض معطيات التعليم الإِنجيليّ. فإذا قابلنا 21: 20- 24 مع مر 13: 14- 23 نلاحظ أن القول الذي يدل عند مرقس على عودة المسيح القريبة، صار عند لوقا إعلانًا لحدَث تاريخيّ تحقّق الإِنجيليُّ أنه تمّ (دمار اورشليم سنة 70).
لسنا نرى في أساليب التأليف هذه علامة تبديل في الوحي. نحن بالأحرى أمام مجهود يقوم به الإِنجيليّ ليساعد مسيحيّين يعيشون في النصف الثاني من القرن الأوّل، على التكيّف مع الوضع الجديد، وعلى عيش حاضرهم عيشًا مسيحيًّا.

3- كنيسة ساهرة
إن الكنيسة التي انتمى إليها لوقا اهتمّت أيضًا بتثبيت أُناسٍ أتوا من محيط هلّنستيّ واهتمّوا بتعليم الخلاص المسيحيّ وتلقّنوا العقيدة الإِنجيليّة، اهتمّت بتثبيتهم في الإِيمان الحقيقيّ.
حين توجّهت الكنيسة الرسوليّة إلى العالم، وجدت نفسها أمام مهمّتين اثنتين. وجب عليها من جهة أن تلاقي أعمق الرغبات الدينيّة في عصرها، ولا سيما هذه الحاجة إلى خلاص ظهر عَبْرَ الامبراطوريّة كلّها بشعائر عبادة أُدّيت للإِمبراطور الذي هو "المخلّص" و"الربّ والإِله". تلاقيها وتقدّم لها عرضًا لتعليمها يتكيّف ونفسيّة هؤلاء الوثنيّين. ووجب عليها من جهة ثانية أن تكفل استقامة التعليم، وتحتفظ من التيّارات التلفيقيّة التي يساعدها الإِطار الحضاريّ على الظهور. كانت هذه المهمّة ملحّة، ولا سيّما وإنّ اتّجاهات منحرفة أخذت بالظهور حتى داخل الكنائس.
ولكي نتيقّن من هذا الأمر، يكفي أن نلاحظ التعليمات الملحّة التي يوجّهها بولس إلى شيوخ أفسس، إلى تيطس وتيموثاوس. قال: "أعرف أن الذئاب الخاطفة ستدخل بينكم بعد رحيلي ولا تشفق على الرعيّة" (أع 29:20). وقال لتيطس: "عليك أن تسُدّ أفواههم لأنهم يخرّبون بيوتًا بكاملها حين يعلّمون ما لا يجوز تعليمه من أجل مَكْسب خسيس" (تي 1: 11). وقد نبّه تيموتاوس إلى "أنّ بعض الناس يرتدّون عن الإِيمان في الأزمنة الأخيرة ويتّبعون أرواحًا مضلِّلة وتعاليم شيطانيّة" (1 تم 4: 1). وقد لاحظ لوقا نفسه بعض الوقائع التي تدلّ على مثل هذه الإِنحرافات، مع سمعان الساحر (أع 8: 9- 13، 18- 24) ومع ذلك الساحر اليهوديّ الذي يدّعي النبوءة وكان اسمه بَرْيشوع (أع 13: 6- 12)، ومع بعض اليهود المتجوّلين الذين يطردون الأرواح الشريرة مستخدمين اسم الربّ يسوع (أع 19: 13ي). إنه يعلَمُ خيرَ العِلم أنه "يقوم أناس ينطقون بالأكاذيب ليضلّلوا التلاميذ فيتبعوهم" (أع 20: 30).
تعرّف لوقا إلى ما يخبئه هذا الوضع بفطنة مدهشة، فقدّم له جوابًا يأخذه بعين الاعتبار. لقد أراد طوال مؤلَّفه، وهذا ما يذكّرنا به في مطلع إنجيله (1: 1 - 4)، أراد أن يتّصل "بأصدقاء الله" (تاوفيلس يعني صديق الله) (3:1)، بهؤلاء الوثنيّين المنفتحين بصدق على الخلاص، ويبينّ لهم أنهم يجدون هدف بحثهم وضالّتهم في يسوع، لا في قيصر. وقدّم لهم بصورة خاصّة وبشكل يتكيّف وعقليّتهم، يسوعَ على أنه المخلّص، مخلّصُ الكون كلِّه. هاتان السِمَتان تميّزان إنجيل لوقا وسفر الأعمال.
وسعى أيضًا إلى تقديم الدواء لمُناخ القلق التعليميّ الذي يهدّد الكنيسة في نهاية العصر الرسوليّ. واعتبر أن أحسن ما يمكنه أن يفعل لكي يكفل صحّة (قوة) التعليم المسيحيّ (1: 4)، هو أن يعود إلى ينابيع الإِيمان وأساسِه، أن يعود إلى التقليد الرسوليّ (1: 2).

ج- مطلع الإِنجيل (1: 1- 4)
إن وجود مطلع في بداية مؤلف لوقا يكفي ليبيّن لنا أن كاتبه والقرّاء الذين إليهم يوجّه عمله، ينتمون إلى محيط حضاريّ هلّنستيّ. فالكتّاب القدماء، سواءٌ كانوا جغرافيّين أم أطبّاء، أم مؤرّخين، اعتادوا أن يشيروا في مقدّمة كتبهم إلى الأهداف التي طلبوها، وأن يحدّدوا موقعهم بالنسبة إلى الذين سبقوهم.
ونعطي مثلاً عن هذا، فنذكر الأسطر الأولى لمقالة عن الأعشاب الطبّية منسوبة إلى ديوسكوريوس، وهو طبيب يونانيّ عاش في القرن الأوّل المسيحيّ: "مع أن كثيرين من القدماء كما من المحدَثين جمعوا مُعطَيات عن الأدوية، عن مفعولها ونتائجها، سأحاول أيّها العزيز (فيلتاتي) أريس أن أبينّ لك أنني لم أقم بهذا الدرس باطلاً وعبثًا". ونجد أيضَا أمثلة عند هيبوكراتس وديموستينس وبوليبس وبلوترخس، وخصوصًا فلافيوس يوسيفوس.
أخذ لوقا بعادات عصره، فكتب مطلعه في يونانيّة رفيعة وبشكل جملة طويلة ومتوازية، وحدّد مخطّطه الاجماليّ. لهذا نجد إشارات واضحة إلى الموضوع الذي سيتطرّق له (آ 1ب)، وكلامًا عن الهدف الذي يسعى إليه (آ 4)، عن المراجع التي أفاد منها (آ 1 أ- 2)، عن الاسلوب الذي لجأ إليه ليقوم بعمله (آ 3).
إذا كان لوقا قد تقرّب من مؤرّخي العصور القديمة، فلأنه هدف إلى كتابة تاريخ. ولكنّنا نتساءل: أيَّ تاريخٍ كتب؟
سؤال يتطلّب جوابًا، لأنّ المؤرّخ القديم كان يحاول الإِحاطة بالأحداث بأكثر ما يكون من الدقّة، فيضحّي بكل شيء من أجل الحقيقة. ولكن وجب عليه أيضًا أن يلج معنى الاحداث ويستخرج مدلولها. لهذا قامت مهمّته بأن يجعل التاريخ مفيدًا لقارئه الذي يكون في وضع مماثل، فيستخرج من واقع قديم عِبرةً من أجل سلوكه الحاضر. مثل هذه الوظيفة المفروضة على المؤرّخ تدفعه إلى تفسير الحدث التاريخيّ.
ولا بدّ من أن نخطو خُطوةً أخرى مع لوقا لندرك العالم الدينيّ الذي يتحرّك فيه.
إكتسب لوقا ثقافةً من العهد القديم، فعرف تاريخ الشعب اليهوديّ ووَضْعَه الدينيّ وطريقته في كتابة التاريخ. فالتاريخ لا يُستعمَل للبرهان عن الله، بل للتعرّف إليه والاعتراف به عبر أحداث يظهر بواسطتها على شعب ليخلّصه. لا شكّ في أن لوقا يتصرّف كالمؤرّخ، وهذا ما يقول عن نفسه في مَطلعه. ولكنّ التاريخ الذي يدوّنه يتجاوز تفكيرًا بسيطًا حولَ معنى الأحداث المرويّة ليصبح اعترافا إيمانيّا وشهادة تَحمِل كلمة الله إلى البشر.

1- الموضوع الذي عالجه
إبتغى لوقا أن يقدّم لمراسله تاوفيلس "روايات الأحداث التي جرت فيما بيننا" (آ 1ب). إذا كانت العبارة أقلّ وضوحًا من ملخّص الإِنجيل في بداية سفر الأعمال حيث نقرأ: "دوّنتُ في كتابي الأوّل جميع ما عمل يسوع وعلّم من بدء رسالته" (أع 1: 1)، فهي مع ذلك تشكّل تحديدًا موجَزًا لكتاب يزخر بالغنى اللاهوتيّ.
ويشدّد الإِنجيليّ على أن مؤلّفه يرتكز على مُعطى وضعيّ: وقائع، أحداث جرت بيننا، وتعلّقت بحياة يسوع وموته وقيامته.
وهذه الأمور التي تشكّل اليوم موضوع الشهادة الكنسيّة، لا تنحصر بظاهرات خام. إنها في نظر لوقا تحمل معنى للمؤمن، تحدّثه عن خلاص الله الذي يتمّ وسْطَ البشر (تستعمل اللغة البيبليّة صيغة المجهول للتحدّث عن عمل الله، فتتجنب تسمية الله بصورة مباشرة، مر 2: 5؛ مت 4:5؛ 7:6، 9؛ لو 6: 21؛ 22:9). وبكلمة أخرى، ينكشف عمل الله في حدَث يسوع المسيح ويسطع في وضح النهار، لأنّ مواعيد الكتب المقدّسة قد وصلت إلى كمالها في شخص يسوع وعمله. من هذا القبيل نلاحظ أننا نجد استعمالَي فعل "أتمّ" (بليروو: استعمله لوقا وربطه بالكتب المقدّسة) في فم يسوع: في المرّة الأولى في بداية رسالته العامّة (4: 21: "اليوم تمّت هذه الكلمات")؛ وفي المرّة الثانية في نهاية رسالته (44:24: "لا بدّ أن يتمّ عنّي كلّ ما جاء"). ما معنى هذا البناء؟ إن كلّ الأمور التي رواها الإِنجيل تشارك في نظر لوقا، في هذه التتمّة وهي شهادة صارخة عن قدرة الله العاملة في يسوع.
وهذا الحدث الخلاصيّ الذي يُعلَن في الكنيسة، ما زال يعمل ويتمّ في وسطها. وهكذا نفهم في أيّ معنى اعتبر لوقا والمسيحيّون أنهم صاروا هم أيضًا شهود مجيء يسوع.

2- السوابق والمراجع المستعملة
لم ينطلق لوقا من لا شيء ليكتب مؤلّفه. هو يُقرّ بأنه عاد إلى مراجع متنوّعة ويبدأ بالإشارة إلى أن أناسًا سبقوه في هذا المضمار: "لأن كثيرًا من الناس أخذوا يدوّنون رواية الأحداث" (آ 1 أ). نحن هنا أمام مصطلح أدبيّ نجده مرارًا في المطالع الهلّنستيّة. مثل هذا القول يتيح لكاتب بأن ينتقد سابقيه، ولكنه يساعد كاتبًا متجدّدًا على تقديم أوراق اعتماده. هذا الحقّ بالكتابة، يستنتجه لوقا من أن آخرين سبقوه. فها هو يسير في إثرهم ويتّخذ منهم له مثالاً.
ولكن من هم هؤلاء الذين اقتفى آثارهم؟ لا يسميهم لوقا. وقد يكون "هؤلاء الكثيرون" بعض أشخاص بينهم مرقس الذي أخذ منه لوقا رسمته الأولى وعددًا من موادّه. لو 3: 1- 6- 19 = مر 1: 1- 3: 19؛ لو 8: 4- 9: 50 = مر 4: 1- 6: 44+ 27:8- 9: 40؛ لو 18: 15- 27:19= مر 10: 13 – 52؛ لو 28:19- 53:24= مر 11: 1- 16: 20. ونتطلّع أيضًا إلى مقمشين مجهولين تركوا لنا أقوال يسوع التي استقى منها متى أيضًا وسمّيت المَعين، كما نتطلّع إلى مرجع خاصّ بلوقا غرف منه عددًا من موادّه (هناك إنجيل الطفولة والقاطعة اللوقاوّية الكبيرة التي تتضمن 9: 51- 18: 14). كلّ هؤلاء سبقوه فحاولوا أن يرتّبوا الموادّ الإنجيليّة، ويقدّموا بشكل أخبار مدوّنة "الأحداث التي جرت بيننا".
يعود لوقا إلى سابقيه، ويحدّد أيضًا موقعه بالنسبة إلى أشخاص آخرين، إلى "الذين كانوا من البدء شهود عيانٍ للكلمة" (آ 2).
عاد لوقا إلى التقليد فجعل نفسه مع عدد من المؤمنين تلقَّوا التعليم ممّن كانوا شهودًا لأحداث حياة يسوع، ممّن شهدوا له بعد العنصرة وأعلنوا كلمته.
هؤلاء صاروا خدّام الإِنجيل (عاملين من أجل الكلمة). هذا هو معنى "هيباريتيس: خادم السنهدرين: مر 14: 54 (مت 26: 58)؛ 14: 56؛ يو 7: 32، 45- 46؛ 3:18، 12، 18، 22؛ 6:19؛ أع 22:5، 26. وهو يرتدي معنى لاهوتيَّا واضحًا في 1 كور 4: لم حيث يقرب من مفردة "مرتيس (شاهد) أو يوازيه: خدمة الكلمة، الكرازة، الشهادة هي وظائف اساسيّة لدى الشاهد. فإذا أردنا أن نترجم "هيباريتيس" في 1: 2 ونحتفظ له بالمعنى القانونيّ (الذي أعطي أمرًا وطلب منه أن ينفّذه)، ونعطيه المعنى اللاهوتيّ الذي يخصّه، نترجم: الرسل هم شهود "مرسومين" لكرازة كلمة الربّ.
هؤلاء الشهود يشكّلون فئة واحدة من الأشخاص: نحن أمام الرسل وأمام تلاميذ مثل متيا وكل الذين كان بإمكانهم ان يُختاروا ليحلّوا محلَّ يهوذا الذي ترك وظيفته ورسالته (أع 1: 21- 22). ما يجمعهم هو أنهم رافقوا يسوع منذ البدء، أي في نظر لوقا منذ بداية نشاطه المسيحانيّ... وهذا النشاط الذي خضع لمجيء الروح القدس (18:4؛ ق 21:3 ب)، بدأ في الجليل بعد عِماد كرز به يوحنا، حين دخل يسوع إلى مجمع الناصرة (16:4- 17)، وينتهي مع الصعود. ونظنّ أن لوقا، حين عاد إلى مدلول كلمة "بدء" اللاهوتيّ، أراد منذ مطلع إنجيله أن يشير إلى العلاقة بين كتابَيه (لو+ أع)، ويشدّد على التواصل بين بداية رسالة يسوع العامّة وبداية شهادة الرسل. ففي نظر صاحب أع، إنّ بداية شهادة الرسل خضعت هي أيضًا لمجيء الروح على الرسل: بدأت في أورشليم (أع 2) فامتدّت إلى أقاصي الأرض.
نجد مفردة البدء "ارخي" في المفاصل المهمّة في مؤلّف لوقا. إنها تعود بنا إلى مضامين لاهوتيّة محدّدة. رج 1 :2؛ 23:3؛ 23: 5؛ أع 1: 1؛ 1: 22؛ 10: 37. كل هذا يدلّ على بداية النشاط المسيحانيّ. أمّا لو 47:24 وأع 1: 8؛ 11: 15 فتعود بنا إلى بداية الإِعلان الرسوليّ.
وإذ عاد لوقا إلى الشهادة الرسوليّة، فقد أراد أن يجعل أساسًا متينًا للتعليم الذي أراد أن يورده. فالأشخاص والجماعات لا يقدرون أن يتصرّفوا بالإِنجيل على هواهم: كانوا وحدَهم معاينين لأحداث رسالة يسوع العامّة، فصاروا الأداة الضرورية لنقل هذه الأحداث إلى الجماعة المسيحيّة. والإشارة إلى هؤلاء الشهود المباشرين تعلن صحّة ما كتبه لوقا وتكفل حقيقته.

3- أسلوب العمل وترتيب الموادّ
إن الأسلوب الذي أخذ به لوقا هو أسلوب المؤرّخين. بعد أن ذكر مراجع سابقيه أشار إلى قارئه أنه أراد أن يتحقّق من صحّة التقاليد الشفهيّة والكتابيّة التي وصلت إليه (آ 3).
لم يكن هو شاهد عِيان لعدد كبير من الوقائع التي دوّنها، فوجب عليه أن يبحث عن معلومات، أن يقوم بأبحاث في كتابات سابقيه وأن يتحقّق من التقاليد الشفهيّة التي بين يديه.
وهذا البحث تطرّق إلى "كل" شيء، أي إلى مُجْمَل الوثائق التي قدّمها التقليد، فأتاح للوقا أن يعود "إلى بداية" تاريخ (أو خبر) يسوع. من المعقول أنّ الكاتب أراد أن يلمّح بهذه الكلفة إلى إنجيل الطفولة، وأن يقول لنا ما زاد عمله على عمل سابقيه. وما هو أكيد هو أن صفات العمل والالتزام (أع 25:15، 28) الشخصيّة عند لوقا نجدها في هذا الإِنجيل. فيلفِتُ نظرَنا لا وسعُ وتنوّعُ المراجع المجموعة وحَسْب، بل اهتمامُ المورّخ (أكثر من متى ومرقس) الذي يقودُنا إلى الأصول البعيدة والسرّية ليسوع المخلّص (ف 1- 2).
وتميّز عمل لوقا بسِمتَين أُخرَيَين: الدقّة والترتيب. يَلفِت انتباهنا كلمة "كاثاكسيس" (بترتيب) التي ترِد خمس مرّات عند لوقا (3:1؛ 8: 1؛ أع 24:3؛ 11: 4؛ 23:18). هل يعني لوقا أنه يرتّب موادّه حسب نظام كرنولوجيّ دقيق؟ كلا. وقراءة النصوص تدلّ على أنّ هذا لم يكن هدفه. هل نظر إلى "ترتيب" المجموعات الكبرى التي تتوالى في الإِنجيل (الطفولة، الجليل، الصعود إلى أورشليم، أورشليم) وفي سفر الأعمال (أورشَليم، اليهوديّة، السامرة، أقاصي الأرض)؟ هل فكّر بالمقابلات المتعدّدة التي تربط كتابيه (لو+ أع): لا شك. ولكن هناك أكثر من ذلك. فبقدر ما سعى المؤرّخ إلى أن يورد الأمور كما هي، بل إلى أن يفسّرها، نظنّ أن الترتيب الذي يتحدّث عنه لوقا هنا يشير إلى مضمون مؤلَّفه. حين رتّب لوقا الأخبار أبرز معنى التعليم المُوحى وبُعدَه. وهذا التعليم بأبعاده الخلاصيّة، لا يصل إلى القارئ إلاَّ عبرَ توجيه فكريّ، وفي النهاية عبرَ شهادة يقدّمها مؤمن إلى أناص يدعوهم إلى الإِيمان.

4- الهدف المطلوب
تفرّد لوقا عن كتّاب العهد الجديد فأشار بوضوح إلى هدفه من كتابة مؤلَّفه: "رأيت أن أكتبها لك، يا صاحب العزّة تاوفيلس، حتى تعرف (تقتنع) صحّة التعليم (الكلمات) الذي تلقَّيته" (آ 3- 4).
هذا الإهداء الذي يوافق رَسْمة معروفة في مطالع الكتب، يهمّنا بصورة خاصّة، لأنه يعكس الوضع الكنسيّ في الرُبع الأخير من القرن الأوّل، ويحاول أن يتصدّى للأسئلة التي تُطرح.
ظنّ البعض أن هدف لوقا هدفٌ دفاعيّ (أبولوجيّ)، وكأنه يريد أن يجتذب إلى الحقيقة المسيحيّة تاوفيلس الذي وصلت إليه معلومات، بل حصل على تعليم دينيّ في إطار التنشئة العماديّة (كاتاخاتيس في 1: 4؛ رج روم 18:2؛ 1 كور 14: 19؛ غل 6: 6؛ أع 18: 25). أجل، إن لوقا عرف "الأحداث التي جرت بيننا" (آ 1). ولكن هدف لوقا الأساسيّ هو هدف لاهوتيّ: أن يبيَّن بوضوح لمراسِله أنّ التعاليم التيٍ تلقّاها هي ثابتة وأكيدة. يريد أن يثير لدى تاوفيلس وقارئيه ثقة كاملة وتعلّقًا صُلْبًا بالواقع المسيحيّ. لماذا؟ لأنه في نهاية العصر الرسوليّ هذه، هدّد إيمانَ المسيحيّين عدّةُ تيّارات فكريّة جاءته من الداخل ومن الخارج. فَهِم لوقا أنه إن أراد أن يواجه الخطر بصورة إيجابيّة، وجب عليه العودة إلى منابع التقليد الشرعيّة، والانطلاق منها لتقديم الإِنجيل، والتاريخ المسيحيّ. أدرك أن مهمّته تقوم بأن يثبّت الكنيسة على أساس التقليد، أن يشدّد على ضرورة بُنْية مرتّبة، ليساعد الجماعات على التغلّب على المحاولات التلفيقيّة وقوى التفكّك التي تهدّدها.
هل نقول بعد أن طرحنا هذه المسألة التي تهدّد الكنيسة من الداخل، هل نقول إن لوقا لم يوجّه مؤلّفه إلى قرّاء مسيحيّين؟ كلاّ. فترتيب المؤلّف والتشديد على شموليّة الخلاص يمنعاننا من اتّخاذ هذا الموقف. ثمّ إن لجوء لوقا إلى الفنّ الأدبيّ، فنِّ المَطْلع والإهداء الذي يميّز المؤلّفات الدنيويّة في عصره، يبينّ لنا أن المسيحيّة تمثّل في نظره قيمة روحيّة توازي ما نقرأه في مؤلّفات أخرى. في هذه الحال، لماذا لا نقول إن تاوفيلس الذي أهدى إليه لوقا كتابيه (لو 1: 3؛ أع 1: 1) شارك في نشر المؤلّف في الأوساط الوثنيّة؟ فمركزه الاجتماعي الرفيع ووضعه كوثنيّ مرتَدّ جعلاه يدرك هدف الإِهداء. لم يكن هدف هذا الإِهداء فقط إعطاءَ ثِقلَ واعتبار لمؤلّف من المؤلّفات، بل دعوة تاوفيلس للتعريف بهذا المؤلّف بسبب مضمونه وقصده.
ليس مؤلَّف لوقا شهادةً كنسيّةً وحسب؛ فللإِنجيل وأعمال الرسل بُعدٌ رسوليٌّ أيضًا.

د- ملحق:14:4-15
إن الإِجمالة القصيرة في 14:4- 15 تفتتح القسم الكبير الأوّل في الإِنجيل: رسالة يسوع العامّة في الجليل (4: 14- 9: 50)، التي تبدأ بداية فعليّة في الناصرة. دخل يسوع المجمع محدِّدًا مهمّته المقبلة في خُطبة أعلن فيها برنامجه (4: 16 ي).
تقدّم لنا هاتان الآيتان في إيجاز أدبيّ رائع بعض الإشارات الواضحة إلى الطريقة التي بها نظر لوقا إلى يسوع وسعى إلى أن يقدّمه لنا.
كان أمينًا للتقليد الإزائيّ الذي يشير إلى رجوع يسوع إلى الجليل، بعد فترة التجارب التي دامت أَربعين يومًا (مر 1: 14 أ؛ مت 4: 12)، فكتب: "وعاد يسوع بقوة الروح إلى الجليل" (4: 14 أ). عبارة لها أهمّيتها من زاويتين اثنتين.
أوّلاً: أغفل لوقا عَمْدًا الحديث عن توقيف يوحنا المعمدان (أشار إلى هذا السَجْن في 3: 19- 20، أي في نهاية الكتيّب الذي خصّصه للمعمدان وكرازته الاجتماعيّة، 3: 1- 20)، فشدّد على المركز الذي يحتلّه يسوع في تاريخ الخلاص. إذا كان يوحنا المعمدان ينتمي إلى زمن التتمّة (لا زمن المواعيد)، فهو المنادي والسابق فقط. وشموع هو الذي يؤسِّس هذه الأزمنة الجديدة، وبمجيئه يدشّنها. فيه يتمّ حقّا عملُ الخلاص ويبدأ الإِنجيل (بخلاف مر 1: 1- 4).
ثانيًا: أشار لوقا إلى حضور الروح القدس الشخصيّ (4: 14 أ) فشدّد على الرباط الوثيق الذي يجمع بين بداية مهمّة يسوع العلنيّة في الناصرة (4: 16ي) ومجيء الروح على يسوع في الأردنّ (3: 31 ي. هكذا يرتبط خبر التجارب بالرؤية التي حصلت بعد عماد يسوع). ثم إنه ذكّر قرّاءه أن خبر يسوع كلّه يسير بقوة الروح هذه (3: 22؛ 23: 46).
إن آ 14- 15 اللتين تصوّران نتائج هذه القوة (ديناميس) الفاعلة في يسوع، تفهماننا أن يسوع قام بعمل امتدّ زمنًا طويلاً في الجليل قبل أن يعود إلى الناصرة: "فذاع صيته في جميع تلك الأنحاء، وكان يعلّم في مجامعهم، فيمجّدونه كلّهم". ولكنّ لوقا لا يقول شيئًا أكثر من ذلك: فإجمالته لا توضح مضمون هذه الكرازة (ق مر 1: 4 1ب، 15؛ مت 4: 17ب) ولا المكانَ الجُغرافيّ المحدّد الذي بدأت فيه هذه الرسالة العامّة (كفرناحوم بالنسبة إلى مت 13:4 ومر 1: 21). همّه أن يصل سريعًا إلى حدَث الناصرة الذي يستبق به التقليد الإِزائيّ (مر 6: 1-6؛ مت 53:13-58)، ويتوسّع فيه بصورة كبيرة.
وبالنظر إلى هذا المشهد الحاسم، يشير لوقا هنا إلى تعليم يسوع في "المجامع" (4: 15 و 4: 16، 20، 28)، وهو موضوع يعود إليه مرارًا في إنجيله (28:4، 44؛ 6: 6؛ 13: 10). ولكنه يشدّد على التمجيد الذي يناله يسوع (4: 4 أب، 15) بسبب المَنحى المأساويّ الذي ستتّخذه هذه الأحداث في حياته.
إن لوقا يعرف كلَّ المعرفة أن هذا "التمجيد" (والإِكرام) الذي يحيط بيسوع اليوم، سيصبح موضوع رفض لدى أبناء وطنه وبلدته (23:4- 30). ويعرف أن هذا الاعتراف الأوّل لَنْ يدوم طويلاً، وأنّه يجب على يسوع، أن يتألّم "ليدخل في مجده" (26:24). ولكنه يعرف الطريق الذي يسير فيه، وهو لا يقدر أن يبدأ خبر هذا الرجل "الذي مرّ وهو يصنع الخير"، دون أن يحدّد الهدف الأخير الذي هو القيامة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM