|
الفصل الخامس
زمن يسوع وزمن الكنيسة
ميَّز لوقا بين زمن يسوع وزمن الكنيسة. فلماذا أدخل هذه القِسْمة في التقليد الإِنجيليّ؟
أوّلاً: هناك سبب أدبيّ: لقد استقى بولس من الكتَّاب اليونانيّين في عصره عددًا من أساليبهم في الكتابة: مثلاً، المطلع مع العنوان في بدء الكتاب (1: 1- 4؛ أع 1: 1- 2)؛ وربط الخبر بالكرونولوجيا الرسميّة في أيَّامه (3: 1- 3)؛ وتدوين عدّة خطب في أع. وقد يكون اقتدى بهؤلاء الكتاب فقسم مؤلّفه إلى كتابين وإلى عدة أجزاء، متجاوبًا مع اهتمام الفكر اليونانيّ بالوضوح والدقة.
ثانيًا: ولكن لوقا ليس مؤرِّخًا زمنيًّا وحسب. فالأحداث التي يوردها هي أعمال إلهيّة. وهذا ما يقوله بوضوح في مطلع إنجيله حين يتكلّم عن "الأحداث التي جرت في ما بيننا" (صيغة المجهول في اليونانيّة، وهي تدلّ على يد الله)، وحين يذكر "خدام الكلمة". وهو يبين هذا الواقع طوال كتابيه (لو + أع) بعودته الواضحة أو الضِمنيّة إلى الكتب المقدّسة، حيث يجد إعلانًا للأحداث التي يوردها وإشارة إلى مضمونها. تاريخه هو تاريخ الخلاص. وإن قسَمَه إلى حقبات، فلأنه اكتشف فيه مراحل متعاقبة في عمل الله في الكون.
1- في الإِنجيل
إن أسباب هذه القِسمة واضحة في الإِنجيل، وهي لا تطرح إلاَّ أسئلة قليلة. إذا كان لوقا قد ربط زمن يوحنا المعمدان بالعهد القديم، ففصله عن زمن يسوع، فسفر الأعمال سيقول لنا لماذا قام بهذا الفعل: روى لوقا أن بولس وجد في أفسس معمَّدين جُددًا لا يعرفون إلاَّ معموديّة يوحنا، ولم يسمعوا كلامًا عن الروح القدس (أع 25:18؛ 19: 2- 3). ولهذا، بينّ أن الخلاص لا يتمّ إلاّ في يسوع المسيح. ولهذا ربط يوحنا بالحِقبة السابقة.
ولقد قسم لوقا مهمّة يسوع الرسوليّة إلى ثلاث مراحل، وذلك لسببين. الأول: أراد أن يبيّن أن كلّ وحي يسوع يتركّز على سرّ موت المسيح الذي أعلن (الانباءات الثلاثة)، وهُيئ، وتمَّ. الثاني: ربَط تتمّة هذا السرّ بأورشليم، مركز الوحي القديم ونقطةِ انطلاق الوحي الجديد. وهكذا قسم إنجيله ثلاثة أقسام: في "اليهودية"، في الطريق (الصاعدة إلى أورشليم)، في أورشليم. كل هذه أمور واضحة، ولم تولّد كثيرًا من الجدال. أمّا القِسمة بين لو وأع فكانت مَثارَ جدلٍ كبير.
2- بين إنجيل لوقا وسفر الأعمال
لماذا فصل لوقا بين الانجيل وأع؟ لماذا ميّز بين زمن يسوع وزمن الكنيسة؟ الأسباب عديدة والمواقف متنوّعة، وقد أدّت إلى مباحثات هامّة.
أ- كان كونزلمان أول من طرح المسألة بوضوح، فبدا الحلُّ الذي اقترحه نقطة انطلاق في المجادلات الحاضرة. قال: إن التأخّر في المجيء الثاني (باروسيا، الحضور) قاد لوقا لكي يميّز بين زمن الكنيسة وزمن يسوع. انتظرت الكنيسة الأولى عودة الربّ بسرعة، فلم تميّز زمن الفصح من زمن المملكة الاسكاتولوجيّة. وبما أن هذه العودة لم تحصل، تصوَّر لوقا زمن الكنيسة، وكأنه شكلٌ جديد من حضور يسوع الانتصاريّ بين أخصّائه.
على ماذا أسّس كونزلمان طرحه هذا؛ إنه يُقرّ ولا شكّ بأن لوقا احتفظ بإنباءات إسكاتولوجيّة تقليديّة. ولكنه يلاحظ أيضًا أن لوقا حرَّر عددًا من هذه الإنباءات من الطابع الإسكاتولوجيّ. مثلاً، إعلان دمار أورشليم في الخطبة الإسكاتولوجيّة (21: 20- 24)، حيث يُحلّ لوقا محلَّ قول إسكاتولوجيّ، إعلانًا عن حدَث تاريخيّ لاحظ حدوثه. ونجد أيضًا وضعًا مماثلاً في جواب يسوع الى السنهدرين (22: 69، ولكن من الآن يكون ابن البشر جالسًا عن يمين قدرة الله) حيث يعلن لوقا تمجيد يسوع الفصحيّ بدل عودته كالديّان الإسكاتولوجيّ (مت 26: 64؛ مر 62:14). وفسَّر كونزلمان أيضًا بشكل مماثل التعبير في 27:9 إنّ في القائمين هنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله). أمّا ما يوازيه في مر 9: 1 (من لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله آتيًا في قدرة) فيعلن مجيء يسوع المنظور قبل موت بعض تلاميذه. غير أنّ لوقا. يُحلّ محل المجيء وعدًا بالملكوت المنظور في الكنيسة بواسطة الإِيمان.
إن هذا التحرّر من الإِسكاتولوجيا أمر متواتر في الإِرشادات المعطاة للتلاميذ، والتي فيها يطبّق القديس لوقا على حياة المؤمنين اليوميّة أقوالاً ارتبطت في الأصل بالضيق الإِسكاتولوجيّ (8: 11- 15؛ 23:9؛ 12: 52).
ولكن هل نفسّر هذه الأقوال اللوقاوّية بشكّه أمام تأخّر المجيء الثاني؟ يعتبر أوغسطين جورج أن هذا التفسير ليس بأكيد، ويقدّم الأسباب التالية:
أوّلاً: إحتفظ لوقا بعدد من الأقوال حول اقتراب الدينونة (8:18 متى جاء ابن البشر، فهل يجد الإِيمان على الأرض؟ هذا قول خاصّ بلوقا، 32:21 "ان هذا الجيل لا يزول ما لم يتمّ الكلّ"). إذن، هذه المسألة لا تشكّل بالنسبة إليه حاجزًا لا يمكن تجاوزه. ومن جهة أخرى، فهو يتمسّك بتعليم يسوع التقليديّ عن الساعة التي لا نعرف متى ننتظرها (35:12- 40؛ 17: 22- 37؛ 21: 34- 36).
ثانيًا: ظنّ عدد من الشُرّاح (شناكنبورغ) أن تأخّر المجيء الثاني كان مشكلة خطيرة بالنسبة إلى الكنيسة الأولى؛ ولكنهم قالوا إن هذا الهمّ كان سابقًا للقديس لوقا.
ثالثًا: لم تجد اليوم مسألة الإِسكاتولوجيا الإنجيليّة الحلّ الواضح لها بحيث ننسب إلى يسوع (وإلى يسوع وحده) إنباءً بعودته القريبة. من المؤكّد أن يسوع تحدّث عن الدينونة على أنّها قريبة. ولكننا أمام فنّ أدبيّ عرفه سامعوه وفسّروه على ضوء الأسفار المقدّسة. وبجانب هذه الإنباءات تطلّع يسوع إلى عمله الذي سيبقى بعد موته، فاختار الاثني عشر، وربَّاهم ليحملوا شهادته ويكونَ عملهم امتدادًا لعمله.
رابعًا: لاحظ عدد من الشُرَّاح (فلكانس) أنّ هناك أمورًا عديدة، غير تأخر المجيء الثاني، دفعت لوقا لكي يعي الواقع الجديد الذي هو زمن الكنيسة. سنحاول أن ندرك هذه الأمور في مؤلف لوقا. وهي: عطيّة الروح للتلاميذ، والكرازة الرسوليّة، والاضطهاد ضدّ تلاميذ يسوع، والرسالة لدى الوثنيين.
ب- عطيّة الروح للتلاميذ
أول جديد في زمن الكنيسة ظهر عند لوقا، هو عطيّة الروح للتلاميذ. لا شكّ لا أنّ لوقا قدّم لنا في إنجيل الطفولة أناسًا ألهمهم الروح: امتلأ يوحنا المعمدان من الروح القدس وهو بعد في حشا امّه (15:1، 41). وأُلهمت أليصابات فباركت مريم (1: 41- 45)، وأُلهم زكريا فأنشد نشيد المباركة (67:1 ي: مبارك الرب)، وألهم سمعان فاستقبل يسوع في الهيكل وقال فيه أقواله النبويّة (2: 25- 35). ولكن لوقا يرى أن كلّ هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى العهد القديم الذي ينتهي مع يوحنا المعمدان (16: 16)، وينالون الروح كما ناله الأنبياء في القديم (لا يقول لوقا إن مريم أُلهمت لتتلو نشيد التعظيم. فالروح القدس قد حلّ عليها بصورة خاصّة، فجعلها في العهد الجديد، رج 1: 46).
ويورد لوقا أيضًا علاقات يسوع بالروح. فكما عند متى (18:1، 20) يُحبَل بيسوع من الروح (35:1). ويبيِّن لوقا يسوع الذي نال ملء الروح في عماده، كما قال متى (16:3؛ 4: 1) ومرقس (1: 10، 12). ولكن لوقا يختلف عنهما حين يلاحظ أن يسوع ليس خاضعًا للروح (الفرق في التدوين بين لو 4: 1 ومت 4: 1 ومر 1: 12). ويشدّد بصورة أعمق على روح يسوع (4 :14 - 18؛ 21:10)، ويقول وحدَه إن يسوع يرسل الروح (49:24؛ رج أع 2: 33).
إنّ إرسال الروح بيد يسوع على التلاميذ، يشكّل في نظر لوقا أوّل حدَثٍ في حياة الكنيسة. هذا ما أعلنه يسوع يوم غادرهم (24: 49؛ أع 1: 4- 5). أتمّ وعده يوم العنصرة، ومنذئذ صار الروح في الكنيسة واقعًا ملموسًا وحضورًا مستمرًّا (يذكره لوقا 55 مرة في أع). أُعطي الروح للاثني عشر ليكرزوا بالكلمة (أع 2: 4، 14؛ 4: 31)، ليشهدوا ليسوع (أع 4: 8؛ 5: 32). أُعطي الروح لهم فوجَّه نشاطهم (أع 3:5، 9؛ 11: 12؛ 15: 28). وأُعطي "للوعَّاظ " والمرسَلين للمهمّات عينها (أع 6: 10؛ 7: 55؛ 8: 29، 39؛ 13: 4، 9؛ 6:16- 7). وأَلهم الأنبياء والمعلَّمين (أع 11: 28؛ 21: 4، 11). وأُعطي خصوصًا للمؤمنين ليكونوا الشعب المسيحانيّ الذي أعلن عنه الأنبياء (أع 38:2؛ 3:6، 5؛ 8: 15- 17؛ 17:9، 31؛ 10: 44- 47؛ 52:13؛ 6:19). قَبْلَ لوقا، وعَدَ التقليد الإِنجيليّ بعطية الروح للتلاميذ في إعلانات يوحنا المعمدان (مت 3: 11؛ مر 1: 8؛ لو 16:3) وفي تشجيع يسوع للشاهدين له أمام المحاكم (مت 10: 29؛ مر 13: 11؛ لو 12: 12). ولكن لوقا زاد على هذه المواعيد عددًا من الأقوال في إنجيله: حين جعل من عطيّة الروح الخير الأسمى الذي يُمنح للصلاة (13:11؛ ق مت 7: 11). حين طبق على الشهادة الرسوليّة كلمة التجديف على الروح القدس (جعل 12: 10 قبل 12: 11- 12 في اطار اعتراف). حين جعل من الوعد بالروح آخر كلمة من التعليم الفصحيّ (24: 49).
إن عطيّة الروح للكنيسة هي في نظر لوقا واقعٌ لاحظه وأثّر فيه، فأفرد له هذه المكانة الكبيرة في أع. رأى في هذه العطيّة علامة تدخّل الله في الكرازة الإنجيليّة، كما رأى علامة عمل يسوع القائم من الموت في كنيسته (في أع 7:16 نقرأ "روح يسوع". نجد وحدة العمل بين يسوع والروح في لو 15:21 الذي ينسب إلى يسوع الدور الذي ينسبه إلى الروح نص مت 10: 20 ومر 13: 11؛ رج لو 12: 11- 12). هذه العلامة توحّد زمن الكنيسة بزمن يسوع وزمن الأنبياء، وتميِّز ثلاث حقبات، لأنّ عمل الروح يختلف بين حقبة وأخرى (إلهام الأنبياء، ملء الوحي في يسوع، المواهب). وهكذا نرى في خبرة لوقا مع الروح إحدى الينابيع المهمّة لتوزيعه تاريخ الخلاص على ثلاث حقبات.
ج- الكرازة الرسوليّة
هناك واقع آخر تبع عطيّة الروح ودفع لوقا لكي يتحدّث عن زمن خاصّ بالكنيسة. هذا الواقع هو واقع الكرازة الرسوليّة.
خلال حياة يسوع العلنيّة، كان نشاط الاثني عشر محدَّدًا جدًّا. ويتّفق الإنجيليّون كلّهم في هذا المجال، منطلقين من تقليد لا ينقل إليهم إلاَّ معطَياتٍ ضئيلةٍ عن مهمّة رسوليّة للاثني عشر في الجليل (مت 10: 1؛ مر 14:3- 15؛ لو 9: 1- 6، 10). ولا غرابةَ في الأمر، فالتلاميذ يحتاجون إلى زمن كافٍ ليتعرّفوا إلى تعليم السيد، ويَلِجوا سرَّ شخصه. واحتاجوا أيضًا بصورة خاصّة إلى خبرة الفصح، لأنهم لم يفهموا الشيء الكثير من إنباءات الآلام (مت 22:16- 23؛ مر 8: 31- 33؛ 9: 32؛ لو 9: 45؛ 18: 33).
ويربط الإنجيليّون كلّهم وعي الرسل لمهمتهم ككارزين للإِنجيل بظهورات القائم من الموت. في هذا المجال، يتوقّف لوقا عند التقليد المشترك. ولكنه تأثّر بهذه الكرازة فاهتمّ بها اهتمامًا خاصّا. دوّن التعليم الفصحيّ (24: 44- 48) بألفاظ الكرازة الرسوليّة. وكرّس أع كلّه ليقدّم هذه الكرازة مع مواضيعها المعروفة التي تفعل في القلوب. بدأت يوم العنصرة، فكانت النتيجة الأولى لموهبة الروح. وظهرت فاعليّتها المباشرة في تكوين الجماعة الأولى. وتتبع انتشار هذه الكرازة من أورشليم إلى السامرة وإلى الوثنيّين بواسطة بطرس وبولس.
وأبرز أسلوبُ لوقا الجديدَ الذي مثّلته له هذه الكرازة الرسوليّة، فسمّاها شهادة (اكثر من 20 مرة، أع 33:4؛ 22: 18). وفي المقاطع الثلاثة التي يتحدّث فيها الإِنجيلي عن شهادة التلاميذ، اثنان يُشيران إلى الرسالة المقبلة (21: 13= مر 13: 9؛ مت 10: 18؛ 24: 14؛ لو 24: 48) والثالث هو عبارة شائعة (9: 5= 6: 11). قبل الفصح، قال لنا لوقا مرّةً إن الاثني عشر "أنجلوا" (أي حملوا الإِنجيل، البُشرى) خلال المهمّة الجليليّة القصيرة (9: 6). ولكنه يطبّق هذا الفعل 14 مرّة على نشاط المرسلين في أع (42:5؛ 4:8، 12، 25، 35، 40؛ 11: 20؛ 32:13؛ 14: 7، 15، 21؛ 15: 35؛ 16: 10؛ 18:17). ونزيد على هذا آيتين يذكر فيهما "الإِنجيل" (أع 7:15؛ 20: 24) وآيةً تسمّي فيلبس "الإِنجيليّ" (أو المبشر، أع 8:21). أخيرًا، لا يتكلّم لوقا عن "تعليم الرسل" وتعليم مشاركيهم إلاَّ بعد العنصرة (أع 42:2؛ 5: 28؛ 13: 12؛ 17: 19). فيصوّرهم وهم يعلّمون (أع 4: 2، 18؛ 5: 21 - 25، 28، 42؛ 11: 26؛ 15: 1، 35، 18، 11، 25؛ 20: 20؛ 21: 21- 28؛ 28: 31) ويسمّيهم "معلّمين" (ديدسكالوس). يختلف لوقا عن متى ومرقس فلا يطبِّق هذه المفردات أبدًا على التلاميذ (مت 5: 10؛ مر 6: 39).
وإحدى ميزات الكرازة الرسوليّة في أع، هي استعمالها للكتب المقدّسة. أشار لوقا في أخبار الظهورات الفصحيّة إلى أن القائم من بين الأموات "فتح الكتب" لتلميذي عمّاوس (24: 25- 27، 32)، "فتح أذهان الاحد عشر ليفهموا الكتب" (44:24- 45). إذا عدنا إلى التقليد نفهم أن التلاميذ لم يطبّقوا حتى الآن مز 118: 25- 26 ليحتفلوا بدخول الرب إلى أورشليم (مت 21: 9؛ مر 11: 9؛ لو 38:9). ونحن لم نزل على مستوى التأويل المسيحانيّ الزمنيّ. ولكنّ يوم العنصرة سيظهر التأويل الذي سينمو في الخطب الكرازيّة.
تبدو هذه الكرازة الرسوليّة وتأويلها دافعًا جديدًا يميّز الحِقبة التي بدأت يوم العنصرة. لهذا اهتمّ لوقا بهذا الزمن الخاصّ الذي سمّاه زمن الكنيسة.
د- الاضطهاد ضدّ تلاميذ يسوع
إنتشرت الكرازة الرسوليّة فأدَّت إلى عِداء السلطات للكنيسة واضطهادهم لتلاميذ يسوع.
كان يسوع قد أعلن بأقوال كثيرة هذه الاضطهادات، فجمع التقليدُ هذه الأقوال. أوّلاً: صوَّر وضع التلاميذ. قال لوقا (23:9- 26): "من اراد أن يتبعني فلينكر نفسه، وليحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني. فإن من أراد أن يخلّص نفسَه يهلكها. وأما من أهلك نفسه من أجلي فإنه يخلَّصها. إذ ماذا ينفع الإِنسان ان يربح العالم كلّه ويَهلِك هو نفسه او يحكَم عليه؟ فإنّ من يستحيي بي وبكلامي، يستحيي به ابن البشر متى جاء في مجده ومجد الآب مع الملائكة والقديسين" (رج مت 24:16- 27؛ مر 34:8- 38). ولقد جمع مت في 10: 16- 39 عددًا من هذه الأقوال وجَّهها الى المرسلين. أما مرقس ولوقا فقد وجّهاها إلى كل التلاميذ. ثانيًا: شَجَب المضطهدين اليهودَ، فقال: "ويل لكم لانكم تشيّدون ضرائح الأنبياء، وآباؤكم قد قتلوهم. فأنتم إذن شهود وتؤيّدون أعمال آبائكم. هم قتلوا وأنتم تشيّدون الضرِائح. فمن أجل ذلك قالت أيضًا حكمة الله: سأرسل إليهم أنبياء ورسلاً، فمنهم من يقتلون ومنهم من يضطهدون، لكي يُطلَب من هذا الجيل دمُ جميع الأنبياء المهدور منذ إنشاء العالم" (11: 47- 50؛ رج مت 29:23- 35). ثالثًا: صوّر الضيق الذي يحلّ بالكنيسة في آخر الأزمنة: "وقبل هذا كلّه سيلقون الأيدي عليكم ويضطهدونكم ويسوقونكم إلى المجامع والسجون، ويقودونكم إلى الملوك والولاة، من أجل إسمي، فيكون لكم ذلك للشهادة..." (21: 12- 19؛ رج مت 23: 29- 35). هذه المجموعات التي تكوّنت في وقت مبكّر في التقليد، تدلّ على أن الكنيسة الفتيّة عرفت منذ بدايتها الاضطهاد على مثال معلّمها.
احتفظ لوقا بهذا التقليد، ولكنه وضَّحه بعدّة خطوط جديدة. روى كيف أن نبوءة يسوع تمَّت منذ أيَّام الكنيسة الأولى: بتدخّل السنهدرين ضدّ بطرس ويوحنا (أع 4: 1- 31) ثم ضدّ الاثني عشر (أع 7:5- 24)، ثم بموت إسطفانس (6: 9- 7: 60) والهجوم على كنيسة أورشليم (أع 8: 1- 3؛ 12: 1) ومؤمني دمشق (أع 9: 1- 2). واضطهد بولس (أع 9: 23- 29)، ويعقوب (أع 12: 2) وبطرس (أع 12: 3- 5). قال يسوع لتلاميذه: "لا تهتمّوا لطريقة الدفاع عن أنفسكم... فإن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوا" (12: 11- 12). فتمَّ هذا القول في شهود يسوع امام المحاكم. امتلأ بطرس من الروح القدس فحدّث رؤساء الشعب والشيوخ (أع 8:4)، وشهد الرسل (أع 32:5). "وإذ كان إسطفانس ممتلئًا من الروح القدس... قال: هاأنذا أرى السماوات مفتوحة" (أع 7: 55- 56).
إن هذه الخبرة قادت لوقا إلى أن يميّز في إنجيله بين هذا الاضطهاد والضيق الإسكاتولوجيّ. هذا ما أشرنا إليه بمناسبة لو 8: 11- 15؛ 23:9؛ 12: 52. والواقع بارز في الخطبة الإِسكاتولوجيّة التي تميّز زمن النهاية (21: 10- 11، 25 - 27) من زمن الاضطهاد ودمار أورشليم (21: 12- 24): إن يسوع يدعو أخصّاءه إلى الثبات في الزمن الحاضر (19:21) وليس فقط إلى النهاية (مت 10: 22؛ 13:24؛ مر 13:10). فالاضطهاد هو في نظر لوقا سِمَةٌ من سِمات حِقبة الكنيسة التاريخيّة.
وهناك إشارة إلى الطابع التاريخيّ (وليس فقط الإِسكاتولوجيّ) للاضطهاد. عند لوقا. لا ينظر إليه لوقا كأنّه ضرورة محتّمة نحتملها بصورة انفعاليّة، بل يحاول أن يدافع عن الكنيسة مكوِّنا ما نسمّيه "أبولوجيا" (أي دفاعًا وتبريرًا). وهذا الدفاع ظاهر في خبر محاكمة يسوع أمام بيلاطس. جعل لوقا الحاكم يُعلن ثلاث مرّات أنّ المتّهم بريء (4:23، 14، 22). وهدفه هو هو حين يبرز رضى الحكّام الرومان على الذين يشهدون ليسوع (أع 13: 7- 12؛ 16: 35؛ 18: 14- 15؛ 25: 14- 21، 25- 16؛ 26: 31).
كل هذه السِمات تبينّ معنى كلمة يسوع التي أوردها لوقا في 35:22-38: إن واقع الاضطهاد في الكنيسة الأولى قد ساعد لوقا على إدراك جديد للزمن الذي يلي آلام يسوع، وهكذا كانت مسألة الاضطهاد أكثر أهميّة من تأخّر مجيء المسيح الثاني.
هـ- الرسالة لدى الوثنيين
هناك واقع آخر أتاح للوقا أن يميّز زمن الكنيسة من زمن يسوع هو الرسالة لدى الوثنيّين.
عرف التقليد الإِنجيليّ منذ البداية إنباءات يسوع عن خلاص الوثنيّين: "عندما تبصرون إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله، وأنتم منبوذون في الخارج، وسيأتون من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب (يعني يسوع الوثنيّين المدعوين إلى الملكوت، رج اش 2: 2؛ 25: 6- 8)، ويتّكئون في ملكوت الله" (لو 28:13- 29؛ رج مت 8: 11- 12؛ لو 42:16 ومت 22: 1- 10). يتحدّث متى ومرقس عن نشاط محدود ليسوع لدى الوثنيّين. وإذ هما يعرفان أن مهمّة الرسل لدى الوثنيّين لم تبدأ قبل الفصح، فقد جعلا على شفتَيْ يِسوع كلامًا يُنبئ بهذه المهمّة: ستشهدون أمام الوثنيّين (مت 18:10). سيُبشَّر بالإِنجيل في المسكونة كلّها (مت 14:24؛ رج مر 13: 10 ومت 13:26؛ مر 14: 9).
ويهتمّ لوقا اهتمامًا دقيقًا بأن يبّين أن الرسالة لم تبدأ إلا بعد الفصح. لا شكّ في أف يورد في إنجيله عدّة إنباءات عن خلاص الأمم الوثنيّة. أوردنا نصوصًا موازية لمتى في لو 28:13- 29 و 14: 16- 24. ونزيد على هذه الآيات قول سمعان في يسوع الذي هو النور المتجلّي للوثنيّين (2: 32)، واستكمال إيراد اش 40: 3 (مت 3:3؛ مر 1: 3) حتى آ 5: "ويرى كل بشر (كل جسد) خلاص الله" (لو 6:3). ثم نقرأ الإِنباء بأزمنة الأمم التي تبدأ بخراب أورشليم (21: 24: "تدوسه الأمم أورشليم إلى أن تتمّ أزمنة الأمم"). ونزيد على كل هذا الصور النمطيّة المسبّقة التي نجدها في 25:4- 27، وبالأخصّ الصعود إلى أورشليم عبر السامرة. ولكن كل هذا إنباءات في نظر لوقا الذي يختلف عن متى ومرقس فلا يورد أيّ نشاط ليسوع في أرض وثنيّة، ولا يقدّم أيّ إنباء واضح عن رسالة التلاميذ لدى الوثنيّين قبل الفصح. ليس له ما يقابل مت 18:10؛ 24: 14؛ مر 13: 10؛ مت 13:26 ومر 14: 9 (حيثما كرز بالإِنجيل في العالم كله).
إن يسوع سيسلّم بعد قيامته إلى شهوده إعلان الإِنجيل على كلّ الأمم (14: 46- 48). ويصوّر أع هذه الحقبة الجديدة منذ 1 :8 التي تعلن الموضوع والتصميم. ويرينا لوقا بأيّ بُطء وأيّة صعوبات وعى الاثنا عشر رسالتَهم الشاملة: ولا غرابة في الأمر، وتربيتُهم تربيةٌ يهودية، وتحفُّظ يسوعَ في علاقته بالوثيّين كان بارزًا أمامهم. يجب أن يتدخّل الروح القدس ليعمّد بطرسُ كورنيليوسَ الضابط الرومانيّ (أع 10: 1- 11: 18). ولا بدِّ من مبادرة الهلينيّين وبولس حتى تتنظم الكرازة لدى الوثنيّين تنظيمًا كاملا.
خاتمة
إذا كان لوقا قد ميّز بين زمن الكنيسة وزمن يسوع، فقد قاده إلى ذلك اختبارُ وقائع جديدة ميَّزت كنيسةَ عصره: واقع الروح، واقع الكرازة الرسولية، واقع الاضطهاد، واقع الرسالة لدى الوثنيّين. كل هذه الوقائع التي لم تكن معروفة في زمن المسيح هي السِماتُ التي حدّدت واقع الكنيسة التي تتنظم وتنمو في الزمن. إن شهود يسوع لم يعيشوا هذه الاختبارات يوم كان معهم، والمستقبل الذي تطلّعوا إليه لم يتخلّص بسهولة من المنظار الإسكاتولوجيّ. غير أن لوقا نظر إلى هذا الزمن الجديد كامتداد طبيعيّ لزمن يسوع. فيسوع هو الذي أعلن كلّ هذه الأمور الجديدة وهيأ لها الدربَ خلال حياته على الأرض. وكانت قيامته نقطة الانطلاق لها. وقد وجّهها اليوم كالربّ الإِله بقدرة روحه. أجل، إن الكنيسة في نظر لوقا هي العمل الذي أراده يسوع وخطّط له.
ما نكتشفه في كل هذا هو نموُّ العمل الإلهيّ في وحي سرّ الخلاص وتحقيقه. أنبأ به العهد القديم حتى يوحنا. وكشفه يسوع وأتمّه في شعب إسرائيل. وأعلنه الرسل حتى أقاصي الأرض. وهكذا يتحقَق مخطّط الله في التاريخ على مراحل، وهذا العمل المتدرّج يُبرز مبادرةَ الله السامية وحكمتَه المتنوّعة وقدرتَه التي تنتصر رغم كلّ الصعوبات.
|