الفصل الرابع الوجهة التعليمية في إنجيل لوقا

الفصل الرابع
الوجهة التعليمية في أنجيل لوقا

توخّى لوقا في مؤلَّفه (لو+ أع) أن يرسم تاريخ مخطَّط الله منذ مجيء يسوع إلى امتداد الملكوت حتى أقاصي الأرض. بالنسبة إلى الإنجيليَّينْ الأوَّلَين (مت، مر) بدا وجود يسوع نقطةً مِحْوريّة توحّد وتفصل معًا حِقبتَين رئيسيتين في تاريخ الخلاص: زمنَ المواعيد، وزمن تكميل المواعيد. أمّا بالنسبة إلى لوقا فالتكميل نفسُه يتمّ في زمنين: زمنِ يسوع وزمنِ نزول الروح "الذي وعد به الآب" (أع 1: 4) على الرسل. إذن، لا يتضمَّن التاريخ حقبتين فقط، حقبةَ إسرائيل وحقبة يسوع (مع الكنيسة)، بل ثلاث حِقبات: زمن إسرائيل، زمن يسوع، زمن الكنيسة.
من هنا تقدّمت بعض الطروح التي قالت إن لوقا انفصل عن التقليد الصريح للإِنجيل، فأعطى كثافة وتماسكًا لزمن الكنيسة وزمن يسوع. واعتبر هؤلاء الشرّاح (وهم على خطأ) أن الإِنجيل الحقيقيّ يفترض انتظار المجيء في مُهلة قريبة، بحيث لم يَعُد من مدى زمنيّ بين الفصح والمجيء (باروسيا). أمّا لوقا الذي وعى "تأخّر المجيء" فاعتبر أن أمام الكنيسة مستقبلا غير محدود. نال زمنُ الكنيسة تماسكًا خاصًّا، وبالتالي صار زمنُ يسوع محدودًا، فبدا وكأنه مقدِّمة لزمن الكنيسة.

ولكن لوقا أحلَّ "تاريخ الخلاص" محل الإِسكاتولوجيا، وحافظ على النظرة إلى النهاية المقبلة. كما أنه دلَّ على حضور الروح القدس الفاعل في ثلاث حِقبات التاريخ هذه. لم يشدّد على "المؤسّسة"، فكيف يسمّيه بعض الشرّاح "أبَ الكنيسة المنظّمة"؟
حصر مرقس نفسه في سرّ الإنسان الاله. أما متى فسعى إلى شرح كتابيّ. لم يجهل لوقا هاتين الوجهتين (مثلا، البراهين الكتابية: 17:4؛ 18: 31؛ 17:20؛ 22:21، 37؛ 25:24، 44)، ولكنه وسَّع نظرته فقدَّم عرضًا تاريخيّا لأحداث الخلاص، قدَّم محاولة تاريخيّة تسعى إلى فهما الوقائع بأسبابها. لم يكن شاهدًا مثل يوحنا، ولكنه عرف مع الجماعة الأولى أن يسوع قام، فعكس على أحداث مدهشة من حياة يسوع نورَ سرّ آلامه وقيامته.
لوقا هو إنجيليّ مخطّط الله. قَلبُ هذا المخطط هو سر الفصح. والفاعل هو الروحُ القدس. والهدف هو جماعة كلّ المؤمنين في العالم.

أ- سرّ الفصح
1- انباءات الآلام والقيامة
تنتمي إنباءات الآلام والقيامة إلى خبر مشترك في التقليد الإِنجيلي: هناك إنباءات ثلاثةٌ تتوزّع الصعودَ إلى أورشليم (مت 16: 21 وز؛ 17: 22 وز؛ 18:20- 19 وز). أمّا عند لوقا، فالإنباء الأوّل يسبقه تنبيه كتبه لوقا: "ضعوا انتم هذا الكلام في آذانكم" (9: 44). ويربط لوقا الإنباء الثالث ببرهان كتابيّ 18: 31): "جميع ما كِتبه الانبياء". ويزيد: "أمّا هم فلم يفهموا من ذلك شيئًا، بل كان هذا الكلام مُخفًى عنهم وأقوالاً لا يُدركونها" (34:18). وهكذا شدّد على ما لاحظه (45:9: "أمّا هم فلم يفهموا هذا القول وكان مُخفًى عنهم") مرقس بالنسبة إلى الإنباء الثاني. أمّا متّى فلم يتحدّث عن عدم الفهم هذا إلا في الإنباء الأوّل مع ردّة فعل بطرس. ستُذكَر هذه الإنباءات فيما بعد للنساء بواسطة الملاك (7:24)، للمسافرين على طريق عمّاوس بواسطة القائم من الموت (24: 25- 26)، للرسل في العُليّة (45:24- 46).
بالإِضافة إلى هذا يشير لوقا إلى أن يسوع رغب في "معمودية" الآلام (12: 50)، وأعلن أنّ كل نبيّ يموت في أورشليم (32:13- 34)، وأنّ على ابن الانسان أن يتألم كثيرًا وُيرذل قبل أن يظهر مثل البرق الذي يضيء في طرف من السماء، ويلمع في الطرف الآخر (24:17- 25).

2- إشارات أخرى
يرتبط موضوع الصعود إلى أورشليم بنصّ مت 17:20 وز، ولكن لوقا توسع فيه ورتَّبه ترتيبًا خاصا. كما أنّنا نجد تلميحات خاصّة بلوقا، ولا سيما في خبر الطفولة: يسوع هو "علامة مخالفة" (34:2). وُجد يسوع في الهيكل بعد أن ضيّعه يوسف ومريم "ثلاثة أيَّام" (2: 46) . وإذا قرأنا كرازة يسوع في الناصرة (16:4- 30) وقد وضعها لوقا قصدًا في بداية الحياة العلنيّة، نجد علامة المخالفة: هو موضوع إعجاب (22:4)، ثم موضوع بغض (4: 29). سيكون لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم (34:2)، ولكنه يتابع طريقه (4: 30؛ رج يو 7: 30؛ 8: 20) منتصرًا منذ تلك الساعة على الموت.

3- ألقاب يسوع الربّ
يسوع هو ذلك الذي يعرف الأفكار العميقة في القلوب (مت 9: 4 وز؛ رج مر 33:9؛ لو 8:6؛ 47:9)، فيدلّ بذلك على معرفته للآب (10: 21- 22 = مت 25:11- 27: "لا يعرف أحد من هو الآب إلاَّ الابن"). ويتفرّد لوقا فيسمّيه "كيريوس" (اي السيد أو الربّ) حسب المفهوم المسيحيّ. "الرب" رأى أرملة نائين (13:7)، و"الربّ" استقبل تلميذَي يوحنا (9:7) وعيَّن اثنين وسبعين تلميذًا (10: 1). هكذا آمنت به مرتا ومريم (10: 39، 41) وبطرس (12: 41- 42) وسائر الرسل (17: 5- 6). فلَقب "كيريوس" يساوي لقب المسيح الممجّد كما تحدّث عنه القديس بولس (1 كور 16: 22؛ فل 2: 11). كان مرقس قد شدّد على موضوع السرّ المسيحانيّ. تبعه لوقا بعض الشيء (35:4، 41؛ 41؛ 5: 14)، ولكنّه ترك هذا الموضوع (8: 26) واحتفظ بموضوع الربّ.

ب- ملكوت الله والروح القدس
1- ملكوت الله
الإِنجيل هو ملكوت الله (43:4: لأبشّر بملكوت الله؛ 8: 1) بالمعنى الذي اتّخذه موضوع الكرازة المسيحيّة (رج 2:9، 60، 62؛ 16:16؛ 29:18؛ رج أع 1: 3؛ 8: 12؛ 8:19؛ 20: 25؛ 23:28، 31). لا يعنِي لوقا بهذه العبارة الواقع الإلهيّ الفاعل على الأرض (كما في متى)، بل الملكوت الإِسكاتولوجي (او السماوي) الذي يشرف على تصرّفنا على الارض ويتطلّب إيماننا (رج 27:13- 29؛ 14: 15؛ 19: 11؛ 22: 16- 18). وهكذا لا يعني مثل الزارع (كما في مت ومر) الحضورَ السريّ للملكوت، بل متطلّبة الإِيمان (8: 12، 15). وهنا نستطيع أن نقابل بين مت 16: 28 وز ("إن في القائمين ههنا من لا يذوقون الموت حتى يَروا ابن البشر آتيًا في ملكوت") التي تتحدّث عن مجيء الملكوت، وبين لو 27:9 ("إن في القائمين ههنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله") التي تتحدّث عن رؤية الملكوت.
إذا كان الملكوت حاضرًا على الأرض (17: 21: "ملكوت الله في داخلكم") فهو حاضر في شخص ابن الانسان. وقال للتلاميذ: "ستأتي أيّام فيها تشتهون أن تروا يومًا واحدًا من أيَّام ابن الانسان ولا ترون" (17: 22). هذا يبين لنا أنه إن كان الملكوت سيأتي (2:11: "ليأت ملكوتك")، فهو قد جاء: "ملكوت الله صار قريبًا منكم" (9:10، 11، 20).

2- الروح القدس
كان للملكوت عند متى وجهة ديناميكيّة؛ أمّا عند لوقا فهذه الوُجهة تختفي. ولكنّ الروح القدس، وإن لم يُذكَر مرارًا في لو، فهو الواقع الإلهي الفاعل على الأرض. فالذي يفعل الآن هو الروح (القوة). هذا ما أشار إليه لوقا بوضوع في أع 1: 7- 8. سأل الرسل: هل حلّ زمن إقامة الملك بالنسبة إلى إسرائيل؛ فأجابهم يسوع: لا تهتمّوا بمثل هذا الملك، بل حوّلوا أنظاركم إلى الروح القدس: "ستنالون قوة هي قوة الروح القدس الذي ينحدر عليكم".
الروح القدس هو العطيَّة الفُضلى. وإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تعطوا أبناءكم الأمور الصالحة، فكم أحرى بالآب السماويِّ أن يعطي الروح القدس (مت 7: 11: "العطايا الصالحة") لمن يسأله (13:11). ونلاحظ في الإِطار عينه اختلافة (نقرأها عند مرقيون وغريغوريوس النيصي) في 11: 2 حول "ليأت ملكوتك". نقرأ: "ليأت علينا روحُك القدس وليطهّرْنا (او: ليطهرنا)".
إن الروح القدس يملأ بحضوره بعض الأشخاص المعدِّين لوظائف مميَّزة: حلّ على يوحنا المعمدان فكان عظيمًا أمام الربّ (15:1) وعلى العذراء مريم فولدت القدّوس الذي هو ابن الله (35:1). ويرتبط هذا الحضور عادة بكلمة نبويّة يتلفّظ بها شخص من الأشخاص. امتلأت اليصابات من الروح القدس فدعت مريم المباركة بين النساء (1: 4- 22). وامتلأ زكريا من الروح عينه فتنبّأ وأنشد نشيد المباركة (67:1). وكان الروح القدس على سمعان فبارك الله (2: 25- 28). كان روح الرب رفيق يسوع فنال المَسحة وأُرسل ( 4: 18؛ رج 10: 21)، ورفيق الرسل وسط الاضطهاد فعلمهم ما ينبغي أن يقولوه (12: 12 = مت 10: 20؛ رج مر 13: 11). ويرتبط الروح مرارًا بالقوّة التي بها تتمّ المعجزات (4: 14)، هذه القدرة (ديناميس) التي تُجري الأشفية (5: 17؛ 19:6؛ 9: 1). ولقد قال بطرس عن يسوع: "مسحه الله بالروح والقوّة" (أع 10: 38).

3- مُناخ المديح والتمجيد
نسمع في هذا الإِنجيل مديح الله وشكره وتمجيده. أنشدت مريم: "تُعظِّم نفسي الرب" (1: 46) وزكريا: "تبارك الربِّ الاله" (1: 68)، والملائكة في بيت لحم: "المجد لله في العلى" (14:2). ومجَّد الرعاةُ الله وسبّحوه وعلى جميع ما سمعوا وعاينوا" (2: 20). بارك سمعانُ الله وقال: "عيناي قد شاهدتا خلاصك" (2: 30). وسبّحت حنةُ النبيّة الربّ وحدّثت عن الصبي "كل من ينتظر فداءً لأورشليم" (2: 38).
شُفي المخلّع فانطلق إلى بيته "وهو يمجّد الله" (25:5)، بل دهش الناس جميعًا ومجّدوا الله قائلين: "لقد رأينا اليوم عجائب" (26:5). هذا ما فعلوه حين شُفي المخلّعُ (5: 26)، وحين قام ابنُ أرملة نائين (7: 16)، حين انتصبت المرأة الحدباء (13: 13) وطَهُر الأبرص (17: 15). أبصر الأعمى فأشاد بمجد الله، وإذ رأى الشعب ذلك، سبّحوا الله (43:18). ويوم الدخول إلى أورشليم، سبّح التلاميذ بصوت جهير وقالوا: "مبارك الآتي باسم الربّ" (19: 37- 38). ومجّد قائد المئة الله حين رأى ما جرى (47:23)، ومثلَه فعلَ التلاميذ بعد الصعود، فكانوا يباركون الله بلا انقطاع في الهيكل (53:24). وسنسمع صدى هذا النشيد في الجماعة الأولى (أع 2: 47؛ 3: 8 ي؛ 4: 21؛ 11: 18؛ 13: 48؛ 21: 20).
وسيُشيد الجميع بمجد يسوع (15:4)، أو هو يسوعُ يحرك في قلب الناس، عواطف الخوف والدهشة والرهبة والإعجاب. سكَّن يسوع العاصفة، فاستولى على التلاميذ "الخوفُ والدهشة" (8: 25). وشفى المجنونَ المليء بالشياطين، فاستحوذ الخوف على جميع سكّان أرض الجراسيّين (8: 37). "وانتهر الروحَ النجس... فبُهت الجميع من عظمة الله" (43:9؛ رج أع 7:2، 12؛ 10:3؛ 5:5، 11).
4- مُناخُ الفرح
أُعلنت البُشرى فعمّ الفرحِ والبهجة والسرور والتهليل، وسادت السعادة والسلام. ترد هذه المفردات مرارَا عند لوقا (أكثر ممّا عند متى ومرقس). ففعل "انجل" (اي حمل الانجيل والخبر السارّ) الخاصّ بلوقا يتمتّع بدينامية لا نجدها في الاسم "إنجيل" الذي يستعمله متى ومرقس (يستعمل متى الفعل مرة واحدة، في نصّ أخذه من أشعيا؛ رج مت 11: 5؛ اش 61: 1).
فالفرح الذي يكاد يجهله مرقس (ما عدا مر 16:4= مت 13: 20= لو 13:8: يقبلون الكلمة بفرح "كارا") ويشير إليه متّى بين الفينة والأخرى، مثلاً في خبر المجوس (مت 2: 10) ومثل التلميذ الذي اكتشف كنزًا مدفونًا في حقل (مت 44:13)، وخبر النسوة اللواتي شهدن القيامة (8:28- 9)، ومثل الوزنات الذي تبدو فيه السماء نداءً إلى الفرح (25: 21، 23).
ولكن هذا الفرح يجتاح إنجيل لوقا منذ البداية إلى النهاية، منذ فرح زكريا بالمولود يوحنا (14:1، 58) حتى فرح التلاميذ بعد الصعود (52:24). بشّر الملاك زكريا ففرح، وبشّر مريم وقال لها: السلام عليك، ابتهجي يا ممتلئة نعمة (28:1). زارت مريمُ أليصابات، فارتكض الجنين مِنَ الابتهاج في حشا هذه العجوز (1: 41، 44)، وزار الملائكة الرعاةَ وبشروهم بفرح عظيم لهم ولجميع الشعب (2: 10). ويومَ عاد التلاميذ فرحين من الرسالة (17:10)، حدّد لهم يسوع الباعثَ الحقيقيّ على الفرح (10: 20: "افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماء") وأطلق تهليله في الروح القدس (10: 21).
فرحت الجموع حين رأت هذه المعجزات التي تتمّ أمامها (17:13). وفرح زكّا حين استقبل يسوع في بيته (6:19)، كما استولى الفرح على جمهور التلاميذ يوم دخول يسوع إلى أورشليم (19: 37). رافق يسوع القائمُ من الموت التلميذَين على طريق عمّاوس فنفى عنهما الحزن (17:24) وأشعل قلبَيهما بكلامه (32:24). وظهر للأحد عشر "فظلّوا غير مصدّقين من شدّة الفرح والدهشة" (24: 21). بل سيحدّثنا لوقا عن فرح الله نفسه، عن فرح السماء التي ترحّب بالخاطئ التائب (7:15، 10، 23- 24، 32).
وتأتي الطوبى والهناء والسعادة: "طوبى لكم إذا ما الناس أبغضوكم وانتبذوكم وأهانوا اسمكم... إفرحوا في ذلك اليوم وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السماء" (22:6، 23= مت 12:5؛ رج أع 5: 41). إذن، هنيئًا لمن يسمع البشارةِ. يورد لوقا أربعة تطويبات ومتى ثمانية (مت 5 :3- 11). طوّب يسوع سمعانَ بنَ يونا (مت 17:16). كما طوَّب ذلك الذي لا يشكّ فيه (مت 6:11 = لو 23:7)، وطوَّب الأعين التي ترى ما يرى التلاميذ (مت 13: 16= لو 10: 23)، وطوَّب أخيرًا العبدَ الأمين (مت 24: 46= لو 43:12).
ويتحدّث الإِنجيل عن السلام، لا سلامِ هذا العالم (12: 51= مت 10: 34؛ رج يو 14: 37)، بل السلامِ الذي يمنحه يسوع (7: 50؛ 48:8= مر 34:5). هذا السلام منحه الله منذ مولد يوحنا المعمدان (79:1)، ومولد يسوع (2: 14) وطفولته (29:2). هذا السلام لم تعرف أورشليم أن تتقبّله (19: 42) مع أنّ الرسل كانوا يهتفون: "مبارك الملك الآتي باسم الربّ. السلام في السماء والمجد في العلى" (38:19). هذا السلام قد أعطاه القائم من الموت (36:24؛ رج يو 20: 19، 21، 26)، لأن يسوع جاء يحمل إنجيل السلام (أع 36:10) ومثلَه سيفعل تلاميذه (لو 10: 5= مت 13:10): "أيَّ بيت دخلتم فقولوا أوّلاً: السلام لهذا البيت".

5- مُناخ الصلاة
يقول التقليد المشترك إن يسوع صلّى حين تكثير الأرغفة (9: 16 وز)، وليلةَ العشاء السريّ (22: 17، 19 وز)، وعلى جبل الزيتون (22: 41، 44 وز). لا يشير لوقا إلى صلاة "الهلل" (مت 26: 30 وز) ولا إلى صلاة يسوع بعد تكثير الأرغفة (مت 23:14 وز). ولكنّه يتفرّد فيحدّثنا عن صلاة يسوع وقت عماده (3: 21) وخلال حياته العلنيّة (16:5: "فكان يعتزل في القِفار ويصلّي"؛ رج مر 1: 35)، وقبل اختيار الاثني عشر (6: 12) وقبل اعتراف بطرس (28:9). صلّى يسوع ساعة التجلّي (28:9- 29) وعند عودة التلاميذ (10: 21) وقبل صلاة الأبانا (11: 1). صلّى يسوع ليثبّت بطرس في الإِيمان (32:22)، كما صلّى حين صُلب (34:23) وفي ساعة موته (46:23).
ويذكر لوقا صلاة الشعب يوم كان زكريّا يقدّم البخور (1: 10)، كما يذكر صلاة زكريّا السابقة، ويشير إلى أنّ طلبته قد استجيبت (13:1). ويصوّر لنا حنة النبيّة تلك المتعبّدة بالأصوام والصلوات (37:2)، كما يحدّثنا عن تلاميذ المعمدان "الذين يواظبون على الصلاة" (5: 33). ويورد عددًا من الصلوات فضلاً عن الأبانا: نشيد المباركة (زكريا، 67:1- 79)، نشيد التعظيم (مريم العذراء، 1: 46- 55)، نشيد التمجيد (الملائكة، 2: 14) ونشيد الاستسلام لله الذي أطلقه سمعان الشيخ: "يا رب، تمّمت الآن وعدك لي فأَطلق عبدك بسلام. عيناي رأتا خلاصك الذي هيّأته للشعوب كلّها" (2: 29 ي).
والصلاة واجب مُلحّ: "إسألوا تُعطَوا. أُطلبوا تجدوا. إقرعوا يُفتح لكم" (9:11= مت 7:7- 11). وُيسبّق لوقا هذا القول بمَثل الصَديق المزعج (10: 5- 8) ويؤكّده بمَثل القاضي الظالم (18: 1- 8) والفريسيّ والعشّار (9:18- 14). إن الإِيمان يحصل على كلّ شيء (6:17؛ رج مت 17: 20؛ 21: 21- 22؛ مر 11: 23- 24). يجب أن نرفع صلاتنا إلى سيد الحصاد (10: 2= مت 38:9)، أن نصلّي من أجل مضطهدينا (28:6= مت 5: 44)، أن نُرفِقَ السهرَ بالصلاة (21: 36= مر 33:13)، أن نصلّي لئلاّ ندخل في التجارب (22: 40، 46 وز).
وهناك مقاطعً يرتبط فيها الروح القدس بوضوح بالصلاة. فهو الذي يلهمها (67:1؛ 27:2) حتى عند يسوع نفسِه (10: 21)، والروح القدس هو الثمرة الفضلى التي يمنحنا الله إيّاها (3: 21- 22؛ 13:11).
ج- إمتداد الإِنجيل امتداد الكون
لا يقوَّم العمل الذي يلاحقه الروح القدس بهذه النتائج الشخصيّة لحضوره، التي هي الفرح والصلاة. فهو يريد أيضًا أن يكوّن جماعة شاملة تضمّ جميع المؤمنين وتؤلّف ما سيسمّيه لوقا في سفر الأعمال: الكنيسة. بين القديسُ متى أن الانقطاع عن الشعب اليهوديّ كان الشرطَ الضروريّ لانتشار الإِنجيل، فجاء الشمول في النهاية. أمّا لوقا فرأى هذه الشموليّة في نظرة واحدة في مخطّط الله. ليست الشموليّة نهاية، بل هي واقع يُلقي ضوءه على البشارة، بل هي البشرى نفسُها.

1- عَرضٌ يشمل جميع البشر
يتوجّه لوقا في مؤلَّفه إلى قارئ غير فلسطينيّ، وهكذا يجعل إنجيله يشعّ بصورة مباشرة أبعدَ من حدود إسرائيل. وهو يعطينا إيضاحات عديدة في هذا الشأن.

أوّلاً على مستوى الجمل والعبارات
كان فاعل الجملة غامضًا في التقاليد الموازية، فاوضحه لوقا وكمّله. مثلاً، يروي مر 3: 2 أنهم كانوا "يراقبونه". فزاد لو 6: 7 "الكتبة والفريسيّون" (رج 19: 32؛ 20: 10؛ 21: 31). ومرّةً أخرى، مفعول الفعل غير محدّد. مثلاً قال مر 1: 34: الشياطين "عرفوه". فصارت عند لو 4: 41: "عرفوا أنه المسيح" (رج 8: 5؛ 7:9؛ 52:22). قد يكون هناك غموض فيوضحه لوقا. قال مر 2: 17: "جئت لأدعو لا الأبرارَ بل الخطأة". فزاد لو 5: 32: "إلى التوبة" (رج 5: 17؛ 6: 18، 19؛ 8: 12، 15، 29 ب، 33، 37، 40؛ 20: 20؛ 21: 4؛ 22: 34، 45؛ 23: 26). وأخيرًا هناك تفاصيل تزيل كلّ التباس أو تبرَر تسلسل الأحداث. قال يسوع: "لا بدّ لي أن أبشّر المدن الأخرى أيضًا بملكوت الله، لأني لهذا ارسلت" (43:4؛ رج 6: 1؛ 18: 36).

ثانيًا: الإِطار السيكولوجيّ
وتوخّىِ لوقا الهدف عينَه حين أعاد الإِطار السيكولوجيّ للكلمات الواردة. فقدّم تفصيلاَ ظرفيًا ليجعل الخبر في موقعه. مثلاً: "وإذ كان الشعب يتساءل هل يوحنا هو المسيح" (15:3). "وكان يسوع يصلّي، فلما انتهى" (11: 1). "وإذ كانوا متعجّبين من كل ما صنع، قال لتلاميذه" (43:9 ب؛ رج 11: 29؛ 13: 1؛ 17: 20؛ 18: 1، 9؛ 19: 1). ويميّز لوقا بين السامعين فيساعدنا على فهم الخُطَب، في 11: 38- 39 يتحدّث عن الفريسيين، وفي 11: 45- 46 يتحدَّث عن علماء الناموس. قال في 12: 1: "احذروا قبل كل شيء خمير الفريسيّين الذي هو الرياء". ولكنه ترك السؤال يرِد من "واحد من الجمع" في 13:12، وجعل مَثَلَ يسوع يتوجّه "إليهم" (16:12، أي الى الجميع)، وكلامَه يتوجّه إلى التلاميذ وبصورة خاصة إلى بطرس (12: 41) ليعود إلى الجموع (54:12). رج أيضًا 3:14 ،7، 12 ،15.

ثالثًا: العادات الفلسطينيّة
قارئ إنجيل لوقا غريب عن فلسطين، ولهذا فهو يجهل عاداتها، فيعمل لوقا على توضيح بعض الأمور أو هو يعمّم أقوال يسوع فلا تلتصق التصاقًا خاصًّا بالمحيط المحلّيّ. عدّد متّى (23: 23) بعض البقول: النعناع والشبث والكمّون، فزاد لوقا (11: 42): "وسائر البقول". تحدّث متى (24: 32) عن "التينة" التي تورق فنعرف أن الصيف قريب، فقال لوقا: "انظروا إلى التينة وسائر الشجر" (21: 29؛ رج مر 28:13؛ رج ايضا لو 22: 1؛ 23: 56).
كتب لوقا إلى العالم اليونانيّ فاغفل ما يسمّى "اللون المحليّ" أو الساميّ. هنا نقابل بين فرائض المحبّة الأخويّة عنده (27:6- 36) وعند متى (5: 39- 48). إذا قرأنا مثل البيتَين (واحد على الصخر وواحد على الرمل) في لوقا (47:6- 49) ومتى (24:7- 27) نرى أن متى يزيد تفاصيل لا يعرفها لوقا. ويتحدّث لوقا عن "قرميدات" البيت (19:5؛ رج مر 4:2) فينسى أنه في فلسطين. وهو يُغفل أيضًا أمورًا عديدة لا يفهمها القارئ، مثلا قال مر 1: 22 إن يسوع لم يكن يعلَم مثل الكتبة. أمّا لوقا فترك هذه الإِشارة جانبًا.

2- إختيار التقاليد الإنجيليّة
من الصعب أن نؤكّد أنّ لوقا أغفل بعض التقاليد التي عرفها متى أو مرقس. ولكنّ ما هو أكيد هو أن لوقا تجاهل معظم العناصر التي يبدو فيها الموقف اليهوديّ ظاهرًا. وإليك بعضَ الإغفالات التي لاحظها الشُرّاح: ما يتعلّق بشريعة الطهارة فيما يخصّ الأطعمة (مت 15: 1- 20 وز)، خبر الكنعانيّة وخبز البنين الذي لا يعطى للكلاب (مت 15: 21- 28 وز)، رجوع إيليا (مت 17: 10- 13 وز)، الجدال حول الطلاق بحسب الشريعة (مت 19: 3- 9 وز)، الإنباء بالمسحاء الكذبة (مت 23:24- 25 وز)، أقوال آرامية تلفَّظ بها يسوع أو عبارات آراميّة احتفظ بها التقليد (مر 5: 41؛ 7: 34؛ 11: 10؛ 14: 36، 45؛ 15: 22، 34؛ رج 9: 5؛ 10: 51)، المعارضة بين الشريعة القديمة والشريعة الجديدة (مت 5)، بين بِرّ الفريسيّين والبِرّ المسيحيّ (مت 6). وأخيرًا، أغفل لوقا ما قاله مت 10: 5 في وصاياه للرسل: "لا تسلكوا طريقًا إلى مدن الوثنيّين، ولا تدخلوا مدينة للسامريّين".
ومقابل هذا، يلَذّ للوقا أن يوضح ما في مضمون التقاليد من بُعد شامل. مضى متّى في نسب يسوع فوصل إلى إبراهيم. أمّا لوقا فربط يسوع بآدم (38:3). وأنشد الملائكة: السلام للبشر الذين أحبّهم الله وسرّ بهم (2: 14)، لأنّ يسوع هو المخلّص (2: 11). وإذ يورد لوقا نبوءة المعمدان يشدّد على ما في كلام أشعيا من شمول: "كل جسد (أو بشر) يرى خلاص الله" (3: 6؛ رج أع 2: 21؛ 28: 28).
وأورد ما نقرأ في نشيد سمعان الشيخ: "نور يضيء للأمم" (32:2؛ رج 28:13- 29= مت 8: 11- 12). وأخيرًا، هو يعطي أمثلة مأخوذة من عند أناس لا ينتمون إلى شعب إسرائيل. السامريّ هو أفضل من الكاهن واللاّوي في ممارسة وصيّة المحبة الأخويّة والرحمة (10: 35- 37). وكان البُرص عشرة. شفاهم يسوع، فما عاد إليه يشكره إلا السامريُّ فقال يسوع: "أوَ لم يوجد من يرجع ليمجّد الله إلا هذا الغريب" (17: 11- 19)؟ وكلّنا يعرف مثل الإِيمان الذي أعطاه الضابط الرومانيّ، فامتدحه يسوع علانية (7: 9= مت 8: 10): "لم أجد حتى في إسرائيل مثل هذا الإِيمان".

د- إنجيل لوقا إنجيل الحنان
1- لطف الله وحنانه
هذه العبارة مأخوذة من القديس بولس (ف 3: 4) الذي تحدّث عن محبّة (أو صداقة) الله للبشر (فيلانتروبيّا). أجل، بالنسبة إلى الله، "ليس يهوديّ ولا يونانيّ، ليس عبدٌ ولا حرّ، ليس رجلٌ ولا امرأة" (غل 28:3). فسِرَّ المسيح الخفيّ قد أُعلن الآن لجميع البشر (كو 1: 26- 27). هذا هو موقف لوقا الذي تتلمذ على يد بولس فتوقّف بصورة خاصّة عند الخطأة والنساء والغرباء، تلك الفئاتِ التي لم يكن المجتمع يكُنّ لها كلّ احترام وإكرام.

أوّلا: الخطأة
لقد وجد الخطأةُ في يسوع صديقًا، فقالوا عنه إنه "يُحبّ العشّارين والخطأة" (7: 34؛ مت 11: 19). فهو لا يخاف أن يعاشرهم، بل يرحّب بهم. دعا الجابي (او العشار الذي يعتبره اليهود خاطئًا) ليتبعه، وأعلن أنه ما جاء من أجل الأصحّاء، بل من أجل المرضى. قال: "لم آت لأدعو الصدّيقين إلى التوبة، بل الخطأة" (5: 27، 31 وز). وترحيبه بالخطأة جعل الفرّيسيّين والكتبة يتذمّرون (15: 1- 2) فأعطاهم أمثالاً تتحدّث عن رحمة الله للخطأة (الخروف الضالّ، الدرهم المفقود، الابن الشاطر). تحدّث التقليد المشترك عن محبّة يسوع للخطأة، أمّا لوقا فأبرزه وشدّد عليه خصوصًا يا ما حدث لزكا العشّار. كان الجمع يزحمه (3:19) ولكن يسوع قَبِل دعوة زكّا دون سواه، فجعل الناسُ يتذمّرون قائلين: "دخل بيت رجل خاطئ وحلّ لديه ضيفًا" (7:19).
لقد أكّد يسوع أن الخطأة هم حصة الله، شرطَ أن يتوبوا (15: 1- 32). فالربّ هو الصَبور وطويل الأناة، يعرف أن ينتظر الخاطئ، ولا يعْجَل في اقتلاع التينة التي لم تثمر (6:13- 9؛ ق مت 18:21- 22 وز). غفر يسوع للمخلّع (5: 20 وز)، وغفر أيضًا للخاطئة التي جاءت إلى بيت سمعان الفرّيسيّ (36:7 - 50)، بل غفر للمسؤولين عن موته (34:23). نظر يسوع إلى بطرس، فبكى بطرس (22: 61)، وصُلب مع اللصّ فتاب اللصّ وأعلن: "اذكرني يا ربّ متى أتيت في ملكوتك" (23: 39- 43). وحين رأته النسوة بدأن يقرعن الصدور (48:23). جميع الناس يستطيعون أن يصلّوا مثل العشّار الذي حدّثنا عنه يسوع (18: 10- 14). قرع صدره وقال: "أللهمّ، أغفر لي أنا الخاطئ". فعاد إلى بيته مبرّرًا، مقبولاً عند الله.

ثانيًا: النساء
كان العالم اليهوديّ يحتقر المرأة فيجعلها مُلكًا من أملاك الرجل (خر 17:20). أما لوقا فأفرد لها مكانةً مميّزة. هناك مريم العذراء، وأليصابات أمَّ يوحنا المعمدان، وحنة النبيّة، وأرملة نائين (7: 11- 17). هناك الخاطئة التي لم يذكر لوقا اسمها، فدلّ على رقّته ولطافته (36:7- 50؛ رج مت 6:26- 13). وهناك النسوة اللواتي تطوّعن لخدمته (8: 1- 3) وتبعنه حتى الصليب (49:23، 55؛ 24: 10- 11). ويذكر لوقا مرتا ومريم (38:18- 42) والمرأة التي باركت أمّ يسوع (27:11- 28) والمرأة الحدباء التي لم تكن تستطيع أن ترفع رأسها فشفاها يسوع. وأخيرًا، نجد في الأمثال عددًا من النساء: تلك السيدة التي أضاعت درهمها (8:15 ي)؛ وتلك الأرملة التي جاءت تطلب الإِنصاف من قاضٍ ظالم (18: 1- 8).

ثالثًا: الغرباء
الغرباء هم موضوع اهتمام خاصّ من قِبَل يسوع. هو لا يُنزِل عليهم نارًا من السماء كما طلب يعقوب ويوحنا ابنا الرعد (54:9- 55). بل هم مثال يُحتذى؛ الضابط الرومانيّ هو مثال الإِيمان (7: 9 وز)، والسامريّ هو مثال المحبّة (10: 25- 37)، والغريب هو مثال الشكر وعرفان الجميل (17: 11- 17).
هذا هو القطيع الصغير الذي يستطيع أن يعيش من دون خوف لأن الملكوت يعطى له (32:12). وهو يتألف من صغار القوم ومن الأطفال، لا من ذَوي الحكمة والدهاء (12: 21- 22). "لان ابن الإنسان جاء يطلب ما قد هلك ويخلّصه" (19: 10؛ رج 5: 31- 32 وز).
2- لطف يسوع
يتحدث لوقا عن لطف يسوع الذي يبدو غير متكلّف. هو يغفل بعض المرّات عواطف يسوع العنيفة، ولكنه لا ينسى بعض الكلمات القاسية. يهدّد يسوع "سعداء هذا العالم" بالتعاسة فيقول لهم: الويل لكم أيها الاغنياء، أيها المُشْبعون، أيها الضاحكون (6: 24- 25). ويحذّر الذين يرفضون التوبة (13: 2 - 5) كما يهدّد التينة العقيمة (9:13). مصير الغنيّ الذي يتجاهل الفقير مظلم قاتم (16: 19- 21)، وأورشليم تستحقّ النَدْب والبكاء (19: 41- 44)، ومِثْلها النساءُ اللواتي رافقن يسوع على طريق الآلام. قال لهنّ مهدّدًا بما سيصيب البلاد من دمار: "إن كانوا قد فعلوا هذا بالعود الرطب، فماذا يكون بالعود اليابس" (23: 31)؟ ولا ننسى متطلّبات التجرّد والكفر بالذات التي سنعود إليها.
لطف الله هو رحمة وحنان لا يُسبَر عمقه، وهو يظهر من خلال لمسات خفيفة. تفرّد لوقا بإيراد أربعة أشفية فطبعها بطابعه. أحيا ابن أرملة نائين (7: 11- 17) والسبب هو انه تحنّن عليها حين رآها تبكي لفقد وحيدها (رج 8: 42 الذي يتحدّث عن ابنة يائير "الوحيدة" و 38:9- 42 الذي يشير إلى "وحيد" هذا الاب المعذّب). وتطلّع يسوع إلى حدباء فدعاها وقال لها: "أنت مطلّقة من دائك" (12:13). وكذا نقول عن المستسقي (14 : 1- 6) والبُرص العشرة (17: 11- 19) الذين رفعوا أصواتهم قائلين: "يا يسوع المعلم ارحمنا".
ومع ذلك، لا يشير لوقا إلى عاطفة الشفَقة لدى يسوع حين أرسل تلاميذَه (مت 9: 10)، أو قبل أن يكثّر الأرغفة (مت 14: 14 وز: تحنن عليهم)، أو حين شفى أعمى أريحا (مت 34:20). ولكن لوقا استعمل مرارًا كلمةٍ "فيلوس" (صديق). فهي ترد 13 مرّة عند لوقا ومرة واحدة عند متى، ولا ترد مرّة واحدة عند مرقس. وقد احتفظ لوقا بعبارة يوحنّاويّة: "أقول لكم يا أحبّائي" (12: 4؛ رج يو 15: 15).

3- رقّة لوقا ولينه
إن رقّة لوقا تبدو انعكاسًا لهذا اللطف والحنان، كما تبدو نتيجة اهتمام تربويّ تجاه قرّائه.

أوّلاً: بالنسبة إلى شخص يسوع
قلنا ونكرّر القول إن لوقا لم يذكر عواطف يسوع العنيفة. نحن لا نراه غاضبًا كما عند مرقس (مر 1: 41: أشفق عليه. وهناك اختلافٌ يقول: كان مغضبًا عليه، 1 :43: انتهره) ففي لو 5 :13 نقرأ: "فمدّ يسوع يده ولمسه قائًلا: لقد شئت فاطهر". ويقول مر 3: 5 عن يسوع الذي اغتمَّ لطلب الفريسيين: "أجال فيهم نظره بغيظ". أما لوقا فقال: "اجال نظره فيهم جميعًا" (6: 10).
يحدّثنا مر 6: 34 عن يسوع المليء بالشفقة والحنان تجاه الجمع الغفير: "تحنّن عليهم لأنهم كانوا كخراف لا راعي لها". أما لوقا فاكتفى بالقول: "رحّب بهم وحدّثهم عن الملكوت" (9: 11). كان يسوع قاسيًا تجاه بطرس (مر 33:8 وز) فسماه "شيطانًا"، ولكن لا يظهر شيء من كل هذا عند لوقا. ونرى يسوع يطرد الباعة من الهيكل بقساوة عند مرقس (15:11- 17)، لا عند لوقا (45:19- 48).
نرى يسوع يحتضن الأطفال ويباركهم عند مرقس (36:9) لا عند لوقا (47:9- 48؛ رج مر 10: 16) ونرى لديه عواطف المحبّة تجاه الشابّ الغنيّ (10: 21؛ لو 22:18: "لما سمع يسوع قال له")، والغيظَ أمام تصرّف الرسل (مر 10: 14)، والخوفَ والاكتئاب في بستان الزيتون (مر 14: 33- 34= لو 22: 40). غير أن لوقا يتفرّد بالحديث عن "عرقه الذي صار كقطرات دم نازلة على الأرض" (22: 44).

ثانيًا: بالنسبة إلى التلاميذ
كتب مر 13:4: "أما تفهمون هذا المثل؟ فكيف إذن تفهمون سائر الأمثال"؟ أمّا لوقا فاكتفى بالقول: "وهذا هو المثل" (8: 11). خاف الرسل من الغرق فقال لهم يسوع: "لم تخافون؟ أو ليس لكم إيمان بعد" (مر 38:4- 40)؟ ولكن لوقا قال ان المسيح نهض وزجر الريح وهيجان الماء (8: 24- 25) وقال لهم: "إين إيمانكم"؟
تحدّث مر 8: 32- 33 عن قساوة يسوع على بطرس وعلى التلاميذ الذين لم يستطيعوا أن يُخرجوا الروح النجس فدعاهم إلى الصلاة (28:9- 29؛ لو 43:9). سار الرسل وراء يسوع وهم ذاهِلون وخائفون. كذا قال مرقس؛ ؛ (10: 32)؛ أما لو 18: 34 فشدّد على أن التلاميذ لم يدركوا معنى كلام يسوع حين أنبأهم بآلامه.
وهكذا نرى أن لوقا يُبدي رقّة في حديثه عن يسوع، كما عن تلاميذه. وهذه الرقّة نجدها أيضًا في بعض المشاهد العنيفة. لا يتحدّث لوقا عن مقتل يوحنّا المعمدان كما فعل مر 17:6- 29، ولم يقل إن يهوذا قبّل يسوع (مر 14: 45)، بل دنا إليه ليقبّله (لو 48:22). وأغفل لوقا مشهد الصفَعات (مر 14: 65؛ ولكن رج 23: 11) والجلد والتكليل بالشوك.
وقد خفّف لوقا بعضًا من عنف أقوال يسوع. مثلاً، نقرأ في مر 12:4 على لسان يسوع: "لكي ينظروا نظرًا ولا يبصروا، ويسمعوا سماعًا ولا يفهموا، لئلاّ يتوبوا فيغفر لهم". فاكتفى لوقا بالقول: "لكي ينظروا ولا يبصروا، ويسمعوا ولا يفهموا" (8: 10). وأغفل الباقي. وهذا ما نقوله عن مر 43:9- 48 (رج لو 17: 1- 2)، و 14: 21 التي تتحدّث عن يهوذا فتقول: "كان خيرًا لذلك الرجل أن لا يولد".
ويهمل لوقا بعض العبارات، وفي إهماله لها قصد وغاية. لم يذكر نهاية استشهاد اش 6: 9- 10: "لئلاّ يرتدوا" (مر 4: 12؛ رج لو 8: 12). كما ترك السؤال الحادّ الذي طرح في مت 48:12 وز: "من هي أمّي؟ من هم إخوتي"؟ كان أشعيا (61: 1) قد تحدّث عن "يوم انتقام الرب" فترك لوقا (4: 18 ي) هذه العبارة.
خرج الشيطان من الرجل "ولم يؤذِه في شيء" (35:4). وأحبّ شيوخُ اليهود قائدَ المئة للُطفه وإحسانه (7: 4 ي). هذا هو مناخ اللين الذي يحدّثنا عنه لوقا هنا. وفي مشاهد المآدب التي يذكرها، نكتشف رموز حياة أخويّة: الوليمة عند لاوي (29:5)، وعند سمعان الفريسيّ (37:11) وعند مرتا ومريم (10: 38- 42). هذا عدا التلميحات المتعدّدة عن الطعام (33:5؛ 14: 12- 15؛ 1:15).

هـ- الإِنجيل قاعدة حياة
1- المستوى الاجتماعيّ
جاءت الجموع إلى يوحنا المعمدان، فحدّد لكل فئة واجباتها الاجتماعيّة: جباة الضرائب، الجنود، بل كلّ إنسان في معاملته للقريب (3: 10- 14). وشدّدت خطبة "السهل" على هذه النظرة الإِجتماعيّة. "أعطِ (دوما) للذي يسألك" (6: 30، لا مرة واحدة). "كونوا رحومين" (6: 36. قال مت 48:5: "كونوا كاملين"). وقال لوقا: "اعطوا كيلاً ملبّدا" (مفصلا بمحبة وليس فقط ليوم الدينونة).
وإليك بعضَ الإشارات السريعة: الضابط الروماني "يجبّ أمّتنا وقد بنى لنا مجمعًا" (7: 5). إن الكاهن واللاوي رأيا الجريح، فمالا (أو إبتعدا) عنه وتجاوزاه. ويجب أن ندعو إلى مائدتنا "المساكين والعُرج والعميان" (14: 12- 14). والهوّة التي حفرها الغنيّ خلال حياته بينه وبين الفقير، لا تزال موجودةً في الآخرة (16: 25- 26). ونظرة الاحتقار التي تفصل الفريسيّ عن سائر الناس ولا سيّما الخطأة، تفصله أيضًا عن الله وتبعده عن كل تبرير (18: 10- 14).

2- الأغنياء والفقراء
لاحظ لوقا أن بعض الأغنياء تبعوا يسوع: يوسف الرامي (23: 50) وزكا العشّار (19: 2- 8)، وحنة امرأة كوزى، قيِّم هيرودس (3:8). ولكنّه لا يقول، مثل مر 10: 21، إن يسوع أحبّ الشابّ الغنيّ. فأصدقاء يسوع هم الفقراء. لم يأتِ المجوس ليسجدوا له (مت 2: 1ي) بل الرعاة (8:2). ولم يحمل أبواِه إلى الهيكل تقدمةَ الأغنياء، بل تقدمة الوضعاء (2: 24: "زوجَي يمام أو فرخي حمام"). المثال الذي يُحتذى هو لعازر الفقير (16: 20) والأرملة المسكينة التي أعطت كلّ ما تملك (3:21- 4 وز). ويسوع نفسه لا يملك "موضعًا يسند إليه رأسه" (9: 58).
الفقراء هم سعداء والأغنياء هم تعساء. ولا يحصر لوقا كلامه في الوُجهة الروحيّة للفقر، بل هو يحدّد الواقع الملموس الذي يتأمّل فيه: "حطّ الأعزاء... رفع المتواضعين" (1: 52 ي). ثم إن البشرى تُحمَل الى الفقراء (18:4؛ 7: 22 وز) الذين يطوّبهم يسوع (6: 20): انهم يدخلون منذ الآن الى ملكوت الله.
والأغنياء هم تعساء لأنهم وجدوا نفوسهم في وضع سيِّئ. "يَكْنزون لنفوسهم ولا يغتنون في سبيل الله" (12: 21). ينسَون الله ويهتمّون بالراحة والطعام والشراب والتنعّم (12: 13-20). يتجاهلون إخوتهم الفقراء كذلك الغنيّ (لا يقول الإِنجيل إنه كان رديئًا خاطئًا) الذي لا يرى المسكين المطروح عند بابه (16: 19- 31). والفرّيسيّون لا يكتفون فقط بنفوسهم (18: 14). إنهم أيضًا "أصدقاء المال" (16: 14). "ولكن الرفيع عند الناس هو كريه في نظر الله" (15:16).
إذن، مامون (أي المال الذي يعطينا الأمان) هو ظالم في حدّ ذاته. قد نستطيع أن نستعمله بمهارة فنوّزعه على فقراء نجعل منهم اصدقاءنا (9:16). ونستطيع أن نستعمله بأمانة وكأنه خير غريب، وكّلنا به الله (16: 10- 12). ولكنّنا لا نستطيع أن نخدم "مامون" كما نخدم الله: "لا يمكنكم أن تعبدوا الله والمال" (16: 13).

3- التجرّد ونكران الذات
يتّفق لوقا مع التقليد المشترك فيربط في سرّ الفصح الإِنباءات بالآلام، بالشروط المفروضة لاتّباع يسوع (مت 16: 21- 26 وز). ولكنه يشدّد بصورة خاصّة على التخلّي عن كل شيء: يجب أن لا نستند إلى المال (13:12- 21). بل نتكل على الله الذي يهتمّ بالغِربان والزنابق، الذي يعطي لأنفسنا ما نأكل ولأجسادنا ما تلبس (12: 22- 32). "إذن، بيعوا ما تملك أيديكم وأعطوه صدقة" (12: 33؛ رج مت 6: 19 ي).
هناك شروط مفروضة على المؤمن ليكون تلميذَ يسوع. ولكنّ لوقا زاد أنه يجب عليه أن يبغض "امرأته، حتى نفسه" (18: 29). نجد ما يقابل هذا الكلام في الحديث "عن الخِصيان" الذين امتنعوا عن الزواج من أجل ملكوت الله" (مت 12:19). ثم يحدّد لوقا: "من لا يتخَلَّ عن كل ما يملك لا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (14: 26- 33). وسيزيد لوقا في هذا المعنى بعض التفاصيل الدقيقة على التقليد المشترك. فالتلاميذ الذين تبعوا الربّ تركوا "كلّ شيء". وهكذا فعل لاوي (28:5). وهذا ما طلبه يسوع من الشابّ الغنيّ: "بع كلّ ما لك ووزّعه على المساكين" (22:218). فلا رجوع إلى الوراء. فمن تراجع لم يكن أهلاً لملكوت الله (9: 61-62).
لوقا هو الإِنجيليّ الذي حدّثنا عن مخطّط الله. وهو في الوقت عينه ذاك الذي فصّل في الحياة الملموسة ما يتطلّبه تعليم الإِنجيل. أشار إلى أنه يجب علينا أن نحمل صليبنا ونحمله "كلّ يوم" (23:9). ولكنه يبينّ لنا كيف أن الروح القدس يعمل دومًا في الكنيسة، فيُفيض الفرحَ في قلوب المؤمنين. قد يكون هناك ألم واضطهاد، ولكنّ المؤمن يعرف أنه يسير مثل سمعان القيرينيّ "وراء يسوع" (26:23). هو يحمل صليبه وقد يموت، ولكنه يعرف أن مجد القيامة آتٍ . حزن التلميذان لموت الربّ ولكنهما فرحا لمّا عرفاه. هذا هو وضع التلميذ الذي يتخلّى عن كلّ شيء ليكون تلميذ المسيح، ليكون شاهدًا له "في أورشليم، في جميع اليهوديّة والسامرة وحتى أقاصي الأرض" (أع 1: 8).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM