الفصل الثالث بناءالإنجيل الثالث

الفصل الثالث
بناء الانجيل الثالث

إن مسألة عمل لوقا التدوينيّ قد كانت موضوع درس لدى المسؤولين في معالجة إنجيل لوقا كما في معالجة المسألة الإِزائيّة. ولكن هذه الدراسات اهتمّت غالبًا بتحديد "التقليد الأوّلاني" وبإيجاد معطَيات "تاريخ يسوع"، ولم تهتمَّ بالتعرّف إلى لوقا نفسه. رأوا في هذا الإِنجيل الثالث ما يصلح للبُنيان، فاكتشفوا أسلوبه وطرائقه الادبيّة ومواضيع فكره، ولكنهم لم يحاولوا أن يجمعوا هذه المُعطيات في إضمامةٍ لاهوتيّة تُشرف على مؤلَّفه.
وجاء كونزلمان فاهتمّ بلوقا من أجل ذاته، وحدّد أسلوبًا انطلق فيه من بُنْية الكتاب وتصوّراته الجغرافيّة، فوصل بنا إلى نِظْرة إجماليّة حول مفهوم لوقا لتاريخ الخلاص، ولتمييز صار اليوم كلاسيكيّا، بين زمن يسوع وزمنِ الكنيسة.
يحاول منهج تاريخ التقليد أن يحدّد فكر الإِنجيليّ منطلقَا من عمله التدوينيّ في التقليد الإِنجيليّ السابق. ولكن ما هو هذا التقليد؟ يتّفق الشُرّاح على القول إن لوقا امتلك مراجعَ خاصَّة به. ولكن تختلف الآراء فيما بعد: هل كانت هذه الموادّ شفهيّة أم خطّيّة؟ هل كانت مدوَّنة في اليونانية أم الآراميّة أم العبريّة؟ ويختلف المؤوّلون أيضًا حول طبيعة المراجع المشتركة بين لوقا ومتى ومرقس. تكلم كونزلمان عن "نظريّة المرجعَيْن". وتحدّث آخرون عن نصّ سابق لنصّ لوقا، ودلّت الدراسات الأخيرة على وجود مراجع خاصَّة استعملها لوقا حين دوّن خبر الآلام. واكتشف بعض الشُرّاح نقاط اتّصال بين لوقا والتقليد اليوحنّاوي. وهكذا يبدو من الصعب أن نحدّد ما هو خاصّ بلوقا حين يختلف عن متى ومرقس.
ثم إن منهج تاريخ التدوين لا يقول شيئًا في البداية عن الشخصيّة التاريخيّة لكاتب الإِنجيل. فبعد أن يُثبت الميزات الادبيّة واللاهوتيّة لهذا الإِنجيل يتساءل: هل هناك تماثُلٌ بين هذا الكاتب ورفيق بولس الذي يتحدّث بصيغة المتكلْم الجمع في أع، والذي يسمّيه التقليدُ لوقا؟ هناك من يرفض هذا التماثل، أما نحن فنتحدّث عن لوقا بالمعنى التقليديّ، ونعتبر أنه دوّن مؤلفًا واحدًا قسمه قسمين: الإِنجيل وأَعمال الرسل.
يقدّم إنجيل لوقا للوَهلة الأولى بناءً شبيهًا ببناء إنجيلَيْ متى ومرقس. فهو يُورد على التوالي كرازةَ يوحنّا المعمدان، ثمّ بدايةَ يسوع العلنيّة، ثمّ كرازتَه الاولى، فصعودَه إلى أورشليم، فآلامَه وقيامته. غير أننا نكتشف من خلال هذه الموازاة عدّة اختلافات. ونلاحظ سِمَةً لوقاويّة خاصَّة هي تحديد حقَبات متعاقبة ومحدَّدة في المكان. سندرس هذه الحقَبات: تحديدَها، وطوبوغرافيّتَها، ومحتواها التعليميّ، ووظيفتَها في مُجْمَل الإِنجيل الثالث.

1- أخبار الطفولة (ف 1- 2)
إن أخبار هذا القسم الأوّل هي خاصّة بإنجيل لوقا، وهي تشكّل حِقْبةً محدّدةً بوضوح، بموضوعها وزمانها وفنّها الأدبي. يعرف القديس لوقا أن هذه الأخبار لا تنتمي إلى الكرازة الرسوليّة الأصلية (أع 1: 21-22؛ 10: 37؛ 13: 24- 25). وهو يستعمل هنا مراجعَ خاصّة به، مراجعَ يناقشُ الشرّاحُ حتى اليوم فنَّها الأدبيّ ومصدَرها واللغة الأصليّة التي كُتبت فيها. ولكن، مهما يكُنْ من أصل هذه الموادّ، فالقديس لوقا ينظّمها على طريقته في موازاة دقيقة بين يوحنا المعمدان وشموع: بشارتان متوازيتان، لقاءُ الطفلَين وهما بعدُ في حَشا أمّهما، وولادتان وختانان، ومهمّتان معلَنتان في نشيدين نبويين، وتعليقان قصيران عن طفولة كلٍّ منهما. إن هذه الموازاة تبرز التعارُضَ بين هذين الولدين، وهذا التعارض يظهر حتى في طوبوغرافيا خبرهما: فخبرُ يوحنّا يبدأ في الهيكل ويتواصل في هضاب اليهوديّة. وخبرِ يسوع يبدأ في الناصرة، ويلتقي خبرَ يوحنا في هِضاب اليهوديّة، ثم ينتقل الى بيت لحمَ ويجد ذُروتَه في هيكلِ أورشليم قبل أن يعود إلى الناصرة.
أمّا الفنّ الأدبيّ لهذه الأخبار فهو قريب إلى أخبار طفولة بعض الأبطال، بل إلى أخبار بيبليّة لبشارة ومولد إسحق وشمشون وصموئيل (تقارب في الفنّ الأدبيّ وفي التفاصيل). تحدّد هذه الاخبارُ مُهمّةَ يوحنا ومُهمّةَ يسوع: يوحنا المعمدان هو السابق (1: 15- 17، 76- 77)، يسوع هو ابنُ داود (1: 32، 69)، وابن الله (1: 32، 35)، والمخلّصُ والمسيحُ الربّ (2: 11)، ومسيحُ الربّ (26:2)، ونورُ الامم (32:2). وقد "جُعل لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل". تنتظره المعارضة والسيف (2: 34- 35)، وأوّلُ كلمة سيتلفّظ بها في الهيكل وهو ابن اثني عشَرَ عامًا، ستجعله يُبرز تفاوتًا في الأوّليّة والأهمّيّة بين والديه على الأرض وأبيه السماوي (2: 49).
إن وظيفة هذا القسم الأوّل في مُجْمَل الإِنجيل الثالث واضحة: تحديدُ موقع يوحنا المعمدان وشموعَ في تاريخ الخلاص، وإخضاع السابق للمسيح، وإعلان سرّ يسوع منذ بداية الإِنجيل.

2- رسالة يوحنا المعمدان (3: 1- 20)
إن هذه الحِقبة التي نجد أكثر موادِّها عند متّى (3: 1- 12) وعند مرقس (1: 1- 8) هي محدَّدة تحديدًا واضحًا عند لوقا أكثرَ منه عند متى ومرقس: في بدايتها، بالتزامنُ التاريخيّ الاحتفاليّ (3: 1- 2)، وفي نهايتها بالإشارة إلى سجن يوحنا المعمدان على يد هيرودس (19:3- 20). وسنجد عناصر هذا التعليق الأخير بعد ذلك عند متّى (3:14- 4) وعند مرقس (17:6- 18). سبَّق لوقا علىِ الأحداث، ففصل بوضوح بين زمن يوحنا المعمدان وزمن يسوع، وشدّد أيضًا على هذا الفصل، فلم يعُد يذكر اسم يوحنّا في عِماد يسوع (فاختلف عن مت 13:3 ومر 1: 9). هذا الفصل بين الحقَبات المتعاقبة والمتضمِّنة أخبارًا معاصرة، هو أسلوب خاصٌّ بلوقا. وسنجده في 1: 56 (الذي يأتي ظاهريّا بعد أحداث 1 :57- 66) وفي أع 10: 1- 11؛ 18:11 (الذي يجب أن نضعه بعد 19:11-21).
ويفصل لوقا أيضًا بين رسالة يوحنا ورسالةِ يسوع بتحديدِهما الطوبوغرافي. جعل عملَ يوحنا "في مِنطَقة الأردنّ" (3:3؛ رج 4: 1)، حيث لم يكن ليسوع عمل ولا تأثير (هو يفترق عن مت 15:4، 25؛ 19: 1 وعن مر 1:10).
وإذا عُدنا إلى كرازة المعمدان، نرى أن لوقا يوردُ ذاتَ المعطيات التي نجدها عند مرقس ومتى: نداء إلى التوبة أمام الدينونة الآتية (7:3- 9)، الكلام عن الأقوى الذي سيعمَّد بالروح والنار (16:3- 17). غير أن لوقا يشدّد على الطابعَ العمليّ واليوميّ للتوبة (تحدّث عن الثمار في صيغة الجمع في آ 8. زاد آ 10- 14: سأله العشارون... سأله الجنود)، كما يشدّد على التأكيد بأنّ يوحنا ليس المسيح (آ 10) كما قال يو 1: 20 و28:3.
إن الفصل الذي جعله لوقا هنا بين زمن المعمدان وزمن يسوع يوافق، على طريقته، القولَ الذي يرِد في 16: 16 أ (بقيت الشريعة وتعاليم الأنبياء إلى أن جاء يوحنا). ففي الموازاة مع متى 12:11 أ، ينتمي يوحنا المعمدان إلى زمن الملكوت: "ومن أيام يوحنا المعمدان حتى الآن، ملكوتُ السماوات يُغتصَب". وهذا ما يتوافق مع مت 2:3 حيث يعلن يرحنا اقترابَ الملكوت فيختلف عن لو:3:3. ولكن حسب لو 16:16أ : "حتى يوحنا كانت الشريعةُ والأنبياء. ثم بدأت البشارة بملكوت الله". هل نفهم هنا "حتى يوحنا" بمعنى مانع أو متضمّن، هل ندخل يوحنا في زمن الملكوت أو نجعلُه خارجَه؟ ولكن بما أنّ لوقا يميّز بوضوح تامّ بين زمن يوحنا وزمن يسوع في 3: 20، وبما أنه يحتفظ ليسوع ببشارة الملكوت (43:4 تختلف عن مت 2:3)، فمن المفضّل أن نقول إن يوحنا ينتمي إلى العهد القديم.
إذن، إن معطَيات لوقا عن يوحنا المعمدان ستكون المرحلَة الأخيرة في الإعداد للعهد الجديد.

3- بشارة يسوع الأولى (3: 21- 9: 50)
نجد غالبيّةَ موادِّ هذه الحِقبة في النصوص الموازية في مت 13:3- 25:18 ومر 1:9- 9: 50. ولكن لوقا يحدّد بوضوح أكثر هذا القسم بحلقاته الأربع التي ذكرها في البداية (3: 21- 4: 30) وبمطلع الحِقبة التالية (9: 51): "وإذ كان زمن ارتفاعه قد اقترب، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم".
تتميز هذه الحقبة بطوبوغرافيا مبتكَرة. يتمُّ العمل عند مرقس ومتى أوّلا في الجليل وقربَ البحيرة. ثم يبدأ يسوع جولاتِه في منطقة صور وصيدا (مت 15: 21؛ مر 7: 24، 31)، والمدنِ العشْر (ديكابوليس، مر 7: 31) ويتوجّه الى قيصريّة فيلبس (مت 16: 13؛ مر 27:8). أمّا لوقا فلا يُورد ايّ خروج من الأرض اليهوديّة، ما عدا المحاولة القصيرة والفاشلة باتّجاه الضِفّة الشرقية للبحيرة في أرض الجرجسانيّين (لو 8: 26، 37، يتكلّم متى عن الجَدرِيّين، ومرقس عن الجراسيّين رج مت 28:8؛ مر 5: 1). ومهما يكن من أمر، فنحنُ في أرض وثنيّة. إن نشاط يسوع يقع في نظر لوقا في الجليل (4: 14، 31؛ 26:8؛ رج 23: 5؛ 24: 6؛ أع 10: 37) او في اليهوديّة (4: 44؛ 17:6؛ 17:7). وقد تدلّ اليهوديّة على كل أرض اليهود بما فيها الجليل. ان جغرافيّة رسالةِ يسوع توافق بقيّة مؤلَف لوقا. فالكرازة الى الوثنيّين لا تبدأ إلا بعد الفصح (47:24).
يقدِّم بناءُ هذا القاسم عند لوقا عدّةَ سِمات مبتكَرة. هناك زيادتان تُبرزان أهميّة المشهدَين الأوَّلَين: نسبُ يسوع (3: 23- 38) يربط يسوع بآدم ليسمّيه آدم الجديد (رج أع 17: 26- 31). وكرازة يسوع في مجمع الناصرة (4: 16- 30) تدشّن رسالة يسوع. هذا المشهدُ اللوقاويّ الخاص هو تسبيق واضح: فمرقس ومتى يقدّمان نصًّا موازيًا له ومتأخّرًا (مت 13: 54- 58؛ مر 6: 1- 6). ثم إن هذا المشهد يشير إلى معجزات يسوع في كفرناحوم (آ 23) التي لم يذهب إليها فيما بعد (آ 31). إذا كان لوذا قدّم هذا المشهد، فلأنّه يتيح له أن يحدّد رسالة يسوع في إسرائيل مع خطوطها الجوهريّة. وجعلَ المشهدَ في المجمع فدلَّ على أن تعليمه يتوجّه الآن إلى اليهود، وهذا ما يتواصل مع العهد القديم الذي يتمّه (آ 21). هذا ما سيكون عليه أسلوب المرسَلين اللاحقين الذين بدأوا عملَهم في المدن الوثنيّة بكرازة في المجمع (أع 9: 20؛ 5:13، 14، 44؛ 14: 1؛ 17: 1، 10، 17؛ 4:18 - 19؛ 8:19). ويقدِّم يسوعُ نفسَه هنا عائدًا إلى اش 61: 1-2، كرسول البشارة الى الفقراء. وِرَدَّةُ الفعل لدى أهل الناصرة، ومحاولتُهم قتلَ يسوع (آ 28- 30) ترسُمان مسبَّقًا رفض إسرائيل له رفضًا يقود إلى الصليب. أمّا التذكير بالمعجزات التي منحها الربُّ للوثنيّين بواسطة إيليا وأليشاع (آ 25- 27) فهي تعلن أن التعليم سيتوجّه في النهاية إلى الأمم الوثنيّة، بعد أن رفضه اليهود (رج أع 13: 40- 49؛ 6:18؛ 18:22- 21؛ 23:28- 28). وهكذا، فكل هذا المشهد يكشف رسالة يسوع لدى إسرائيل. "وسنة النعمة" (آ 19، السنة المقبولة) في اش 2:61 هي الزمنُ المعطى لشعب العهد القديم ليعود إلى ربّه بالتوبة.
بعد هذين المشهدين الأوّلين، قام لوقا بنقل بعض النصوص من مواضعها، فأعطى هذا القسم معنًى خاصًّا. أوّلاً: دعوة التلاميذ الأوّلين الذين ضمّهم إليه بعد الصيد العجيب (5: 1- 11). جعل مت 18:4- 22 ومر 1: 16- 20 دعوةَ سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا في بداية رسالة يسوع وقبل معجزات كفرناحوم. أمّا لوقا فقد وجد هذا المشهد، على ما يبدو، في مكانه في المرجع الذي عاد إليه، لأنه يورد مجيء يسوع إلى بيت سمعان في 38:4 (دخل بيت سمعان)، وهو لن يقدّمه قبل 2:5- 3 (كانت السفينة لسمعان بطرس). لا شكّ في أنه أخَّر خبر الدعوة إلى ما بعد المعجزات ليجعل جوابا التلاميذ معقولاً: بعد أن تعرّفوا إليه، "تركوا كلّ شيء وتبعوه" (5: 11).
ثانيًا: إن خُطبة الأمثال في لوقا 4:8- 18 هي أقصر ممّا نجد في النصوص الموازية في مت 13: 1- 52 ومر 4: 1- 34. يمكن أن يكون لوقا قد وجد في مَراجعه خُطبةً كبيرة، لانه يورد السؤال عن هدف الأمثال في آ 9. لا شكَّ في أنه قصّر هذه الخطبة ونقل بعض عناصرها إلى مكان آخر، ليعطيها مدلولاً أوضح. أمّا المثلان اللذان احتفظ بهما فأعطاهما معنى يوافق الحِقبة كلّها. فبعد تفسير مثل الزرع حيث تبدو أسرار ملكوت الله مكشوفةً للتلاميذ ومخفيَّة على الآخرين في "ألغاز" (آ 19)، جاء مثل السِراج (آ 16- 18) يحمل تَكمِلةَ مهمَّة للوقا: جُعِل النورُ لكي يضيء، والسِرًّ لكي يُعرَف. فبعد الكرازة الغامضة لإسرائيل، سيأتي يومًا ضياء الإعلان الفصحيّ.
ثالثًا: وضع لوقا حدَث أمِّ يسوع وإخوتِه بعد خُطبةِ الأمثال (19:8- 21) بينما جعلَه مت 46:12- 50 ومر 3: 31-35 قبلَها. لا شكّ في أنّ المرجِع الذي استقى منه الإزائيّون كان يتبع ترتيب مرقس، لأنه يتواصل حالاً بخبر تسكين العاصفة (22:8- 25). فنستطيع القولَ إن لوقا نقلَ حدَث إخوة يسوع ليختتم دروسَه وعِبَره عن سماع كلمة الله (آ 11- 12، 13، 14، 15، 18) بكلمة أخيرة عن الموضوع نفسه (آ 21: "إن أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها").
لماذا فصل لوقا هذه الحِقبة الأولى من رسالة يسوع عن غيرها (3: 21- 9: 50)؟ هل أعطاها معنًى خاصا ووظيفة خاصّة في التاريخ المقدّس؟ إن الإِطار الطوبوغرافي الذي يرسمه لها يدل على أنّه أراد أن يقدّم رسالة يسوع لدى شعب إسرائيل. ويثبّت هذا التفسير بمدلول مشهدِ الكرازة في الناصرة، وقد جعله لوقا في البداية، كما بالمعنى التي تتّخذه عنده خُطبةُ الأمثال. إن المحتوى التعليميّ لهذه الحِقبة يوافق هدفه: أعلن يسوع بشارة الملكوت (43:4، 8: 1؛ رج 6: 20؛ 7: 28؛ 9: 2، 11). وأسندَ هذا الإعلانَ بانتصاراته على الشيطان (33:4- 37، 41؛ 6: 18؛ 7: 21؛ 8: 2، 26- 39؛ 9: 38- 43) وبمعجزاته (38:4- 40؛ 5 : 4-7، 12-26؛ 6:6- 11، 18-19؛ 7: 1- 17، 21؛ 2:8، 22- 52، 40، 56؛ 9: 11- 17). استقبل الخاطئين التائبين (5: 20، 29- 32؛ 36:7- 50). جمع حوله تلاميذ (5: 1- 11، 27؛ 13:6- 16) وأشركهم في رسالته (8: 1- 3؛ 9: 1- 6). انكشف في هذا النشاط سرُّه: أوّلا، مهمّته كنبيّ (18:4- 19، 24-27؛ 7: 16، 39؛ 8:9، 19)، ثم لقب ابن الانسان في وضعه الحاضر مع سلطانه وفقره (5: 24؛ 6: 22؛ 7: 34) كما في ألمَه ومجده الآتي (9: 22، 26، 44)، وأخيرًا لقباه كمسيح (اعلنه الآب ليسوع في 22:3 ونادى به الشياطين في 4: 41 واعترف به بطرس في 9: 20) وكابن الله (منحه الاب ليسوع في 22:3، اقر به ابليس والشياطين في 3:4، 9، 41؛ 28:8، اوحى به الآب الى التلاميذ في 35:9). وسينمو هذا الوحي حتى نهاية هذه الحِقبة حيث تكون سِمَتُه الجديدة إعلانَ موت ابن الإنسان (22:9، 31، 44). وهكذا يجعل لوقا من القسم الأول من رسالة يسوع زمنَ إعلان سرِّ يسوع لإِسرائيل. أمّا الأقسام اللاحقة فستتّجه إلى إتمام هذا السرّ.

4- صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51- 19: 28)
يشكّل هذا الجزء القسمَ الأكثر ابتكارًا في الإِنجيل الثالث بأهمّيته الاستثنائيّة. لا شكّ في أنّ مت 19- 20 ومر 10 يتحدّثان عن صعود يسوع إلى أورشليم، ولكن هذين الجزئين هما أقصرُ من فصول لوقا العشرَة، وهما يساويان لو 15:18- 28:19. ثم إنّ مدلولَهما لا يتّضح كما عند لوقا، مع أنّهما يعبّران عنه في بضعِ آيات (مت 16: 21؛ 20: 18- 19؛ مر 10: 33- 34). يستقي لوقا معلوماتِه من مراجعَ مختلفة، ولكننا نكتشف مِرارًا يدَه في تدوين المقطوعات، في ارتباطها بعضِها ببعض، وفي الاشارات إلى السفر.
يتحدّد هذا الجزء تحديدًا واضحًا بمضمونه وبالآيتين اللوقاوّيتَين اللتين تشكّلان بدايته الاحتفاليّة (9: 51) وخاتمته (19: 28).
طوبوغرافيّة هذا السفر مُبهمَةٌ وغامضة. يكرّر لوقا مرارًا أنّ يسوع "ينطلق إلى أورشليم" (9: 51، 53؛ 13: 22؛ 17: 11؛ 18: 31؛ 19: 11، 28). ولكنه يكتفي بأن يشير إلى أنّ يسوع يسير في الطريق (57:9؛ 38:10؛ 14: 25؛ 18: 37؛ 19: 1)، ويقدّم عددًا قليلاً من المعطَيات الجغرافيّة المحدّدة: "قرية سامرية" (9: 52)، "بين السامرة والجليل" (17: 11)، أريحا (18: 35؛ 19: 1)، "قربَ أورشليم" (19: 11): إنّ تفحّصَ مُجْمَل الإشارات الطوبوغرافيّة في هذا الجزء يكشفُ عددًا من الأمور الخارجة عن القياس: فتهديد يسوع لكفرناحوم وبيتَ صيدا وكورَزين يأتي متأخِّرًا في 13:10- 15، وذلك بعد أن بدأ يسوع مسيرته نحو أورشليم (نستطيع أن نقول الشيءَ عينَه عن تهديد هيرودس في 13: 31، وهذا التهديد يجعله لوقا في الجليل حسب 3: 1 و6:23 - 7). والتوجّهُ بكلام قاسٍ إلى أورشليم يأتي متقدّمًا، وذلك قبل وصول يسوع إلى المدينة المقدّسة (لو حدّدَ لوقا موقعَ حدثِ مرتا ومريم في بيتَ عنيا، لكنّا أمام الواقع عينِه). إذًا يبدو بناءُ هذا الصعود الى اورشليم مُصطنَعًا. هذا ما لاحظه النقّاد، وقد أحسّ به لوقا نفسُه خصوصًا في 13 : 34- 35. من الواضح أنه لا يسعى إلى تحديد مكان الأحداث وأنه يبني مسيرةً محدَّدة. هدفُه الوحيد أن يجمع عدّة عناصر إنجيليّة في إطارٍ له معناه.
فما هو معنى هذا السفَر في نظره؟ نجد في نصّه إشاراتٍ عديدةٍ تجيب عن هذا السؤال. الأولى هي المطلعُ الذي جعله في رأس السفَر (9: 51): إنه يدل على سبب ذهاب يسوع إلى أورشليم، وهذا السبب هو قُرب ارتفاعه (انخطافه) من هذا العالم. فبعد الإِنباءات القريبة بالآلام (22:9، 31، 44) يبدو من الواضح أنّ هذا السفرَ هو مسيرةٌ إلى الموت. وما يُثبت هذا التفسير هو المَكانةُ التي تمثلها في هذا الجزء الإِنباءات بالآلام: فبالاضافة إلى نصوص موازية لنصوص مرقس ومتى (لو 18: 31- 34)، يورد لوقا اضطراب يسوع أمام المعمودية التي سيعانيها (12: 50)، وإعلان نهايته القريبة في أورشليم كما يليق بكل نبيّ (13: 32- 33)، وضرورة التألم التي تفرضُ نفسها على ابن الانسان (25:17). غير أننا نلاحظ أنّ لوقا لا يفصل هذه الآلام عن المجد الذي سيدخل المسيح فيه (رج 24: 26). يعبّر لوقا عن هذه العلاقة في الاشارة الاولى إلى الصعود (9: 51)، في إعلان يوم ابن الانسان (17: 22- 24، 30) أو قيامته (18: 33= مت 20: 19؛ مر 10: 34)، في مثَل الأمير الذي يعود ليتولّى الحُكم (19: 11-28).
إن هذه النظرة الإسكاتولوجيّة لا تستنفد كلّ مدلول السفر بالنسبة إلى لوقا. فهذا السفرُ يتضمّن أيضًا عددًا من العناصر التعليميّة: نداءاتٍ لنتّخذ قرارًا بالنسبة إلى يسوع وإلى الدينونة الآتية (54:12- 9:13؛ 22:13- 30؛ 14: 15- 24؛ 26:27- 37؛ 19: 11- 27)، وتعاليمَ عن حياة التلاميذ اليوميّة. ونجد توجيهاتٍ عن الصلاة (11: 1- 13؛ 18: 1- 8) عن التجرّد (12: 51- 53؛ 14: 26- 27)، عن المال (12: 13- 30؛ 14: 28- 33؛ 16: 1- 31، 18:18- 30؛ 19: 1- 10)، عن الشهادة التي نؤدّيها ليسوع (12: 1- 12)، عن السهر وانتظار عودة الربّ (12: 35- 48). ويشدّد لوقا خلال صعود يسوع هذا نحو الصليب على الدروس التي يعطيها الربّ لتلاميذه في منظار صعوده إلى طريق الآلام والموت والقيامة.
ويربط لوقا سفرَ يسوع بالسامرة، بمرحلة أولى في قرية سامريّة (52:9- 56)، وفي مرحلة ثانية بعبوره "بين السامرة والجليل" (17: 11). لا شكّ في أنّ أكثر حلقات السفر تتمّ في المنطقة اليهوديّة، ونحن نلتقي الفريسيّين والكتبة (11: 37- 12: 1، 13؛ 14: 1-6؛ 15: 2؛ 16: 14؛ 17: 20) وعلماءَ الناموس (10: 25؛ 45:11-52؛ 3:14)، بل ندخل مع يسوع إلى أحد المجامع (13: 10). هذا ما أدركه لوقا كما أدركناه نحن. ولكننا نتساءل عن نيّته حين أشار في بداية هذا القسم وفي نهايته إلى السامرة. ظنّ بعض الشُراح أن لوقا بيَّن في رسالة يسوع صورة مسبّقة عن رسالة التلاميذ لدى الوثنيّين. إن هذا التفسير يجد ما يسنده في التعليق على رسالة التلاميذ السبعين (70 هو عدد الأمم الوثنية، هي 70 بحسب النصّ الماسوري، 72 بحسب النصّ السبعينيّة) التي أوردها لوقا وحدَه وجعلها في بداية سفره (10: 1، 17). وتَحْمل هذه الرسالة في نظره مدلولَين: هي تدلّ من جهة على أن الرسالة ليست محصورة بالاثني عشر، وهذا ما يهيّئ أخبار أع عن كرازة إسطفانس وفيلبّس وبرنابا وبولس وأبلّوس، وعن كرازة لوقا نفسِه. ومن جهة ثانية، إن عدد 70 (او 72) هو رقم الأمم الوثنيّة. إذن يمكن أن يشير إلى أن رسالة التلاميذ هي صورة مسبّقة عن الرسالة اللاحقة بين الوثنيّين. ففي هذا الإِنجيل الذي يهتمّ اهتمامًا كبيرًا بهذه الرسالة، صارت هذه السفرة التي أعلن فيها يسوع مرارًا مجيء الأمم الوثنية (15:13- 29؛ 16:14- 24)، صارت في نظر لوقا إعلانًا لرسالة الكنيسة بين الأمم.

4- يسوع في أورشليم (19: 29- 24: 53)
جعل لوقا القسم الثالث من رسالة يسوع في أورشليم، وقسَمه ثلاثةَ أجزاء.

أ- كرازة يسوع في الهيكل (19: 29- 21: 28)
يبدأ لوقا هذا القسمَ بوصول يسوع إلى أورشليم (19: 29- 44) حيث يرى (كما يرى متّى ومرقس) الإِعلان العامّ لمُلكيَّة يسوع المسيحانية. نجد في خبر لوقا عدّة سِمات مبتكرة: إن "جمهور التلاميذ" يهتف ليسوع. "يسبحون الله على جميع ما عاينوا من الآيات" (آ 37). يمنحون يسوع لقب "ملك" (آ 38). نجد تقاربًا بين هذا المشهد ومشهدِ تتويج سليمان بنِ داود في 1مل 1:38، 40 (رج آ 35، 37، 38).
جعل متى ومرقس هذا القسمَ كلَّه حتى الآلام في الهيكل (مت 12:21- 16، 23؛ مر 11: 11، 15- 18، 27؛ 12: 35، 41) ما عدا الخُطبةَ الاسكاتولوجية التي أُلقيت على جبل الزيتون (مت 24: 3؛ مر 13: 3)، والليالي التي أمضاها يسوع في بيت عنيا (مت 17:21؛ رج 6:26؛ مر 11: 11-12، 19؛ رج 3:14). ويجعل لوقا الأحداث عينَها في الهيكل (45:19؛ 20: 1؛ 21: 1) ويزيد عليها الخُطبة الإسكاتولوجيّة (21: 5)، وتعليقَين عامّين عن تعليم يسوع في الهيكل في بداية هذا الجزء (19: 47) وفي نهايته (21: 37- 38). وقال لوقا إن يسوع قضى لياليَه في جبل الزيتون (21: 37؛ رج 22: 35) فدلّ على أنّه لم يترك أورشليم.
إستخلص كونزلمان من هذه المُعطَيات الطوبوغرافيّة افتراضا مبتكرًا. جعل لوقا كلّ كرازة يسوع هذه في الهيكل ليعارضه مع أورشليم التي لن يدخلها يسوع إلا من أجل الآلام (7:22- 14). والعمل الملكيّ الذي به يضع يسوع يدَه على الهيكل هو مشهدُ الباعة المطرودين من الهيكل. حسب كونزلمان، الهيكل هو مركز اليهود الدينيّ، وأورشليم مركزهم السياسيّ (حيث يتدخّل هيرودس وبيلاطس).
غير أن الأب أغوسطين جورج يعارض كونزلمان ويعتبر أنه لا يأخذ بعين الاعتبار كلّ معطيات لوقا.
- لا شكّ في أنّ لوقا رأى في مشهد الباعة المطرودين وضع يد يسوع على الهيكل. فلا إشارةَ إيجابيّة تدلُّ على وضع اليد هذا. ثم إن يسوع يعلن دمارَ هذا المعبد (6:21؛ رج 35:13).
- لا يفصل لوقا الهيكل عن المدينة (9:4؛ أع 30:21؛ 17:22- 18).
- كان القسم الثاني كلُّّه انشدادًا نحو أورشليم. فكيف نعتبر أن 19: 29- 38:21 هي وقفةٌ في هذا السير نحو المدينة المقدسة؟
- ثم إن لوقا يًدخل في هذا الجزء مقطوعتين عن أورشليم تشكّلان إسهامًا أصيلاً من قِبَله: المقطوعة الأولى (19: 41- 44) تَلي مشهدَ الشعانين المسيحانيّ: حين رأى يسوع أورشليم بكى عليها، ولامَها لأنها "لم تعرف ما لسلامها" (رسالة السلام، طريق السلام). وفي قولٍ مماثل لأقوال الأنبياء، أعلن حصارَ المدينة، ومقتلَ أبنائها ودمارَها، لأنها لم تعرف يوم افتقاد الربّ لها، يومَ مجيئه إليها. تدلّ هذه الكلمات على معنى مجيء يسوع إلى أورشليم. جاء كملك مسيح، ودعا المدينة إلى أن تُقرّ بمُلكه. أعلن الرفضَ الذي ستواجهه به والدينونةَ التي تعاقب هذا الرفض.
ونصل إلى المقطوعة الثانية (21: 25- 24). ففي الخُطبة الإسكاتولوجيّة، استعاد يسوع أيضًا إعلان هذه الدينونة (رج. 18:20 مع الخاتمة التهديديّة). يرافق لوقا اللوحة الجليانيّة عن الضيق الأخير في مت 15:24- 22 ومر 13: 14- 20 فيصوّر بوضوح حصار المدينة ودمارَها (21: 20- 24). هذا بالنسبة إليه حدثٌ تاريخيّ يتميز كل التميّز عن الإِسكاتولوجيا (21: 25- 27). نحن نرى في هذه المقطوعة عملاً تدوينيًّا قام به لوقا انطلاقًا من أحداث سنة 70.
مهما يكُن من الأصل الأدبيّ لهاتين المقطوعتين، فهما تعطيان في لو مدلولاً أصيلاً لكرازة يسوع في أورشليم. ويشدّد لوقا أيضًا على أهميّة هذه الحِقبة بإشارات عامّة (47:19، "وكان كلّ يوم"؛ 20: 1، "وإذ كان ذاتَ يوم"؛ 37:21، "وكان في النهار يعلّم وفي الليل يخرج")، فيجعلها تمتدّ أكثر من ثلاثة أيّام مرقس (مر 12:11، 20) ويومَيْ متى (مت 18:21). في هذا الإِطار، تتّخذ العناصر الجدليّة التقليديّة التي يستعيدها لوقا في ف 20 كلّ معناها: إنها تدلّ على القرار بالقتل الذي اتَّخذه رؤساء اليهود (20: 1- 19)، وعلى عداوة أوساط المعلّمين الذين رفضوا أن يؤمنوا (20: 20- 47). وتختتم الخُطبة الاسكاتولوجيّة هذه المشادّة المأساويّة بإعلان دمار المدينة وتدشين زمن الوثنيّين (21: 20- 24). إن كرازة يسوع في أورشليم تشكّل بالنسبة إلى لوقا التنبيه الأخير إلى المدينة، و"الافتقاد" (أو الزيارة) الذي فيه سيتمِّ مصيرُها المأساويّ. وقد يكون رأى في هذه الكرازة التي لم ترافقها معجزات، آية يونان التي أعلنها في 11: 29- 30. فالآية الوحيدة التي قدّمها النبيّ لنينوى كانت إعلان دمارها (يون 3: 4). ويقدّم يسوع الآية عينَها لأورشليم حتى الآلام، قبل أن يعطيها أخيرًا آية القيامة.
ب- آلام يسوع (ف 22- 23)
يقدّم لوقا في هذا الجزء تسلسلَ الأحداث الذي نجدُه في مت 26- 27 ومر 14- 15، ولكنه يبتعد عن أخبارهما أكثر ممّا ابتعد في الأجزاء السابقة. ويزيد عدّة عناصر جديدة. فاستنتج الشُرَّاح أنه اتّبع مراجع خاصّة. واستنتاجهم معقول. ولكن هذا لا يعني أنه لم يعرف تقليد مرقس ومتى. وهو حين يبتعد عنه، فهو واعٍ لِما يفعل، وهذا ما يُبرز بوضوح فكرَه الشخصيّ.
وإليك أهمّ السِماتِ المميّزةَ في بناء لوقا:
- أغفلَ تضميخ يسوع بالطيب. فسّر الشُراح هذا الإِغفال بأن يسوع أورد ما يقابل هذا الخبر في 36:7- 50، أو: لم يُرد لوقا أن يخرج يسوع من الهيكل. أو: يدلّ هذا العمل على الطابع البشريّ للحدَث، وشيوع لم يمُتْ بعد... مهما يكُنْ من أمر، فهذا المشهد قدّم لمتى ومرقس إطار خيانة يهوذا. أمّا لوقا فأدخل تفسيرًا جديدًا لقرار الخائن: الشيطان الذي ألهمه (22: 3) سيتدخّل أيضًا في الآلام بحسب لوقا (22: 31- 53؛ رج 22: 40، 46).
- يبدو خبر العشاء الأخير عند لوقا بشكل مبتكَر. فخبر تأسيس الإِفخارستيّا (آ 15- 20) القريب جدًّا من التعبير البولسيّ (1 كور 23:11- 25)، قد دُوّن بطريقة موازية للفصح القديم الذي سيتمّ في الملكوت. ويتبع هذا الخبرَ خطبةٌ طويلةِّ تضمّ عناصر عديدة نجد أكثرها عند متى (18: 1؛ 25:20- 28؛ 28:19) ومرقس (34:9- 35؛ 10: 42- 45) في أمكنة مختلفة. بجانب الإنباءات التقليديّة عن الخيانة (آ 21- 23)، والجحود (آ 33- 34)، تشكّل هذه الخُطبة وصيّة يسوع (آ 29) وتمهّد الدربَ لخطَب يو 14- 17. يدعو يسوع تلاميذَه في هذه الخطبة لكي "يخدموا" على مثاله (آ 24- 27). ووعدَ الاثني عشر بأن يشركهم في مُلكه (آ 28-30). وحدّد لتلاميذه زمنَ الصِراع الذي افتتحه بآلامه. كلّ شيء مركّزٌ على زمن الكنيسة الذي سيبدأ.
- دوَّن لوقا "نزاع" جتسيماني (خبر يقوّي الشهيد في محنته) فشدّد أكثر من متى ومرقس على العبرة التي يستخلصها التلاميذ (22: 40 و 46: صلّوا). وهناك معطية خاصّة هي ظهور الملاك، تقابل بين مِحنة يسوع ومحنة إيليا (أ 43 ، 45؛ 1مل 7:19 ،8).
- وضع لوقا المُثول أمام السنهدرين في الصباح (22: 66- 70) فاختلف عن مرقس ومتى وارتبط بمعطية تاريخيّة لا بأس بها. فتدوين آ 67- 70 قد استعمل مرجِعًا آخر مع تقليد متى (63:26- 65) ومرقس (14: 61-64). ومهما يكن من أمر، فقد ميّز لوقا مدلولَ المسيح عن مدلول ابن الله كما سبق له وفعل في 1 :32-35.
- وزاد لوقا على الخبر عدّة أمور استقاها منْ تقاليد خاصّة به فأدخل مواضيع عزيزة على قلبه: حين قدّم يسوع لهيرودس (6:23- 12) قابل بين مُلكيَّة يسوع ومُلكيَّة هذا التترارخس (رئيس الربع) الصغير. وكلامه إلى بنات أورشليم (27:23- 21) يعلن مرّةً أخرى دمارَ أورشليم. أمّا صلاة يسوع لأجل قاتليه (23: 34، رج 7: 60) فدلّت على غفرانه. وأوضح حدثُ اللصّ (23: 40- 43) التعليمَ عن الارتداد وأبرزَ مُلكية يسوع.
- ويبدو أن موضوع مُلكيَّة يسوع يشرف عند لوقا على ترتيب 37:23- 43 (ان آ 37 تقابل مت 43:27، 40 ومر 15: 32، 30 وآ 38 تقابل مت 37:27 ومر 15: 26).
- إن أقوال يسوع الأخيرة، وهتاف قائد المئة تختلف عند لوقا (23: 46- 47) عمّا يوازيها عند متى (46:27، 50، 54) ومرقس (15: 34، 37- 39 ). ولكن يبدو أن لوقا يعرف هذا التقليد الموازي. فهو من جهة فضَّل أن يضع على شفتي يسوع كلام الثقة بالله والاتّكال عليه (مز 6:31)، لا نداءَ المتألّم (مز 22: 2) الذي لا يفهمه قرّاؤه اليونانيّون. ومن جهة ثانية، تجنّب أن يضع على شفتي قائد المئة إعلانَ لقب ابن الله الذي يعتبره لوقا سرّيًّا. وعوّض عن هذا الإغفال حين وضع في بداية صلاة يسوع نداءه إلى أبيه. وهكذا تجاوبت آخر كلمة قالها يسوع مع أوّل كلمة تلفظ بها (49:2)، فتُعلَنُ بنوّتهُ الالهيّة.
إذا تفحّصنا السِماتِ الخاصّةِ بلوقا في خبر الآلام، نلاحظ أنها دُوّنت من أجل تعليمنا. فالآلام هي آخر هجوم للشيطان (23: 3، 31- 35). والعشاء الأخير هو تأسيس الفصح الجديد (13:22- 20). ودلّت هذه الآلامُ على صلاة يسوع (22: 32، 41- 42، 44؛ 23: 34، 46) وغفرانِه (22: 32، 51؛ 23: 34، 40- 43)، دلّت على أنه المعلّم الذي يرشد تلاميذه (22: 24- 38، 45، 46، 51) والنبيّ (23: 27- 31) وإيليّا الجديد (22: 43، 51) والخادم (22: 27، 37) والملك (23: 3، 6- 12 37- 43) وابنُ الله (22: 29، 42، 70؛ 23: 34، 46). الآلام هي في نظر لوقا وحيُ يسوع والتعليم الأخير الذي يقدّمه لنا.

ج- قيامة يسوع (ف 24)
بُني ف 24 في ثلاث حلَقات: القبر الفارغ (آ 1- 12، هي المقطوعة الوحيدة التي تجد ما يوازيها في مرقس ومتى ويوحنا)؛ تلميذا عمّاوس (آ 13- 35)؛ الظهور للأحد عشر (مع شِقّين: التعرف الى يسوع في آ 36- 43 والتعليم الفصحي في آ 44- 49). كل هذا ينتهي بخاتمة قصيرة تتكوّن من صعود يسوع (هناك مخطوطات عديدة مثل البازي والروماني العائد الى سنة 949 تُغفل ذكر الصعود، وكذلك تفعل اللاتينيّة العتيقة والسريانيّة السينائيّة)، وفعل الشكر الذي رفعه التلاميذ في الهيكل حيث بدأ الانجيل. إن هذه المجموعة الأدبيّة تؤلّف وحدة على مستوى العمل والمكان والزمان.
جعل لوقا كلّ الظهورات تتمّ في أورشليم، فأخرجَ الأحَدَ عشَر من المدينة المقدسة (آ 48). هذا ما يتعارضُ مع تقليد الظهورات الجليليّة الذي نجده في الأناجيل الثلاثة الباقية (مت 26: 32؛ 7:28، 16- 20: مر 14: 28؛ 7:16؛ يو 21: 1ي). عرف لوقا هذا التقليد، ويشهد على معرفته له 6:24 حيث يحول المعطى الذي نقرأه في مت 7:28 ومر 16: 7. ولكنه فضّلَ أن يسكت عنه ليحافظ على بساطة بناء كتابيه: بنى إنجيله بشكل صعود إلى أورشليم، وأعمال الرسل كانتشار للإِنجيل ابتداءً من أورشليم (أع 1: 8). إن هذه الرسمةَ لا تترك مكانًا لعودة يسوع إلى الجليل، وهي توافق الحريّة التي تمتّع بها المؤرّخ في الأزمنة القديمة. أمّا لوقا فاستفاد من كل هذا، فأعطى مؤلفه (اي لو+ أع) تناسُقًا كاملاً، وشدّد على وحدة حدَثِ الفصح. هذا على مستوى وحدة المكان.
وكان هدفُه هو هو حين أعطى ف 24 وحدةَ الزمان التي هي بارزة وإن اصطناعيّةً. فكلُّ الأحداث التي يوردها تتسلسل في يوم متواصل. في الواقع، هي لا تدخلُ في إطار 24 ساعة (عاد تلميذا عمّاوس إلى أورشليم في ساعة متقدّمة، ولا سيما إذا قرأنا في آ 13: 160 لا 60 غلوة). ثم إن لوقا عرف أنّ يسوع احتاج الى 40 يومًا من الظهورات قبل الصعود، ليعطي الأحدَ عشر "البراهينَ العديدة" عن قيامته، وليُدخلهم في مدلول هذه القيامة (أع 1: 3). ولكننا أمام منظار لاهوتي لا كرونولوجيّ. فلقد أراد لوقا، شأنُه شأنُ سائر الإنجيليين في أخبار الظهور للأحد عشر (مت 16:28- 20؛ مر 15:16- 20؛ يو 20: 19- 23)، أن يقدّم في مشهد واحد مُجْملَ الوحيِ الفصحيّ: واقع جسد القائم من الموت (لا جدال في ذلك)، الكشف عن سيادته (هو السيّد والرب، لهذا جعل الصعود هنا كما فعل يو 20: 22 بالنسبة إلى الروح فسبّق على العنصرة)، المهمة التي سلّمها إلى التلاميذ فجعلتهم مجموعةَ الرسل. هذا اليوم هو يوم الفصح، قِمّةُ الإِنجيل ونهاية زمن يسوع.
وهذا اليوم هو أيضًا بداية حِقبة جديدة، وهذا ما يشدّد عليه لوقا بصورة خاصّة. لا شكَّ في أنّ جميع الإنجيليّين يعرفون أنّ قيامة يسوع هي نقطة انطلاق المهمّةِ الرسوليّة (مت 28: 19- 20؛ مر 16: 15- 20؛ يو 20: 21- 23) ولكنّ لوقا تفرّد بتخصيص كتاب كامل لهذه المهمّة. فصَلَ سِفر الأعمال عن الإِنجيل، فشدّد على التمييز بين زمن يسوع وزمن الكنيسة، وطبعَ هذا التمييزَ حين ذكرَ الصعود مرّتين: أولاً في نهاية الإِنجيل، فدلّ على ارتفاع يسوع من عن يمين الآب، واختتمِ الوحي به سيِّدًا وربًّا. ثانيًا، في بداية أع، فدعا الرسل ليقوموا بالمهمة المُوكَلة إليهم.
ولكن حين ميَّز لوقا هاتين الحقبتين من تاريخ الخلاص، شدد على تواصلهما العميق. فكل خطوط الرسالة التي سيرسمها في أع ترتبط بظهور القائم من الموت على الأحد عشرَ في نهاية الإِنجيل (24: 44- 49): كرازة موت يسوع وقيامته كما دُوّنتا في الكتب المقدّسة (آ 46، 44- 45؛ رج أع 23:2- 3:32، 13- 15؛ 4: 10- 11؛ 5: 30- 31؛ 10: 39- 40؛ 28:13- 30؛ 22:26- 23)، الدعوة إلى التوبة لغفران الخطايا (آ 47 أ؛ رج أع 38:2؛ 3: 19؛ 15: 31؛ 10: 43؛ 13: 38- 41؛ 26: 18)، حَمْلُ الإِنجيل إلى كل الأمم ابتداءً من أورشليم (آ 47 ب؛ رج أع 1: 8؛ 39:2؛ 25:3؛ 46:13- 47؛ 17:26، 23؛ 28:28)، وظيفةُ الشاهد التي أُوكل بها رسُل يسوع (آ 48؛ رج أع 32:2؛ 15:3، 32:5؛ 10: 41؛ 13: 31؛ 15:22؛ 26: 16)، مجيءُ الروح الذي سيُتيح لهم أن يحمِلوا شهادتهم (آ 49؛ رج أع 1: 4- 8؛ 4: 8، 31؛ 5: 32: 10: 19).

خاتمة
بعد هذا التحليل لبناء لوقا، نستطيع أن نستخرج بعض الاستنتاجات من هذه التفاصيل العديدة:
1- إهتمَّ لوقا بأن يًبرز في إنجيله تقسيمات أوضحَ ممّا في متى ومرقس، وظاهريًّا أوضحَ ممّا في التقليد السابق. والامرُ واضحٌ بصورة خاصّة لحِقبة يوحنا المعمدان وصعودِ يسوع إلى أورشليم.
2- تفرّدَ لوقا ففصل الإِنجيل عن المُهمّةِ الرسولية، فصوّرها في أع، وأبرز المراحلَ المتعدّدة في حمل الإِنجيل إلى الأمم الوثنيّة.
3- غالبًا ما تتميّز هذه الأقسام بارتباطها بمكان محدّد: يوحنا المعمدان في مِنطقة الأردنّ، أوّل مرحلة من رسالة يسوع في أرض يهودية، ثم السفر، ثم الظهورات في أورشليم.
4- إن هذه الأقسام توافق مراحل الكَشْف عن يسوع، فبدَت هكذا أزمنة في تاريخ الخلاص. فبعد أخبار الطفولة التي تقدّم سرَّ يسوع كلَّه، انتمى زمنُ يوحنا المعمدان الى العهد القديم. وقُسمت رسالة يسوع الى ثلاث حِقبات متتابعة يتوزّعهِا الكشفُ عن سرّ الفصح : أُعلن في الحِقبة الأولى، وهُيّئ في الحِقبة الثانية، وتمَّ خلال الحِقبة الثالثة. أما أع فهو إعلان هذا السرّ وتكوينُ الكنيسةِ التي وُلدت منه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM