الأناجيل وديونيسيوس

الأناجيل وديونيسيوس

ذكرنا الدياتسارون أو الأناجيل الاربعة في انجيل واحد. ونحن نذكر الآن الأناجيل الأربعة المنفصلة، كما شرحها عدد من الآباء السريان. فنورد نصوص الامثال الخمسة، كما وردت في الترجمة البسيطة، ثم نقدّم تفسيرها لدى ديويسيوس ابن الصليبي.
ديونيسيوس (يعقوب) ابن الصليبيّ هو ابن القرن الثاني عشر، وقد توفّي
في سنة 1172. شرح معظم أسفار العهد القديم وجميع أسفار العهد الجديد حتى الرؤيا. استند إلى السابقين سواء جاءوا من العالم اليوناني (اثناسيوس، باسيليوس، الذهبيّ الفم...) أو من العالم السرياني (افرام، يعقوب السروجي، موسى بركيفا...)، فأعطى لكل سفر تفسيرين، كما فعل مار افرام. وأعطى المزامير تفسيراً رمزياً. سنقدّم النصّ السرياني، نص البسيطة، ثم ننقل ما تركه ديونيسيوس من تفسير لهذه الأمثال الخمسة.

3- السريانية البسيطة وتفسير ديونيسيوس ابن الصليبي
1- العذارى العشر (متى 25: 1- 13)
أ- نص البسيطة


ب: ترجمة نص البسيطة
عندئذ يشبه ملكوت السماوات عشر بتولات. هؤلاء أخذن
مصابيحهنّ وخرجن للقاء الختن والعروس. وخمس منهن حكيمات
كنّ وخمس جاهلات. فهؤلاء الجاهلات أخذن مصابيحهنّ وما أخذن
معهنّ زيتاً. وأولئك الحكيمات أخذن زيتاً في إناء مع
5. مصابيحهنّ. وإذ تأخّر الختن نمنَ كلّهن ورقدن. وفي نصف
الليل كانت الصيحة: ها الختن آتٍ أخرجن للقائه. حينئذ قامت كل
البتولات هؤلاء وهيّأن مصابيحهنّ. فقالت هؤلاء الجاهلات
للحكيمات: هبن لنا من زيتكنّ، فها مصابيحهنّ تنتطفئ. فأجابت
هؤلاء الحكيمات وقلن: ربّما لا يكفي لنا ولكنّ. لكن اذهبن إلى أولئك
10. الذين يبيعون فيبيعون لكنّ. وإذ مضين ليشترين، أتى الختن واللواتي المستعدّات
كنّ، دخلن معه إلى بيت العرس. وأُغلق الباب. في الأخير، أتت أيضاً
أولئك البتولات الأخريات وقلن: ربنا، ربنا، إفتح لنا. أما هو فأجاب
وقال لهنّ: آمين، أقول لكنّ، إنّي لا أعرفكنّ. فاسهروا الآن
لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة.

ج: تفسير ديونيسيوس
(1) حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهنّ وخرجن للقاء العروسين. أراد بملكوت السماوات الانجيل المقدّس. وبالبتولات، أصحاب السيرة الحسنة. وأراد "بالعشرة"، الحواس النفسانيّة والجسدانيّة.
(2) خمس منهنّ جاهلات، وخمس حكيمات. سمّى الخمسَ جاهلات، لأن حواس الجسد أضعف من حواس النفس. وسمّاهنّ بتولات لطهارة سيرتهنّ. وقد اتّخذهنّ في المثَل دون الرجال، لأن في المسيح لا ذكر ولا أنثى. وذكر العددَ عشرة، لأنه عدّد كامل، حيث لمّا ينتهي الانسان من عدّ العشرة، فيبتدي من الواحد. وثم لأجل الحواس العشرة، كما قلنا.
(3) فأخذت الجاهلات مصابيحهنّ ولم يأخذن معهنّ زيتاً. ويُراد بالمصابيح، السيرة العفيفة والقداسة. ثمّ لم نجد في كل الترجمات لفظة العروسين إلاّ في السريانيّة. وأمّا في غيرها فيقول: خرجن للقاء العريس فقط. ويراد بالعريس المسيح، وبالعروس الكنيسة، إعلاماً بأن كل انسان سوف يلاقي المسيح في ظهوره، وعروسه المنتصرة آتية معه.
(4) وأمّا الحكيمات فأخذن زيتاً في آنيتهنّ مع مصابيحهنّ. أراد بالحكيمات ذوي السيرة الصالحة، الشفوقين على المحتاجين. وأمّا الجاهلات فيراد بهم ذوا الأعمال الصالحة، القساة القلوب، الذين ليس في عاطفتهم رحمة. وأراد بالزيت الرحمة والشفقة، وبالآنية الأشخاص.
(5) وإذ أبطأ العريس نعسن كلهنّ ونمن. أراد بإبطاء العريس الزمن الذي بين صعوده ومجيئه الثاني. وبالنعاس الأمراض. وأراد بالنوم الموت. وقال آخرون: إن النعاس والنوم هو الموت الطبيعيّ، لأنه لم يعد موتاً، بسبب رجاء القيامة، لكنه نوم مدّة صغيرة.
(6) فلما انتصف الليل، إذا صراخ: هوذا العريس قد أقبل. أخرجن للقائه. يتّضح من هذه الآية، أن القيامة تكون في نصف الليل، لأن في نصف الليل قام سيّدنا من القبر. كما أنه في ليلة الأحد خلق الخليقة، هكذا في ليلة الأحد، سوف يُحيي الموتى. أما صوت البوق الصارخ عن الملائكة، فقوم يقولون إنه سوف يُسمع ثلاث مرات. المرة الأولى، إعلاماً عن مجيئه الثاني. الثانية، عن دينونة المسيح الكذّاب. والثالثة، عن قيامة الموتى وتجديد الكل.
(7) حينئذ قامت أولئك العذارى جميعاً وهيّأن مصابيحهنّ. يريد بقيامة العذارى، القيامة العامة. وبتهيئة المصابيح، الرجاء العموميّ عند جميع القديسين، لأمانتهم بالمسيح.
(8) فقالت الجاهلات للحكيمات: أعطيننا من زيتكنّ، فإن مصابيحنا تنتطفئ. ليس أجهل من الذين يقتنون أموالاً هنا، ويمضون إلي هناك عريانين. ثم إن الجاهل هو الذي يطلب الحاجة في غير وقتها، ويظنّ أنه يحصل عليها. وعبثاً يطلب الخطأة، وقتَ الدينونة، الاشتراك في أثمار الأبرار.
(9) فأجابت الحكيمات وقلن: لعلّه لا يكفي لنا ولكنّ. فالأحرى أن تذهبن إلى الباعة وتبتعن لكنّ. يُراد بالباعة أولئك الذين كان يمكن أن يرأفوا بهنّ فتضيء مصابيحهنّ.
(10) فلما ذهبن ليبتعن، وفد العروس ودخلت معه المستعدّات إلى العرس، وأُغلق الباب. إن زمان التوبة والأعمال المرضية لله، هو في هذه الحياة. وكل من لا يسعى لاكتساب رضى الله في هذه الحياة، لا يصادف هناك إلاّ الفشل. وغلقُ الباب هو افتراقُ الصالحين من الطالحين، وانتهاء وقت الرحمة، وإتيان وقت الدينونة.
(11) وأخيراً، أتت بقيّة العذارى قائلات: يا ربّ، يا ربّ، إفتح لنا. (12) فأجاب وقال: الحقّ أقول لكنّ إني لا أعرفكنّ. أي لا أعرفكنّ لأعمالكنّ الشريرة.
(13) فاسهروا إذن، فإنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة. هذا الكلام أمرٌ بمنزلة النصيحة، ليس للعشر عذارى، بل لنا نحن الذين نُوعَد أن نتوب من وقت إلى آخر، ونحن غرقى في الخطيئة. وقال: إنكم لا تعلمون، أن لا تنفعكم معرفةٌ يوم خروجكم من هذا العالم.

2- الابن الضال (لوقا 15: 11- 32)
أً: نص البسيطة


بً: ترجمة نص البسيطة
وقال لهم يسوع أيضاً: كان لرجل ابنان. فقال له
ابنه الأصغر: يا أبي، هب لي قسمتي التي تنتهي إليّ من بيتك. فقسم لهما
مقتناه. وبعد أيام قليلة، جمع الابن الأصغر كل شيء انتهى إليه،
ومضى إلى مكان بعيد، وهناك بذّر مقتناه وهو عائش مبدّداً. وإذا أفنى كل شيء
5. كان له، حدث جوع عظيم في هذا المكان. فشرعُ يحسّ بالعوز. فمضى ولازم واحداً
من أبناء مدينة هذا المكان. وهو أرسله إلى القرية لرعاية الخنازير، واشتهى
ملء بطنه من هذا الخروب الذي يأكله الخنازير، فلا يهبه له أحد.
وإذ جاء إلى نفسه قال: كم يوجد الآن من الأجراء في بيت أبي يفضل عنهم الخبز،
وأنا هنا أموت في جوعي. أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: يا أبي، خطئتُ
10. إلى السماء وقدّامك، والآن لا أستحقّ أنا أن أدعى ابنك. إجعلني مثل أحد أجرائك.
وقام أتى إلى أبيه، وإذ هو بعدُ بعيد، رآه أبوه فرحمه وأسرع
وارتمى على عنقه وقبّله. فقال له ابنه: يا أبي، خطئتُ إلى السماء وقدامّك ولا أستحقّ
أنا أن أدعى ابنك. فقال أبوه لعبيده: أخرجوا الحلّة الرئيسية وألبسوه،
وضعوا خاتماً بيده وحذاء في رجليه. وهاتوا اذبحوا الثور المفطوم
15. فنأكل وننعم. فابني كان ميتاً فعاش وهالكاً فوُجد. وشرعوا
ينعمون. وابنه الأكبر كان في القرية، وإذ جاء واقترب نحو البيت،
سمع صوت زمر الكثيرين. فدعا واحداً من الغلمان وسأله: ما هذا؟ فقال له:
أخوك أتى فذبح أبوك الثور المفطوم إذ أقبل إليه سالماً. فغضب وما أراد
الدخول. فخرج أبوه يطلب منه. فقال هو لأبيه: كم لي من السنين
20. أنا متعبّد لك وما تجاوزت أمرك أبداً. وما وهبتَ لي أبداً جدياً
أتنعّم به مع أصدقائي. وابنك هذا الذي بدّد مقتناك مع الزواني وأتى، ذبحت له
الثور المفطوم. فقال له أبوه: يا ابني، أنت في كل وقت معي. وكل ما يخصّني
يخصّك. ولكن وجب أن ننعم ونبتهج، فأخوك هذا كان ميتاً وعاش
وهالكاً فوُجد.

ج: تفسير ديونيسيوس
(11) وقال: رجل كان له ابنان. (12) فقال أصغرهما لأبيه: يا أبتِ، أعطني النصيب الذي يخصّني. فقسم لكل منهما معيشته. يدعو السيِّدُ المسيح أباه رجلاً. وأفهم بالابن الأكبر، طغمة الملائكة البررة بكمال أفكارهم وفضْل سيرتهم. وبالابن الأصغر، جوقة الخطأة ذوي الرأي السخيف الصبياني. وسمّى، له المجد، الآب أباً لهذين الابنين، لا بالطبيعة، بل بالذخيرة والنعمة، لأنه وحده ابن الآب بالطبيعة، وقد صار شبيهاً بنا بتجسّده من البتول الطاهرة. وإنما يمنحنا البنوّة بالذخيرة، بقوّة العماد الذي نقتبله. وإن سألتَ: ما المفهوم بالنصيب الذي يطلبه أصغر الولدين؟ قلت: إنه الحريّة التي ميّز بها تعالى النفوس التي خلقها وأعطاها الناموس الطبيعيّ والناموس المكتوب وهو ناموس موسى، وزيّنها أيضاً بالحكمة والمعرفة. ومن الواضح أن في المثَل يخيّل سيّدُنا أن هذه النفوس تطلب نصيبها، أي حريّتها، وهي غير موجودة بعد، إلا أنها ستُوجد يوماً ما، وهي موجودة بنوع في سابق علم الله. وإن قلتَ: كيف تطلب قسمتها من ميراث الآب، وهي غير مخلوقة بعد؟ فافهمْ أن السيْد المسيح، كمعلّم سامٍ، إنما ذكرَ المثل، ليعلّم كيف كانت حال من خلقوا ويسمعونه، وكيف أن الله طبعهم على التمييز والحرية. ومن الأكيد أنهم لم يخاطبوا الله بالكلام الشفهيّ، بل هي رواية حالٍ يمثّلها ربنا. أيضاً في قوله: قسم لهما ما له، دلالة على ما أعطاهما من الحريّة التي يستخدمونها، ولا سيّما في زمن الشباب. والحريّة واحدة يتساوى فيها البررةُ والخطأة.
(13) وبعد أيام غير كثيرة، جمع الابنُ الأصغر كل شيء له، وسافر إلى بلد بعيد، وبذّر ماله هناك عائشاً في الخلاعة. ضبط الابنُ ما كان يمتلكه، كحريّته وماله، وهجر الله. وهو معنى سفَره إلى البلد البعيد. أي أنه ابتعد عنه تعالى، وما أراد حفظ وصاياه، فأتلف بسلوكه القبيح ورذائله، حريّته، التي هي نعمة كبرى إلهيّة، ولاشى سلطان نفسه على أهوائه بتركها تسود عليه، وأعمال تمييزه بإقباله على محوِ القداسة فيه، وهتك الطهر والعفاف، بحيث أمسى كالحيوان، وعاش غير مفكّر بيوم الدين الرهيب، وبعدل وانتقام الله الديّان.
(14) فلما أنفق كل شيء له، حدَث في ذلك البلد مجاعة شديدة، فأخذ في العوز. (15) فذهب وانضوى إلى واحد من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقله ليرعى الخنازير.
بعد أن مسَّ حريّته التلفُ بما أتاه من ضروب الرداءة، ضربته الخطيئةُ بالجوع. وكانت إرادته الخبيثة ملتهبة بنيران الشرّ والخبث، فأكلت هذه النيران كل ما كان قد اقتناه من الفضائل، فتعرّى منها واحتاج، في فقره، إلى غيره. فقصد الشيطان وخضع له، وهو المعني بقول لوقا "واحد من أهل ذلك البلد". ومن المقرّر أن صاحب الخطيئة المعنيّة، يضبطها شيطانه، لا غيره، فالزاني يكون تحت سلطان شيطان الزنى. والسارق تحت أمر شيطان السرقة. ونزيد: إن الشيطان أرسله إلى حقله يرعى الخنازير، دلالة على شهوة الزنى التي تملّكت فيه. فالحقل هو حانوت المعصية، وماخور الخنازير أي الزناة الفاجرين الفاسقين. وما انطبق التشبيه، لأن الخنزير أسمج الحيوانات منظراً، وأكثفهم مأكلاً ومشرباً.
(16) وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله ولم يعطه أحد.
كان اشتياقه شديداً إلى الزنى. والعادة أن الفاسق لا يشبع من فسقه ولو أكثر منه اكثاراً. والخطية شبيهة بالخرنوب الذي عجوته صعبة الانكار ولو أن داخله حلو. فان الزاني يري خطيته حلوة في أولها، إلاّ أن الندامة تعقب فعلته الشنعاء. وأوّلَ أيضاً الخرنوب بأفعال النجاسة التي هي فراغ الفضيلة أو بالخراب الذي لا عمار فيه، أي لا خير وهو مأكول الخنازير، ودليل الشراهة المرافقة الزناء. وأفهم بالقول "انه لم يعطه أحد" إنه كان يفعل أفعال الدعارة ولا تشبع شهوتُه ويطلب المزيد ولا ينال.
(17) فرجع إلى نفسه وقال كم لأبي من أجراء يفضل عنهم الخبز، وأنا ههنا أهلك جوعاً. (18) أقوم وأمضي إلي أبي وأقول له يا أبت قد خطئت إلى السماء وأمامك (19) ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابنا، فاجعلني كأحد اجرائك. الرجوع إلى النفس هو التفكّر في السعادة الأولى التي كان بها مشمولاً في بيت أبيه. والأُجراء هم الخطأة الذين يتوبون فيجلسون على أبواب الكنيسة لأن بيت أبي تأويله البيعة المقدسة. هؤلاء يفضل عنهم الخبز ولو أنهم غير مشتركين بعدُ في الأسرار المقدسة. إلا أن خوف الله المدلول عليه بالخبز موجود في قلوبهم وبحق يُدعون أجراء عاملين للبرّ والتقوى. واعلم أن من يعمل الصلاح ينقاد لأحد ثلاثة: إما للفضيلة أو للأجر في الآخرة أو لخوفه من العذاب. والغاية الأولى هي غاية البنين في بيت أبيهم. أما الثانية فهي غاية الخدامين. والثالثة غاية العبيد. وكان الابن الشاطر محروماً من كل هذه الغايات، أي ليس فيه خوف الله ولا عمل صالح. فخالجه فكرُ الرجوع إلى أبيه ليقول إن خطيته بلغت حتى عنان السماء، ولا يستحقّ ان يدعى ابناً بسبب معاصيه كما كان في بدء الأمر، بل يرغب في أن يكون كالاجراء الذين لم يقبلوا بعدُ المعمودية، بل يُنتظر منهم أن تكمل توبتُهم.
(20) فقام وجاء إلى أبيه. وفيما وهو بعيد رآه أبوه فتحنّن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبَّله.
قيامه إلى أبيه هو رجوعه إلى الربّ تائباً. وعندما كان قلبه مملوءاً من أفكار التوبة، كانت مراحم أبيه فائضة. ولهذا المعنى أسرع أبوه إليه ولم تشمئزّ نفسه من قذارة ابنه الملوّث بحمأة الخنازير. فانظر حنان العليّ الذي لم يصبر إلى أن يأتي إليه الخاطئ، بل يسرع نحوه ويقرع على باب قلبه. وإذا آنس منه ندماً، انحنى عليه وعانقه ونسي عصيانه ومخالفاته، وقبّل شفتيه النجستين، ولا يعاف رائحته النتنة ولا خشونة جسمه الذي أفسدته ادناس الخطيئة.
(21) فقال له الابن يا أبتِ قد خطئت إلى السماء وأمامك ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً.
أعلن الابن قداسة الله ونجاسة نفسه. وبقوله أخطأت إلى السماء، أقرّ بأن الله فيها وانها مقرّ الأبرار من الناس وان الخاطئ، يفقدها ويهجر الله باقترافه الخطيئة. وقائل لأي الأسباب لم يقل لأبيه: اجعلني كأحد أجرائك وكان قد قصد هذا القول؟ الجواب ان محبّة أبيه سبقته وما أبت عليه مغفرة. ثم ولو أنه لم يقل ذاك القول بلسانه، فقد قاله بحاله وبما أظهره في هيئته من الذلّ والاتّضاع والندم.
(22) فقال الأب لعبيده هاتوا الحلّة الأولى وألبسوه واجعلوا في يده خاتماً وفي رجليه حذاء (23) وأتوا بالعجل المسمّن واذبحوه فنأكل ونفرح (24) لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد. فطفقوا يفرحون.
أفهمُ بالعبيد الملائكة الذين يفرحون برجوع التائب والكهنة أيضاً الذين يعمّدون، وبالحلة المعمودية الغافرة للخطايا. وبالخاتم الايمان والبنوّة التي هي عربون الحياة الآتية والعودة إلى السيادة على الشيطان والخطيئة. وإلى الميراث السماوي وإلى الاشتمال بنعمة الروح القدس. وبالحذاء السيرة الفاضلة وطريق البرّ والقداسة طبقاً لمرسومات الانجيل. وبالعجل ابن الله الوحيد المسمّى أيضاً خروفاً والمسمّي نفسه ثوراً. ووُصف بالمسمّن لأنه شبعان من العلف بسبب عظمة لاهوته. وبالأكل والفرح الشركة في الأسرار المقدسة وفيها الابن الضالّ يغتبط بغفران آثامه وبمواهب النعمة والروح. ثم الله وأبراره يلتذّون برجوعه وندامته، وقد كان ميتاً عن الأعمال الصالحة بكثرة الشرور التي تدنّس بها، لأن محبة الدعارة موت والاستغراق في الجسديات موت عن الروحيات. ثم قد كان شارداً في عيشة ردية هالكاً في بحرها. اما الآن فأتته الحياة بالنعمة ورجع إلى الله.
(25) وكان ابنه الأكبر في الحقل. فلما أتى وقرب من البيت سمع أصوات الغناء والرقص (26) فدعا أحد الغلمان وسأله ما هذا (27) فقال له قد قدم أخوك فذبح أبوك العجل المسمّن لأنه لقيه سالماً.
يراد بالابن الأكبر جماعة الصالحين الأبرار في هذه الدنيا، وبالحقل المكان الذي يجري فيه الخير. وان عامل الصالحات كالعامل في حقل، يحيا حياة تعب ومشقّات. وكذا لا يقوى المرء على اتيان البرّ بدون تعب. وأوّل البيتَ كما مرّ بك بالبيعة أو بالعالم ان أردتَ، وأصوات الغناء بكرازة الأنبياء والرسل أو بفرح الملائكة ومسرّتهم برجوع الخاطئ إلى التوبة. وقد استعلم الابن الأكبر أحد الغلمان الحاضرين العالمين بسبب الرقص والغناء، فأجابه بما تفسيره: ان أخاك عاد من حمأة الخطيئة إلى طهر الفضيلة، فأشركه أبوك في الأسرار المقدسة، لأنه لقيه سالماً من العطب بعد أن كان ميتاً في الخطيئة.
(28) فغضب ولم يُرد أن يدخل. فخرج أبوه وطفق يتوسل إليه. (29) فأجاب وقال لأبيه: كم لي من السنين أخدمك ولم أتعدّ وصيتك قط وأنت لم تُعطني قط جدياً لأتنعّم مع أصدقائي. (30) ولما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحتَ له العجل المسمّن.
غضبُ الابن الأكبر ممثّلٌ لغضب الكتبة والفريسيين الذين كانوا يأبون رجوع العشارين والخطأة إلى التوبة. وأيضاً لغضب بعض الصديقين في أيامنا هذه الذين يتماهلون في ارجاع العاصين إلى الطاعة وفي قلوبهم، ويعلنون أفعالهم السيّئة. وان الأب خرج ليُقنع ابنه باللين والتؤدة بأن يتخلّق بأخلاقه، أي بأن يرضى كل الرضى بتوبة التائب ويفرح معه كما يفرح الملائكة العلويون بأنابة الشاردين إلى الله. فأخذ الابن يذكر ما كان عليه في سلوكه الماضي مدة زمان طويل من حفظ الوصايا والائتمار بالأوامر والسعي وراء مرضاة أبيه. ومن كلامه ما معناه. اني لم ازنِ ولم أسرق ولم آخذ الكذب والخداع ديدناً ولم تعطني جدياً لأتنعم به مع أصدقائي. وأفهمُ بالجدي في المعنى الروحي، الشهوات القبيحة، فإنها تجعل المرء وقحاً تائهاً ذا خفة وطيش، جموحاً يتعذّر كبحه. ومظلم العقل والادراك لا يفقه ما الله والفضيلة. والجدي أسود اللون يتسلق الصخور غير منتبه للمخاطر وغير حذر من المهالك. وأيضاً قد شبّه ربنا بالجداء الأشرار الهالكين الذين سيقيمهم من عن شماله في الدينونة العامة. اذن ان المراد بقوله: لم تعطني جدياً، ان عنايتك سندتني ولم أترك وصاياك وان وصاياك هدتني فلم أتعلّق بشهوات النفس ولم تعطني روحاً مظلمة ولم تسلمني إلى المعرفة الباطلة ليقسو قلبي كما قسا قلب فرعون ولم تأذن لي بأن أسلك في طريق الملاهي والآثام التي يمثّلها الجدي، بل كما أمرتني حفظتُ ارادتك وصددت عن اتباع ارادتي الماثلة بي إلى الشر. ولذلك لم أتنعّم مع أفكاري الخبيثة ولم التذّ بشهواتي النجسة التي يعدّها الانسانُ الجاهل أصدقاء له في حياته. ومن المعلوم ان اتباع الشهوة والأميال الغريزية يرجع بالانسان إلى حالة الطفولية التي لا يميز فيها النافع من الضارّ. وقد يلذّ له هذا الاتباع لأنه اثارة لشهوات الحواس والجسد، إلاّ أنه وخيم العاقبة شديد الضرر.
(31) فقال له: يا ابني أنت معي في كل حين وكل ما هو لي فهو لك. (32) ولكن كان ينبغي أن نتنعّم ونفرح، لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد.
جواب الأب هو الثناء العاطر على ولده ومفاده. أنت حافظ وصاياي في كل آن وأين. أنت مقيم دائماً في حضن الكنيسة، ومواصل الصوم والصلاة. ومن الثابت ان ما دام الرجل يفكّر في الله، فهو مع خالقه يفرّح القلب بالتأمّل في الخيرات السماوية التي يكون مالكاً لها بالنعمة ويتأمل نيلها بالرجاء يوماً في سعادة لا انقطاع لها. ولاحظْ هنا الفرق بين حالة البارّ وحالة الخاطئ التائب. فالأول مع الله في دولته شريك مواهبه يتصرّف بها مثلما تقتضيه حالة الشريك. أما الثاني فانه يُنعَم عليه بأن يأكل ويشرب من الخيرات الروحية. وقبوله لا يجعل له دالّة حالاً كما للأبرار، لأن الجرح ولو برئ، الاّ أن أثره باقٍ في الجسم ولا يقوى صاحبه على ما يقوى عليه من لم يمسّه عطب. وإن شئت أن تعرف ما الادلّة التي كان الأب قادراً على إيضاحها لاقناع ابنه الأكبر بما عمله، فاعلم أننا نحصرها في أربع. الأول: يا ابني من يرى ميتاً يحيا ولا تنال قلبه الرحمة عليه. فأخوك حُيي، فحملني قلبي على اتيان ما فعلتُ. الثاني: عندما قابلني أخوك قال بصوت الندامة: خطئت إلى السماء وأمامك. فحركت هذه العبارة مني أحشاء الرحمة والتحنّن وما عادتي أن أكون قليل الرحمة. فلذلك قبلته وصنعت معه ما صنعتُ. الثالث: أنا لم أجرّدك بما لك ولم أعرّك من حلتك لألبسه إياها، ولم آخذ من أصبعك الخاتم لأضعه في أصبعه. فمن مالي منحته، كما ان ما عندك قد أتاك من خيري. الرابع: كما اني أبوك فأنا أبوه واني أكرمك لفضيلتك وأتحنّن عليه لرجوعه عن غيّه ولقيامته من حالة التعاسة والموت الأدبي الذي كان سائداً عليه. وانتبه إلى أن عادة مخلصنا أن يدعو الله أباً عندما يعاملنا بالرأفة واللين. وديّاناً ان أراد الانتقام منا بسبب معاصينا وتأديبنا كما نستحقّ. وملكاً أن أعلنه ذا سلطان وأمر. ومانحاً الهبات والعطايا. وربّ بيت ان شاء اظهار عنايته بالخلائق. وقد نظرتَ أنه سمّى نفسه في المثل الحاضر أباً بسبب شفقته وغزارة رأفته.

3- لعازر والغني (لوقا 16: 19- 31)
أً: نص البسيطة


ب: ترجمة نص البسيطة
كان رجل غنيّ ويلبس البزّ والأرجوان، وكل يوم
يتنعّم متلذّذاً. وكان مسكين اسمه لعازر ومرمياً
كان لدى باب ذاك الغنيّ وهو مضروب بالقروح ويتمنّى
أن يملأ بطنه من الفتات الذي يتساقط من مائدة ذاك الغنيّ. إلاّ أن الكلاب
5. كانت تأتي فتلحس قروحه. وكان أن مات ذاك المسكين
فأوصلته الملائكة إلى حضن ابراهيم. والغني أيضاً مات وقُبر.
وإذ كان يتعذّب في الجحيم، رفع عينيه من بُعد فرأى ابراهيم ولعازر
في حضنه. فصاح بصوت عظيم وقال: يا أبي ابراهيم، ارحمني وأرسل لعازر
ليبلّ رأس إصبعه بالماء، ويرطّب لي لساني. فها أن معذّب في
10. هذا اللهيب. قال له ابراهيم: يا ابني، أذكر أنك قبلت خيراتك في حياتك،
ولعازر بلاياه. والآن، ها هو يرتاح هنا وأنت تتعذّب. ومع ذلك
كله، هوّة عظيمة وُضعت بيننا وبينكم. فالذين يريدون من هنا أن يعبروا
إليكم لا يقدرون ولا أن تعبروا من هناك إلينا. فقال له: إذن، أطلب
أنا منك، يا أبي، أن ترسله إلى بيت أبي، فخمسة إخوة لي.
15. يمضي فيشهد لهم لئلاّ يأتوا هم أيضاً إلى مكان العذاب هذا. فقال له
ابراهيم: عندهم موسى والأنبياء. فليسمعوا لهم. أما هو فقال له: لا،
يا أبي ابراهيم، فإن مضى انسان من الموتى إليهم يتوبوا. فقال له
ابراهيم: إن لم يسمعوا لموسى والأنبياء، فلا وإن قام انسان من الموتى
يؤمنون به.

ج: تفسير ديونيسيوس
(19) كان رجل غنيّ يلبس الأرجوان والبزّ ويتنعّم كل يوم تنعّماً فاخراً.
غاية السيد من هذا المثَل ان يبيّن للأغنياء وجوب التصدّق على المساكين والاّ كان مأواهم النار وبئس المصير، وندماً حين لا ينفع الندم. وهل وقع الحادث بالفعل كما يرويه المخلص. فقد اختلف المفسرون. فمنهم من أجاب بالانكار. قالوا: ان السيّد اخترعه ليلقي فيه تعاليمه السامية ولو انه وصفٌ مضبوط لواقعة حال لا يتعذّر وجودها. وأجاب فريق مميزاً قال: ان جزءاً من المثل جرى فعلاً وذلك كل ما يُروى أنه وقع في زمن مضى كوجود رجلين احدهما غني يُدعى نفتالي من سبط دان والآخر لعازر. وأما الجزء الآخر الذي يروي ما سيحدث، فقد زاده المخلص، وذلك لأن الأبرار لم ينالوا النعيم ولا الأشرار سقطوا في العذاب حتى يُقال ان لعازر يتلذّذ متنعماً وان الغنى يتعذّب لأن الرسول بولس يقول "لم ينالوا الموعد. لكي لا يكملوا دوننا" (عب 11: 39- 40). ثم نقول إن بعض المثل حدث في الواقع، وقد كان الغنى من بني اسرائيل، وإنك تستنتج ذلك من مناداته ابراهيم بكلمة يا أبتاه، ومن جواب ابراهيم بكلمة يا ابني، ثم من قوله: عندهم موسى والأنبياء. وأيضاً كان الغني من الكهنة. لأنه موصوف بلبس الحرير والأرجوان. وروى القديس كيرلّس انه من سبط دان وان اسمه نفتالي كما تقدّم. اما لعازر فكان من عامة الناس ومن قبيلة الجبعونيين يقوم بباب بيت الغني على مزبلة تُدعى حتى الآن باسمه. وكانت الجروح والقروح تغطّي جسمه. وكثيراً ما يطمر رجليه في تراب المزبلة قصد أن ينال بعض التخفيف لأوجاعه. وأعلم، وفّقك الله إلى كل خير، أن الغنى والفقر في ذاتهما لا يُعدّان شراً، لكن سوء استخدامهما يجعل المرء من الأخيار أو الأشرار. فكل غنى مقرون ببخل شرّ، وإن صحبَته الرحمة والتصدّق كان خيراً لصاحبه. وكذا الفقر مع الصبر والاحتمال والخضوع فضيلة. وبدون تسليم لعناية الخالق رذيلة. وقد أوضحنا هذه المبادى في تأليفنا المعنون: في العناية الربانية.
(20) وكان مسكين اسمه لعازر مطروحاً عند بابه مُصاباً بالقروح (21) وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة الغني ولم يعطه أحد وكانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه.
هنا وصف حالة الغني أولاً. ولم يذكر اسمه لعدم استحقاقه ان يسميه الله بلسانه وشفتيه. فأخبر عن شغفه بالزهو والافتخار الباطل والكبرياء وعن شرهه وبذخه. ثم وصف حالة المسكين الذي سمّاه، اعلاناً لصبره الجميل واحتماله الشدّة والبأساء. وقد اختلف الشرّاح في معنى لعازر. فقال قوم بأن تأويله مسكين. وقال آخرون بأنه يَعني حنوناً. وأما نحن فنقول إن تفسيره عون الله. فلعازر كان مصاباً بالجذام بعكس الغنيّ الذي كان صحيح الجسم. ثم لاشتهائه أن يأكل ويشبع كان يزحف على يديه ورجليه في المزبلة ليلتقط الفتات المطروح خارجاً من مائدة الغني فيختلط بالكلاب التي تترك فضلة الطعام وتلحس المادة السائلة من جسده. لا بقصد أن تعذّبه، بل لأن عادتها اذا ما أصابها جرح ان تلحسه فيشفى. وقابلْ هنا بين ثياب الغنيّ وحلله المغطية جسده، وبين لحس الكلاب للقروح المخرجة القيح والصديد.
(22) ثم مات المسكين فنقلته الملائكة إلى حضن ابراهيم، ومات الغني أيضاً فدفن في جهنم. (23) فرفع عينيه وهو في العذاب فرأى ابراهيم من بعيد ولعازر في حضنه (24) فنادى قائلاً يا أبت ابراهيم ارحمنا وأرسل لعازر ليغمس في الماء طرف أصبعه ويبرّد لساني لأني معذَّب في هذا اللهيب.
المدلول بحضن ابرهيم هو الاشتراك معه بالتنعّم. نعم، إن الأنفس لا تقبل السعادة بالفعل قبل القيامة، إلا أنها تشعر بالخيرات المعدة لها. وكما انتقل لعازر من الحزن إلى الفرح، انتقل الغني من الفرح إلى الحزن وأخذ يشعر بأنه سيتعذّب في النار. وهنا لاحِظ التمييز الذي يضعه الله الديان بين الأشرار والأبرار. فمن الأكيد أن الأشرار يتعذّبون ويضجون من هول العذاب. ثم ان الغني دعا ابراهيم اباه، لا لأنه أبوه الطبيعي، بل إما لأن ابرهيم جدّ آل اسرائيل وكان الغني منهم، إما لأن ابراهيم معروف بحبّه الفقراء والمساكين وبتعليمه عبادة الله الحيّ كالواجب، وبعطفه على من مسّهم الضرّ. ولكن شتّان بينه وبين الغني الهالك الذي يتوسّل إليه. فابراهيم أحبّ الفقراء، والغنيُّ رذلهم وأبغضهم. وسائل لماذا لم يذكر الغني غير اسم ابراهيم أو أسامي أخرى معه كداود؟ فالجواب ان ابراهيم كان أعرف من غيره لحالتي الفقر والغنى. ثم كان كبير الشفقة على المساكين. وأيضاً كان يفوق الناس كلهم بعواطف رحمته وحنانه.
(25) فقال ابراهيم: تذكر يا ابني أنك نلت خيراتك في حياتك ولعازر كذلك بلاياه، والآن فهو يتعزى وأنت تتعذّب. (26) ومع هذا كله فبيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثبتت، حتى ان الذين يريدون أن يجتازوا من هنا اليكم لا يستطيعون ولا الذين هناك أن يعبروا إلينا.
سمّى ابراهيم مناديه بعبارة يا ابني، إما لأنه كان من الشعب الاسرائيلي، وإما لاعلانه أن القرابة بين الصالحين والطالحين ولو ثبت وجودها لا تفيد شيئاً. ثم أفهمه أنه نال سعادته في العالم، وأن لعازر نال فيه الفقر والأوجاع. فلذلك تبدّلت تعاستُه إلى سعادة. ومن هنا تعلم أن النفس بعد فراق الجسد بالموت، تظلّ متذكرة أعمالها وعالمة بما أتته من الشرّ أو احتملته منه، لأن الشرّ نوعان أي اثم ومعصية وهو شرّ حقيقي، وإما مرض وضربات، وهذه ظاهرها شرّ إلا أنها تؤول إلى الخير ولا تُعدّ شروراً حقاً. وقابل أيضاً ابراهيم بين حالتي تعزية المسكين وعذاب الغني في الآخرة وما كان سببها. الاّ ان هذا تعزّى في الدنيا، وذاك تعذّب فيها. وتدرّج بعد ذلك إلى وصف الهوة بين الفريقين الهالك والخالص. وأفهم بالهوة صوت الرب الصباؤوت الذي يعزل الصالحين من الطالحين أو الرقيع الذي على رؤوسنا لأن الأشرار ههنا أسفل والأخيار يصعدون إلى ما فوق الرقيع.
(27) فقال أسألك إذن يا أبت أن ترسله إلى بيت أبي (28) فان لي خمسة إخوة حتى يشهد لهم لكي لا يأتوا هم أيضاً إلى موضع العذاب هذا. (29) فقال له ابراهيم: إن عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم. (30) قال: لا يا أبت ابراهيم، بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون. (31) فقال له: ان لم يسمعوا من موسى والأنبياء، فإنهم ولا ان قام واحد من الأموات يصدقونه.
من الغريب أن الغني الذي لم يعتن بنفسه في الدنيا، يريد الآن الاعتناء باخوته الذين كانوا مثله بلا رحمة ولا شفقة على الفقراء. وفي تأويل الاخوة الخمسة اختلاف. فعلى رأينا أنهم الأغنياء القساة الفؤاد أو اليهود كلهم. وعلى رأي آخر إنهم الحواس الخمس. ولكن هذه الحواس قد بطلت وتلاشت بالموت، فلا يمكن أن يفكّر الغني فيها. أما حواسه الباطنية التي في النفس، فهذه يتعذّر أن تنال البرارة بدون أن تبرر معها الحواس الجسدية. وان كانت هذه لم تتبرّر، فتلك مثلها أيضاً. ثم ان كان يتكلّم عن حواس الأحياء، فهذه الحواس هي عشر، خمس نفسية وخمس جسدية. اذن، يظهر لك عدم صحّة هذا الرأي الذي يقيم بالأخوة الحواس. وما دللنا عليه إلاّ لتوبيخ من يحاولون تفسير الكتب المنزلة، وهم لها جاهلون. وقد أعنى ابراهيم بجوابه أن الأحياء لهم في ناموس موسى وكتب الأنبياء ما يكفي لردعهم عن الظلم والمعصية. ومشهور أن قام ابن الأرملة وابنة يائيرس ولعازر من القبور ومن شاهدوهم لم يؤمنوا.
ويمكنك أن تجعل للمثل تأويلاً آخر، وهو أن ترى في الغنيّ الشعب اليهودي، وفي لعازر المسكين الشعب الوثنيّ المضروب بالقروح أي بالعادات الحنفية: وفي الكلاب الأنبياء الذين يحاولون استئصال الخطيئة من هذا الشعب. فلعازر انتقل إلى الملكوت أي الشعب الوثني دخل في حضن البيعة المقدسة. والغني يتعذّب. أي ابتعد عن الله وما نال هبة قبول الانجيل وهو تائه في العالم يشتهي نيل الملكوت والنبوة والخلاص. وأيضاً لا مانع من أن ترى في الغني شعب اسرائيل. وفي لعازر سرّ المسيح المتأنّس الذي كان راغباً في أن يتناول من اليهود أعمالاً صالحة لا فتاتاً. وفي الكلاب سرّ الوثنيين الذين يلحسون جراح المسيح أي يأكلون جسده ويشربون دمه. أو ترى في لعازر سرّ الرسل، وفي الكلاب سرّ الوثنيين الذين قبَّلوا جراح الرسل الأطهار. وفي هذا القدر كفاية.

4- العمّال في الكرم (متى 13: 24- 30)
أً: نصّ البسيطة


ب- ترجمة نصّ البسيطة
يشبه ملكوت السماوات رجلاً ربّ بيت خرج في الصباح ليستأجر
فعَلة لكرمه. اتّفق مع الفعلة على دينار في اليوم. وأرسلهم
إلى كرمه. وخرج في الساعة الثالثة، فرأى آخرين قائمين في السوق بّطالين.
فقال لهم: امضوا أنتم أيضاً إلى كرمي، وما يجب أهب لكم. وهؤلاء
5. مضوا. وخرج أيضاً في الساعة السادسة والتاسعة وصنع هكذا. وعلى وجه
الساعة الحادية عشرة، خرج فوجد آخرين قائمين وبطالين. فقال لهم:
لماذا تقومون أنتم، اليوم كله، بطالين. فقالوا له: لم يستأجرنا أحد.
قال لهم: إمضوا أنتم أيضاً إلى الكرم، وتأخذون ما يجب. وإذ كان
المساء، قال سيّد الكرم لربّ بيته: ادعُ الفعلة وهب لهم
10. أجرهم. فبدأ من الآخرين حتّى الأولين. وأتى أهلُ الحادية عشرة
فأخذوا ديناراً ديناراً. وحين أتى الأوّلون، ظنّوا أنهم يأخذون أكثر. فأخذوا ديناراً
ديناراً هم أيضاً. وإذ أخذوا تذمّروا على ربّ البيت وقالوا: هؤلاء الآخرون
عملوا ساعة واحدة، فساويتهم معنا الذين حملنا ثقل النهار وحرّه.
أما هو فأجاب وقال لواحد منهم: يا صاحبي، ما ظلمتك. أما على دينار
15. اتّفقت معي. خذ مالك وامضِ. فأنا أريد أن أعطي هذا الآخر كما
لك. ألستُ مسلّطاً على مالي. فأصنع بما يخصّني ما أشاء. أو عينك شرّيرة
لأني أنا صالح. هكذا يكون الآخرون أوّلين والأولون آخرين. فالمدعوّون
هم كثيرون، والمختارون قليلون.

ج- تفسير ديونيسيوس
(1) يشبه ملكوت السماوات رجلاً رب بيت خرج بالغداة يستأجر عملة لكرمه (2) فشارط العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه.
يسمّي المسيح نفسه ربّ بيت لأنه تجسّد، والملكوت البشارة، والعمَلة بني البشر. ويسمّي الكرم الوصايا التي وضعها، وزمان العمل مدة حياة هذا العالم. ودينار كل يوم هو سيّدنا الذي يلذّذ العمَلة في ملكوته. والعملة الذين استأجرهم وقت الصباح، هم الذين منذ نشأتهم يتبدئون بعمل البر.
(3) ثم خرج في الساعة الثالثة فرأى آخرين واقفين في السوق بطالين (4) فقال لهم امضوا أنتم أيضاً إلى كرمي وأنا أعطيكم ما يحقّ لكم (5) فمضوا. وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة ونحو التاسعة كذلك (6) وخرج أيضاً نحو الحادية عشرة فوجد آخرين واقفين. فقال لهم ما بالكم واقفين ههنا النهار كله بطالين (7) فقالوا له إنه لم يستأجرنا أحد. فقال لهم أمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي.
العملة الذين استأجرهم في الساعة الثالثة هم الذين يتتلمذون في الشبيبة. وعملة الساعة السادسة هم البالغون. وعملة التاسعة هم منتصفو الأعمار. وعملة الحادية عشرة هم الشيوخ. وهناك شرح آخر مؤدّاه أن عمَلة الصباح هم آدم وشيت وغيرهما. وفعلة الثالثة هم الذين جاءوا بعد الطوفان كابرهيم واسحق ويعقوب. وعملة الساعة السادسة هم موسى وهارون ويشوع والأنبياء إلى سيدنا. وفعَلة التاسعة هم الاثنا عشر رسولاً والاثنان والسبعون مبشراً وغيرهم من الذين آمنوا به من ميلاده إلى صلبوته. وفعلة الحادية عشرة هولصّ اليمين ومن تبعه من فاعلي البر إلى الآخرة مثل الشهداء والمعترفين. ثم شرحٌ آخر مفاده أن الكرم كناية عن المؤمنين. والرجل عن الله، والعملة عن الناس الفضلاء، والصباح عن بدء البشارة. والشرط مع الفعلة عن مدة الحياة. والارسال إلى الكرم عن الخدمة المعيّنة لكل واحد. واليوم عن زمان مجيئه في الآخرة. وفعَلة الصباح عن الذين آمنوا في زمن وجود ربنا بالجسد على الأرض. وفعلة الثالثة عن الذين آمنوا بعد صعوده. وفعلة الساعة السادسة والتاسعة عن الذين آمنوا جيلاً بعد جيل. وفعلة الحادية عشرة هم الذين سوف يؤمنون في آخر العالم.
(8) فلما كان المساء قال ربّ الكرم لوكيله ادعُ العملة واعطهم الاجرة مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين.
يراد بالمساء انتهاء العالم الذي به تكون القيامة العامة، والوكيل عدل الله تعالى الذي يجازي كل واحد حسب أعماله، وبالاجرة والدينار مكافأة الأبرار في الملكوت. ثم ان المسيح يأمر باعطاء الاجرة مبتدئاً من الآخرين أولاً لصعوبة الأزمنة الاخيرة كقوله تأتي أيام صعبة (2 تم 3: 1). وثانياً، لأن المدعوين في الأخير يبقون أحياء دون أن يذوقوا الموت كقول بولس (1 تس 4: 15). وثم لأنه لا حسد في جهنم ولا تُعمل عجائب في الأزمنة الاخيرة كما كان في الأزمنة الأولى.
(9) فجاء أصحابُ الساعة الحادية عشرة فأخذوا كل واحد ديناراً (10) فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضاً كل واحد ديناراً (11) وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت (12) قائلين ان هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة فجعلتهم مساوين لنا ونحن حملنا ثقل النهار وحرَّه.
يراد بالساعة قصر الزمان أو آخر ساعة من حياة الانسان أو شهر أو يوم كما وقع للص ولمريم الخاطئة اللذين تبرّرا في ساعة واحدة. يُراد بالمساواة في الاجرة دخول جميع المؤمنين إلى الملكوت لا المساواة في المكافأة، لأن كل واحد سيُجازى حسب أعماله. وقول الأولين "اننا حملنا ثقل النهار وحره" يشير إلى الأتعاب والشرور الكثيرة التي احتملوها من اليهود. ولسائل يسأل لماذا لم يستأجر الجميع معاً. فنجيب أن المسيح استأجر الجميع معاً. فإن لم يسمعوا معاً فالعلة في اختلاف ارادتهم. ثم نقول انه دعاهم في خمسة أوقات، لأن الانسان ذو خمس حواس، ولأنه يتدرّج في خمسة أدوار وهي الطفولة والصبوة والشبيبة والكهولة والشيخوخة. ولأن التوراة خمسة أسفار، ولأن عهود الله لبني البشر عن ابنه الحبيب كانت مع آدم ونوح وابراهيم وموسى وداود. كقول الرسول بولس ان ليس مكان لعهد آخر لأن العالم بلغ إلى المنتهى.
(13) فأجاب وقال لواحد منهم: يا صاح ما ظلمتك. ألم أكن على دينار شارطتك (14) خذ مالك وامض فإني أريد أن أعطي هذا الآخر مثلك (15) أليس لي أن أفعل بمالي ما أريد أم عينك شريرة لأني أنا صالح (16) فعلى هذا المثال يكون الآخرون أولين والأولون آخرين. لأن المدعوين كثيرون والمختارين قليلون.
حسب ظني أن اليهود كانوا أولين وشعباً مختاراً، ولكنهم لما لم يؤمنوا بالانجيل فصاروا آخرين. والآخرون الذين صاروا أولين هم الشعوب الذين رجعوا من الضلالة وآمنوا بالانجيل فصاروا أولين. وقد ضرب هذا المثل تشويقاً وتشجيعاً للذين هم في الشيخوخة ليُقبلوا إلى الصلاح. ولكي لا يظنوا أنهم ينقصهم شيء، يشجّعهم بأنهم سيتنعمون مع الأولين في الملكوت حيث لا حسد ولا غيرة.

نموذج من "أمثال انجيلية"


5- الزرع الجيّد والزؤان (متّى 13: 24- 30)
أً- نص البسيطة
متّى 13: 24- 30


ب- تفسير نصّ البسيطة
مثلاً آخر أمثل لهم فقال: يشبه ملكوت السماوات رجلاً زرع
زرعاً طيباً في حقله. وإذ رقد الناس، أتى عدوّه وزرع زؤاناً بين
الحنطة ومضى. وإذ نما العشب وصنع ثمراً، حينئذ رأوا أيضاً الزؤان.
فاقترب عبيد ربّ البيت وقالوا له: سيّدنا، أما زرعتَ زرعاً طيباً
5. في حقلك؟ فمن أين يوجد الزؤان؟ أما هو فقال لهم: رجل
عدوّ صنع هذا. قال له عبيده: أتريد أن نمضي ونفرزه؟
أما هو فقال لهم: ربّما وأنتم تفرزون الزؤان تقلعون معه
الحنطة أيضاً. أتركوا الاثنين ينموان معاً حتى الحصاد. وفي زمن الحصاد
أقول للحصّادين: افرزوا أولاً الزؤان واربطوه حزماً
10. ليُحرق، واجمعوا الحنطة في أهرائي.

ج- تفسير ديونيسيوس
(24) وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً يشبه ملكوت السموات رجلاً زرع زرعاً جيداً في حقله.
إن هذا المثل هو غير ما تقدّم، لأن ذاك منهم قبلوه كقوله الأرض الجيدة ومنهم ما قبلوه كالطريق والصخرة والشوك. أما هذا الأخير، فقد قبله الجميع لأنه كان إشارة إلى الشيطان والرسل الكذبة والهراطقة الذين يزرعون زؤان تعليمهم بين زرع تعليمه الجيد.
(25) وفيما الناس نائمون جاء عدوّه وزرع في وسط القمح زؤاناً ومضى.
أراد بالنوم التغافل عن عمل الفضائل وبالعدوّ الشيطان. أما الزؤان فيرُاد به الأنبياء الكذبة الذين أدخلهم مع الأنبياء الحقيقيين، والرسل الكاذبين مع الرسل الصادقين. وقد مثّل بالزؤان أولئك الذين هم بالاسم مسيحيون وبالفعل بعيدون عن الأعمال المسيحيّة.
(26) فلما نمى النبت وأخرج ثمراً حينئذ ظهر الزؤان.
إنه يشير إلى أن الهرطقات مزمعة ان تظهر عندما تنمو الديانة المسيحية. وقوله "ظهر الزؤان" أي كما أن الزؤان يكون خفياً ثم يظهر، هكذا الهراطقة فإنهم يخفون أنفسهم ثم بعدما يقبلهم الناس معلّمين يُفرغون سم تعليمهم.
(27) جاء عبيد رب البيت وقالوا له: يا سيد ألم تكن زرعت في حقلك زرعاً جيداً فمن اين الزؤان؟
العبيد هم الملائكة، ورب البيت هو المسيح. فكأنهم يسألونه تعالى كيف وُجد الزؤان داخل الزرع.
(28) فقال لهم إن رجلاً عدواً فعل هذا. فقال له عبيده أتريد أن نذهب ونجمعه؟
فالعدو هو الشيطان وسماه عدواً لأنه ضد الله وبني البشر. ثم تأمل بمحبة الملائكة الذين يريدون إهلاك موجدي الطغيان.
(29) فقال لهم لا لئلا تقلعوا الحنطة مع الزؤان عند جمعكم له فيمنعهم الا يجمعوه لعل هؤلاء يقلعون عن رذائلهم ويرجعون إلى الحقّ.
(30) دعوهما ينبتان جميعاً إلى الحصاد وفي أوان الحصاد أقول للحصادين أجمعوا أولاً الزؤان واربطوه حزماً ليحرق وأما القمح فاجمعوه إلى إهرائي.
أراد بأوان الحصاد منتهى العالم وبالحصادين الملائكة. فإنه سيأمرهم بأن يجمعوا الهراطقة ويلقوهم في النار. وقوله اجمعوا، لا يفيد ان الهراطقة الآثمين يدخلون النار أولاً. لكن معنى قوله أولاً هو أن الصالحين سيسمعون صوت الديان العادل فيزول عنهم الخوف. أما الأشرار فيذهبون وحدهم إلى النار المعدة لابليس معلمهم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM