الفصل الرابع والاربعون: تكلّم يا ربّ فإن عبدك يسمع

الفصل الرابع والاربعون
تكلّم يا ربّ فإن عبدك يسمع
1 صم 3

في الفصل الثالث من 1 صم يختبر صموئيل الشاب إلهًا يتكلّم في صمت الليل. فالله هو هو الذي ظهر لانسان له خبرة طويلة مثل إيليا، ولانسان لا خبرة له البتة: سمع صوت الله، وظنّ أنه صوت عالي الكاهن. لم يكن بعد يعرف أن يميّز صوت الله من أصوات البشر. وهو معذور في ذلك. فكلمة الله كانت نادرة ورؤاه غير متواترة إن لم تكن معدومة (1 صم 2: 1)
سنقرأ 1 صم 3، ونتعرّف إلى خبر يحاول أن يحدّثنا عن خبرة مع الله جرت في الصمت وفي هدأة الليل.

1- تحديد النص
في البداية يقدّم النص (3: 1) الشخصين الذين سيكونان في قلب الخبر: صموئيل وعالي. غير أن هذه البداية ليست بداية مطلقة. فالكاتب يفترض أن القارئ يعرف هذين الشخصين. ومهما يكن من أصل هذا النص البيبلي، فهو يدخل في مجموعة واسعة.
صموئيل هو "نعر" أي صبي، فتى، شاب، حدث (رج 1صم 1: 22، 24، 26، 27؛ 2: 11). صموئيل "يخدم الرب". هذا ما قرأناه في 2: 11 (رج 1: 24؛ 2: 18): "وأما الصبي فكان يخدم الرب أمام (بحضرة) عالي الكاهن".
أما عالي المذكور في آ 1، فقد تعرّفنا إليه في 1 صم 1: 9. إنه كاهن.
أين ينتهي النص؟ في نهاية ف 3. ففي 4: 1 نقرأ: "وتوجّه كلام صموئيل إلى جميع اسرائيل". هذا تكرار لما قرأناه في 3: 19- 21. فصموئيل يتصرّف كنبيّ، فينقل كلمة الله التي اختبرها في ف 3. إذن، 1 صم 4 هو مقدّمة هامة بالنسبة للتاريخ الذي يبدأ تحت نظر صموئيل حامل كلام الله.

2- سياق النص
لا نستطيع أن نفصل 1 صم 3 عن 1 صم 1-2. فإن 1 صم 1 يورد الظروف التي أحاطت بالحبل بصموئيل وولادته. لم يكن لحنة، زوجة القانة، ولد. وخلال حجّ إلى معبد شيلو، نذرت لله نذرًا: يا رب، إن رزقتني مولودًا ذكرًا أقدّمه لك كخادم في معبد شيلو. واستجاب الرب دعاء حنّة فوفت بنذرها بعد أن فطمت الصبي.
كان عالي الكاهن يقوم بوظيفته في معبد شيلو (1: 9). وكان شاهدًا لصلاة حنة، وكان حوار بينه وبينها (1: 12-18). يعرف القارئ أن حنة تطلب ولدًا، ويعرف أيضًا أن لعالي ولدين هما حفني وفنحاس، وهما كاهنا الربّ. فلماذا لا يتصرّف الله بحسب المنطق البشري وينقل مشيئته عبر هذه السلالة الكهنوتيّة؟ لماذا يمنح الله نسلاً لامرأة القانة التي لا ولد لها؟ أما هذه علامة بأن ابن حنة ستكون له الاولوية على السلالة الكهنوتية؟ نحن أمام إيحاء يصل إلى القارئ الذي يعرف الخبر كله.
ويبدأ 1 صم 2 بنشيد حنة، وهو مزمور حقيقي تعبّر فيه أم صموئيل عن شكرها لله (2: 1-10). ثم يأتي خبر (2: 11-17) يصوّر لنا عمل ابنَي عالي. هذا العمل يحكم عليه الكاتب، ويعتبره معارضًا لمشيئة الرب. ونجد صورة معارضة (2: 18- 21) يبدو فيها صموئيل خادمًا بحضرة الرب. كان أبواه يأتيان إليه كل سنة. وينتهي الخبر بهذه الكلمات: "وكان صموئيل ينمو (يكبر، يشبّ) أمام الرب" (آ 21).
ونعود في 2: 22-26 إلى ابنَيْ عالي. وبَّخهما أبوهما بسبب سلوكهما المشين، "فلم يسمعا لكلام أبيهما". "أما صموئيل فكان ينمو في القامة والجمال أمام (أو: مع) الرب وأمام الناس أيضًا" (آ 26). "نما أمام الرب". عبارة مهمّة في ف 2 وهي تعطينا أفضل صورة عن صموئيل. لا نفهمها فقط على مستوى الجسد، بل على المستوى الديني والروحي. هذه العبارة تهيّئ الطريق للفصل الثالث الذي يصوّر خبرة صموئيل مع الله. ونلاحظ أخيرًا أن لوقا يستلهم 1 صم 2 لكي يتحدّث عن يسوع (لو 2: 40، 52).
وينتهي 2: 27-36 بقولة دينونة تجاه عالي وابنيه بفم رجل من رجال الله لا يُذكر اسمه. هذه القولة مهمّة جدًا، وهي تساعدنا على فهم ف 3 الذي يستعيد الحكم على عالي وابنيه.

3- بنية النص
قبل أن نقدّم بنية النص نتوقّف فقط عند آ 13. في القسم الأول (آ 13 أ) نقرأ: "أنبأته بأني أحكم على بيته إلى الأبد بسبب خطيئته". يرجع النص بصورة واضحة إلى ما يسبق، وهو اعلان الحكم على عالي (1 صم 2: 27-36).
في القسم الثاني (آ 13 ب) نقرأ في النص الماسوري: "يجدّفون (يلعنون) على أنفسهم". ولكن المعنى الاصلي هو: "يجدفون على الله" (كما في اليونانية). تمّ هذا التصحيح في النص اكرامًا لله ومنعًا لكل تجديف على اسمه.
ونعود إلى بنية النص فنجد فيه خمسة أقسام.
- الاول، آ 1-3: مقدّمة الخبر كله. بعد أن ذكّر النص بحضور صموئيل قرب عالي، وهذا ما يربطنا بما سبق (1 صم 1-2)، أشار إلى الحالة العامة (آ 1 ب)، ثم صوّر وضع كل من عالي وصموئيل: خلال الليل، كانا نائمين قرب المعبد "حيث تابوت العهد".
- الثاني، آ 4-9: نداء مثلّث يوجّهه الرب إلى صموئيل، فيظن صموئيل في كل مرة أنه يسمع صوت عالي. وترد آ 7 فتقدّم ملاحظة الراوي عن صموئيل الذي لم يكن يعرف الرب، ولا كان كلام الرب أعلن له.
- الثالث، آ 10- 15 أ: يرد فعلان: جاء الرب ووقف. ثم جاء فعل "دعا". نحن أمام نداء جديد لله يصل بنا إلى كلام يوجّهه الله إلى صموئيل.
- الرابع، آ 15 ب-18: وننتقل من كلام الله إلى صموئيل، إلى حوار بين عالي وصموئيل، يقف فيه عالي موقف السائل والمستفهم.
- الخامس، آ 19- 21: خلاصات تبرز بعض ما حصل لصموئيل بالنسبة إلى اسرائيل كله.
ما نلاحظه هو تفوّق السمع على النظر. فيرد فعل قال 14 مرّة. وفعل دعا 12 مرة. وفعل تكلّم 5 مرات. وكل من فعل سمع، عرف وأنبأ 3 مرات. وفعل كشف مرتين. أما عنصر النظر فقليل: الرؤى (آ 1 ب)، عيناه، يبصر (آ 2)، وقف (آ 10 أ)، الرؤيا (آ 15 ب)، يتراءى (آ 21 أ).
ونشهد في الخبر دورة حقيقية تدورها الكلمة، وهذا ما نراه في الحوار وتصرف الحاضرين:
* توجّه الله إلى صموئيل (آ 4، 6، 10، 11-14، 19، 21)
* توجّه صموئيل إلى عالي (آ 5، 6، 8، 16)
* توجّه عالي إلى صموئيل (آ 5، 6، 8، 16)
* أجاب صموئيل الصوت الذي يكلّمه (آ 10)
ونلاحظ أن "كلمة الرب" (آ 1، 7، 21) تتدخّل ككيان مستقل، مع أن الرب يتكلّم مباشرة في الخبر.
ونترقب بقلق: هل سيتعرّف صموئيل إلى ينبوع النداء، هل يتميّز الرب "كشخص" يكلّمه؟ تمّ التعرّف إلى الرب بوضوح بعد آ 11. ونحن نستعد لنرى نهاية الخبر في كلمة الحكم الذي يعني عالي وبيته، كما أنبأ به الله لصموئيل (آ 11- 14). في الواقع، تتبدّل النظرة بعد آ 15 وتُقلب الأدوار. في بدء النص، سأل صموئيل عالي. ولكن بعد تدخّل الله، لم يعد صموئيل يتجاسر أن يكلّم الكاهن. إذًا، أجبر عالي على اتخاذ المبادرة، فسأل صموئيل ليعرف ما الذي قاله الله.
وهكذا يتركّز الخبر على الكلمة، على كلمة الله كما يتميّزها صموئيل، وهي كلمة دينونة تحكم على عالي وبيته.

4- التحليل الأدبي
أ- المدخل (آ 1-3)
نجد هنا عرضًا للأشخاص وعرضًا للوضع الديني. يبدأ النصّ بصموئيل: "كان صموئيل الشاب يخدم الرب أمام (بحضرة) عالي" (آ 1). الشخص الأول هو صموئيل وهو يرتبط بعالي الذي لا يُسمّى كاهنًا في هذا الموضع.
صموئيل هو "نعر" أي شخص عمره بين 10 سنوات و30 سنة. إذن، نحن أمام فتى في سن المراهقة، لا صبي صغير.
وبعد تقديم "البطل"، يُعلن النصّ حكمه على الوضع الديني: "كانت كلمة الله نادرة في تلك الأيام. ولم تكن الرؤى متواترة (دارجة)". نجد موازاة بين الكلمة والرؤية. فهما الوسيلتان اللتان بهما يعرّف الله نفسه إلى الأنبياء وبواسطتهم إلى الشعب (مي 3: 5-8؛ مرا 2: 9). غابت هذه الوسيلة، فدلّ غيابها على حكم إلهي، دلّ على صمت من قبل الله. ونلاحظ أن الكلمة سبقت الرؤية، وهذا يعني تشديدًا على العنصر السمعي.
وتعرض آ 2 شخص عالي الذي لا يسمّى كاهنًا كما في 1: 9. يشير النصّ فقط إلى أن عالي كان "راقدًا في موضعه". الوقت ليل، والخبر يفترض أن كل شيء يتمّ في الليل (رج آ 15 أ: بقي صموئيل راقدًا حتى الصباح). كان عالي كبير السن (22:2). ولكن النص يشدّد هنا على ضعف نظره: بدأت عيناه تضعفان فلم يكن يستطيع أن يبصر. إن عمى الجسد قد يشير إلى عمى روحي، فيعطي الخبر مغزى رمزيًا. وفي الواقع، لم تتوجّه كلمة الله إلى عالي، كما أن قولة الدينونة تدلّ على خطيئة بيت عالي. ولكن لا نسوّد وجه عالي، لأنه هو الذي يساعد صموئيل على التعرّف إلى هويّة الزائر الليليّ.
وتحدّد آ 3 زمن الخبر ووضع صموئيل: "لم يكن مصباح الله منطفئًا" (هو مشتعل، فما الذي يوقظ صموئيل؟). كان صموئيل راقدًا في هيكل الرب حيث تابوت الله. ما زال المصباح مشتعلاً في المعبد، فهذا يعني أن الصباح ما زال بعيدًا. ولكن حضور صموئيل في المعبد يبدو غريبًا. فكيف يرقد هذا الخادم الشاب في الهيكل؟ هذا لا يليق بطبيعة المكان. هل يريد الكاتب أن يشدّد على ارتباط صموئيل بالهيكل وبالتالي بالله، وعلى ابتعاد عالي عنه. ولفظة "هيكل" تدلّ على قسم من معبد أورشليم. هذا يعني أن النص كُتب على ضوء هيكل أورشليم (نحن لا نعرف كيف كان معبد شيلو). وهناك مخطوطات يونانية قرأت آ 3 "في بيت الرب" (ما عدا 1: 9 و3:3). هذا ما نقرأه بصورة خاصّة في 3: 15 أ: "ثم فتح أبواب بيت الرب". أن ينام صموئيل في بيت الرب، ليس بأمر مشكك. ففي خر 33: 11 نقرأ أن يشوع لم يكن يبرح داخل خيمة اللقاء (أو خباء المحضر، خباء حضور الله).
وهكذا تؤكّد آ 3 أن المشهد الذي سيصوَّر، قد حدث في الليل. وتنبّه القارئ إلى أن صموئيل هو قريب من الله لا في المعنى المادي وحسب، بل في المعنى الرمزيّ والروحيّ.
ب- نداءات الرب (آ 4-9)
مع آ 4 تبدأ سلسلة من نداءات يوجّهها الرب بتدرجّ يشير إليه جواب عالي. ونلاحظ أيضًا طاعة صموئيل ومثابرته وثباته. نادى الله صموئيل ثلاث مرات. ولن ينقطع تسلسل المشاهد إلاّ مع آ 7.
نستطيع أن نكتشف في النداء الأول (آ 4- 5) ستة عناصر. الاول: نداء الله (دعا الرب صموئيل) (نقرأ في اليونانية: نادى الرب: صموئيل، صموئيل). الثاني: جواب صموئيل (أجاب: هاءنذا). الثالث: عمل صموئيل (ركض إلى عالي). الرابع: كلام صموئيل لعالي (قال له: هاءنذا، لأنك دعوتني). الخامس: جواب عالي (قال له: ما دعوتك. إرجع ونَم). السادس: تنفيذ الأمر (رجع ونام).
والنداء الثاني (آ 6-7) يشبه النداء الأول إلاّ في موضعين. أولاً، جواب عالي: "ما دعوتك يا بنيّ". تدل كلمة "بنيّ" على أبوّة روحيّة بين عالي وصموئيل الشاب. ثانيًا، ملاحظة الراوي التي نقرأها في آ 7. إنها تنبِّهنا إلى أننا أمام نوع خاص من المعرفة. عرف صموئيل الرب بواسطة أسرته، ولاسيّما والدته، وبواسطة عالي (معلمه)، وبواسطة شعائر العبادة التي شارك فيها في شيلو. ولكن ما لا يعرفه صموئيل هو الطريقة التي بها يتصل الله بالانسان عبر كلمة مباشرة. واستعمل النص كلمة "جلا" التي تدلّ على الكشف والوحي.
ويسير النداء الثالث (آ 8-9) بطريقة مماثلة. ولكن حين جاء صموئيل إلى عالي، قال الراوي: "فهم عالي أن الرب يدعو الفتى". ولهذا جاء جواب عالي مختلفًا جدًا: "اذهب فنم". "وإن دعاك أيضًا فقل: تكلّم يا رب، فإن عبدك يسمع". نلاحظ طريقة النص في الاشارة إلى الذي يدعو.
يتنظّم النص بحيث إن جوهر الخبر يكمن في اكتشاف هوية ذاك الذي يكلّم صموئيل. نداء مثلث يدلّ على صعوبة اكتشاف أصل النداء. وتفاعل صموئيل ثلاث مرات مع الصوت، فذهب إلى عالي. الله يتكلم في أعمق الاعماق. هذه هي خبرة صموئيل الجديدة التي لا نمزجها مع خبرة الايمان العادية ولا مع مظاهرها الخارجية. هذا ما قالته آ 7: نحن أمام كشف وخبرة وحي.
ج- مجيء الرب (آ 10- 15 أ)
بداية احتفالية وهي تختلف كل الاختلاف عن المشاهد السابقة: "جاء الرب ووقف (إنتصب حسب العبرية)" (آ 10 أ). يشدّد النص على أن الله اهتم بأن يأتي إلى لقاء إنسان. الله هو حاضر. لقد صار "مرئيًا"، لا بعين الجسد ولاشك.
وكانت نتيجة مجيء الله نداء احتفاليًا يتكرّر فيه اسم صموئيل: صموئيل، صموئيل. واختلف جواب صموئيل: "تكلّم فإن عبدك يسمع". رغم مشورة عالي، لم يسمّ صموئيل الشخص الذي يناديه. هل هذا الصوت هو حقًا صوت الرب؟ لا يريد صموئيل أن يعطي اسم الرب لصوت قد لا يكون صوته. تجاه عالي الذي تميَّز هوية الصوت (آ 9)، ظلّ صموئيل متحفظًا. نحن هنا أمام درس يتوجّه إلى كل الذين يلصقون اسم الله بأي اختبار كان!
وتبع مجيء الله هذا كلمة حكم على بيت عالي (آ 11-14)، وهي كلمة ترتبط بقدر كبير بنص 27:2-36 وسنعود إليه.
بدأ المشهد في آ 10 وانتهى في آ 15 أ. والقارئ يعرف أن كل ما سبق جرى في الليل. والاشارة "فتح أبواب بيت الرب" تعطي عبر التفصيل المادي، بُعدًا رمزيًا لعمل صموئيل. ما كان مغلقًا صار اليوم مفتوحًا بفضل حضور صموئيل.
د- حوار عالي وصموئيل (آ 15 ب-18)
وينطلق الخبر انطلاقة جديدة بفضل هذه الملاحظة السردية: "خاف صموئيل أن يقصّ الرؤية على عاليّ". ولماذا خاف؟ بسبب حكم الله القاضي على بيت عالي. وهناك تفسير آخر: لقد اكتشف صموئيل أن الله كلّمه بدون واسطة عالي. إذن، تبدّلت العلاقات بين الرجلين.
نشهد في آ 16 انقلابًا في الوضع. إتخذ عالي المبادرة ودعا صموئيل. فقال له صموئيل: هاءنذا. ظلت العلامة هي هي بين المعلّم والتلميذ، هذا في الظاهر. ولكن إن ظلّ صموئيل خاضعًا لعالي، فهو لم يعطه لقبًا، وعالي هو الذي سيسأل ليعرف ما تكلّم به الله. هنا يظهر انقلاب الوضع. فالكاهن يلحّ ليعرف الكلمة التي سمعها صموئيل، ولكنه لا يحصل على جواب مباشر. فالراوي يقدّم لنا جوابًا عامًا جدًا: "فأخبره صموئيل بكل الكلام ولم يكتمه شيئًا" (آ 18 أ). وانتهى المشهد برّد أخير تفوّه به عالي فدلّ على عمق إيمانه واستسلامه لله: "هو الرب. فليفعل ما يحسن في عينيه". وعرف عالي في النهاية أن الله كلّم صموئيل ولم يكلّمه هو.
هـ- الخاتمة (آ 19- 21)
هناك لا خاتمة واحدة، بل خاتمات. وكل واحدة ترتبط بعنصر من عناصر النص.
أعلنت آ 19 أ: "وكبر صموئيل وكان الله معه". هذا ما عرفناه في 2: 21- 26. كان الله مع صموئيل، كما كان مع موسى (خر 3: 12) ومع يشوع (يش 27:6).
الخاتمة الثانية: هناك تدرّج في التعبير عن العلاقة مع الله، وهذا التدرّج يرتبط بأشخاص معروفين مثل ابراهيم وموسى وداود.
ونقرأ في آ 19 ب: "لم يدَع شيئًا من جميع كلامه يسقط على الأرض". هل يدل هذا القول على أن صموئيل أتمّ كلام الله بحذافيره، فلم يهمل كلمة منه؟ بل هو يدل بالأحرى على أن الله أتمّ فيه كلماته تتميمًا دقيقًا. فنحن نقرأ في 2 مل 10: 10 عبارة مماثلة: "لا يسقط شيء من كلام الرب الذي تكلم به" (رج يش 21: 45؛ 23: 14؛ 1 مل 8: 56).
وجاءت آ 20 فأوضحت بمضمونها وألفاظها أنها عمل كاتب متأخر: "وعلم كل اسرائيل، من دان إلى بئر سبع، أن الرب ائتمن (إعتمد) صموئيل نبيًا". عيّنه نبيًا، هذا يفترض نظرة نبويّة متطوّرة لا نجدها مثلاً في 1 صم 9:9. واعترفت بوضعه كل القبائل. هذا ما يجعلنا في زمن الملكية. وعبارة "من دان إلى بئر سبع" تفترض ملكية موحدة. أما هنا، فهي تشدّد على أن صموئيل نبيّ للشعب كله. مثل هذا الاهتمام يفترض زمنًا تطرح فيه وحدة الشعب والاعتراف بالأنبياء.
وتكرّر آ 21 ما قالته آ 1 عن استمرارية الظاهرة التيوفانية كعلامة لحضور الله في شعبه. "وظلّ الرب يتراءى في شيلو. فالرب تجلى لصموئيل في شيلو بكلمة الرب". ولن يطرح السؤال: ماذا سيحلّ بهذا الحضور المستمر بعد موت صموئيل؟

5- ملاحظات اضافية
أ- على مستوى الكلمات ومدلولها
أولاً: نقرأ في آ 10: "ي ص ب": وقف، انتصب. حضر، وظلّ واقفًا. والفاعل هو الله. هذا أمر نادر. ففاعل فعل "ي ص ب" هو الانسان الذي يقف بحضرة الله أو الملك، أو يقف في الجماعة. فالانسان هو الذي يأتي إلى الله ي فعل العبادة، أو يتأمّل عمل الله في العالم (خر 13:14؛ 1 صم 7:12، 16؛ 2 أخ 6:20، 17). وهكذا فاستعمال فعل "ي ص ب" مع الله فريد من نوعه. وقد يكون نص قريب من النص الذي ندرس هو خر 34: 5، مع وجود حرف الجر: "فهبط الرب في الغمام، ووقف هناك معه ونادى باسم الرب". نحن هنا في إطار تيوفاني واضح.
وفي 1 صم 3: 10، نحن أمام عمل قام به الله. إهتم بأن يأتي إلى انسان من الناس. إذن، يحدّثنا الفعل عن حضور الله، ولا يقول لنا شيئًا عن طبيعة هذا الحضور. ويدلّ السياق على أن كل شيء يحصل في الليل، وأن الحضور الالهي ليس على مستوى الجسد، وأنه يتخذ شكل حوار ومحادثة.
ثانيًا: في آ 1 نجد كلمة "حزون" (رج فعل حزا في العربية وعلاقته بالكهانة ومعرفة المستقبل) التي تعني الرؤية كما في الأنبياء (أش 29: 7؛ حز 27: 6؛ 12: 22، 24، 27؛ 13: 16). ولكن اللفظة تتوازى هنا مع "كلمة". وهكذا يكون للفظتين معنى متقارب. هذا هو وضع هو 12: 11: "كلّمت الأنبياء واكثرت من الرؤى" (رج مي 3: 6-7؛ مز 89: 20).
ثالثًا: يرد فعل "جلا" ثلاث مرات في 1 صم 1-3 (27:2؛ 7:3، 21) بمعنى كشف، أوحى. إذن، نحن أمام وحي من النمط النبويّ. هذا يعني أن صموئيل نبي حقيقي والفعل عينه يستعمل ليدلّ على النشاط النبوي في عا 7:3: "إن الرب لا يصنع شيئًا (لا ينفّذ كلمة قالها) إلاّ ويكشف سره لعبيده الأنبياء" (هناك محاورة سريّة بين الرب وأنبيائه).
ب- النقد التاريخي
ليس خبر 1 صم 3 شهادة مباشرة أوصلها صموئيل إلى الكاتب. إنه يفترض مسافة كبيرة بالنسبة إلى زمن الشخص التاريخي الذي يصعب علينا أن نحدّد دوره. فصموئيل وجه متشعّب في الكتاب المقدس. إنه القاضي (1 صم 7: 5- 17)، والنبيّ (1 صم 3: 20)، والكاهن الذي يهتمّ بخدمة بيت الرب (1 صم 1-3). في زمن صموئيل، لم تكن هذه الوظائف مميّزة كما ستكون فيما بعد. غير أننا نستطيع أن نعتبر صموئيل على أنه القاضي، كما في سفر القضاة، والقاضي الذي كان شاهدًا وفاعلاً في تأسيس الملكيّة. سيهتمّ التقليد بالانتقال من حقبة القضاة إلى حقبة الملكية التي عمل فيها صموئيل. فهو الذي مسح شاول (1 صم 10: 1) ثم داود (1 صم 16: 1-13). ودور الوسيط هذا يفهمنا أن صموئيل اعتبر ملهمًا من الله في عمله، فسمّي نبيًا.
ج- قراءات لاهوتية
هناك أكثر من قراءة، والواحدة لا تلغي الاخرى.
الاولى: يبدأ النص فيسجّل واقعًا، هو صمت الله بعد أن كادت تختفي وسائل الوحي العبادية. نحن نكتشفه هنا. لم يُعتبر وحي الله لاسرائيل ظاهرة مستمرّة. فمن جهة قابلي الوحي، عرف الوحي أوقاتًا تكلّمَ فيها الله، وأوقاتًا صمتَ فيها. وصمتُ الله ليس نتيجة خطيئة الانسان. فالخبر لا يقدّم لنا مثل هذا التفسير.
الثانية: إذا عدنا إلى وجهة الوحي، رأينا أن الخبر يدعونا إلى قراءة رمزية. فانطلاقًا من الملاحظة الاولى، لا يستطيع الكاهن عالي أن يملأ هذا الفراغ: رجل كبير السن، وعيناه لم تعودا تبصران. يرافق العمى الطبيعي العمى الروحي، وإن لم يكن العمى كاملاً. فأشكال العبادة الخارجية باقية، وصموئيل نفسه يخدم الرب بحضرة الكاهن. ولكن كلمة الله لا تتوجّه مباشرة إلى عالي. غير أن الكاهن ليس ذلك الرجل الشرير. فهو الذي يساعد صموئيل على اكتشاف هوية الذي يكلّمه. وهو الذي يعرف في النهاية أن الله هو الذي تجلّى لصموئيل (آ 18)، وإن كانت كلمته في النص الحالي قبولاً بحكم الله.
الثالثة: ويلفت الخبر نظرنا بطريقة تعبيره عن تمييز الله وكلمته. فالنداءات الثلاثة طريقة أدبية يكون فيها العنصر الخاص كلمة يتلفّظ بها عالي. إنها تختلف هنا عمّا نجد في أخبار الدعوة. فالله لا يفرض نفسه، وإن اتخذ المبادرة، وإن لم يطلب صموئيل هذا اللقاء بالرب. بل إن الله يتكلّم في الصمت، في أعمق أعماق الشخص الذي يدعوه. يجب أن لا نتيه في الخبر. فتفاعل صموئيل الذي يسرع إلى عالي الذي لم يسمع شيئًا هو أمر يلفت النظر: الله يتكلّم في أعماق الانسان. هذه هي خبرة صموئيل الجديدة، وهي غير خبرة الايمان العادية، وغير المظاهر الموجودة في الصلاة أو الليتورجيا. لقد أفهمنا الكاتب (آ 7) أننا أمام خبرة وحي.
الرابعة: يختلف حضور الله لصموئيل عمّا نجد في تيوفانيات أوردها الكتاب المقدس. فالعنصر النظري يكاد يكون غائبًا (آ 10). يؤكّد حضور الله ولكنه لا يصوَّر. فنحن لا نستطيع أن نتمثّل الله ونتخيّله. يشير الخبر إلى هذا اليقين ويفترضه، فيعبّر أفضل تعبير عن خبرة الله.
الخامسة: المبادرة مبادرة الله. لكن الخبر يبرز أيضًا دور الوساطة البشرية في اكتشاف ما يتعلّق بالله. وهكذا لا يقلّل الخبر من دور عالي.
السادسة: إن لفتح أبواب المعبد بعدًا رمزيًا نفهمه إن عدنا إلى 2 أخ 29: 3 (فتح أبواب بيت الرب ورممها). أغلق الملك أحاز (2 أخ 28: 24) أبواب بيت الرب، فدل بفعلته على قطع العلاقات مع الله. وفتحها الملك حزقيا فدل على استعادة هذه العلاقات (2 أخ 29: 10: أبتُّ عهدًا مع الرب). إقترب صموئيل من الله، فأقام معه علاقة تعني جميع الشعب. ويتمّ التحوّل بين بداية الخبر ونهايته. في البداية كان صموئيل يخدم الرب، في النهاية صار الرب مع صموئيل (آ 19). وهذا التحوّل يرافقه تبديل في الوضع. فبعد آ 16 لم يعد صموئيل في موقف التلميذ، وإن حاول عالي أن يبقيه في هذا الدور. صار صموئيل ذلك الذي يكلّمه الربّ، وهذا وضع تقبّله الكاهن حين قال: هو الرب. أي هذا الصوت هو حقًا صوت الرب.
السابعة: إختار الله صموئيل من أجل الجماعة. فهو في خدمة كل اسرائيل الذي يجب أن يرى فيه ذاك الذي ائتمنه الله على رسالة. وهكذا صار صموئيل قريبًا من موسى. فقد قال التقليد: "موسى وهارون من كهنته، وصموئيل بين الذين يدعون باسمه" (مز 99: 6). إختار الله صموئيل كما اختار موسى، فنعم الاثنان بخبرة فريدة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM