الفصل الثالث والاربعون :الخمر والعنب في الكتاب المقدّس

الفصل الثالث والاربعون
الخمر والعنب في الكتاب المقدّس

1- أهمية الخمر في التوراة
تذكر التوراة الكرم والعنب للمرّة الأولى في خبر نوح. فتقول: "وابتدأ نوح يحرث الأرض وغرس كرمًا، وشرب من الخمر فسكر" (9: 20- 21). وكانت نتيجة هذا السكر عريًا استفاد منه حام لينال اللعنة في نسله، في كنعان. فالخمر شراب معروف منذ القديم في فلسطين. قدّم ملكيصادق الخمر إلى ابراهيم مع الخبز. هكذا كانوا يلاقون الضيوف العظام، فلا يكتفون بالماء. وكذا فعل يعقوب لينال بركة أبيه: قدّم له طعامًا فأكل، وأتاه يعقوب بخمر فشرب (تك 27: 25). أمّا ثمار البركة فهي الحنطة والخمر. وحين يبارك يعقوب ابنه يهوذا، يقول فيه: "يربط بالجفنة جحشه، وبأفضل كرمة ابن أتانه، غسل بالخمر (لا بالماء، علامة الوفر والغنى) لباسه، وبدم العنب رداءه" (تك 49: 11).
كانت الخمر شرابًا شعبيًا في فلسطين والبلدان المجاورة، وزراعة الكرمة منتشرة. وحين امتدح الكتابُ أرضَ فلسطين، امتدحها على أنّها أرض الخمر والزيت (تث 6: 11). فقال: "أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمّان، أرض زيت وعسل، أرضًا لا تأكل فيها خبزك بتقتير، ولا يعوزك فيها شيء" (تت 8: 8-9). وكانوا ينظرون نظرة خاصّة إلى عنب وادي أشكول، قرب حبرون (عد 23:13-24). واشتهرت أيضًا خمرة لبنان (هو 8:14: يكون ذكره كخمر لبنان) وخمرة حلبون قرب دمشق (حز 27: 18). إذا أراد الربُّ أن يبارك شعبه، وعده بالخمر. وإن أراد أن يعاقبه يحرمه منها. وإليك بعض النصوص. "الربّ يحبّك ويباركك... ويبارك ثمر أرضك من القمح والخمر والزيت" (تث 13:7). مقابل هذا تكون اللعنة: "تبني بيتًا فلا تسكن فيه، وتغرس كرمًا فلا تستغلّه" (تث 28: 30). "تغرس كرومًا وتفلحها، وخمرًا لا تشرب منها، لأنّ الدود يأكلها" (تث 28: 39).
ويقول سفر الأمثال: "أكرم الربّ من مالك ومن أوائل جميع غلالك، فتمتلئ أهراؤك وفرًا وتفيض معاصرك خمرًا" (3: 9-10). ويحدّثنا أشعيا عن كرم الحبيب الذي هو شعب الله. هذا الكرم لم يؤت ثمرًا، فهو يستحقّ اللعنة. وفي هذا الخطّ يهدِّد الربّ شعبَه بلسان هوشع: "أرجع فآخذ قمحي في حينه وخمري في آنها" (2: 11). حسبوا أنّ البعل بمطره هو الذي يعطيهم كلَّ هذه الغلال. ولكنهم أخطأوا. وحين يرجعون إلى الربّ، يرجع الربّ إليهم. وحين "يفهمون" يعطيهم الكروم: "أردُّ كرومها، وأجعل من وادي حكور باب الرجاء، فتُجيب إلى نداء الربّ كما في أيّام صباها" (2: 17).
ونقرأ أيضًا تهديدًا من الربّ لشعبه في عا 5: 11: "بما أنكم تدوسون المسكين وتأخذون حصّته من القمح، فأنتم تبنون بيوتًا من حجر ولا تسكنون فيها، وتغرسون كرومًا شهيّة ولا تشربون خمرها". ولكن حين يتحنّن الربّ، "تمتلئ البيادر، وتفيض المعاصر خمرًا وزيتًا" (يوء2: 24).

2- استعمال الخمر في الحياة اليومية
وماذا يقول الكتاب بشكل خاصّ عن النبيذ؟ إنّه ضروريّ من أجل حياة الانسان. "ما تحتاج إليه حياة الانسان هو الماء والنار والحديد والملح واللبن والعسل ودم العنب والزيت واللباس" (سي 39: 26). فالرجل الذاهب في سَفر يأخذ معه بعض الخمر (قض 19:19؛ والسامريّ الصالح في لو 10: 34). وكذلك الجنود في الحرب (2 أخ 11: 11). في زمن المكابيّين، كان الناس يخفّفون من قوّة الخمر بالماء (2 مك 39:15). ويستعمل الكتابُ بشكل خاص عبارة "دم العنب" (تك 49: 11؛ تث 32: 14؛ سي 5: 15) ليدلّ على أنّ النبيذ الذي يشرب هو أحمر اللون (أش 63: 1-2؛ أح 23: 31).
وكانوا يقدّمون الخمر في الولائم والأعياد (1 صم 36:25؛ 2 صم 28:13)، كما في الأعراس، على ما في قانا الجليل حيث سيؤمّن يسوع الخمر للحاضرين بعد أن نفدت، كما سيؤمّن للكنيسة خمرًا من نوع آخر عبر أمّه وتلاميذه واخوته الذين أبصروا مجده فآمنوا به (يو 2: 1-12). كانت الخمر دواء استعمله السامريّ على الجريح الذي التقى به في الطريق (لو 10: 34). وقد نصح بولسُ تلميذه تيموتاوس باستعماله: "خُذ قليلاً من الخمر من أجل معدتك وأمراضك المتواترة" (1 تم 15: 23). وكانوا يستعملون النبيذ أيضًا بشكل مخدِّر ليخفّفوا آلام الانسان. هذا ما فعلوا ليسوع حين كان على الصليب. "أعطوه خمرًا ممزوجة بمرّ ليشرب" (مر 15: 23).
وتحدّث العهدُ القديم بشكل خاصّ عن الخمر كدواء للقلوب الكسيرة، فيعيد إليها الشجاعة، والنفوس الحزينة فيسلّيها، وأصحاب الهموم لعلّهم ينسون. قال سفر الأمثال (31: 6- 7): "أعطوا المسكر لأصحاب المشقّة، والخمر للنفوس المرّة. فيشربوا وينسوا شقاءهم ولا يعودون يذكرون عناءهم". ها نحن قريبون من كأس العزاء التي يحدّثنا عنها إرميا: "لا يسقونهم كأس السلوان عن أب لهم أو أم" (16: 7).
ولكن للخمر أضرارًا، فكما تُنسي الانسان ألمه، فهي تستطيع أن تنسيه واجباته، أن تنسيه شريعة الله. وهكذا نقرأ في سفر الأمثال: "لا يليق الخمر بالملوك، ولا المسكر بالأمراء، فإن شربوا منها نسوا الشرائع، وخانوا قضيّة المساكين" (31: 4- 5). أجل، إنّ إكثار الخمر يصل بالانسان إلى نتائج وخيمة. "لمَن الويلُ لمن الشقاء، لمن المنازعات، لمن الشكوى، لمن الجراحات من غير علّة، لمن إظلام العينين؟ للذين يُدمنون الخمر، للذين يدخلون ليذوقوا الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا احمرّت وأبدت في الكأس حببها. إنها تسوغ مريئة، لكنها في الآخر تلسع كالحيّة وتبثّ سمّها كالأرقم. ترى عيناك الأمور الغريبة، وينطق قلبك بالكلام الباطل" (أم 23: 29-33؛ سي 18: 33؛ 19: 2). والسكر يُعتبر من أعمال اللحم والدم، التي تقود إلى الخطيئة وتستبعد الانسان من ملكوت الله. هذا ما قاله بولسُ في الرسالة إلى غلاطية: أصحاب القتل والسكر لا يرثون ملكوت الله (5: 21). وقال في 1 كور 6: 10: "لا السارقون ولا البخلاء ولا السكِّيرون ولا الشتّامون ولا الخطفة يرثون ملكوت الله".

3- استعمال الخمر في الحياة الدينيّة
يحدِّثنا إرميا النبيّ عن فئة اتّخذت موقفًا جذريًا من الحياة في المدن بشكل عامّ، فأرادت العودة إلى حياة البريّة على مثالا الآباء الأوّلين. إنّهم الريكابّيون الذين وُضع أمامهم خمر، فقالوا: "نحن لا نشرب خمرًا، لأنّ يوناداب بن ريكاب أمرنا قائلاً: لا تشربوا خمرًا أنتم ولا بنوكم إلى الأبد". ويتابع النصُّ: "ولا تبنوا بيوتًا ولا تزرعوا زرعًا ولا تغرسوا كرمًا، بل اسكنوا في الخيام" (5:35-7).
ولكن كان هناك فئة من الناس يسمّون "النُذَراء". نذروا نفوسهم، أو نذرهم والدوهم، فامتنعوا عن الخمر والمسكر لأسباب دينيّة. طلب ملاك الربّ من والدة شمشون أن "لا تشرب خمرًا ولا مسكرًا" (قض 13: 4). وقال الملاك جبرائيل عن يوحنّا المعمدان: "يكون عظيمًا أمام الربّ، ولا يشرب خمرًا ولا مسكرًا" (لو 1: 15؛ 33:7). وسوف يعطينا سفر العدد شريعة من ينذر نفسه للربّ ويتنسّك: "يمتنع من الخمر والمسكر، وخلّ خمر وخلّ مسكر لا يشرب، وكل نقيع عنب لا يشربه، ولا يأكل عنبًا رطبًا ولا يابسًا... حتى القشر لا يأكل" (6: 1-4). إذا كانت الخمر علامة الفرح، فالامتناع عنه علامة الحزن والتوبة. وإذا أراد الشعب أن يتمرّد على الربّ، يسقي النُذراء خمرًا، ويمنع الأنبياء من أن يتنبّأوا (عا 2: 12). وما يمنع النذيرُ نفسه عنه لفترة طويلة أو قصيرة، كانت تمنعه الشريعة عن الكهنة حين يقومون ببعض وظائفهم. وكلّم الربّ هارون قائلاً: "لا تشرب خمرًا ولا مسكرًا أنت ولا بنوك عند دخولكم خيمة الاجتماع" لا 8:10-9). وقال حز 44: 21 في الكهنة: "لا يشربون خمرًا عند دخولهم الدار الداخليّة".
هذا على مستوى الأشخاص، أمّا على مستوى الذبائح فالخمر لها أهميّتها أيضًا. هي لا تقدَّم وحدها، ولكنّها تُضاف إلى ذبيحة أخرى. مثلاً يُضاف إلى ذبيحة الحمل سكيب من الخمر تكون قيمتها ليترين تقريبًا. ومع ذبيحة النعجة ليتران ونصف الليتر، ومع ذبيحة الثور ما يقارب 4 ليترات من الخمر (خر 7:15، 10؛ 29: 40- 41؛ عد 5:15، 10؛ 7:28-14). أترانا في تقليد قديم يقدّم للآلهة طعامًا وشرابًا كما يقدَّم للضيوف العظام؟ في أيّ حال، ترك يسوع القسم الأوّل من الذبيحة والمحرقة، واحتفظ بالخمر التي ستصبح جزءًا من ذبيحته. لقد أصبح هو الخبز. لقد أصبح هو الخمر. هذا هو جسدي. هذا هو دمي.
هنا نتذكّر نوعًا من الذبائح هي ذبائح السلامة أو الوليمة الذبائحيّة. يذبح الكاهن الضحيّة ويأخذ حصّته ويترك الباقي لمقدّم الذبيحة فيأكلها مع الأهل والأصدقاء واللاّوي واليتيم والأرملة، ويفرح أمام الربّ. هذا ما فعله القانة زوج حنّة أمّ صموئيل (1 صم 1: 9-14). وما فعله موسى والذين معه على الجبل المقدّس: "رأوا الله وأكلوا وشربوا (خر 24: 11). وهذا ما فعله يسوعُ خلال العشاء السريّ فأعطى الخمر معنى جديدًا في إطار العهد الجديد (مر 14: 23).

4- استعمال الخمر في المعنى الرمزيّ
ولكن، سبق هذا المعنى في العهد الجديد الذي فيه صار الخبز يسوع والخمرُ يسوع، سبقه كلام يعتبر اسرائيل كرمة الربّ. اقتلعها الربّ من مصر كما يقتلع الانسان نصبة، وجعلها في كنعان. ولمّا صارت هناك، مدّت أغصانها في جميع الجهات. "غطّى ظلّها الجبال، وأغصانُها أرزَ الله. مدّت قضبانها إلى البحر وأفراخها إلى النهر" (مز 80: 11-12).
شعب الله كرمة زرعها الربُّ واعتنى بها أفضل عناية. هذا ما نقرأه في سفر أشعيا ونشيد الحبيب: "كان لحبيبي كرم في رابية خصيبة. حوّطه، نزع الحصى، وغرس فيه أفضل كرمة وحفر فيه معصرة" (5: 1-2). هذه الصورة سيأخذها يسوع ويجعلها في أمثاله. أرسل ربّ الكرم إبنيه للعمل في كرمه، أرسل عمّالاً إلى كرمه طوال النهار، من الفجر حتّى ما قبل المغيب، وسوف يتألّم من هؤلاء الكرّامين الذين ما اكتفوا بأن يضربوا مرسليه ويشتموهم، بل قتلوا ابنه لكي يرثوا الكرم. والكرم الجديد صار الكنيسة التي تتجسّد في شخص يسوع: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو 15: 1).
وقد لا تعطي الكرمة عنبًا، بل حصرمًا برئا، فتستحقّ أن تُقلع. هذا ما فعل الربُّ بالكرمة التي تحدّث عنها أشعيا. والانسان الشّرير يقول عنه الكتاب: يكون مثل كرمة سقط عنبها قبل أوانه ويبست أغصانها (أي 32:15-33).
وقال يسوع في هذا المجالس مشدّدًا على الاتّحاد به كالغصن بالكرمة: "إن كان أحد لا يثبت فيّ يُطرح خارجًا كالغصن فيجفّ فيجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق" (يو 15: 6).
وتأتي الصور الرمزيّة عديدة عن الكرم والعنب والخمر. فالكرمة عند ابن سيراخ صورة عن الحكمة (17:24). وهي تدلُّ على المرأة التقيّة (مز 3:128) وعلى الملك (حز 17: 5-7). وعصرُ العنب يدلّ على الدينونة الأخيرِة. وروح الانسان قد يُشبّه بالخمر: اختمر وهو يحاول الخروج من وعائه لكي يفيض في الخارج (أي 32: 19-20).
والاستعدادات الطيّبة لدى الانسان خمر غير ممزوجة (أش 1: 22). والتمتّع بالحبّ في نشيد الأناشيد يشبّه بشرب الخمر: "أشرب خمري مع لبني" (5: 1). فشربُ الخمر هو ذُروة السعادة لا للعريس وحده الذي يمثِّل الله الآتي إلى شعبه، بل لجميع رفاقه، لجميع الذين أرادوا أن يسيروا معه: "كلُوا يا رفاقي، اشربوا واسكروا يا أصحابي". تلك هي الخمر الجديدة التي تدلُّ على تعاليم يسوع، على حياة يسوع. ونحن نجعلها في وعاء جديد (متى 17:9). وكم نحن خاسرون، على مثال اليهود، إن اكتفينا بالعتيقة ورفضنا أن نذهب إلى الخمرة الجديدة. عند ذاك يقول لنا يسوع حرفيًا كما قال لأورشليم: "كم مرّة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا" (مت 23: 37).
لاحظنا في معرض حديثنا أنّ الخبز يرتبط بالخمر، كما يرتبط بالماء. كما لاحظنا أنّ الخمر يحمل الفرح ويكمِّل الذبيحة حين يقدَّم ويُسكب على المذبح. هذا الخبز وهذه الخمر وجدا مكانهما في حياة يسوع الذي قيل فيه إنّه "يأكل ويشرب"، يعني يعرف أن يشارك الآخرين في أعيادهم وإلاّ صحّت فيه الكلمة التي قالها في هذا الجيل: "زمّرنا لكم ولم ترقصوا". دعاه الأصدقاء، ودعاه الفرّيسيّون والعشّارون، بل هو دعا العشّارين إلى بيته إذا أخذنا بقراءة مر 15:2. بل هو قد صار الخبز الجديد الذي لا يجوع من يأكله، والخمرة الجديدة التي لا يعطش من يشرب منها. لهذا دلّ على الخبز وقال هو جسدي للعهد الجديد، ودلّ على الخمر وقال هي دمي للعهد الجديد. وهذا ما فعلته الكنيسةُ الأولى، وهكذا ما زالت كنيستنا تفعل وستظلّ تفعل حتّى مجيء الربّ، ساعة نستغني عن كلّ طعام ماديّ من أجل طعام الملائكة، ساعة يكون الرب كلاّ في الكله فلا نعود بحاجة إلى الأشياء والرموز. فنصبح نحن جسده ودمه، نصبح جسده السريّ في شبع يدلّ عليه الخبز، وفي فرح تدلّ عليه الخمر أفضل دلالة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM