الفصل الثاني والاربعون: الخبز والطعام في شعائر العبادة

الفصل الثاني والاربعون
الخبز والطعام في شعائر العبادة

تحدثنا في فصل سابق عن استعمال الخبز ورموزه في الحياة اليوميّة. وها نحن نصل إلى الخبز الذي هو عنصر هامّ في شعائر العبادة: نذكر خبز التقدمة، خبز البواكير، خبز التحريك، خبز ذبيحة الشكر.
ما هو خبز التقدمة؟ هو خبز يوضع في الهيكل مع الآنية المعدّة للسكيب. نقرأ في سفر الملوك الأوّل (7: 48): "وصنع سليمان جميع الأواني المعدّة لبيت الربّ: مذبح الذهب. المائدة التي يوضع عليها خبز التقدمة". وتحدّث سفر الأخبار الأوّل (13: 11) عن الكهنة واللاّويين "الذين يقدّمون المحرقات للربّ كلّ صباح ومساء، كما يقدِّمون البخور العطر، ويهيِّئون الخبز المقدّس (خبز التقدمة) على المائدة النقيّة. ويوقدون كلّ مساء، المنارة الذهبيّة وسرجها". كل هذه الشعائر استلهمها الكاتب الملهم حين دوّن سفر الخروج وما يتعلّق بتنظيم العبادة، سواء على مستوى التعليمات (24: 12- 31-18)، أو مستوى تنفيذ هذه التعليمات وترتيب النظم العباديّة (35: 1-39: 32).
وإليكَ ما نقرأ في سفر الخروج عن خبز التقدمة: "واصنع مائدة من خشب... ولبِّسها بذهب خالص... وضاع على المائدة الخبز المقدّس أمامي دائمًا" (23:25-30). حرفيًا: هو خبز الوجه، وخبز الله الشخصيّ. هذا الخبز قد أكل منه داود ورجاله حين قال له الكاهن: "ليس تحت يدي خبز عاديّ، ليس عندي إلاّ خبز مقدّس" (1 صم 21: 5). كان هذا الخبز محفوظًا للكهنة (لا 24: 5-9). ولكن يستطيع هؤلاء الرجال أنّ يأكلوه إن كانوا قد صانوا أنفسهم من المرأة، أي حافظوا على الطهارة التي تفرضها الشريعة قبل ممارسة الطقوس.
من أين جاءَت هذه العادة، بأن يضع الكهنة الخبزَ على "مائدة الله"؟ هي عادة قديمة جدًّا، وقد سبقت الشعب العبرانيّ بقرون وقرون. وهي تعكس عاطفة دينيّة قديمة تقوم بتقدمة الطعام إلى الاله. ولكن إله اسرائيل لا يأكل كسائر الآلهة التي يوضع لها الطعام فيأخذه كهنة المعبد (دا 14: 1- 21). يروي سفر القضاة ظهور ملاك الربّ (أي الربّ نفسه، والملاك يدلُّ على حضور الله) على منوح الذي أراد أن يستبقيه ويعدّ لها جديًا من المعز طعامًا. فقال ملاك الربّ لمنوح: "إن أنت استبقيتني، لم آكل من خبزك، أمّا إن صنعت محرقة فللربّ أصعدها" (13: 15-16).
من أجل هذا، سيبقى خبز التقدمة رمزًا إلى الاتّحاد بين الله والمؤمنين. وإليك ما يقول سفر اللاويين عن هذا الخبز. "خُذ سميذًا (أو حنطة) واخبزه اثني عشر رغيفًا... وأجعلها صفّين، كل صفّ ستّة منضّدة على المائدة الطاهرة أمام الربّ... في كلّ يوم سبت تصفّ أرغفة السميذ أمام الربّ دائمًا، وهي من عند بني اسرائيل... تكون لهارون وبنيه، فيأكلونها في موضع مقدّس" (24: 5- 9). هذا الخبز يدلّ على عمل وتعب الشعب بأسباطه الاثني عشر. تكون هذه الخبزات باسمهم فتبارك حياتهم وأعمالهم. هذه الخبزات تمثّل الشعب كله الحاضر أمام الربّ، وهي تكون لهم بمثابة عهد أبديّ، يتجدّد سبتًا بعد سبت على مثال هذه الأرغفة التي تُبدل يوم السبت وتُوضع مكانها خبزات أخرى. في هذا المعنى قد نفهم معنى القدّاس الأسبوعيّ في المسيحيّة الشرقيّة.
وهناك معنى روحيّ آخر لهذا الخبز أشرنا إليه، وهو الاتحاد بالاله. كان هذا الخبز يوضع على المائدة فيتشارك المؤمن والله، وهكذا يتّحد الانسان بربّه. هكذا أكل هارون وجميع شيوخ اسرائيل مع حميّ موسى أمام الله (خر 18: 12). وهكذا فعل أعيان بني اسرائيل في ختام العهد. "رأوا الله وأكلوا وشربوا" (خر 24: 11). غير أن النصّ يقول فقط أمام الربّ، لا مع الربّ. مثل هذا الطعام يوحِّد أعضاء الجماعة بعضهم ببعض، ويوحّدهم مع ربِّهم. أما هي الطريق بعد مسافة بعيدة إلى طعام نأكله مع الربّ في سرّ القربان المقدّس؟ نأكله على مائدة الربّ. نأكل الخبز، نأكل الجسد، فنتحدُ بكلِّيتنا مع الربّ. نشرب الخمر، نشرب الدم فتكون حياة الربّ فينا. ما كان شوقًا وانتظارًا في العهد القديم، صار حقيقة وواقعًا في العهد الجديد بعد أن رأينا الله في شخص يسوع.
وماذا عن خبز البواكير؟ هذا الخبز هو جزء هامّ من التقدمة التي يحملها المؤمنون في عيد الأسابيع، في عيد العنصرة. نقرأ في سفر اللاّويين ما يجب أن يُعمل في هذا العيد. "تأتون من مساكنكم بخبز للتحريك (أي للتقدمة)، برغيفين من سميذ ويُخبزان خميرًا" (23: 17). هذا الخبز هو باكورة الربّ. هو الغلّة الأولى في الأرض وأولى الثمار، وهي تعتبر الأفضل، لهذا تُقدّم إلى الاله، لا في عالم اسرائيل وحسب، بل في كل العالم القديم.
هذه التقدمة هي عرفان جميل لله الذي هو سيّد الطبيعة وينبوع كلّ خصب. وكان يرافق هذه التقدمة فعلُ إيمان يربط الآتي إلى المعبد بالخروج من مصر والعيش في أرض كنعان. كان المؤمن يقول: "أخرجنا الربُّ من أرض مصر بيد قديرة وذراع مبسوطة ورعب شديد وآيات ومعجزات، وأفضى بنا إلى هذا الموضع، وأعطانا هذه الأرض أرضًا تدرُّ لبنًا وعسلاً. والآن هاءنذا آت بأوائل ثمر الأرض التي أعطيتنا يا ربّ" (تث 8:26-10). إنّ تقدمة المؤمن هي جواب على سخاء الله في التاريخ. وعطيّة الله لنا تدعونا إلى أن نعطي الله ما لنا.
وتضمّن هذا الطقس أيضًا تكريس أوائل الثمر، ومن كرّس الجزء كرّس الكلّ. وبهذه الفعلة الرمزيّة تنتقل كل خيرات الأرض من النظام الدنيويّ إلى النظام القدسيّ. تصبح هذه الخيرات ثمارًا مقدّسة لشعب مقدّس. هنا نتذكّر فكرة تقول إنّ الجزء المقدّس يؤثّر على المجموعة كلِّها فيقدِّسها. نقرأ مثلاً في إر 2: 3 أنّ اسرائيل قدسٌ للربّ وباكورة غلّته. هو يحمل التقديس إلى الشعوب المجاورة وإلى الأرض التي يقيم فيها، كما كان آدم قد نجّس الأرض بخطيئته. ولذا يقول القدِّيس يعقوب عن المسيحيّين: "وُلدنا بكلمة الحقّ لنكون باكورة ما من خلائقه" (1: 18). والمرتدّون الأوّلون هُم باكورة مقدّسة في عجين العالم، وأصل مقدّس من أجل فروع (روم 11: 16) شجرة كبيرة ستأتي طيور السماء وتستظلّ أغصانها. وقد قال بولس عن أوّل المعمَّدين في كورنتوس بأنّهم "باكورة أخائية" (1 كور 16: 15)، بأنّهم كرّسوا نفوسهم لخدمة القدّيسين. وسيقول يوحنّا في سفر الرؤيا عن العذارى والبتولين، الذين لم يتنجّسوا بالنساء، أي لم يزنوا، لم يتعبّدوا للأصنام، بأنهم "باكورة لله وللحمل" (رؤ 14: 4).
وهكذا لم نعد فقط أمام خبز البواكير وماديّته، بل صار المؤمنون بدورهم باكورةً من أجل خلاص العالم وتقديمس الأرض. وعندما يطلب الكاهن في القدّاس من الروح القدس أن يبارك هذا الخبز وهذا الخمر ويحوّلهما إلى جسد المسيح ودمه، فهو يطلب أيضًا أن يتقدّس الذين يشاركون فيهما. فهم سيكونون باكورة تقديس يحملون القداسة إلى الذين حولهم حين ينطلقون بسلام مع بركة الله ونعمته.
لا نتوقّف طويلاً عند خبز التحريك وخبز ذبيحة الشكر كما يتحدّث عنهما سفر اللاّويين فيقول: "أيّ إنسان قرّبَ تقدمة للربّ فليكن قربانه سميذًا يصبّ عليه زيًتا ويجعل عليه بخورًا" (2: 1). أمّا الخبز الفطير فقد تحدّثنا عنه، بعد أن استُبعد الخمير من تقدمات العبادة لأنّه يرمز إلى الفساد. كلُّ هذا الخبز يجد تعبيرًا قديمًا عنه في تك 18:14 ساعة حمل ملكيصادق الخبز والخمر، وذهب إلى لقاء ابراهيم. فالخبز يعبِّر عن اتّحاد بين البشر، وبالتالي عن اتّحاد بين البشر والله. لهذا يتألّم صاحب المزامير من الصديق الذي وضع ثقته فيه: "أكل خبزي ورفع عليّ عقبه" (41: 10). وهناك خبز وشراب نتقاسمه في وقت الفرح كما نتقاسمه في وقت الحزن والضيق. هنا نفهم معنى المناولة في القدّاس. بالخبز والخمر نتّحد مع الربّ. بالجسد والدم نصير واحدًا مع المسيح. فالجسد يدلّ على الله الذي يقدّم ذاته كلَّها لنا من خلال رمز الخبز والخمر اللذين يتحوّلان بقدرة الله وحلول الروح، إلى جسد المسيح ودمه.
وهكذا بدا لنا الخبز عطيّة الله وثمرة عمل الانسان. فمنذ الفصول الأولى من سفر التكوين فهمَ الانسان أنّ عليه أن يأكل خبزه بعرق جبينه (تك 3: 19) هذا الخبز الذي يعطيه الله للبشر (مز 14:104)، ولاسيّما للأبرار (مز 37: 25). الخبز هو ما نأكله كلَّ يوم. وينصحنا الكتاب بأن نأكله بفرح (جا 9: 7)، ونتقاسمه مع الآخرين، لأنّ الربّ يبارك من يعطي الفقير من خبزه (أم 22: 9). وهذا الخبز نقدِّمه للربّ فيعود إلينا بركات وبركات، بركات ماديّة من وفر غلاّت وقطعان كبيرة، وبركات روحيّة ليس أقلها تلك السعادة التي نعم بها المؤمن العائش في أرض الربّ والمنظّم حياته بحسب قول الربّ. أجل في النهاية، كلام الربّ هو طعام المؤمن وهنيئًا لمن يجوع إلى خبز كلمة الله ويعطش لسماع كلام الله. في مثل هذا المناخ تحرّك يسوع وتلاميذه ليلة العشاء السرّي. ليلة أعطى يسوع كلمته، كما أعطى جسده ودمه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM