الفصل الحادي والاربعون :الخبز في الحياة اليومية

الفصل الحادي والاربعون
الخبز في الحياة اليومية

في العشاء السرّي أخذ يسوعُ الخبزَ والخمرَ ليجعل منهما جسده ودمه، وأعطاهما لتلاميذه طعامًا وشرابًا. وسبق له أن كثَّر الأرغفة في البرّية، فأعطى الجموع الغفيرة خبزًا يكفيهم بل يكفي الكنيسة حتى نهاية العالم بعد أن جمعوا من الكسر اثنتي عشرة قفّة. كما سبق له أن أعطى خمرة وفيرة ستجعل الرسلَ يسكرون يوم العنصرة سكرًا يرافق الكنيسة في مسيرتها على الأرض. خبز ليس كالخبز، خمر ليست كالخمر. وقصّة الخبز طويلة في العهد القديم منذ خبز نغتذي به في الحياة اليوميّة إلى خبز نقدّمه في شعائر العبادة. وقصّة الخمر طويلة في التوراة، في الحياة اليوميّة والدينيّة. وفي الرموز العديدة المرتبطة بها.
وهكذا يتوزّع موضوعنا في ثلاث محطّات. الخبز في الحياة اليوميّة. الخبز والطعام في شعائر العبادة. الخمر والعنب. ونتحدّث في هذا الفصل عن الخبز في الحياة اليوميّة تاركين لفصلين لاحقين ما يتعلّق بشعائر العبادة، وبالخمر والعنب.
الخبز (ل ح م) في العبرية، يدلُّ على الخبز كما يدلُّ على الطعام بشكل عامّ. نقرأ في تك 43: 31 أنّ يوسف أمر الخدم أن يقدّموا الطعام له ولاخوته. حرفيًا: أن يقدّموا الخبز. هذا يدلّ على أنّ الخبز كان الطعام الأساسيّ للإنسان لا في أرض فلسطين فقط، بل في الشرق القديم كلِّه. وهنا نستبق الأمور فنقول: إنّ يسوع اختار ما هو عاديّ ليعطينا ما هو فوق العادة. اختار خبز الأرض كي يعطينا خبز السماء.
الخبز مادّة ذات أهميّة كبرى. يُصنع في العائلة على مثال ما فعلت سارة حين جاء إلى ابراهيم ضيوفه الثلاثة (تك 18: 6). هو لا يُباع، بل يُعطى. وقد يقترض الانسان رغيفًا من جاره يردّه فيما بعد، أو يبادل الخبز بشيء آخر. هكذا قدّمت ابيجائيل 200 رغيف لداود ورجاله (1 صم 25: 18) فدلّت على كرم عطيّتها وحسن ضيافتها. ومن لا يعرف في الانجيل خبر الصديق الذي جاء إلى صديقه في الليل: "أقرضني ثلاثة أرغفة، لأنّ صديقًا لي قدم عليَّ من سفر" (لو 11: 5-6)؟
الخبز الأكثر استعمالاً هو خبز الشعير، لأنّ الحنطة كانت محفوظة للأغنياء والميسورين. فسفر الخروج يحدِّثنا عن حقول الشعير في مصر (9: 31). وسفر التثنية عن أرض فلسطين: "إنّها أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمّان" (8: 8). خبز الشعير كان طعام أليشاع ورفاقه، بني الأنبياء. أحضر إليه رجل عشرين رغيفًا من الشعير (2 مل 42). إنّ هذه الكميّة لا تكفي مئة رجل. ولكن أليشاع أمر خادمه أن يجعل هذا الخبز أمامهم. فأكلوا أرغفة من الشعير وسمكتين صغيرتين (9:6). ولكنّ يسوع سيجعل من القليل مباركًا فيكفي 5000 شخص. وزّعها على قدر ما شاؤوا. شبعوا كلهم، بل جمعوا 12 قفّة من الكسر أي من الخبز المهيّأ للذين يأتون بعدهم. فلا يبقى إنسان بلا خبز يأكله.
نستطيع القول إنّ هناك ثلاث فئات من الخبز: خبز الشعير للفقراء والفلاّحين. نقرأ في قض 13:7 عن رجل حلم حلمًا فرأى رغيف خبز من شعير. وخبز الحنطة للأغنياء. هذا ما قاله الربُّ لشعبه حين وعده بأغنى البركات، وعده بزهر الحنطة (لبّ الحنطة) فقال: "يطعمه من غلاّت الحقول ويرضعه من الصخر عسلاً، ومن صوّان الجلمود زيتًا، ولبن البقر وحليب الغنم... مع لبّ الحنطة ودم العنب" (تث 13:32-14). والفئة الثالثة، خبز الأيّام الصعبة، أيّام الحرب والضيق والمنفى، الذي يتحدّث عنه حزقيال (4: 9). ومع ذلك، فالحاجة إلى الخبز ضروريّة، وعنه لا يستغني أحد. هو حياة الانسان. هنا نفهم كلام يسوع عن الخبز الذي يعطيه: "من أكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (يو 6: 51). وهذا يعني أنه إن لم يأكل فسوف يموت.
يكون الخبز مخمّرًا أو بلا خمير. فالخبز الفطير يُصنع بسرعة ويؤكل حالاً. ذاك كان وضع العبرانيّين الخارجين من مصر: لم يكن لهم الوقت الكافي لكي ينتظروا العجين إلى أن يختمر. نشير هنا إلى أنّنا أمام تفسير لاحق ربط عيد الفطير الذي كان الفلاحون يحتفلون به في فلسطين، بالخروج من مصر. فعيد الفصح كما كان يعيِّده بنو اسرائيل حين أقاموا في فلسطين كان عيد رعاة (يذبحون الحمل، وهذا ما لا يُفعل إلاّ في المناسبات الكبرى) وعيد فلاّحين، وهكذا ارتبط عيد الفصح بالخبز الفطير يأكله الشعب ثمانية أيّام. وجرت العادة في بعض الكنائس بأن يكون خبز القربان، خبز الافخارستيّا، خبزًا فطيرًا لا خبزًا مختمرًا.
الخبز يُكسر ولا يُقطع. أتراه كان يابسًا بسبب مناخ البريّة الناشف؟ نقرأ في أش 7:58 نداء إلى الصوم الحقيقيّ: "تكسر خبزك للجائع". تلك هي اللفظة التي تُستعمل في تكثير الأرغفة في الأناجيل. في إنجيل مرقس، "نظر يسوع إلى السماء وبارك وكسر الأرغفة، وجعل يعطي التلاميذ ليقدِّموا للجمع". وفي النهاية جمعوا الكسر. والكسر هنا ليست الفُتات المتساقط على الأرض. بل هي خبز هيّأهُ يسوعُ من أجل الذين يأتون فيما بعد، من أجلنا نحن (مر 6: 41- 43؛ يو 6: 12). وسيتحدّث سفر أعمال الرسل عن "كسر الخبز" كدلالة على الافخارستيّا وسرّ القربان المقدّس. قال عن الكنيسة في أولى أيامها: "يكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بابتهاج وسلامة قلب" (2: 46). وأخبرنا لوقا عن قدّاس أقامه بولس في ترواس من أعمال تركيّا. قال باسم فريق العمل الرسوليّ: "اجتمعنا لنكسر الخبز، فأخذ بولس يكلِّمهم" (أع 20: 7).
عندما يعتق الخبز يصبح ليّنًا ويُقطع. ولكن عندما يكون طريًّا، يكون يابسًا. والخبز الطريّ والحارّ هو خبز طيّب. لهذا، فالخبز يُصنع كلّ يوم، حالاً قبل طعام الغداء الذي هو الوجبة الأساسيّة والتي كانت تتمّ عند العصر، بعد العودة من العمل. هنا نتذكّر أوّلاً كلام الربّ: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، أعطنا خبزًا يكفي كلّ يوم بيومه. ونفهم أنّ يسوع أنطلق من الحياة العبادّية ليرفعنا إلى أسمى الفكر اللاهوتيّ. عمليًا، الخبز يُصنع كلَّ يوم. والله بدوره يصنع لنا الخبز اليوميّ. فلماذا نهتمُّ بالغد؟ فالغد يهتمُّ بنفسه. ونعرف ثانيًا، أهميّة هذا الطعام اليوميّ الذي يدلُّ على عناية الله بشعبه، على عنايته بعياله كما كان معهم في البريّة فأمَّنَ لهم المنَّ والسلوى طعامًا، وأعطاهم من الصخر ماء. وهذا الطعام مهمّ أيضًا من أجل صحّة العائلة وحياتها وتماسكها. تماسك على المستوى الماديّ والعاطفيّ، تماسك على المستوى الاجتماعيّ والدينيّ، مع مكانة محفوظة للضيف الذي قد يمرّ بنا كما مرّ الله بابراهيم عند الظهيرة فهيّأ له أبو الآباء وليمة. السميد الناعم عجنته امرأته وصنعته فطائر. وذهبَ هو فذبح عجلاً رخصًا. ثمّ أخذ لبنًا... قدّم لذلك الضيف أفضل ما عنده (تك 18: 6- 8). بل قدّم له العجل على ما سيفعل الأب المحبّ حين يعود إليه ابنه من البعيد. ذبح له العجل المسمّن (لو 23:15).
والخبز يترافق مع الماء. هذا ما قاله ابراهيم لضيوفه الثلاثة: "يُقدّم لكم قليل من الماء فتغسلون أرجلكم وتستريحون. وأقدّم كسرة خبز فتسندون بها قلوبكم" (تك 18: 4- 5). عمل بسيط جدًا قام به ابراهيم، قالت فيه الرسالة إلى العبرانيين (13: 2): "لا تنسوا ضيافة الغرباء، إذ بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يعلَمون". وسيقول الآباء إنّ هؤلاء الثلاثة ليسوا فقط ملائكة، بل هو الثالوث الأقدس حلّ ضيفًا على ابراهيم (نتذكّر هنا أيقونة رُوبليف). ولماذا نتعجّب من هذا الكلام، والآباء قرأوا العهد القديم على ضوء العهد الجديد، تذكّروا كلمات يسوع بعد العشاء السريّ في إنجيل يوحنّا: "إن أحبّني أحد يحفظ كلمتي، وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا" (يو 14: 23).
هي رغبة عميقة تاق المؤمنون إليها في العهد القديم. فصلّى سليمان: "هل يسكن الله حقًا على الأرض؟ إنّ السماوات وسماء السماوات لا تسعك فكيف يسعك هذا البيت الذي بنيته" (1 مل 27:8)؟ ومع ذلك، فقد جاء الله إلى موسى في العلّيقة، وإلى جدعون على البيدر، وإلى منوح، والد شمشون، في صرعة من قبيلة دان. وقال الربّ بلسان نبيّه حزقيال إلى الشعب: "أقطع له عهد سلام، عهدًا أبديًا يكون معهم. يكون مسكني بقربهم وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا" (37: 26- 27). وينشد زكريّا: "اهتفي وافرحي يا بنت صهيون (أي يا شعب أورشليم)، فهاءنذا آت وأسكن في وسطك" (2: 14). هي رغبة ستجد تمامها في سفر الرؤيا. "إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه، فاتعشّى معه وهو يتعشّى معي". هو عشاء المحبّة كما اعتاد المسيحيّون الأوّلون أن يفعلوا وهو الاحتفال بالافخارستيّا وكسر الخبز.
الخبز والماء هما الحاجتان الضروريّتان من أجل حياة الانسان. قال الكتاب عن داود الذاهب إلى الحرب في خدمة شاول: حمّله أبوه يسَّى "خبزًا وزقّ خمر" (1 صم 16: 20). لقد ارتفعنا هنا فوق الشراب العاديّ. وهكذا ظهر الخبز والخمر كرفيق للانسان في سفره. أمّا إرميا في سجنه فسيكون له رغيف من الخبز (37: 21) وربّما بعض الماء. فالخبز والماء هما أقلّ ما يمكن أن يعطى لإنسان وصل إلى حافة الموت من المرض والتعب. قال أليفاز معاتبًا أيوب: "لم تسق المنهك ماء، ومنعتَ الخبز عن الجائع" (أي 22: 7). الخبز هو ما يجعل علاقة بين البشر فقالوا: "عهد الخبز والملح". بل هو علاقة مع الله يهنّئنا إذا أطعمنا الجائع وسقينا العطشان (مت 25: 35).
فالخبز للمؤمن هو عطيّة الله، وقوّة يتقبَلها المؤمنُ من الله. أنشد المرتِّل في مز 104: 14-15: "تنبت للبهائم عشبًا، وللبشر نباتًا يُخرجون منه خبز الأرض... يسند الخبز قلبَ الانسان". فالله هو الذي يعطي المطر، ويعطي الغلّة، ويعطي الطعام لشعبه. لهذا علّم يسوع تلاميذه أن يقولوا للآب السماوي: "أعطنا خبزنا كفافنا اليوم" (مت 6: 11).
والخبز رمز وعلامة. رمز إلى الحكمة والعقل والعهد، وعلامة عن السلام والملكوت والحياة. يصوّر سفر الأمثال "السيّدة" حكمة كربّة بيت ذبحت ذبائحها ومزجت خمرها وأعدّت مائدتها، وقالت للجهّال: "هلمّوا كلوا من خبزي واشربوا من الخمر التي مزجت. أتركوا السذاجة فتحيوا" (9: 1-6). الخبز يعطى جسد الانسان سعادة، والحكمة روحه. ويقول ابن سيراخ عن الحكمة: "تُطعم الانسان خبز العقل وتسقيه ماء الحكمة" (3:15). نلاحظ هنا ظهور الخبز والخمر والماء، التي هي مادّة الذبيحة في القدّاس.
أمّا على مستوى العهد، فنتذكّر ما فعله يعقوب بعد أن اتّفق مع لابان. هو العبرانيّ يتّفق مع الأراميّ، لئلاّ تكون حرب بينهما. "ذبح يعقوب ذبيحة في الجبل ودعا إخوته ليأكلوا خبزًا، فأكلوا وباتوا في الجبل". هي صورة الامان والسلام بين فئتين بعد أن ربط بينهما الخبز. وكم يتألّم الانسان من شخص أطعمه خبزًا فردّ عليه الخير بالشّر. قال عو 1: 7 عن ممالقي الشعب: "أكلوا خبزك وجعلوا فخًّا من تحتك". وقال مز 41: 10 كلامًا سيردِّده يسوع (يو 13: 18) فيدلّ على عمق الخيانة، وعلى التجريح بقدر الخبز في عيون الناس: "وحتّى الصديق الحميم الذي اتّكلت عليه أكل خبزي ورفع عليَّ عقبه".
والخبز يدل على الملكوت، كما يدلُّ على الحياة. يسوع هو الملكوت، يسوع هو خبز الحياة. وهكذا نصل من خلال هذه الصور الموزّعة في الكتاب المقدّس إلى القربان الذي ليس بذبيحة خارجيّة بالنسبة ليسوع، بل هو ذبيحة يسوع نفسه. على ما قال الربُّ في الرسالة إلى العبرانيّين: "ذبيحة وقربانًا لم تشأ... هاءنذا آت لأعمل بمشيئتك"، بعد أن هيّأت لي جسدًا للذبيحة (7:10-8).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM