الفصل السابع والثلاثون :حنان الرب ورأفته

الفصل السابع والثلاثون
حنان الرب ورأفته

توسّعنا طويلاً في جذر "رحم" على مستوى الصفة والفعل والاسم. ولكن هناك لفظتين قريبَتين من الرحمة وهما ترافقان استعمالها في الكتاب. الأولى تتحدّث عن الحنان، والثانيّة عن الرأفة وما يشابهها من عواطف.

1- الحنان
يعود الحنان إلى فعل "حنَّ". حنت القوس أيّ مالت وانحنت. تلك هي صورة الوالد الذي ينحني ليصبح على مستوى طفله. وعلى المستوى الأدبي، الحنان هو العطف والشفقة والرحمة ورقّة القلب.
يُستعمل الفعل مرارًا كمتعدّ على مفعول واحد أو مفعولَين. نقرأ مثلاً في خر 33: 19: "أنا أجيز جميع جودتي (أجعل جودتي تعبر) أمامك، وأنادي باسم الربّ قدّامك وأحنّ (أي: أظهر حناني) على من أحنّ، وأرحم من أرحم". ونسمع دعاء يوجّهه المرتّل إلى الله: "تحنّن عليّ واسمع صلاتي" (مز 4: 2). "تحنّن، يا ربّ، لأني ضعيف، إشفني يا رب، لأنّ عظامي ترتجف" (3:6). "تحنّن، يا ربّ، لأني في ضيق. أكلَ الغمُّ عينيّ وحلقي وبطني" (31: 10). هذا يعني أنّني صرت قريبًا من الموت.
يرد الاسم "ح ن" 67 مرّة في العهد القديم، وهو يعني النعمة واللطف والحظوة. نجده مرة واحدة مع أل التعريف ومرة واحدة مع الضمير. نجده دومًا في صيغة المفرد، فيدلّ على استعدادات شخص تجاه شخص آخر. والصفة "ح ن و ن" تعني كما في العربيّة فتدلّ دومًا على الله. في معظم المرات يترافق "ح ن و ن" مع "ر ح و م". إرتبطت المراحم برحم المرأة. وارتبط الحنان بعاطفة أموميّة وأبويّة، وهذا واضح في الجذر العربي. فالربّ هو حنون في عمله كأب. يهتمّ بالضعفاء والمساكين ويدافع عنهم. فنقرأ في خر 22: 26: "إذا صرخ (المسكين) إليّ أسمع له، لأني حنون". وفي مز 145: 8-9 نجد في آية أولى: حنون، رحوم، طويل الأناة، كثير المراحم.
وفي آية ثانيّة: الربّ صالح (طيّب) للكلّ، ومراحمه على كلّ أعماله (خلائقه). فالحنان في مع الطيبة والصلاح.

2- الرأفة
هذه الكلمة العربيّة تقابل "ح س د" في العبريّة التي هي لفظة غنيّة جدًا بحيث لا تستطيع كلمة واحدة أن تحيط بكامل مدلولها. إذا عدنا إلى القاموس نجد: الفضل، الإحسان، الحب، الرحمة، الرأفة، النعمة... هناك أوّلاً الغيرة والرغبة والحميّة، ثم اللطف تجاه الآخرين، والشفقة تجاه الآخرين، والشفقة تجاه الذين يعرفون الضيق. ونجد عبارة "صنع رحمة مع". أيّ تصرّف تجاهه باللطف والرأفة. وهناك حظوة الله ونعمته وإحسانه تجاه البشر.
منذ البداية دلّت "ح س د" على الموقف الذي يفرض نفسه بين أشخاص يربطهم رباط خاص. طلب ابراهيم "ح س د" من سارة امرأته. ووعد ابراهيم أبيمالك. وانتظر اليعازر من إله سيّده ابراهيم. "ح س د" هو موقف يقفه داود من بيت شاول تذكّرًا للصداقة التي ربطته بيوناثان بن شاول.
إنّ "ح س د" تعبّر عن الأعمال والمواقف التي تستند إليها الحياة الاجتماعيّة. إنّها المناخ من الثقة والصدق بين البشر. بدونها تصبح الحياة مستحيلة. وموضوع "ح س د" يقف في أساس سفر راعوت. فنعمي وكنّتاها حافظن على الأمانة لأزواجهنّ. ونعمي سلّمت كنّتيها إلى "لطف" الله (1: 8) الذي أظهر "محبّته" للأحياء والأموات (2: 20). إن كان هذا على مستوى البشر، فما يكون على مستوى الله؟
لن نذكر المواضع التي فيها ترد لفظة "ح س د". فهي كثيرة جدًا. أمّا أصلها فما زالت مجهولاً وإن ورد في الأدب العبريّ والأراميّ والسريانيّ والمندعي. قد يعود إلى العربيّة مع فعل "حشد" الذي يعني ارتبط في صيغة المفرد، ما عدا 18 مرة في صيغة الجمع بينها ثلاث مرات في المعنى الدنيوي و13 في المعنى الديني.
إذا أردنا أن نُجمل المعنى الدنيويّ للفظة "ح س د"، نقدّم ثلاث ملاحظات. الأولى، لسنا فقط أمام موقف، بل أمام فعل ينتج من هذا الموقف من أجل حفظ الحياة وإنمائها. الثانية، هناك الطابع الاجتماعيّ. واحد يُظهر "ح س د" أو ينتظرها من قريبه أو صديقه. الثالثة، علاقة "ح س د" مع "ا م ت" أي الأمانة المفروضة داخل العائلة الصغيرة أو الكبيرة. "لا تدع الرأفة والأمانة تتركانك. تقلّدهما على عنقك، أكتبهما على لوح قلبك" (أم 3: 3). "الرحمة والأمانة لمن يزرع الخير" (14: 22).
وما قلناه على المستوى الدنيويّ نقوله على المستوى الدينيّ. الله يصنع رحمة. يرسل رحمة. يذكر رحمة. يحفظ رحمة. فالذين أظهر الله لهم رحمته هم ابراهيم، يعقوب، أهل يابيش جلعاد، مسيح الربّ، داود، أيوب، راعوت.... وكيف يُظهر الله لطفه ورحمته؟ بالقدرة والعزّة. بالنصر والخلاص، بالحقّ والانصاف، بالعزاء، بالمعجزات.
أمّا ما تعني رأفة الله ورحمته بالنسبة إلى شعبه، فنجده في عبارَتين ليتورجيَّتين. الأقدم ترد في خر 34: 6 "رح و م. ح ن و ن. رب- حسد" وهي تعود في مز 8:103؛ عد 18:14. لا يتبدّل العنصران الأولان (حنون، رحوم)، فيغتنيان بعناصر عديدة مثل طول الأناة، والأمانة، والمسامحة، والعودة عن الشرّ. هذا ما يدلّ على أنّنا في التقليد اليهوهيّ بصوره التي تشبّه الله بالإنسان.
والعبارة الليتورجيّة الثانية نجدها في مز 100: 5: "الربّ صالح. إلى الأبد رحمته (حسدو). وإلى جيل وجيل أمانته". عبارة جاءت بعد المنفى البابليّ (587 ق م)، وسوف تلعب دورًا كبيرًا في الهيكل الثاني الذي أعيد بناؤه سنة 518 ق م.
إنّ تاريخ شعب الله في الماضي والحاضر والمستقبل، إنّ تاريخ الأفراد والجماعات، بل تاريخ العالم، يدلّ على لطف الله ورأفته. وعدَ الله شعبَه بالحياة، بالعناية، بالنجاة من الضيق، بالحماية. وقد ملأ الأرض كلّها من رأفته. وهذه الرحمة ليست موقفًا عابرًا، بل تصرّف ثابت ومستمرّ، أعلنه الله بفم أنبيائه، وحقّقه في شعبه وفي حياة مؤمنيه.

خاتمة
تلك نظرة إلى الألفاظ التي تشير إلى رحمة الله: المراحم، الحنان، الرأفة. ومعها الأمانة والصدق والثبات. ومعها نسيان الماضي وما فيه من شرّ وتذكّر المؤمنين العائشين في الضيق. ومعها رفض الغضب وطول البال. هذا الاله "الذي لا يخاصم على الدوام، ولا يحقد إلى الأبد". "الذي لا يعاملنا حسب خطايانا، ولا يجازينا حسب ذنوبنا". "ترتفع رحمته على خائفيه كارتفاع السماء على الأرض. يُبعد عنا معاصينا كبعد المشرق عن المغرب. الربّ يرحم أتقياءه كما يرحم الأب بنيه" (مز 103: 9-13).
وبعد الألفاظ، نتوقّف عند اهتمام الله بالضعفاء والمساكين، باليتامى والأرامل والغرباء. هو أب يهتمّ بأبنائه على مستوى حاجات الجسد. هو ملك يهتمّ بعبيده، لأنّه مسؤول عن كلِّ واحد منهم، ولاسيّما صغار القوم فيهم هذا ما ندرسه في الفصلين التاليين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM