الفصل السادس والثلاثون :رحمة الله في اللغة وفي النصوص

الفصل السادس والثلاثون
رحمة الله
في اللغة وفي النصوص

"الرحمة هي الكلمة الأساسيّة في الليتورجيا اليهوديّة، بل في الحياة اليهوديّة كلّها. قد تُسمّى رحمة ومراحم، المحبّة والحنان. فلا تقارب متبادل بين الله والانسان إلاّ بالرحمة".
هذا الكلام لأندره ناهر، الأستاذ في جامعة ستراسبورج، يفتتح كلامنا عن مفهوم الرحمة في العهد القديم، وهو امتداد لما قرأناه منذ البداية في سفر الخروج: الربّ يصنع رحمة إلى ألوف من محبّيه وحافظي وصاياه، وما نقرأه في نهاية مسيرة التوراة وانطلاقها إلى العالم الوثني مع سفر يونان. قال النبي مخاطبًا رافضًا: "علمت أنَّك إله حنون رحيم، طويل الأناة وكثير الرأفة، ونادم على الشّر".
في هذا المقال ننطلق من النصوص الكتابيّة فنتعرّف في قسم أوَّل إلى الألفاظ التي تشير إلى رحمة الله وحنانه. وفي قسم ثان نتعرّف إلى رحمة الله تجاه الضعفاء والمساكين. وفي قسم ثالث نتعرّف إلى هذه الرحمة تجاه الخطأة، سواء كانوا من اليهود أم من الوثنيّين.
ونبدأ بدراسة الألفاظ تاركين القسمين الثاني والثالث إلى فصلين لاحقين. هناك ردّة تتكرّر مرارًا في التوراة، وهي تذكر الألفاظ المتعلّقة برحمة الله: فهو الرحيم، وهو الحنون، وهو المحبّ، وهو الرؤوف، وهو الطويل الأناة. فالله يتأخّر ولا يغضب سريعًا. هو يعود عن قراره بأن يعاقب، أن يُعامل المؤمنين "بالشّر"، أي بالضربات التي تصيبهم.
بعد أن حطّم موسى لوحَي الوصايا، طلب منه الربّ أن ينحت "لوحَي حجر كالأوَّلين" ويحملهما أمام الربّ. حينذاك هبط الربّ في الغمام وقال: "الربّ الربّ إله رحيم وحنون، طويل الأناة، كثير الرأفة والأمانة". هكذا دلّ على أنّه غفر لشعبه بعد الخطيئة التي اقترفها حين عبد العجل الذهبيّ فاستحقّ أن يفنى عن بكرة أبيه. وتتكرّر لفظة الرحمة في المزامير مرارًا. نقرأ في مز 86: 15: "وأنت أيُّها السيّد رحيم، حنون، طويل الأناة، وافر الرأفة والأمانة". وفي مز 103: 8: "الربّ حنون، رحيم، طويل الأناة، كثير الرأفة" (رج 4:111؛ 8:145)
نتوقّف عند الصفة "رحيم"، عند الاسم "رحمة" وعند الفعل بجذره "ر ح م" الذي يعني أحبّ، رحم، شأنه شأن سائر معاني هذا الجذر في اللغات الساميّة.

1- رحيم
ترد هذه الكلمة في العبريّة بشكل "رح و م"، وتظهر أربع عشرة مرة في أسفار الخروج (34: 6) والتثنية (4: 31) ويوئيل (2: 13) ويونان (4: 2) والمزامير ونحميا (9: 17؛ 9: 31) والأخبار الثاني (30: 9). في أية مناسبة ترد هذه اللفظة؟ بمناسبة خطيئة الشعب. هذا ما اكتشفناه بالنسبة إلى خر 34: 6، أو بمناسبة الضيق الذي يُحسّ به الشعب، ولاسيّما في زمن المنفى.
نقرأ في تث 4: 30- 31: "وإذا ضيّق عليك، وأصابتك هذه الأمور كلّها، في آخر الأيام، ترجع إلى الربّ إلهك وتسمع لصوته، لأن الربّ إلهك إله رحوم لا يخذلك ولا يبيدك ولا ينسى عهد آبائك الذي أقسم به لهم". خطئ الشعب فنال العقاب حياة في المنفى. وإن عاد، وجد تجاهه إلهًا يرحم. ويرتبط بإله الرحمة هذا ثلاثةُ أفعال في صيغة النفي: لا يخذلك، لا يتخلّى عنك، لا يتصرّف وكأنه نسيك فلم يَعُد يهتمّ بك. نحن هنا في موقف سلبيّ، ولكن النتيجة تبدو مرعبة للمؤمن الذي ينتظر من الربّ الخلاص والصحّة والحياة. والفعل الثاني يدلّ على موقف إيجابيّ، ونتيجته أخطر من نتيجة الفعل الأوَّل: أباد، دمّر، أفنى. فالربّ هو سيّد الحياة والموت، وهو يستطيع كلّ شيء. ولكنّه لا يفعل. والفعل الثالث يرتبط بالميثاق (بالعهد) الذي قطعه الله مع الآباء. يرى سفر التثنية أنّ الربّ هو إله الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب (تث 1: 21). حلف لهم أن يعطي الشعب أرض كنعان. أحبّهم فاختارهم. ارتبط بهم وعقد معهم عهدًا يصل إلى أبنائهم. خسر الشعب هذه الأرض يوم خطئوا، ولكن الربّ ظلّ أمينًا لعهده لأنَّه الإله الذي يرحم.
أمّا في المزامير فترد هذه الصفة عندما "يشتعل" غضب الله. هنا نتذكّر أنّ الله لا يغضب كما يغضب البشر. فغضبه رفض للشرّ الذي فينا. غير أنّ العهد القديم لم يكن يميّز بين الشرّ والأشرار. ولكن الله "لا يريد هلاك أحد" (مز 78: 38). في وقت الشّر والاضطهاد، أطلق المؤمن صوته، قال: "وأنت يا رب رحيم حنون، طويل الأناة، كثير الرأفة والأمانة" (مز 86: 15). قال المرتّل في آ 14: "المتكبّرون قاموا عليّ وزمرة الطغاة يطلبون حياتي". في قوله هذا، ما أراد أن يصوّر وضعًا ملموسًا لكي ينال من الله تدخّلاً وعدالة. بل أراد أن يعارض بين عداء وحقد وبغض يحيطه بها البشر، ورحمة إله العهد ومحبّته تجاه تقيّه.
في ساعة الضيق يتعرّف المؤمن إلى الربّ. وفي وقت الشّر أيضًا. حسناته عظيمة: غفران الخطايا، الشفاء من المرض، الطعام في الجوع، والشباب المتجدّد يومًا بعد يوم. يحسّ بالظلم فيرى الربّ العادل. يحسّ بالذنب فيرى ذاك الذي يرحم كما يرحم الأب أبناءه (مز 103: 1-13). ومن خلال صورة إله الرحمة، يُطلب من الانسان أن يتصرّف مثل الله، فيدوم ذكره إلى الأبد. وهكذا يمتدّ البعد العمودي، بُعد علاقة الله مع المؤمن، إلى البُعد الأفقي، بُعد علاقة جميع أبناء الله بعضهم ببعض.
ويحدّثنا النبي يوئيل عن يوم الربّ الرهيب، عن هذا الجيش الذي لا يُقابَل. ظهر الله وهو يضع يده على الكون كلّه، فماذا يكون موقف الانسان "الخاطئ"؟ عودة إلى الربّ، صوت بكاء ونحيب، مباركة الله وتقريب الذبائح له. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، حياة أخلاقيّة تفرض علينا أن نمزّق قلوبنا لا ثيابنا. ولكن لماذا هذا الموقف؟ لأن الاله الذي نتطلّع إليه هو حنون، رحوم، ويعيد إلى شعبه البركة.

2- رحمَ
بعد الصفة، نعود إلى الفعل الذي يرد مرّة واحدة في المجرد و42 مرة في المزيد. يرد في الوزن الثالث (ف عّ ل) 12 مرة في أشعيا، 10 مرات في إرميا 4 مرات في كلّ من المزامير وهوشع. وفي الوزن الرابع (فُ عّ ل) يرد ثلاث مرَّات في هوشع ومرَّة واحدة في أم 28: 13: "من أخفى ذنوبه لا ينجح، ومن أقرَّ بها وتركها يُرحَم". نحن هنا أمام المجهول اللاهوتي، حيث لا نذكر اسم الله، بل نعتبره معلومًا لدى القارئ. من يقرّ بخطيئته يرحمه الله. هناك الاقرار والوعد بالتخلّي عن الخطايا لكي نتقبّل رحمة الله. أمّا المرّة الوحيدة التي تورد فعل ر ح م في صيغة المجرد، فنقرأها في مز 18: 2: "أحبّك يا رب، يا قوتي".
ويدخل في هذا الاطار الاسم الذي أعطاه هوشع لابنته: لا ر (و) ح م ة أي اللامرحومة، اللامحبوبة (1: 6، 8). هذا الاسم يرمز إلى وضع بني اسرائيل الذين خانوا عهد الربّ، فما عادوا يستحقّون رحمته ولا محبّته. ولكن ستتحسّن الأمور فيقول الربّ بلسان نبيّه: "وأرحم غير المرحومة". يبدو أنّ جذر "ر ح م" يعبّر عن حبّ الآلهة في الديانة الكنعانيّة. وقد صار في أرض اسرائيل مكونا للغة الميثاق بين الله وشعبه (خر 34: 6). في هذا المجال نقرأ تث 13: 18 الذي يقول إن الله "يهب لك المراحم ويرحمك ويكثرك كما أقسم لآبائك". ولكن شرط أن تسمع لصوته، وتحفظ وصاياه ولاسيّما في الأمور المحرّمة. إنّ رحمة الله هي عاطفة الأمومة عنده تجاه شعبه، وهي في أساس العهد. فإن هي زالت صار العهد موضع تساؤل.
إنّ المزيد "رحَّ م" يدلىّ على المحبّة والعطف والشفقة إن تبعه المفعول به. قال الربّ: "أصفح عمّن أصفح، وأرحم من أرحم" (خر 33: 19). وقال موسى: "يردّك الرب ويرحمك" (تث 30: 3). إن رافقه حرف الجرّ "ع ل" (في العربية على)، دلّ على محبّة الوالدين لأولادهم وعلى رحمة الله للبشر. "أتنسى المرأة مرضعها فلا ترحم ابن بطنها" (أش 49: 15)؟ "كرحمة أب بالأبناء، رحم الربّ الذين يخافونه".
الكبير يرحم الصغير، والقويّ الضعيف، والغنيّ الفقير. يرحم الوالدان أولادهما، والله شعبه. وهكذا لا تنطلق مسيرة الرحمة من الانسان إلى الله، بل من الله إلى الانسان الذي يطلب الرحمة والحنان. إذا عدنا إلى مز 103، وجدنا الأسباب التي تستدعي رحمة الله: هناك الآثام والخطايا. ورحمته تتجاوزها تجاوز السماء للأرض. وهناك الضعف البشريّ الذي يعبّر عنه المرتّل في صورَتين تعودان إلى الكتاب المقدَّس. الأولى نقرأها في تك 2: 7: "إنّ الربّ الإله جبل الإنسان ترابًا من الأرض". هذا يدلّ على الضعف والحقارة، وأنّه يحتاج كما في البدء إلى نسمة من روحه، وإلاّ ذهب إلى الموت. والصورة الثانية نجدها في أش 40: 6-7: "كل بشر عشب وكزهر الحقل بقاؤه. ييبس ويذوي مثلهما بنسمة تهبّ من الربّ". هكذا نفهم أنّ الانسان يسير إلى الزوال، فيحتاج إلى رحمة الله "الذي يبقى إلى الأبد".
وأخيرًا، يعود المرتّل إلى خبرته البشريّة ليطلب الرحمة من ربّه. الأب يرحم أبناءه ويهتمّ بهم (مزم 103: 13). هكذا يفعل الربّ. ونقول الشيء عينه عن الأم التي لا يمكن أن تنسى ثمرة حشاها. وإن نسيت، فالربّ لا ينسى (أش 49: 15). ويكفي أن يرحم الله شعبه، فتحلّ الرحمة في قلب أعدائه فيرحمون بدورهم (1 مل 8: 50).

3- المراحم والرحم
الرحمة هي في العبرية "ر ح م ي م"، وترد دومًا في صيغة الجمع. تدلّ في معنى أوّل على الامعاء التي هي مركز الشعور في الانسان. وفي المعنى المجازي على الأحشاء. نقرأ في أم 12: 10: "أحشاء الأشرار قاسية، متوحّشة". وننطلق من هذا المعنى فنفهم "ر ح م ي م" كالحبّ والعطف الطبيعيّ والمودّة العذبة والرقيقة تجاه الأهل والأقارب. تلك هي عاطفة يوسف نحو أخيه بنيامين: احترقت (تحرّكت) أحشاؤه (تك 43: 30). وفي معنى ثان، تعني اللفظة العبرية: الشفقة، الرأفة، العطف، الحبّ، الرحمة. هو الكبير يصنع رحمة أو لا يصنع رحمة للصغير. ذاك كان تصرّف بابل تجاه شعب الله (أش 47: 6). وتتحدّث المزامير عن مراحم الله: "يا ربّ، اذكر مراحمك ورأفتك، فإنها منذ الأزل" (مز 25: 6). "وأنت يا رب، لا تغلق مراحمك (أحشاءك) عني" (12:40). نجد عبارات مثل "أعطى مراحم ل" في تث 13: 18، (يعطيك رحمة ويكثّرك). و"س و م. ر ح م ي م. ل": سام بالرحمة (أش 47: 6). وهناك عبارة للحصول على الرحمة من أجل آخر كما في مز 106: 46: "أعطاهم حظوة (مراحم) قدّام الذين سبوهم"
ترد لفظة "ر ح م ي م" 38 مرّة في الكتاب المقدَّس وهي ترافق مرَّات عديدة لفظة سنعود إليها هي "ح س د" التي تعني الرأفة والنعمة والمحبّة. أمّا لفظة "ر ح م" التي تعني حشا المرأة، فترد 32 مرة. يبارك يعقوبُ يوسفَ بركات الثديَين والرحم (تك 49: 25)، أي يطلب له أمهات يلدن ويُرضعن البنين. ويتحدّث أشعيا إلى بقيّة آل اسرائيل "الذين أقلّوا من البطن وحُملوا من الرحم" (3:46). أي اهتمّ بكم الربّ منذ كنتم في أحشاء أمّهاتكم، وحملكم ورفعكم وأنتم بعد في الرحم. منذ ولادتكم حتى شيخوختكم، أنا أتدخّل من أجلكم. أنا أحملكم، وأنا أفديكم (آ 4). هذا ما يقوله الربّ.
الحديث عن الرحم يذكرنا بالمرأة وبعواطف الأمومة تجاه أبنائها. أشرنا فيما سبق إشارة سريعة إلى الله الذي هو أب، وها نحن نتوسّع في فكرة أمومة الله، بسبب ارتباط الرحمة والمراحم بالرحم عند المرأة.
أجل، الله أمّ لشعبه، وهو يعامل شعبه بعاطفة الحنان فتتحرّك أحشاؤه ساعة يكون أبناؤه في الضيق. أما الفكرة الأساسيّة فنجدها في عد 11: 11- 15 حيث يكلّم موسى الله ويدعوه إلى الاهتمام بشعبه. قال: "هل أنا حبلت بهم؟ هل أنا ولدتهم فتقول لي: إحملهم على صدرك كما تحمل الحاضن الرضيع"؟ المرأة هي التي تحبل (تحمل في حشاها) وتلد. المرأة هي التي تحتضن وتُرضع. وها هو موسى يدعو الربّ ليتابع دور الأم الذي بدأ يلعبه منذ بداية تاريخ شعبه.
ونقرأ في هذا المجال تث 32: 1-43: "صوّر الكائنات وعمله كامل". قال موسى عنه: "هو أبوك الذي خلقك، الذي أبدعك وكوّنك". ويتتابع نشيد موسى في صورة النسر الذي يعامل فراخه كالأم والأب بعطف ومحبّة. "ربّاهم وعلّمهم. إحتضنهم كحدقة عينه. كالنسر الذي يغار على عشّه وعلى فراخه يرفّ، فيفرش جناحيه ليأخذهم ويحملهم على ريشه... أطعمهم... أرضعهم..." (آ 10-13). ويتابع موسى عتابه: "الإله الذي ولدهم نسوه، وأهملوا الاله الذي أنجبهم".
ويتكلّم أشعيا بلسان الله فيشبِّه نفسه بالأم: "أصيح كالتي تلد، وأنفخ مثلها وأزفر" (40: 14). وفي 45: 10: "ويل لمن يقول لأب: ماذا تلد؟ ولإمرأة: ماذا تضعين"؟ ويتابع النصّ فيدلّ على أنّ الله اتخّذ صورة الأب والأم من أجل شعبه. والعبارة المعروفة نقرأها في 49: 15، وفيها يقابل الله بينه وبين امرأة لا يمكن أن تنسى ابن بطنها، لا يمكنها إلاّ أن ترحمه وتحنّ عليه. "فأجاب الربّ: أتنسى المرأة رضيعها (طفلها) فلا ترحم ثمرة بطنها؟ لكن ولو أنَّها نسيت، فأنا لا أنساك يا أورشليم". أجل، إنّ رحمة الله لا تضاهيها رحمة.

خاتمة
هذا هو موضوع رحمة الله في اللغة والنصوص. في العبريّة وفي الأوغاريتيّة، في العربيّة وفي السريانيّة مع تطلّع إلى سائر اللغات الساميّة. الله يرحم لأنه أب. ويرحم بشكل خاص لأن قلبه قلب أم. بعد هذا لن نشدّد على "غضبه" الذي يعاقب، بل ننظر إليه كالرحيم والحنون والرؤوف الذي لا يريد موت الخاطئ بل حياته. تحدّثنا عن هذا الاله الرحيم، فيبقى أن نتعرّف في فصل لاحق إلى حنان الربّ ورأفته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM