الفصل الحادي والثلاثون: الخطيئة في الحقبة القديمة

الفصل الحادي والثلاثون
الخطيئة في الحقبة القديمة

نستطيع أن نقسم العهد القديم إلى ثلاث مراحل: المرحلة الاولى، المرحلة القديمة والسابقة لأنبياء القرن الثامن. هي وضعت الأسس التعليميّة وعرفت امتدادات متأخّرة لاسيّما في الأدب الكهنوتيّ. والثانية، المرحلة النبويّة التي تمتدّ من القرن الثامن إلى القرن الخامس. هي تتوسّع في التعليم القديم، وتضمّ مجموعات أدبيّة لا نبويّة مثل الأدب الاشتراعي. والثالثة، مرحلة العالم اليهودي في ما بعد المنفى. هي تنبثق شيئًا فشيئًا من المرحلة السابقة وتستغلّ معطياتها.
مثل هذا الجمع للنصوص، وإن وافق إجمالاً المراحل الجوهريّة والخبرة التاريخيّة والروحيّة في اسرائيل، إلاّ أنه يتضمّن في التفصيل بعض الأمور الاعتباطيّة. ولكن في هذا العرض السريع، لا نستطيع أن نتوقّف عند كل سفر من الأسفار المقدّسة. بل نفتح الطرق الواسعة لنظرة شاملة قد تنكشف في نهاية هذا المقال.
ونبدأ بالحقبة القديمة
قبل حقبة الأنبياء، نجد النصوص العديدة من قوانين قديمة، من أخبار نقرأها في البنتاتوكس (أي أسفار موسى الخمسة) ولاسيّما في التقليد اليهوهي والالوهيميّ، من أسفار التاريخ الاشتراعي (يش، قض، 1- 2 صم، 1- 2 مل)، من مواد جمعها التقليد الكهنوتيّ. ونزيد على كل هذا المزامير القديمة. ونقابل هذه النصوص مع ما في الآداب الدينيّة في الشرق القديم، فنكتشف السمات الخاصّة بالخطيئة في عالم التوراة.

1- فكرة الخطيئة في ديانات الشرق القديم
لم تكن فكرة الخطيئة مجهولة في ديانات الشرق القديم. ففي مصر نقرأ عددًا من الاعتراضات التي تدلّ على براءة شخص من الأشخاص، في "كتاب الموتى". حين يجب على الميت أن يمثل أمام محكمة أوزيريس حيث تُوزن النفوس، عليه أن يتلفّظ بعبارة طقوسيّة تشهد أنه لم يقترف خطيئة من الخطايا التي تغيظ الآلهة. أمّا اللوائح التي نجدها ففيها الامور المختلفة: المحرّمات (تابو) الدينيّة، واجبات أساسيّة في الحياة الاجتماعيّة كما يعلّمها الحكماء. فآلهة مصر يكرهون ما يشجبه ضمير الانسان (السرقة، الزنى، الظلم، الشرّ...). ونلاحظ أن الخطيئة تكمن بالأحرى في ماديّة العمل الذي يقوم به الانسان، لا في نيّته حين قام بهذا العمل. والاعلان بالبراءة يقتني فاعليّة سحريّة تؤمّن الطهارة الدينيّة للميت وتتيح له الدخول إلى فردوس أوزيريس. ولائحة الخطايا التي يجب على المرء أن يتجنّبها، قد وُضعت بالنظر إلى المصلحة العامّ، وشعائر العبادة، لا بالنظر إلى مثال روحيّ حقيقيّ، أو شريعة إيجابيّة أوحي بها. فالمخافة الموسوسة من الخطيئة تبدو بعيدة عن مخافة الله في الحياة العمليّة كما في العهد القديم.
في الديانة الرافدينيّة (أي بلاد ما بين النهرين)، لا نجد نظرة إلى الدينونة بعد الموت. لهذا يجب أن نبحث عن تعليم عن الخطيئة في صلوات التوبة والتوسّل. أما الظرف فخبرة الشقاء البشريّ يعيشونه في هزيمة عسكريّة، في آفة تضرب البلاد، في المرض. ويستنتج المصلّي في هذه الظروف بأنه أغضب إلهًا من الآلهة، فنال انتقامه. لهذا، نراه يقرّ بخطيئته ويطلب السماح. ولقد ظلّت فكرة الخطيئة ماديّة جدًا. فما إن يتجاوز الانسان، وإن سهوًا، مشيئة إله من الآلهة، حتى يجد نفسه في حالة الخطيئة. أم الذنوب المذكورة فتّتصل بشعائر العبادة (طقوس نقوم بها، محرّمات نحفظ نفوسنا منها)، لا بالأمور الأخلاقيّة، كما تشدّد على ما يتعلّق بمصلحة المدينة. وحين يريد الانسان أن يتنقّى من خطاياه، يتّكل على طقوس التكفير التي ترافقها صلوات التوبة، فينسب لها فاعليّة شبه سحريّة. فالقدرة الالهيّة التي أغضبت، تشبه أقلّ ما تشبه الاله الشخصيّ الذي تعرفه التوراة. وهكذا وُجدت عبارات صلاة تتوجّه إلى إله من الآلهة، عرفه المؤمن أم جهله، ولكنّه قد يكون أغضبه. وفي النهاية، المطلوب هو منفعة الانسان، لا الارتداد الداخليّ.

2- نظرة عامة إلى المفهوم البيبليّ للخطيئة
لا نجد في أي مكان من النصوص البيبليّة عرضًا منهجيًا عن لاهوت الخطيئة. لهذا، نعود إلى تلميحات مختلفة نأخذها من النصوص التشريعيّة والعباديّة، من الأخبار التي تروي لنا خطيئة اقترفت في الشعب. ابتعدت التوراة عن الفلسفة اليونانيّة التي رأت في الخطيئة ضلال العقل الذي يقود الانسان بعيدًا عن القاعدة الاخلاقيّة، دون عودة ضروريّة إلى مشيئة الله. فكانت نظرتها إلى الخطيئة روحيّة في جوهرها. وخطورة الخطيئة لا تكمن أولاً في الحكم بل في العمل.
فالخطيئة (يقابلها البرّ أو الحياة بحسب وصايا الله ومشيئته) هي فعل يقوم به الانسان، بل هي موقف يقفه الانسان أمام الله. وإذا أردنا أن نصف هذا الموقف، لا نعود إلى طبيعة الانسان أو إلى معطيات تترجم متطلّبات الضمير، بل إلى إرادة الله الوضعيّة كما تعرضها الشريعة.
إن لهذه الطريقة في فهم الامور خلفيّة بيبليّة خاصّة لا مثيل لها في سائر الديانات: التعليم حول العهد. لقد دخل الله، بمبادرة خاصّة منه، في علاقة دينيّة مع البشر. وحدّد لهم بنفسه الشروط التي يجب أن ينفّذوها: كلمات الشريعة هي بنود عهده (خر 3:24-8 وشعائر طقس العهد) كما أوحيت للشعب مع مخطّط الله. فمن رفضها خطئ. لاشكّ في أن هذا المدلول للخطيئة يعني بالدرجة الأولى شعب اسرائيل الذي نعمَ بالعهد والشريعة. ولكن يبقى أن القاعدة الوضعيّة للسلوك البشريّ، التي تحدّدها مشيئة الخالق الذي وحده يعرف الخير والشرّ، الذي وحده يسود الخير والشرّ، أن هذه القاعدة تعني جميع البشر كما يقول تك 1-3 وأقوال الأنبياء على الأمم مثل عا 1-2.
إذن، كل عمل بشريّ يعارض شريعة الله هو خطيئة. والألفاظ العبريّة التي تُستعمل لتدلّ على هذا العمل تتحمّل فوارق تنبع بشكل ملموس من نشاط الانسان الخاطئ ووضعه. فالجذر "ح ط ا" (في العربية: خطئ) الذي يستعمل أيضًا لكي يصف العلاقات بين البشر، يرى في الخطيئة ذنبًا وإهمالاً وخيانة بالنسبة إلى الله وإلى القاعدة السلوكيّة التي وضعها. ولفظة "ع و ن" ترينا في الخطيئة ضلالاً به يميل الانسان عن الطريق القويم. وكلمة "ف ش ع" تشير إلى الانسان الذي يترفّع ضدّ الله، ويخونه كما يفعل العبد تجاه سيّده. ونجد الموقف عينه في جذور أخرى تعني الثورة والتمرّد واللاإيمان.
أما الخاطئ فهو مُذنب، مُجرم وكافر. اقترف الشرّ والاثم والسوء. كل هذا يفترض علاقة شخصيّة بين الانسان والله، موقفا يتّخذه الانسان تجاه الله، عملاً يعارض ما ينتظره الله من الانسان خليقته مقابل العهد الذي قطعه معه والخيرات التي غمره بها. إذن، ليست العلاقة بين الخطيئة والشريعة على المستوى القانونيّ وحسب. فالشريعة لا معنى لها إلاّ بالنظر إلى التدبير الديني الذي فيه يجد الانسان نفسه باسم مشيئة الله.

3- الجديد في هذه النظرة إلى الخطيئة
إذا قابلنا هذه النظرة التي صوّرناها بإيجاز، مع النظرة التي اكتشفناها في ديانات البلدان المجاورة للأرض المقدّمة، نرى الجديد في نقطتين أساسيّتين ومهمّتين من أجل لاهوت الخطيئة الذي يميِّز في العمل الشرير "مادة" العمل و"النيّة" التي دفعتنا للقيام بهذا العمل.
أولاً: إن مادة الخطيئة التي ترتبط هنا كما في الشرق القديم كله، بمشيئة الله، لا تحدّدها متطلّبات أخلاقيّة المدينة وشعائر العبادة التقليديّة. بل هي موضوع تحديد إيجابي يصل إلى الانسان عبر قناة الوحي، في إطار العهد بين الله وشعبه. وهكذا تتضمّن الشريعة وجهة دينيّة ووجهة أخلاقية ترتبط الواحدة بالأخرى ارتباطًا وثيقًا. وهذا ما نلاحظه في الدكالوغ، في الوصايا العشر، الذي يوجز جوهر الشريعة.
لاشكّ في أن هذه الوصايا الأخلاقيّة والدينيّة تتوزّع في تشريع خاص يتضمّن فرائض قانونيّة وعباديّة (كما في البنتاتوكس). ونجد في هذه المجموعات أخلاقيّة المدينة ومحرَّمات عباديّة قريبة كل القرب من عالم الحقوق الشرقيّ وعبادات الديانة المجاورة لشعب اسرائيل. وهكذا بقي في شريعة اسرائيل، على سبيل المثال، وبشكل عابر، عناصر عتيقة لم تعد تعنينا اليوم، ولكنّ تجاوزها كان يشكّل خطيئة في العهد القديم. ولكن يبقى أن هذه العناصر قد دخلت في إطار حقوق وضعيّة في مجموعة تجاوزتها لأنها وجدت معناها في اختتام العهد وفي كلمة من أرسلهم الله. وفي أي حال، تكوّنَ قلبُ التوراة في المعنى الحصريّ، من الوصايا الدينيّة والاخلاقيّة التي أخذت على عاتقها الوصايا الأخلاقيّة والديانة الطبيعيّة (أي المرتبطة بطبيعة كل انسان) التي يصل إليها مبدئيًا كل ضمير بشري. ولكنها قُدّمت كوحي وارتبطت بسلطة الله. منذ ذلك الوقت، تحدّدت الخطيئة في ماديتها بالنسبة إلى هذه السلطة.
ثانيًا: شدّدت النصوص على نيّة ومسؤوليّة الانسان الذي يخطأ. لا شكّ في أنه يبقى هنا أيضًا بعض النظرات الشرقيّة القديمة. ففي عدد من الحالات، يُعتبر العمل الخارجيّ أكثر من نيّته الباطنيّة. نستطيع أن نخطأ عن جهل أو ضلال ومن دون وعي، على مثال يوناتان بن شاول الذي تجاوز دون أن يعلم محرّمًا دينيًا فرضه والده (1 صم 14: 24-25). غير أن ذنبًا من هذا النوع، ليس في الواقع من ذات طبيعة الخطيئة الاراديّة التي يقترفها الانسان بوعي تام (عد 30:15- 31).
والبرهان على ذلك، هو أنه في الحالة الأولى يكفي تكفير طقسيّ ليصبح الانسان نقيًا من خطيئته (لا 13:4 ي). وهكذا "افتدت" الجماعة يوناتان. فأفلت من اللعنة التي تلفّظ بها شاول (1 صم 14: 15). أما في الحالة الثانية، فطقوس التكفير، كان ضروريّة، لا تكفي لتمحو الخطيئة. لابدّ من ارتداد القلب. والطقوس هي التعبير الخارجيّ عن هذا الارتداد الذي قد يدفعنا إلى تعويض حقيقيّ. فداود بعد زناه، لم يكتف بأن يقدّم ذبيحة مطهّرة. دعاه النبيّ ناتان فوجب عليه أن يقرّ بذنبه: "خطئت إلى الرب" (2 صم 12: 13).
وهناك أخبار تدلّ على نظرة مشابهة، ولاسيّما في تاريخ بني اسرائيل في البريّة، حيث تتوالى الخطيئة والعقاب والتوبة. وهكذا نكون بعيدين جدًا عن طقوس التوبة التي تمارسها بلاد الرافدين. فالخطيئة هي الآن درامة روحيّة يتواجه فيها الانسان والإله الحيّ.

4- درامة الخطيئة في التاريخ
هذا الوعي لخطيئة الانسان في خطورتها الجوهريّة، أتاحت للكاتب الملهم أن يطرح بشكل أصيل جدًا، درامة الخطيئة في التاريخ.
هو يعرف أولاً أن الخطيئة ليست حدثًا يقع مصادفة، وكأن الانسان الذي هو صالح بطبيعته وموجَّه بشرائع مجتمع صالح، ضلّ من دون علم منه. في الواقع، تُولد الخطيئة من "قلبه الشرّير": فالفرعون الذي قاوم الله "قسّى قلبه" لئلا يخضع لما طلبه موسى (خر 13:7). واسرائيل في البريّة دلّ على أنه "شعب قاسي الرقاب" (خر 9:32). وخبر الطوفان الذي هو خبر الخطيئة النموذجيّ، جعل الراوي يؤكّد أن "مقاصد قلب الانسان هي شرّيرة منذ طفولته" (تك 21:8؛ رج 5:6).
هي نظرة واقعيّة إلى الطبيعة البشريّة، تفترض أن الشرّ الأدبيّ حاضر في التاريخ كله، ومتعلّق بكل مجتمع بشريّ وفي كل فرد من أفراد المجتمع. لاشكّ في أن هناك أبرارًا يتميّزون عن سائر البشر مثل أخنوخ ونوح وابراهيم وموسى. ولكن إذا تمعنّا في الامور، رأينا أن برّهم هو اتجاه، لا حالة لا يستطيعون أن يَسقطوا منها. والبرهان على ذلك هو أن بعضهم خطئ في مناسبة أو أخرى. هذا ما حدث لموسى (عب 20: 12) وداود...
مثل هذه الوقائع تضعنا أمام سرّ خطيئة الانسان. وبالنظر إلى هذا الشرّ، صار وجود الشرّ على الأرض أمرًا معقولاً. واتخذ الألم والموت قيمة تكفيريّة. صارا بشكل عقاب. لا بالنسبة إلى المسؤوليّة الفرديّة وحسب، بل في منظار التضامن البشريّ الذي يربط أعضاء المجموعة بعضهم ببعض. كما يربط الاجيال عبر الأزمنة من جيل إلى جيل.
فالاعمال الاراديّة التي يصنعها الانسان ضدّ مشيئة الله الواضحة تصبح ثقلاً على الذين اقترفوها وعلى الذين يرتبطون بهم بشكل أو بآخر. وهذا يكون لا بسبب حتميّة مأساويّة تشبه ما نجد عند الكتّاب الدراماتيكيّين في العالم اليونانيّ، بل في إطار شريعة عميقة تختفي وراء التاريخ، وهي تقول بأن كل انسان يقرّر مصيره حين يتّخذ موقفًا تجاه الله وشريعته. ذاك هو كل معنى الحريّة.
ويجد هذا التعليم أسطع عبارة له في تك 3. من جهة، نحن هنا أمام الخطيئة النموذجيّة (مثلها تكون خطايانا): أعطي الانسان حرّية القرار فحاول أن يسيطر على الخير والشرّ (هذا هو المعنى الرمزيّ لشجرة المعرفة)، ليصير مثل الآلهة. وهكذا يتعدّى على امتياز إلهي ويتجاوز فريضة أساسيّة فرضها الله عليه. ومن جهة ثانية، دلّ موقع الخبر أن الخطيئة قد دخلت في التاريخ على أثر قرار حرّ اتَّخذه الانسان، وذلك منذ البداية.
لهذا السبب، حملت كل الأجيال البشريّة علامات غضب الله: فالنتائج الطبيعية للخطيئة (الألم، الموت، التعب) تُلقي بثقلها على الجنس البشريّ كلّه. ونحن نختبر هذا الواقع بشكل مأساوي. ويرينا التاريخُ المقدّس الله يتعامل مع هذه البشريّة الخاطئة التي يعاقبها مرارًا، ويرغب في أن يخلّصها من الخطيئة ونتائجها. في هذا المجالس. لا تستطيع الديانات الوثنيّة القديمة أن تقدِّم لنا أكثر من تعابير خارجيّة لكي نتحدّث عن عالم الخطيئة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM