الفصل الثلاثون: تدخّل الله في حياة أيوب

الفصل الثلاثون
تدخّل الله في حياة أيوب

كان الجدال طويلاً، وحاميًا جدًا. وطلب أيوب حكَمًا يقف بينه وبين خصمه، واعتبر أن هذا الحكم لا يمكن أن يكون الله، لأن الله هو الخصم فكيف يكون الحكم؟ والآن، سوف نفهم أن الحكَم هو الله. فأصدقاء أيوب أخطأوا حين تحدّثوا عن الله بهذه الصورة. أما أيوب، فكان على صواب. وقد صار النبيّ، الذي يتشفّع من أجل أصدقائه الثلاثة على مثال ما فعل ابراهيم. هذا، مع أن أيوب هاجم الله، وأصدقاؤه حاولوا أن يدافعوا عن هذا "الاله" مهما كان الثمن. ولكن الله لم يقل بعد كلمته. وهو الآن سيفعل.
بعد أن نطرح السؤال حول ألم الله، نتوقّف عند براهينه. وفي النهاية، نذهب مع أيوب أبعد من الكتاب المقدس، ونقدّم الطريقة للتعرّف إلى هذا السفر الفريد الذي يربط ألم الانسان بألم الله.

1- الرب إله يتألم
طرح أحد الكتّاب سؤالاً مزدوجًا: هل الله يتألّم؟ هل نستطيع أن نتصوّر إلهًا لا يتألّم. واعتبر بعضهم هذا الكلام هرطقة: لا نقص في الله. إذن، لا ألم فيه. هو في الاعالي، والناس على الأرض. ورأى آخرون أننا أمام مسألة فضوليّة لا علاقة لها بحياتنا اليوميّة. غير أن السؤال يحيلنا إلى أعمق أعماق سرّ الله. كيف نؤمن أن الله محبّة، ساعة نظنّ أن الألم لا يلامسه في كائنه الأزلي؟ عندما أبكي، عندما أتشوّه، أترى الله يبقى باردًا كالرخام؟
حين نقرأ سفر أيوب، ونسمع صراخ هذا الموجع، نفهم في النهاية أن الله يقف بجانب المتألّمين. هو لم يقل إن الاصدقاء كانوا على حقّ، بل أيوب. وهذا الذي نكتشفه في سفر أيوب، نستطيع أن نقرأه في عدد من أسفار التوراة. أجل، إن ألم البشر يجد صداه في قلب الله. وها نحن نورد بعض النصوص.
- "قال الرب: "رأيت مذلّة شعبي في مصر، وسمعت صراخه حين يضربه رؤساء المسخّرين. عرفت (استوعبت) آلامه، ونزلت لكي أخلّصه" (خر 3: 7- 8). رأى الله. سمع. عرف، فدخلت آلام شعبه في قلبه. كم هو بعيد عن الآلهة التي لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع.
- "صرخنا إلى الرب، إله آبائنا، فسمع الرب أصواتنا: رأى أننا مساكين، معذَّبين، بؤساء" (تث 26: 7). "دعا البائس، فسمعه الرب، وخلّصه من كل ضيقاته" (مز 34: 7). "كانوا جياعًا، عطاشًا، تخور نفوسهم فيهم، فصرخوا إلى الرب في ضيقهم، فأنقذهم من سوء حالهم وهداهم طريقًا مستقيمة" (مز 5:107-7).
- "حزني لا شفاء له، فقلبي في صدري عليل. صوت استغاثة شعبي يُسمع من أرض بعيدة: ألا يُقيم الربّ في صهيون؟ إلا يوجد ملكها (أي الله) فيها... على سحق شعبي انسحقتُ، حزنتُ واستولى عليّ الذهول. أما من لجسم في جلعاد؟ أما من طيب هناك يضمّد جراح شعبي؟ ليت رأسي ملؤه ماء، وعينيّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلاً على قتلى أبناء شعبي" (إر 8: 18-23). من يتكلّم هنا، النبي أم الله؟ النبيّ والله معًا، لأن النبي تسلّم كلمات الله (إر 1: 6، 9، 17) وهو يوصلها إلى الشعب، فيكشف وجه الله. وسوف يقول الله لنبيّه في إر 14: 17: "تقول لهم هذا الكلام: تسيل عيناي بالدموع ليلاً ونهارًا بغير انقطاع، لأن العذراء (رمز إلى الأمّة) بنت شعبي أصيبت بجرح بليغ، بضربة لا شفاء فيها". أجل، دُمّرت أورشليم، أحرق الهيكل، ذهب الملك إلى السبي ومعه نخبة الشعب. بكى الناس، أترى الله لا يبكي؟

2- تدخّل الله وبراهينه
رأى الله شقاء أيوب. وسمع كلماته كما سمع كلمات أصدقائه اليفاز وبلدد وصوفر، ثم أليهو. وهو يأتي الآن ليُسمع صوته أيضًا ويُسند ذاك المتألّم الذي يحتاج إلى من يكون بجانبه في ألمه.
أ- تدخّل الله
جاء الله من العاصفة، مركز حضوره منذ جبل لسيناء، وقدّم جوابه في خطبتين طويلتين تدلاّن على سموّ في التفكير. ونطرح السؤال على نفوسنا: هل موضوع كلام الرب، هو موضوع كلام أيوب وأصدقائه؟ أما نكون أمام موضوع آخر؟ وهنا نشير إلى ثلاث ملاحظات:
- الاولى: لا يدافع الله عن نفسه، بل هو يهاجم. ما رأى في سؤال أيّوب أيّ فخّ على مثال فخاخ الفريسيين مع يسوع. لهذا بادر إلى "الحرب"، وصار ذاك الذي يطرح الاسئلة الكثيرة (50 تقريبًا) والصعبة: "من هذا الذي يغلّف مشورتي بأقوال تخلو من كل معرفة" (2:38)؟ "أين كنتَ حين أسّستُ الأرض" (آ 4)؟ "من مدّ عليها الخيط فقاسها؟ على أي شيء رست قواعدها؟ من الذي أرسى حجر زوايتها" (آ 5، 6)؟ وهكذا أطلق الله الجدال نحو آفاق جديدة، وترك ضيق موقع أيوب الذي يريد جوابًا على سؤال، كما ترك ضيق الفكر اللاهوتي عند الأصدقاء الثلاثة.
- الثانية: ما أشار الله في خطبته إلى الألم أو الشقاء، كما انتظر أيوب. أتراه ما فهم الجدال السابق؟ أتراه لم يسمع نداءات أيوب المتكرّرة؟ هل يشكّل الألم سؤالاً بالنسبة إلى الله؟ إذا كان الجواب بالايجاب، فلماذا لا يتكلّم عنه الآن، وقد سنحت له الفرصة ليعرب عن "رأيه"؟ أما كان يجب عليه أن يقول لماذا حلّت كل هذه المصائب بأيوب؟ ولكن الله ظلّ صامتًا في ما يخصّ هذا الموضوع. فكأني به لا يحبّ الكلام عن الألم. أو ليس له ما يقوله في هذا الموضوع؟ لاشكّ في أنه أراد أن يُخرج أيوب من ذاته، والاصدقاء من نظرة ضيّقة تقصّر عن الاحاطة بالواقع.
- الثالثة: تكلّم الله أقلّ ما تكلّم هنا، عن الانسان، وكأن الانسان ليس موضوع اهتماماته. ففضّل أن ينشر معارفه حول الخلق وتنوّعه. كما تحدّث عن المخلوقات الغريبة، بل المعادية للانسان. أترى لا براهين في يد الله؟ بل هو أراد بالأحرى أن يطرح سؤالاً على الانسان الذي سيقدّم الجواب، لا في موقف عقليّ وبلاغيّ، بل في موقف حياتي ينطلق من الواقع. أجل، سيفهم الانسان أن الله كليّ الحكمة في كل ما صنع. وأنه إن اعتنى بأصغر المخلوقات وأكبرها، فهو لا ينسى الانسان الذي رفعه إلى مستوى الله كما يقول المزمور الثامن.
ب- براهين الله
طرح أيوب عددًا من الأسئلة على الله فـ "هزّته"، لأنه يتأثّر لدى تساؤل أبنائه. وها هو يقدّم الأجوبة بشكل مرصوص. "شدّ حقويك، وكن رجلاً (ستكون المسافة طويلة): أنا أسألك وأنت تخبرني" (38: 3). ودلّ الله سريعًا على الستراتيجيّة التي سيأخذ بها: هو ما أراد أن يبرّر نفسه في كل النقاط التي آثارها أيوب، ولا أن يقدّم الأجوبة على أسئلته. فقد أعطى الجدال وجهًا جديدًا. هو سيسأل. وعلى أيوب أن يجيب إن أراد، أو إن ظنّ أنه يستطيع. أما الهدف الأخير، فهو دفع أيوب لكي يعرف من هو، لكي يدرك مدى معرفته وامكانيّاته.
* هويّة أيوب
في حركة أولى دعا الله أيوب لكي يفكّر في هوّيته. هل تعرف من أنت؟ "من هذا الذي هاجم العناية الالهية بأقوال تخلو من المعرفة" (38: 2)؟ أجل، ما كان أيوب قد قاله، بدا فقيرًا وأعجز من أن يعبّر عن المعنى والنظام اللذين نجدهما في الخليقة. هذا لا يعني أن الله يريد أن يسحق أيوب أو يجعله يحسّ بجسامة خطيئته. أن الله يريد أن يجعله في الخزي. بل إن الله يدعو أيوب بحزم، ولكن بدون غضب إلى أن يجعل نفسه في الحقيقة، أن يعرف حدوده، وأن يقبل بأن لا يكون الله. منذ البداية أراد آدم أن يصير كالله يعرف الخير والشر. وبناة برج بابل أرادوا أن يتحدّوا الله. وصاحب سفر الجامعة عُرف بمشاريعه المفرطة التي أوقعته في العدم، فهتف: باطل الأباطيل وكل شيء باطل.
* معرفة أيوب
في حركة ثانية، طرح الله عددًا من الاسئلة حول مدى معرفة أيوب: "أين كنتَ حين أسّستُ الأرض؟ بما أنك عالم، فقل لي. هل تعرف من مدّ قياساتها" (38: 4- 5). أو: "هل أدركت مدى سعة الأرض؟ أخبر إن كنت تعرف هذا كله" (18:38). لاشكّ في أننا نجد هنا "لمسة سخرية" بسيطة تكفي لكي يعرف أيوب حدود معرفته. لا عار في ذلك. فالمعرفة الحقيقيّة تكمن في امكانية معرفة ما لا نعرف.
* قدرة أيوب وامكانياته
وفي حركة ثالثة، طُرحت أيضًا جملة من الاسئلة عن مدى قدرة أيوب. "هل أنت في أيامك أمرت الصبح، وأرسلت الفجر إلى موضعه؟ هل وصلت إلى ينابيع البحر أم تمشّيت في أعماق الهاوية؟ هل انفتحت لك أبواب الموت أو عاينت أبواب الظلمات؟ ها اخترقت إلى خزائن الثلج، أو أبصرت أين خزائن البَرَد؟ أتربط أنت عقدَ الثريا، أم تحلّ حبال الجوزاء؟ أتطلع نجوم الصبح في أوقاتها وتهدي النعش وبناته في السماء" (38: 12-32)؟
حتى الآن، لم يقدّم الله برهانًا. بل دعا أيوب إلى الفطنة والتواضع. دعاه لكي يكون في الحقيقة، لا في الوهم والسراب الذي يوصل الانسان إلى عري شبيه بعري آدم في الجنّة. وقد نكون أمام "برهان" يدلّ على حدود المعرفة البشريّة، ويفسّر تشعّب الخليقة وغناها. أجل، يتوجّه الله في هذا المنحى. ولا يتحدّث إلاّ عن الخليقة التي يقدّمها برهانًا يقنع به أيوب.
ولكن ما هي الخلائق التي يذكرها؟ تلك التي لا تخضع للانسان: الحمار الوحشيّ، النسر، النعامة... فكأني بالله يسرّ في وصف تنوّع الخليقة، لكي يفرض على أيوب أن يخرج من تقوقعه. لاشكّ في أن أيوب يتألّم. وهو لم "يستحقّ" ذلك. ولكن لماذا ينغلق على ذاته، ويرفض أن ينظر إلى الآخرين؟ أنظر عظمة الخليقة وجمالها. ولا تقل إن الفوضى تسود في الخلائق. إن قلت هذا الكلام، لم تكن عادلاً تجاه الله، ودللت على احتقار لعظمة الكون.
هذا في الخطبة الاولى. وفي الخطبة الثانية، سيصوّر الله بشكل ملحمي وحشين كبيرين، لاويتان الذي ظهر بشكل تمساح (هو الملتوي)، وبهيموت (أي البهيمة في المطلق) الذي ظهر بشكل وحيد القرن. وحشان يخافهما الانسان. ولكنهما صارا لعبة بين يَدي الله الذي تخضع له الخليقة كلها. إذن، ليس هناك من مؤامرة على الانسان. فالله سيّد لاويتان وسيّد بهيموت، كما هو سيّد أصغر المخلوقات. فلماذا ينسب الانسان إلى "الوحوش" المعادية للانسان، الألم الذي هو جزء لا يتجزأ من الانسان؟
ج- توبة أيوب وعودة إلى البداية
سمع أيوب "كلام الرب" فأجاب مرة أولى: "كنت سخيفًا فماذا أجيبك؟ يدي أضعها على فمي. تكلّمت مرّة فلا أعود، ومرّتين فلا أزيد" (40: 4- 5). وفي المرّة الثانية: "عرفتك قادرًا على كل شيء فلا يتعذّر عليك أمر. أخفيتَ مشورتك ولم تبح بها، فتكلّمت بكلام باطل على معجزات لا أدرك مغزاها، وعجائب فوق متناول فهمي... سمعت عنك سمع الأذن، والآن رأتك عيناي. لذلك أستردّ كلامي وأندم وأنا هكذا في التراب والرماد" (42: 2-6).
وهكذا نبقى على جوعنا. طلب أيوب جوابًا، فكان الجواب صمتًا وخضوعًا. كان باستطاعته أن يسكت منذ البداية، أقلّه سكوت من يكظم أسئلة في قلبه. ولكنه لم يفعل. أما بعد هذه المسيرة فصار لسكوته معنى آخر.
وبعد هذه المغامرة الطويلة، نعود إلى البداية. نقرأ في 42: 10: "وردّ الربُّ أيوب إلى ما كان عليه من جاه". ثم: "وزاد الله أيوب ضعف ما كان له قبل". وروت آ 12-13 ما ناله أيوب بعد محنته. "وبارك الرب أيوب في آخر أيامه أكثر من أوّلها". لماذا مثل هذه الخاتمة؟ لأن الله يجازي كل انسان حسب أعماله. وبما أن أيوب لم يصل إلى القيامة، ولا إلى مجازاة في الآخرة، جعل الكاتب مجازاته في هذه الدنيا. لهذا عاد إلى الحلّ التقليديّ حول السعادة التي تعرفها هذه الأرض.

3- أبعد من الكتاب
كل شيء في سفر أيوب يثير فينا الأسئلة: تمرّدُ "البطل". دعوة أصدقائه للعودة إلى العقل. تشعّب الخطب البشريّة وخفَر خطبة الله. لهذا، حاول الكتّاب فيما بعد أن يخفّفوا من حدّة التساؤلات، أن يوافقوا بين الاضداد. وهكذا، فالجدال الذي بدأه أيوب لم ينته بعد حتى أيامنا. وها نحن نقدّم ثلاث محاولات.
أ- السبعينيّة
نذكر هنا أن السبعينية هي الترجمة اليونانيّة التي تمّت في القرن الثالث ق. م. حافظت على اعتراض أيوب، ولكنها تخلّت عن كل ما اعتُبر إساءة لاسمه القدوس، وذلك باسم اهتمامات لاهوتيّة. وهناك مقاطع اتخذت بعدًا روحانيًا، كما أعيد تفسيرها في إطار رجاء اسكاتولوجيّ لا نجده في الاصل العبريّ. نكتفي بذكر القراءة الجديدة لما في 19: 25-27، حيث صار حديث عن "الفادي" الذي سيكون يسوع المسيح فعبّر المترجمون فيه عن إيمانهم. لا ننسى خاتمة طويلة لسفر أيوب لا نجدها في النصّ العبري. ولا ننسى ما أشرنا إليه من زيادة بالنسبة إلى امرأة أيوب.
ب- وصيّة أيوب
دُوّنت وصيّة أيوب في القرن الأول ق م، وربما الأول ب م، فجاءت بشكل رواية لاهوتيّة أقصر من السفر البيبليّ. بدا أيوب ذاك الذي يحتمل كل شيء، فلا يخرج عن صبره أبدًا. لا نجد كلام التشكّي ولا أقوال التمرّد. وهو يعظ الصبر في كل المناسبات. "والآن، يا أبنائي، برهنوا عن الصبر، أنتم أيضًا، في كل ما يحصل لكم، لأن الصبر ينتصر على كل شيء" (7:37). ونرى أيضًا الشيطان "كما بعيوننا". وعى أيوب منذ البداية، أن عليه أن يصارع الشيطان وصنم معبده (3-4). وعليه أن يفضح فخاخه. وفي النهاية، سيقرّ الشيطان بهزيمته: "أنت يا أيوب، كنت تحت، وفي الشقاء، ولكنك انتصرت في الحرب التي أصليتها عليك" (27: 5).
هكذا اختلف صراع أيوب اختلافًا جذريًا: في سفر أيوب هاجم أيوبُ الله. وفي وصيّة أيوب، هاجم الشيطان. هو لا يدعو الله إلى "المحكمة"، كما في سفر أيوب، كما أن الله لا يحتاج إلى أن يبرّر نفسه، ولا أن يعاتب صديقه: ذُكر اللقاء بين الله وأيوب بشكل خفر فاحتلّ فقط بضع آيات: "حين انتهى أليهو من كلامه الفضفاض، ظهر الربّ لي عبر عاصفة وسحاب وكلّمني؟ شجب أليهو وبيّن لي أن الذي تكلّم فيه لم يكن انسانًا، بل وحشًا. وإذ كان الرب يكلّمني عبر الغمام، سمع الملوك الأربعة أيضًا صوت المتكلّم. وحين أنهى الرب كلامه إليّ، قال لأليفاز: أخطأت أنت وصديقاك. فما قلتم الحقيقة حين تكلّمتم على خادمي أيوب" (42: 1- 5).
وفي "وصيّة أيوب" هذه، لا نجد جدالاً بين أيوب وأصدقائه، بل تساؤل الأصدقاء حول هويّة أيوب: "هل أنت يوباب الذي كان ملكًا مثلنا" (31: 5)؟ كما لا نجد عندهم أي لوم لأيّوب. أما أيوب فيبدو هادئًا في كل جواباته لأنه متأكّد كل التأكيد بأنه سينال المجازاة الابديّة التي تنتظره: "سأريكم عرشي ومجده وبهاءه. عرشي هو في العالم العلوي، ومجده وبهاؤه هما عن يمين الآب" (33: 2-3). ولم يعد أيوب رجل الجدالات والبحث القلق، بل رجل اليقين الأكيد. وهكذا يستطيع أن يموت بسلام على صوت انشاد المدائح والمباركات في فم بناته، ساعة يأتي "ذاك الجالس على المركبة الكبيرة" ليأخذ نفسه إليه (52: 1-12).
وهكذا تكون وصيّة أيوب على نقيض من سفر أيوب: فآلامه لا تطرح سؤالاً. والخطبة تحمل التعزية دومًا. والنظرة إلى الحياة الابديّة تسهّل الأمور أيّما تسهيل.
ج- رسالة يعقوب
دوّنت هذه الرسالة في الربع الاخير من القرن الأول، فقدّمت قراءة مسيحيّة لسفر أيوب. أجبر على الصمت فجُعل مثال الصبر. وهكذا تكرّسُ رسالة يعقوب بالنسبة إلى التقليد المسيحيّ، نظرة إلى أيوب كالانسان الصابر الخاضع الذي يسلّم أمره إلى الرب. "لا يتذمّر بعضكم على بعض، يا إخوتي، لئلا يدينكم الله. الدّيان واقف على الباب. إقتدوا أيها الاخوة بالأنبياء الذين تكلّموا باسم الرب فتعذّبوا وصبروا. وهنيئًا للذين صبروا. سمعتم بصبر أيوب، وعرفتم كيف كافأه الرب. فهو رؤوف رحيم" (يع 5: 9- 11).
لم يعد أيوب ذاك المعارض الرافض كما وجدناه في ف 3- 31، بل ذلك الرفيع الذي عرف أن يحتمل الالم ويقبله بروح المسيح.

خاتمة
في نهاية هذه الفصول الثلاثة حول سفر أيوب، نودّ أن نقدّم أسلوبًا يساعدنا على قراءة هذا السفر الذي هو قمّة من قمم الشعر العالمي. نلاحظ أولاً تطوّر شخصيّة أيوب عبر خطبه (ف 3، الجدالات مع الاصدقاء، الدفاع الأخير، والجواب إلى الله). ونلاحظ أصدقاء أيوب الثلاثة: كيف نظروا إلى مسألة الألم؟ كيف نظروا إلى سرّ الله؟ كيف كان موقفهم بالنسبة إلى انسان يتألّم؟ أي رجاء يحرّك موقفهم هذا؟ ونتوقّف عند خطبة أليهو: ما هو الجديد بالنسبة إلى كلام الاصدقاء الثلاثة؟ ونفهم أخيرًا أن الله يوجّه الجدال منذ البداية حول التناسق والتماسك في الخليقة. ذاك كان مطلب أيوب، وقد وصل إليه بعد أن "رأى" الله و "سمع" صوته.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM