الفصل التاسع والعشرون :أيوب وأصدقاؤه

الفصل التاسع والعشرون
أيوب وأصدقاؤه

قبل أن نتابع حديثنا عن "روحانيّة" سفر أيوب، نودّ أن نقدّم تصميمًا سريعًا لهذا الكتاب. في المقدّمة (ف 1-2) نرى أيوب البار (1: 1- 5) والرهان في السماء (6:1-12) مع السلسلة الأولى من المحن (13:1-19). ثم ردّة فعل أيوب (1: 2- 22)، وعودة إلى الرهان (2: 1-6) مع محنة جديدة (2: 7) وردة فعل أيوب (2: 8-18). هذا هو القسم النثري. مع الفصل الثالث نسمع نجوى أيوب وبكاءه، ثم الحوار الشعري بين أيوب وأصدقائه الثلاثة في ثلاث مجموعات من الكلام والردّ على الكلام.
في المجموعة الأولى تكلّم أليفاز (ف 5) فردّ أيوب (ف 6-7). ثم بلدد (ف 8) فردّ أيوب (ف 9-10). وأخيرًا صوفر (ف 11) فردّ أيوب (ف 12- 14). في المجموعة الثانية، نسمع كلام الاصدقاء (15، 18، 20) وردّ أيوب على كل منهم (16-17؛ 19؛ 21). وفي المجموعة الثالثة، تكلّم أليفاز (ف 22) فردّ أيوب (ف 23-24). وبلدد (ف 25) فردّ أيوب (ف 26-27). وضاعت كلمة صوفر الثالثة أو هو النصّ دُمج فحاول الشرّاح أن يكتشفوها.
وبعد قصيدة عن الحكمة (ف 28)، نقرأ دفاع أيوب الاخير (ف 29- 31)، قبل أن يسكت: "قلت كل شيء، ليت القدير يسمعني" (35:31). وما إن "تمّت أقوال أيوب" (31: 41)، حتى وصل شخص رابع هو أليهو فألقى "عظة" (ف 32-37) هيّأ فيها أيوب لسماع خطبة الله (38: 1- 42: 6). وأعادتنا الخاتمة إلى أيوب البار (7:42-9)، وإلى السعادة المستعادة (42: 10-17).
في هذا الاطار، نتعرّف إلى الاصدقاء وعظاتهم، لأن ما قالوه لم يكن بداية حوار مع أيوب، بل "عزف" منفرد. ثم نعود إلى أيوب الذي ظلّ متمسّكًا بالرجاء رغم ضياع كل رجاء.

1- كلام الاصدقاء
أ- دفاع عن الله
لم يكن أيوب وحده في مصابه. ظلّت امرأته بقربه رغم كل شيء. وجاءه أصدقاء ثلاثة سمعوا "بكل ما حلّ به من مصاب، فأقبل كل واحد من مكانه". (2: 11). "جاؤوا ليرثوا لحاله، ويعزّوه". ولكنهم بعد ذلك سوف يقدّمون براهين تزيد ألم أيوب ألمًا وعذابه عذابًا. يا ليتهم ظلّوا صامتين. يا ليتهم صلّوا مع أيوب. اعتبروا أنهم يعرفون كل شيء عن الله، فما أحسّوا بحاجة إلى الصلاة والسماع لكلمة الله. فجاءت كلماتهم كلمات بشر، لا كلمات نابعة من قلب الله.
لاشكّ في أن نواياهم أهل للمديح. لاشكّ في أنهم كانوا صادقين. أحسّوا بالرعشة والشفقة حين رأوا صديقهم في حالة "مشوّهة"، وشاركوه بألمه في صمت دام طويلاً. دام "سبعة أيام وسبع ليال" (13:2). "لم يكلّمه أحد بكلمة، لأنهم رأوا كم كانت كآبته شديدة".
إذن، استطاعوا في البداية أن يدلّوا على عواطف انسانيّة. أن يقفوا برهبة أمام هذا الألم الذي يعتصر قلب أيوب. استطاعوا أن يقبلوا بمرض أيوب إلى حدّ ما. ولكن ما لم يقبلوه هو ثورة أيوب حين تجرّأ وقال حريّة فكره. وهكذا، لم يعد الألم هو المشكلة، بل الخطبة عن الألم أو الكلام من قلب الألم.
لأيوب براهينه. ولهم هم أيضًا براهينهم! راح أيوب عميقًا في اكتشاف الألم. أما الأصدقاء، فعرضوا النظريات المختلفة حول الألم. هنا لا نحكم عليهم في أشخاصهم. فهم يتحدّثون باسم "الكاتب الفيلسوف". ويجسّدون مدارس مختلفة من اللاهوت تعتبر أنها تستطيع أن تعود إلى أصول الألم وتفسّر معناه الحاضر والماضي، وتقول أسبابه.
هل كانت براهينهم خاطئة؟ كلا. ولكن تلميحاتهم أصابت أيوب في الصميم. جاؤوا يعزّونه كأصدقاء مع صديق، فإذا هم قضاة وجلاّدون يبحثون عن ذنوب أيوب وأخطائه ليتّهموه ويحكموا عليه. بحثوا عن الخطيئة، عن "ثقب" يدخلون فيه لكي يفسّروا سبب الألم. فرضوا على أيوب الخطب والمواعظ التي ما استطاع أن يتحمّلها. وأخذ هو يتكلّم منطلقًا من ذاته ومن المحنة التي يعيشها. أرادوا أن يدافعوا عن الله مهما كان الثمن. ونسوا صديقهم الذي هو بقربهم. فكأني بالتعلّق بالله ينسينا الاخوة والاصدقاء. ولكن الكتاب يقول: من رأى في أخيه حاجة وتغاضى عنها، كيف تثبت فيه محبّة الله. فمحبّة الله تدفعنا دفعًا إلى محبّة القريب.
ب- أربع خطب
أجل، كان كلام الاصدقاء دفاعًا عن الله. لهذا، لم يفتحوا حوارًا مع أيوب. تكلّم كل واحد من ذاته، فلم يستمع إلى أيوب، ولا إلى الآخر. ولم يستمع خصوصًا إلى الآخر الآخر الذي هو الله. لهذا، حين تحدّى أليهو أيوب أن يقدّم جوابًا، رفض أيوب أن يتكلّم بعد أن "استنفد" كلام البشر وانتظر كلام الله. كل واحد من هؤلاء الاصدقاء، اعتبر نفسه ملهمًا من السماء، فعاد إلى فكرة خاصّة به عن الله ورثها من "دروس" الديانة التي تلقّاها في شبابه.
أولاً: أليفاز
وأول المتكلّمين كان أليفاز. اعتبر أنه سمع صوتًا جاءه خلال الليل فدلّه على ضعف الانسان. إنه سريع العطب، ونحن لا نستطيع أن نستند إليه. والله نفسه لا يستطيع أن يثق به بسبب خطاياه. قال: "تلقّيت مرّة كلامًا خفيًا تسلَّل همسًا إلى أذني في هواجس أحلام الليل عند وقوع سبات على الناس. فأصابني خوف ورعدة (أحسّ أنه بحضرة الله) منهما رجفت عظامي. ومرّت ريح على وجهي فاقشعرَّ الشعر في جسدي. رأيته واقفًا هناك (أي: الله) ولكن ما تبيَّنت وجهه كأنه خيال أمام عينيّ. وبعد سكوت سمعت صوتًا (يقول): هل الانسان برىء أمام الله؟ أم المخلوق طاهر أمام خالقه؟ نرى الله لا يأتمن عباده وإلى ملائكته ينسب الحماقة، فكيف السالكون بيوتًا من طين، الذين أساسهم في التراب" (4: 12- 19).
الانسان خاطئ فكيف يعلن برارته أمام الله؟ كيف يتجاسر على القول إنه بريء؟ الانسان ضعيف، فكيف يجاهر بقوّته. فعباد الله وملائكته لا يجسرون، فكيف يجسر هو؟ الانسان من تراب ويعود إلى التراب، وكل ما يحيط به طين وتراب، فكيف تقف "الجبلة" أمام جابلها؟ ويتابع أليفاز قوله: البشر "يُسحقون كما يُسحق العثّ، وبين ليلة وضحاها يحطّمون ويبيدون بلا أثر إلى الأبد. أوتادُ خيامهم تقتلع منهم ويموتون ولا رجعة لهم، يموتون وهم لا يعرفون" (آ 19- 21). فكيف يقفون تجاه الله الكليّ المعرفة؟
ثانيًا: بلدد
وبعد أليفاز تكلّم بلدد. فبدأ خطبته الأولى وأنهاها بيقين كبير حول سلوك الله مع البشر. "أيحوّل الله مجرى العدل، أم يشوّه وجه الحقّ؟ إن كان بنوك خطئوا إليه، فإلى يد معصيتهم أسلمهم. وأنت إذا بكّرت إلى الله وطلبت رحمة القدير، وكنت نقيًا ومستقيمًا، ففي الحالة يغار (الله) عليك، ويلبّي صدق نواياك... أينمو الخيزران بلا مستنقع أم ينبت القصب من غير ماء؟ تقطعه ولو في نضارته، فييبس قبل كل النبات. هكذا يكون من نسي الله؟ ويخيب رجاء كل كافر به. تنقطع أمانيه مثل الخيط، ومأمنه كبيت العنكبوت" (8: 3-4).
تذكّر أولاً خطيئة أولاد أيوب. لهذا ماتوا في عزّ الشباب. ثم عاد إلى المبدأ العامّ، فدلّ على أن الانسان ذاهب حتمًا إلى الموت. هو أضعف من قصبة تحرّكها الريح... وينهي تلك الخطبة فيقول دون أن يكون استمع إلى مقال أيوب في ف 6-7: "الله لا يرفض النزيه ولا يأخذ بأيدي أهل السوء". فإن كنت بارًا "سيمتلئ فمك بالضحك وشفتاك بهتاف الفرح، ويلبس العار جميع من يبغضونك وخيام الاشرار تزول" (آ 20-22).
ثالثًا: صوفر
وبعد جواب أيوب الذي أعلن أن الله هو الأقوى، عاد صوفر، الصديق الثالث، إلى العلاقة بين البرّ ومكافأة الله لأحبّائه على هذه الأرض، وبين الشرّ ومعاقبة الاشرار. قدّم كلامه بشكل تساؤل، ولكنه كان أيضًا لاذعًا قاطعًا. لم يهتمّ بأيوب الذي أمامه، بل بالدفاع عن "قداسة" الله، وكأن هذه القداسة تعارض حياة الانسان اليوميّة.
قال: "أتدرك عمق أعماق الله، أم يحيط فهمك بكمال القدير؟ هو أعلى من السماء، فماذا تفعل؟ وأعمق من الموت، فماذا تعرف؟ أطول من الأرض مداه، وأعرض من البحر وسعه. يمرّ متى شاء، فمن يوقفه؟ ويُجري أحكامه، فمن يردّه (11: 7- 10)؟ هذا الكلام هو استباق لما سيسمعه أيوب من "فم" الله نفسه في ف 38-42. ويدعو صوفر أيوب كما دعاه صاحباه قبله: "لو وجّهت قلبك إلى الله، وبسطت إليه كفّيك، ولو أبعدت يدك عن الاثم، ومنعت الجور أن يسكن خيامك، لرفعت وجهًا لا عيب فيه ولكنتَ ثابتًا ولا تخاف" (آ 13- 15).
رابعًا: أليهو
ثلاثة أصدقاء جاؤوا من خارج فلسطين، من القبائل العربيّة. أما أليهو فاسمه عبراني، ومعناه "إلهي هو". أتراه ظنّ أنه هو الله؟ أنه يحلّ محلّ الله، وبالتالي لا يحتاج أيوب إلى أن يسمع سوى صوته الآتي من عند الله؟ جاءت خطبه الأربع لا تقبل أي جواب من أيوب، لا تسمح له بأن يردّ، وإن دعاه المرّة تلو الأخرى: "إن كان عندك كلام فأجبني" (33: 32). جاءت كلماته حالاً قبل تدخّل الله، فاعتبرت أنها الالهام الالهي الأسمى.
فإن كان أليهو شابًا، إلاّ أنه يعرف أن يتكلّم، شأنه شأن الشيوخ: "عندي الكثير ممّا أقوله، وخواطري تزدحم في داخلي. كخمر محقونة في جوفي تكاد تشقّه كزقاق جديد. لاشيء يريحني غير الكلام، فسأفتح شفتيّ وأعطي جوابي" (32: 18-20). هو يتحدّث عن روح الله الذي في داخله، وهو يدفعه دفعًا إلى الكلام. هذا ما يقوله في 33: 4: "روح الله هو الذي صنعني، ونسمة القدير هي التي أحيتني".
كل أسرار الله صارت عند أليهو، لهذا أخذ لهجة "الواعظ" الذي يتّهم أيوب، وفي النهاية يحكم عليه: "أجيبُ أنك غير محقّ. هو الله أعظم من الانسان. لماذا أنت تخاصمه" (33: 12-13). تقول إن الله يراقبك ويعاملك كعدوّ. فأنت على خطأ مبين. "فالله أعظم من الانسان". ويوسّع أليهو خطبته متوجّهًا إلى الناس على مثال الانبياء: "اسمعوا أقوالي أيها الحكماء، وأصغوا لي يا أهل المعرفة!... الله حقًا لا يفعل الشرّ ولا يعوّج طريق العدل" (34: 1، 12). ليس الله بشرّير، وليس القدير بمخادع. فهو يجازي كل واحد بحسب أعماله، ويعامله بحسب سلوكه. أجل، سيعلّم أليهو أيوب أشياء كثيرة عن الله (36: 2). سيريه نبل الله وعظمته (آ 5). "هو الله يتعالى بقدرته، فمن يماثله بين الفهماء؟ من أملى على الله طريقه أو قال له: فعلت شرًا؟ فتذكّر أن تعظّم عمله، وهو الذي يتغنّى به البشر. تبصره عين كل انسان أو تحدّق إليه من بعيد. عظيم هو الله فوق إدراكنا" (36: 22-26).
هؤلاء الأصدقاء الأربعة رفعوا الصوت وحاولوا أن يقنعوا أيوب برأيهم. أنظر. اسمع. كل شيء واضح بالنسبة إليهم. وكلامهم لاهوت كله: في فمهم اسم الله يتردّد وعنه يدافعون بوجه ما يقوله أيوب. إن "الحوار" يحدّد موقعه على هذا المستوى اللاهوتي. وأيوب متّفق معهم في هذا المجال، ولكنه مع ذلك يسمّي أقوالهم "الجور" و"البهتان". إنها تشبه الرماد. هل يتكلّمون من أجل الله أم من أجل أنفسهمِ بعد أن جعلوا نفوسهم مكان الله ونسوا خطيئتهم. "ألأجل الله تتكلّمون جورًا، وفي سبيله تنطقون بالبهتان، أم أنتم تحابون الله (كما في القضاء) وعن دعواه تدافعون؟ إذا فحصكم، أيكون لخيركم، أم تسخرون به وكأنه انسان، بل أشدّ التوبيخ يوبّخكم (7:13- 10). "أما ترهبون جلال الله؟ أما تخافون اسمه؟ اذن فأعلموا أن أقوالكم أمثال من رماد، وأجوبتكم أجوبة من طين".
إن هذا الحوار اللاهوتي يقدّم مواقف لا يمكنها أن تتوافق. ولكن كل واحد يقدّم موقف إحدى المدارس اللاهوتيّة التي وُجدت في أرض اسرائيل، بل في الشرق كله. كل يقدّم نظرته ويطلب من الآخر أن يسمع له. دروس لا بأس بها. ولكن أين الحوار. كل يطلب من الآخر أن يسمع، فهل يسمع هو نداء الآخرين وألمهم. وإن هو سمع، فلا يُدخل في قلب أيوب أكثر من تعاطف معه وشفقة. قال بلدد: "إلى متى تتكلّم هذا الكلام، فأقوال فمك مثل ريح عاصفة" (8: 2). إذن، أسكت. ولم يكن صوفر أقلّ قساوة من بلدد: "أما للكلام من ردّ، أم يكون الحقّ للرجل المفوّه. بيانك هذا أيسكت الناس: أم تتهكّم ولا من يجاوبك" (11: 2-3)؟ وأيوب أيضًا ما أراد أن يسمع. كلامهم ترّهات. "ما تعرفون أعرفه مثلكم، ولا أقصِّر عنكم في شيء... أنتم تلفّقون الكلام، وتطبِّبون وطبّكم باطل. ليتكم تلزمون الصمت، فتبرهنوا بذلك عن حكمة" (2:13- 5). بمثل هذا الكلام، لا تفاهم ولا حوار. وهكذا فشل أصدقاء أيوب ببراهينهم التي تعلّقت بالنظريات ونسيت الانسان المتألّم الذي نجده أمامنا.
ب- براهين تقليديّة
من خلال هذه الايرادات من سفر أيوب، نستطيع أن نكتشف في النهاية ثلاثة براهين: مجازاة دقيقة للأشرار والابرار. وضع الانسان الخاطئ. القيمة التربويّة للألم.
أولاً: المجازاة
مبدأ واضح كل الوضوح: البار ينال خيرًا على هذه الأرض، والشرّير شرًا. ولكننا لا نستطيع أن نعرف "قلب" الانسان. لهذا ننطلق من النتائج. إذا كان هذا الرجل قد مرض أو خسر أولاده، فهو شرّير. وإذا كان الخير قد ملأ بيته فهو خيّر، ويُرضي الله. صار الله في هذا المضمار تاجرًا يدفع أجرًا عن كل عمل، أو سيّدًا يحكم بالعدل وينسى الرحمة. يطبّق القوانين وينسى الانسان الذي أمامه! مثل هذا البرهان الذي يشوّه وجه الله، قد قدّمه كل من الأصدقاء الثلاثة في السلسلة الأولى من الخطب.
قال أليفاز: "أتذكُر واحدًا بريئًا هلك، أو رجلاً مستقيمًا أبيد" (4: 7)؟ من يزرع الشرّ يحصد الشرّ. ومن يزرع الخير يحصده. وقال بلدد: كما ينمو الخيزران في المستنقعات والقصب في الماء، كذلك الانسان الذي ينسى الله، كذلك يكون رجاء الكافر مخيّبًا له (8: 11-13). ويقول صوفر: "أما عيون الأشرار فتكلّ، وكل ملجأ لهم يبيد، ولا يبقى لهم رجاء، غير أن يُسلموا الروح" (11: 20).
من الواضح أن الحقّ هو بجانب أيوب، لا بجانب هؤلاء الأصدقاء. فنظريّة المجازاة القديمة، التي تعود إلى عالم الشرق وصراعات آلهته، يُناقضها الواقع يومًا بعد يوم. وإذ يتكلّم أيوب فهو يعرف ما يقول: أصيب بكل هذا الشرّ رغم براءته التي شدّد عليها الكاتب. أما الذين حوله، فلا يعرفون الله، ولا يراعون وصاياه، فلا يجري عليهم العقاب. قال: "لماذا يحيا الاشرار ويشيخون، ومع الأيام يزدادون اقتدارًا؟ أولادهم يكونون أمامهم، وذرّيتهم تتكاثر من بعدهم. بيوتهم آمنة من الفزع، وعصا الله لا تُرفع عليهم. ثورهم يُلقح ولا يُخطئ، وبقرتهم تلد ولا تسقط. أطفالهم يسرحون كالغنم، وأولادهم يرقصون كالغزلان" (21: 7- 11). أما أيوب، فهو عكس ذلك.
ولكن هل نجعل كل موقف أيوب في الحقّ؟ أما نراه ينغلق على ذاته في نظرة ضيّقة، فيسمح لنفسه بأن يطالب بالسعادة لأنه بار، شأنه شأن الفرّيسيّ. جدال طويل، ونحن نعيشه اليوم وكل يوم.
ثانيًا: وضع الانسان الخاطئ
فهم أصدقاء أيوب أن هجومهم على "برارة" أيوب الشخصيّة بدا ضعيفًا، وما أصاب الهدف. فأعلنوا أن لا فائدة من الاعتراض على أحكام الله، لأننا كلّنا أبناء بشريّة خاطئة. لا نقيّ أمام الله، ولا طاهر. فعلى أيوب أن ينحني خاضعًا ويقرّ بخطيئته وجهله. هذا ما سيفعله في النهاية، وبعد أن يكون شاهد الله. أما الآن، فعليه أن يعرف أن خطيئته هي سبب شقائه. والشعور بالذنب يجب أن يرافق وضعه المؤلم. وهكذا برّروا الله.
"أيكون المائت أكثر برًا من الله؟ أيكون الانسان أكثر طهارة من خالقه" (4: 17)؟ عباده، ملائكته، لا يجسرون أن ينظروا إليه. فماذا يكون وضع الانسان الترابي؟ "كيف يتبرّر أحد عنده، ويكون مولود المرأة طاهرًا؟ القمر نفسه يعوزه النور، والكواكب غير صافية في عينيه، فكيف الانسان وهو هذه الحشرة! وابن آدم وهو تلك الدودة" (25: 4-6)!
مثل هذه النظرة إلى الانسان، إن ظلّت هنا ولم ترتفع إلى مستوى الخلاص، تكون قاتلة: هو خاطئ وسيبقى كذلك إلى النهاية! كلاّ ثم كلاّ. فإن كان الانسان خاطئًا فلا يجب أن يركع أمام الشقاء. وإن أصاب أيوب ما أصابه لأنه خاطئ، فلماذا لا يصيب أصدقاءه وهم خطأة مثله، لأنهم كلهم من الجنس البشريّ الواحد؟ ثم إن أيوب لا يعتبر يومًا نفسه كاملاً، بل عرف أن يقرّ بوضعه كخاطئ أمام الله، فقال: "أعرف هذا الأمر حقّ المعرفة، ولكن كيف يتبرّر الانسان عند الله" (9: 2)؟ وأضاف: "حتى وإن كنت بارًا، فإن فمي يحكم عليّ. وإن كنت بريئًا، فهو يعلن ذنبي. أنزيه أنا؟ لا أعرف" (9: 20- 21).
ليست المسألة في أن نعرف إن كان أيوب بارًا أو خاطئًا. بل، هل هناك خطيئة تبرّر الشقاء الذي أصابه الآن؟ هل "يدفع" ثمنًا عن خطيئة سابقة وخفيّة؟ هل يتألّم لأنه جزء من هذه البشريّة الخاطئة؟ ويبقى الحوار مفتوحًا وقد لا يجد جوابًا على مستوى العقل، بل على مستوى الحياة.
ثالثًا: الألم يربّي الانسان
لا، ليس الألم عقابًا. هو جزء من الطريقة التي بها يربّي الرب شعبه وكل مؤمن من مؤمنيه. فالله يؤدّب الانسان، ويكلّمه، وينقّيه، ويحمله إلى القمم العالية. قال أليفاز: "هنيئًا لمن يؤدّبه الله، ومن لا يرفض مشورة القدير. يجرح، ولكنه يضمِّد. يضرب ويداه تشفيان. ينجّيك ستّ مرّات من الضيق، وفي السابعة لا يمسّك سوء" (17:5-19). وقال أليهو في ذات المعنى: لا يتخلّى الله عن البريء... وإن وجده في القيود، فلكي يريه أعماله كلها، ومعاصيه بعد أن تكبّر. "تمتم الله في آذانهم منذرًا، وحثّهم أن يرجعوا عن الشرّ. فإن سمعوا وأطاعوا، قضوا أيامهم في هناء، وسنيّ حياتهم في نعيم، وإلاّ هلكوا بحدّ السيف وماتوا على حين غفلة" (36: 6-12).
برهان سام جدًا. ولكن كيف يتقبّله الابرار الذين تصيبهم الشدّة؟ عرفوا أن الألم يساعد الانسان على النموّ، ويخلق النفس "خلقًا جديدًا". ولكن هل يحقّ أن نفرض الألم باسم هذا المبدأ، أن نفرضه على الآخرين؟ أما يستطيع الحبّ أن يكتشف طريقة أخرى بها يربّي الأب أبناءه؟

2- أيوب والرجاء الذي فيه
نتوقّف هنا عند خمس محطّات، ونبدأ مع دفاع أيوب الأخير. ثم نعود إلى صلاته ورجائه الثابت الذي جعله في الله وفي الله وحده.
أ- دفاع أيوب الأخير
ما رضي أيوب بهذه المجادلات الطويلة التي ظلّت مجرّدة وبعيدة عن الواقع الذي يعيشه. وكانت النتيجة: "باطلاً تعزّونني، وما أقوالكم إلاّ خداع" (21: 34). لهذا فضّل العودة إلى أرض صلبة، إلى خبرة يعيشها بما فيها من ألم وعذاب، ومن حنين إلى "الأيام السالفة".
هنا نعود إلى ف 29- 31 التي هي آخر أقوال أيوب. حيث يتوزّع كلامه في "موسيقى" داخل ثلاث حركات.
"الحركة الأولى. عاد أيوب إلى الماضي فتحدّث عن "الشهور السالفة"، ساعة كان الله حارسه، يضيء بسراجه فوق رأسه. عن "عزّ حياته" و"رضا الله على مسكنه". "أولادي يحيطون كلهم بي. أغسل باللبن قدميّ، والصخر يفيض أنهار زيت. أخرج إلى باب المدينة، واتّخذ في الساحة مجلسي" (2:29-7). ونستطيع متابعة القراءة فنجد صورة شعريّة عن سعادة تخيّلها العهد القديم من أجل البار. ولكن كل هذا ظلّ في إطار الماضي والذكرى والحنين.
الحركة الثانية. بعد الماضي، يأتي الحاضر. "والآن". تعود هذه الأداة مرارًا. "أما الآن فيضحك عليّ من يصغرونني في الأيام" (30: 1). "والآن صرت لهم أهجية" (آ 9). "والآن روحي تفيض مني" (آ 16). وقد تطول السلسلة فتدلّ على أن الأمور تبدّلت تبدّلاً كليًا: "الرعب ينقضّ عليّ، وكرامتي تذهب هباء منثورًا، فتضحك كالسحاب سعادتي" (آ 15). لقد انسحق قلب أيوب، وتبدّدت آماله: "توقّعت الخير فجاء الشرّ، وانتظرت النور فحلّ الظلام" (آ 26). فهذا الرجل الذي عرف أن يؤاسي الجميع ويتعاطف معهم، الذي كان الجميِع يحترمونه، صار موضوع هزء من الشيوخ والشبان. "صرت لهم أهجية، ومثلاً شائعًا للسخرية. يكرهونني ويبتعدون عني، ولا يتورّعون أن يبصقوا في وجهي" (آ 9- 10).
الحركة الثالثة. هي تقودنا إلى المستقبل. لقد تأمّل أيوب بأن يُسمَع، بأن يصغي إليه الله. قال: "قلت كل شيء. يا ليت القدير يسمعني" (31: 35). لم يعتبر نفسه أنه قُهر، بل هو يتابع دفاعه حتى الرمق الأخير، فيؤكّد أنه بريء بشكل يتجاوز كل ما قاله فيما مضى. "ليت خصمي (قد يكون الله) يردّ على دعواي، فأحمل ردّه على كتفي" (آ 35).
عاد أيوب يتفحّص الماضي، ولكنه يدافع الآن عن الذكر الذي يتركه بين البشر. لهذا أسبقَ كل شيء بأداة الشرط: "إن". "إن حادت خطاي عن الطريق، إن مشى قلبي وراء عينيّ، إن تلطّخت يداي بعيب، (اذن) فليأكل غيري ما زرعتُه، ولتُقتلع فروع أشجاري" (31: 7-8). ويتابع: "إن هام قلبي بامرأة، إن نظرت من فتحة باب جاري... إن كنت استهنت بحقّ عبدي...". وهكذا أعلن أيوب براءته علّه يحرّك قلب الله، فيقبل هذا الاله في النهاية بأن يقطع صمته ويفتح له بابًا نحو المستقبل. أتراه نسي أن الرب هو إله الرحمات، وهو يحنو على الخاطئين وينتظر عودتهم.
بعد هذا، يستطيع رجل الأوجاع أدن يرفع رأسه، وهو يرجو اللقاء الحاسم الذي يحمل إليه الخلاص. كتبَ خصمي اتهامَه، وأنا سأحمله على كتفي، وأجعله تاجًا على رأسي. سأؤدي له الحساب عن خطواتي واستقبله استقبال الملوك (31: 35). ترك أيوب التشكّي المليء بالحزن والقلق، وأعلن كرامته وبراءته بعزّة وافتخار.
ب- صلاة أيوب في بلواه
أيوب إنسان يعارض، يناقش، ويجادل. ومع ذلك فهو الشخص الوحيد في هذا الكتاب، الذي يتوجّه إلى الله في الصلاة توجّهًا مباشرًا. وتتنوّع صلاته بتنوع الحالات: تقدمة الصباح. المباركة، المديح والحمد، التشكّي والتوسّل. فرغم كل ما قاله هذا المتألّم، لم يقطع يومًا الاتصال بالله.
ولكن إن جعلنا جانبًا صلاة المباركة في البداية (ليكن اسم الرب مباركًا)، فصلاة أيوب هي صلاة انسان مضطرب، انسان معذّب، موجع. هو يستعيد أقوال المزامير، ولكنه يعطيها رنّة غريبة. بل هو "قلب معناها" بالنظر إلى نفسيّته في الساعة الحاضرة. ونأخذ بعض الامثلة من ف 7. في آ 17، سأل أيوب الله: "ما هو المائت لكي تهتمّ به"؟ سؤال طرحه صاحب المزامير (مز 5:8؛ 3:144). ولكن نصل إلى نتيجة تعاكس كل المعاكسة النتيجة التي وصل إليها أيوب. رأى المرتّل عظمة الانسان، وأيوبُ شقاءه. وصرخة الاعجاب الواثق، صارت نظرة إلى الله الذي يراقب الانسان ليجد فيه علّة فيضربه.
في 19:7، توسّل أيوب إلى الله لكي يميل بنظره عنه: إلى متى تنصرف عني؟ هل تظلّ تراقبني؟ أما صاحب المزامير فيطلب من الله دومًا أن يلقي نظره عليه، أن لا يميل عنه نظره (مز 13: 4؛ 74: 20؛ 8:38). إن نظر الله ينبوع حياة للمؤمنين، كما تقول المزامير. ولكنه لا يطاق في نظر أيوب الذي يطلب أن ينجو منه، على مثال قايين: أجل، صلاة أيوب صلاة غريبة.
ويعيش أيوب صلاته تمزّقًا غريبًا. فيودّ أن "يقاتل "الله، لا أن يعاقبه فقط: إن كنت قد أخطأت، فماذا فعلت لك يا رقيب البشر" (7: 20)، يا جاسوسًا على البشر؟. قال مز 121: 4: "حارس اسرائيل لا ينعس ولا ينام". هذا ما لا يستطيع أيوب أن يقوله.
لاشكّ في أن أيوب يصلّي، ولكن الكلمات تتقارع في قلبه فتدلّ على حيرته وضياعه. وحتى ساعة يشوّه عبارات المزمور وكلماته، فهو يدلّ على شجاعته وعزمه في أن لا تتوقّف صلاته. هو لا يتخلّى أبدًا عن الحوار مع الله، مع إلهه. وهكذا ظلّ أمينًا لا لحرف المزامير بل لروحها. ففي الشدة والضيق.، يحقّ للانسان أن يصرخ، أن يدلّ على حضوره وألمه. هذا الصراخ هو حقّ من حقوقه، يعترف به الرب نفسه حين يقول في النهاية إن أيوب أصاب حين تكلّم عن الله أمام أصدقائه (42: 7). فالصلاة وإن كانت كير كاملة، وإن نقصها الصبر، وإن تطرّفت في تعابيرها، فهي تتفوّق على كل الخطب التي تعتبر أنها تبرّر ألم الانسان أو صمت الله.
ج- عناد في الرجاء
كان أيوب في جوابه الأول "يائسًا"، فتوجّهت كلماته في الهواء. قال: "أتحسبون كلامي يستحقّ اللوم، وهو كلام يائس يذهب في الريح" (6: 26)؟ مرّ في مراحل الشك والارتياب، القلق والضيق، الخوف والضياع. ومع ذلك، فقد ظلّ أكبر شاهد على الرجاء في الكتاب المقدّس. رجاؤه قويّ وشجاع. أخذه بالعنف وبعد حرب متواصلة. ورجاؤه حقيقيّ يعرف حقّ المعرفة ما هو اليأس.
اختلف أيوب عن أصدقائه الذين يميلون إلى ترتيب الأمور انطلاقًا من معرفتهم. وبما أنهم يعرفون كل شيء، فهم لا يجدون شيئًا جديدًا. ولا ينتظرون من الله تعليمًا. إنهم يشبهون نيقوديمس الذي اعتبر أنه يعرف (يو 3: 2)، فأفهمه يسوع أنه لا يعرف (3: 10) وإن كان معلّمًا في اسرائيل. أما أيوب فيحرّك الأسئلة، مع أن عددًا من الطرقات مقطوعة. ويرسل النداء تلو النداء إلى المساعدة. هو لا يقبل إطلاقًا أن يستمرّ الله في صمته. لا، لم ينته كلّ شيء بالنسبة إليه. فالله، ذاك الاله الذي يؤمن به، لا يمكن أن يبقى "جامدًا" أمام مصير البشر. تحرّكه العاطفة، وأحشاؤه أحشاء أم. "اسكتوا واتركوني. أريد أن أتكلّم أنا مهما صار. شوكي أقلعه بيدي، أو آخذ لحمي بأسناني وأحطّ روحي على كفيّ (أي: أخاطر بكل شيء). لو قتلني الله لما قاومته (أو: ظللت أرجوه كما قرأ النسّاخ اليهود)، بل لناقشت سلوكي لديه. هو حقًا مخلّصي الوحيد، بينما الكافر لا يثبت أمامه" (13:13-16).
حين واجه أيوب الله المواجهة الأخيرة (ف 38-42) جاءته سلسلة من الأسئلة بدت كسيل جامح. ولكن سبق أيوب وأرسل هو أيضًا إلى الله العدد الكبير من الأسئلة وكأنها سهام "قاتلة": "سئمت حياتي. سأبدي شواكي، ولو تكلّمت بمرارة نفس، فأقول لله: لا تحكم عليّ. لماذا تخاصمني؟ أخبرني. أيطيب لك أن تظلم، أن ترفض ما صنعت يداك وترضى عن مشورة الاشرار؟ ألك عينان من لحم ودم، وتنظر كما ينظر الانسان" (10: 2-4)؟ نتذكّر هنا كلام الرب في النبيّ: أنا إله، لا انسان. ولكن أيوب جعل الله "انسانًا" فيه عواطف "الانتقام" التي في الانسان.
هي أسئلة يصعب علينا سماعها وتقبّلها. غير أنها تعبّر في الوقت عينه عمّا يكون إيمان أيوب ورجاؤه. إن هو رفض هذه الصورة عن الله، فلأنه آمن إيمانًا ثابتًا أن الله لا يمكنه أن يكون ذاك الذي "يلتذّ بأن يجعل عليه حملاً ثقيلاً". وإلهه ليس أيضًا إلهًا ينظر كما ينظر البشر، إلى الهيئة والشكل الخارجي. هو ينظر إلى القلب (1 صم 16: 7). وهكذا كان هذا "المعذّب" على حقّ، لأنه من عمق ليله وآلامه، جعل رجاءه كلَّه في الله. فمنذ البداية هتف: "من لي بأن تلبّى طلبتي (المجهول الالهي، الله يلبّيها)، وليت الله يعطيني ما أرجو" (6: 8).
هنا نقرأ 25:19-27 الذي هو قمة سفر أيوب، حيث يعلن أن الله هو رجاؤه الوحيد. "في لحمي ودمي، أشاهد الله. أنا أشاهده، أنا ستراه عيناي، هو، ولا يكون غريبًا. قلبي يشتعل في داخلي". عرف أيوب أن عنده من يدافع عنه، لا على الأرض وحسب، بل في السماء. هذا الذي يدافع عنه، ويتولّى أمره هو الله. وهو ينتظر أن يشاهده، أن يراه بعين "الجسد"، على هذه الأرض. سيكون له أن يراه بعد الظهور في العاصفة فيهتف في النهاية: سمعت عنك في الماضي، أمّا الآن فقد رأتك عيناي. وعلى هذه المشاهدة ينتهي الكتاب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM