الفصل السابع والعشرون: إلى أبواب أرض الميعاد

الفصل السابع والعشرون
إلى أبواب أرض الميعاد

نترك جبل سيناء، ونتوجّه إلى واحة قادش. مسيرة بسيطة ويوميّة، لا تحمل شيئًا من آيات الانتصار. وموسى نفسه قد تعب أمام تذمّرات الشعب وإرادته السيّئة. هم لا يريدون أن يتابعوا المسيرة. وسيقول الربّ يومًا لموسى وهارون: "إلى متى أحتمل هؤلاء القوم الاشرار الذين يلقون اللوم عليّ" (عد 14: 26-27)؟ هم ما زالوا يحتجّون ويعارضون رغم حسنات الله المتواصلة من أجلهم. ولكن المسيرة تتتابع.
نتوقّف هنا عند ثلاث نقاط: السير في الصحراء إلى قادش. من قادش إلى أبواب أرض الميعاد. موت موسى.

1- مسيرة قادش
لقد بدأ الشعب مسيرته الآن نحو قادش. تعب الشعب، وتعب قوّاده. بل الله نفسه تعب. أراد الربّ أن يفني هذا الشعب ويؤسّس شعبًا جديدًا، ولكن موسى لم يرضَ. غير أنه لا بدّ من تنقية هذا الشعب من كل أثر لعبادة الاصنام، وتهيئته تهيئة كاملة لعبادة الله الواحد.
أ- الانطلاق والأزمات الأولى
ارتفع الغمام عن المعبد المحمول، فكان ارتفاعه إشارة للانطلاق (عد 10: 12). ولكن المناخ لم يعد ذاك الذي سيطر على الشعب ساعة الخروج من مصر. فهم قد بدأوا سريعًا بالتشكّي والبكاء. هم يريدون أن يرجعوا. عند ذاك "غضب" الرب (وغضبه من غضب موسى) وأشعل قسمًا من المخيّم (في الواقع، دبّت النار في المخيّم فاعتبر الكاتب ذلك قصاصًا وبحث عن السبب في الله لا في الاسباب الثانويّة). صلّى موسى، فتوقّفت النار. ولكن أحسّ الجميع منذ هذه البداية أن المسيرة لن تكون نزهة في أمراج من الزهور.
وسيفهمنا الحدث التالي فهمًا أفضل كيف أن الله بدأ يتبرّم من شعبه. فهم يحنّون حنينًا إلى الأكل والشرب. يتطلّعون إلى السمك والخيار، إلى بطيخ مصر وبصلها. لقد ضجروا من هذا المن الذي لا يتبدّل طعمه ولا يتغيّر يومًا بعد يوم. بل إن موسى نفسه يئس، وهو لا يعرف كيف يجد لهم لحمًا. قال الله: أنتم ترتابون بقدرتي؟! تريدون لحمًا؟ إذًا ستنالون منه ما يصل إلى أنوفكم. وأرسل الرب السلوى. فهجم بعضهم وأكلوا وأكلوا حتى تخموا وسقطوا أمواتًا.
ويمتزج بهذا الخبر خبرٌ آخر: تأسيس مجموعة السبعين شيخًا الذين ينالون من الروح الذي حلّ على موسى، فيبدأون يتنبّأون. ولقد تمنّى موسى نفسه أن ينال الشعبُ كله روح النبوءة هذا. ولكن هذا سوف يتمّ فيما بعد، مع يسوع، في عيد العنصرة: هنا تتحقّق كلمة النبيّ يوئيل: "في تلك الأيام، يقول الله، أفيض من روحي على كل بشر، فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم ويرى شبّانكم رؤى وشيوخكم أحلامًا. على عبيدي وجواريّ أفيض من روحي في تلك الأيام فيتنبّأون" (أع 2: 16-18).
وتنتهي هذه المتتالية كما بدأت بتدخّل ظاهر لله، أصاب على أثره البرصُ مريم التي انتقدت موسى. والجديد هنا هو أن الله لا يسمع صراخ موسى، بل يبقي العقاب سبعة أيام. وسوف ينتظر الشعب أن تمرّ هذه الأيام السبعة قبل أن يتابع مسيرته، وهكذا يدلّ على تعلّقه بالنبيّة التي لعبت دورًا كبيرًا بعد عبور البحر الأحمر.
ماذا نستنتج من هذه النصوص الغريبة التي فيها يتصرّف الله كالوالد الذي يتعامل مع ابنه الرافض ويحاول أن يؤدّبه. لاشكّ في أننا أمام صور تشبيهيّة، انتروبومورفيّة (تشبّه الله بالانسان، تجعل في الله عواطف انسان). هذا يعني أننا نجعل الله يتصرّف كما يتصرّف انسان من الناس. لهذا، يجب أن لا نقرأ النصوص على حرفيّتها، بل نحاول أن نكتشف فيها أمانة الله في التزامه قضيّة شعبه. "يصارع" الله لكي يصل هذا الشعب إلى الحريّة، وإن طلب منه مجهودًا كبيرًا. ويجبر الله على معاقبة بني اسرائيل لئلاّ يتراخوا ويعودوا إلى أرض العبودية. فإله الحبّ له متطلّباته. هو كالعريس الغيور الذي لا يرضى بالخيانة.
ب- الأزمة الكبرى
في هذا الحدث (ف 13-14) وصل سوء التفاهم بين الله وشعبه إلى أزمة خطيرة في قادش، تبعها قرار لا رجوع عنه اتّخذه الرب هناك. لقد انتهى الآن العبور في الصحراء. فأرسل موسى رجالاً يجسّون أرض كنعان ويتعرّفون إلى القوى الموجودة في البلاد. عادوا وهم يحملون عنقودًا من العنب كبيرًا جدًا كرمز لغنى البلاد، غير أنهم قالوا إن أهل الأرض هم جبابرة.
بين غنى الأرض وسحرها من جهة، وخطر الاحتلال من جهة ثانية، اتّخذ الشعب موقفه. فرغم تدخّل الجاسوسين يشوع وكالب، رفضوا أن يسيروا إلى أرض الميعاد وفضّلوا أن يموتوا في البريّة. بل تطلّعوا إلى قائد آخر يعود بهم إلى مصر. وأرادوا أن يرجموا موسى وهارون. نحن هنا الآن أمام ثورة مفتوحة. وصل الشعب على عتبة الأرض المقدّسة، ولكنه يرفض عطيّة الله هذه.
كان الله قد وعد ابراهيم قال: "أعطيك أرضًا، وأعطيك نسلاً كبيرًا مثل الكواكب في السماء". فالنسل العديد هو هنا. والأرض أيضًا. ولكن النسل رفض أن يمتلك الأرض. فأمام هذا الرفض والعناد، لم يعد من معنى للعهد، فهدّد الرب بأن يبدأ كل شيء من البداية وكأن شيئًا لم يكن. فدافع موسى مرّة أخرى عن قضيّة شعبه. ولكنه ما نال هذه المرّة إلاّ نصف ما طلب. قال الرب: "بما أنكم تفضّلون أن تموتوا في البريّة، فليكن لكم ما تريدون. ستكون البريّة مقبرة لكم، ولن يدخل منكم أحد إلى كنعان سوى يشوع وكالب".
في الغد فهم الشعب خطأه. فهجم على العدو، مع أن موسى لم يتحرّك ولم يدع تابوت العهد يشارك في القتال، فدلّ على أنه لا يريد هذا الهجوم. وبما أن الرب لم يكن معه، تحطّم بنو اسرائيل بيد الأعداء.
لقد استندت هذا الأخبار إلى وقائع تاريخيّة. فعشيرة كالب احتلت أرض يهوذا انطلاقًا من قادش. أما سائر القبائل التي خرجت من مصر، فأخذت طريقًا أخرى عبر الصحراء. وقد فسّر الكاتب هذا التيهان الطويل بعقاب إلهي أصاب أولئك الذين استهانوا بعطيّة الأرض التي منحها الربّ.
هذا الحدث يشكّل أول فشل حقيقيّ لموسى. ما تبعه الشعبُ، بل أرادوا أن يقتلوه. أما الله فلا يزال يثق به. غير أن متاعب موسى ما انتهت بعد. فسوف تتبعها متاعبُ أخرى.
ج- اعتراض على موسى وهارون
مزج الراوي هنا (عد 16-19) خبرين اثنين. ونحن نحاول أن نفصل خبرًا عن خبر. رفض داتان وأبيرام أن يتبعا موسى. لاماه لأنه جعلهم يتركون أرضًا تدرّ لبنًا وعسلاً لكي يميتهم في البريّة. فالأرض التي يريدون العيش فيها، ليست أمامهم بل وراءهم. هي مصر. كانت الحال هناك أفضل من هنا. لقد جاء الله بنا إلى هنا لكي يميتنا. وهكذا طفح الكيل! ما عاد موسى يتشفّع من أجل المتمردين، بل طلب معاقبتهم. ونبّه الشعب: "ابتعدوا. فالله سيضرب ضربة". وفي الواقع، انفتحت الأرض وابتلعت الثائرَين وعيالهما.
والخبر الثاني الذي يمتزج بالأول هو خبر قورح الذي من نسل لاوي، والذي جرّ وراءه 250 مسؤولاً في اسرائيل لكي يعارضوا كهنوت هارون والمكانة المميّزة التي يحتّلها موسى أمام الرب. قالوا: كفى. جميع أعضاء الجماعة مقدّسون والرب هو في وسطهم. بأي حقّ ترتفعان على جماعة الرب؟ فطلب موسى حكم الرب، ولكنه تشفّع في الوقت عينه على ما فعل ابراهيم لئلاّ يكون العقاب جماعيًا. فالتهمت نار الرب الـ 250 المخطئين ساعة قاموا بعمل ليتورجيّ محفوظ لعائلة هارون.
وأضيف خبر ثالث على الخبرين الأولين مع تمرّد الشعب كله على موسى وهارون. لم يدافع موسى بنفسه هذه المرّة لكي يُبعد غضب الله، بل طلب من أخيه هارون أن يمارس كهنوته، فأسرع هارون عبر المخيّم مع مبخرته لكي يبعد ضربة الله عن الشعب.
تدلّ هذه الأخبار على فضل الكهنة، بني هارون، على اللاويين. كما تشدّد على قداسة الله التي تَبرز أكثر ما تبرز في احترام دقيق للطقوس. كانت تلك مرّة أولى، حلّ هارون الكاهن محل موسى الرئيس، في عمل التشفّع من أجل الشعب. وهكذا صارت وظيفة الليتورجيا حمْل الخلاص إلى الشعب.
2- من قادش إلى أرض الموعد
تقودنا هذه المرحلة عبر الاردن حتى ضفّة الاردن الشرقيّة. وقد انطبعت بموت مريم وهارون، كما تميّزت بإقصاء الرئيسين موسى وهارون بعد أن أظهرا عدم أهليّة في قيادة الشعب.
أ- موت مريم وهارون
بدأ الحدث بالكلام عن موت مريم، وانتهى بالكلام عن موت هارون (20: 1، 22-29). كان موت مريم موتًا طبيعيًا وقد حصل في قادش. أما موت هارون فكان "شاذًا". أعلن الرب أسباب موت أخي موسى، وأختار المكان، ونظّم الخلافة. مات هارون على قمّة جبل في عزلة تامّة، يحيط به ابنه وموسى. وقبل أن يموت جرِّد من ثيابه لئلا تلامس نجاسة طقسيّة. ونقل موسى الثياب من الأب إلى الابن، فأسَّس كهنوتًا وراثيًا.
نحن أمام تعارض مؤثّر بين موت النبيّة في السهل وسط أخصّائها، وبين موت عظيم الكهنة وحده بين الأرض والسماء. فالنبيّ لا يتميّز عن سائر الرجال (وإذا كانت نبيّة عن سائر النساء) إلاّ بكلمة يقولها. أما الكاهن فيتميّز عن الآخرين بما هو، بوظيفته التي تفرزه من أجل خدمة الاقداس.
ب- عقاب موسى وهارون
بين ميتتين حقيقيّتين، هناك موت رمزيّ يعيشه موسى كقائد للشعب. لقد رذله الله كما رذل أخاه هارون. وكان العقاب قاسيًا جدًا بحيث لم نعرف بما عصى موسى أمر الله.
نقطة الانطلاق هي هي: خاصم الشعب الأخوين بسبب نقص في المياه: "لماذا جئتما بنا إلى هذا الموضع التعيس"؟ في هذه المرّة، توافق الله مع الشعب، وطلب من موسى أن يؤمّن لهم الماء. ضرب موسى الصخر مرتين فجرى الماء. هذا ما سبق وفعله في مسّة ومريبة (خر 17). فلماذا يعاقب الله موسى؟ وما هي خطيئة "رجل الله"؟
نقرأ عد 7:20- 11: "قال الرب لموسى: خذ العصا واجمع الجماعة، أنت وهارون أخوك، وكلِّما الصخرة على مشهد منّي فتعطي مياهها، فيشربون هم وبهائمهم. فأخذ موسى العصا من أمام خيمة الربّ كما أمره الرب. وجمع موسى وهارون الجماعة أمام الصخرة وقال لهم موسى: اسمعوا أيها المتمرّدون، أنُخرج لكم من هذه الصخرة ماء؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرّتين فخرج ماء كثير، فشربت منه الجماعة وبهائمهم".
طلب الله من موسى أن يكلّم الصخرة، وأن يعطي الجماعة ماء لتشرب: زاد موسى على ما طلبه الله، فضرب الصخر مرّتين وكلّم الشعب. إذن، هو لم ينفّذ بدقّة المهمّة التي تلقّاها، بل فعل ما لم يطلب منه الله أن يفعل. بل راح أبعد ذلك، فنسب كل شيء إلى نفسه لا إلى الله. من جهة، سمّى الشعب "المتمرّدين". ولكن هذا التمرّد لم يكن موجّهًا ضدّ الله بل ضدّ موسى الذي جعل جماعة الرب تقيم في موضع تعيس، في قادش. وهكذا بدا الرب وكأنه يوافق على انتقادات الشعب. فمشروعه لا يقوم بأن تبقى جماعته في هذه الواحة. فقد هيّأ لها أرضًا أخرى. ومن جهة ثانية، اجتذب موسى الانتباه إلى نفسه وإلى قدرته في صنع العجائب، وما دعا الجماعة للتطلّع إلى الله.
في كل هذا العمل، شارك هارون أخاه. فالقائد السياسيّ والقائد الديني ما تصرّفا كوسيطين لله. لهذا جاء العقاب سريعًا ونهائيًا: "بما أنكما لم تؤمنا بي إيمانًا يظهر قداستي على مرأى بني اسرائيل، لذلك لا تُدخلان أنتما هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها لهم" (عد 20: 12).
أمام هذا المشهد، ندرك الصعوبة في قراءة النصوص البيبليّة. فإذا عالجناها في نظرتنا الحديثة التي تهتمّ بمصير الفرد ونفسيّته، نشعر أن العقاب لم يكن متناسبًا مع الخطيئة. وقد نفهم عقاب هارون وهو الذي كان السبب في قضيّة العجل الذهبيّ. ولكن أن نتّهم موسى لقلّة إيمانه، مع أنه أطاع الرب دومًا وفي كل شيء، فهذا ما لا نفهمه. أما يستطيع الله أن يغفر ضعفًا صغيرًا، هو الذي ما فتئ يغفر منذ البداية ذنوبًا كبيرة؟ حين نقرأ النصّ من هذه الزاوية، لا بدّ من أن نتشكّك.
غير أن الكاتب البيبليّ لا ينظر إلى الأمور من زاويتنا. هو لا يجعل من موسى (وهارون) "نجمًا" يروي حياته ويرفعه على رؤوس الملأ. هو لم يقل إن الله اختاره بسبب صفاته (هنا نتذكّر دعوة موسى وتهرّبه وخوفه). كما لا يشدّد على استحقاقاته. بل شدّد على أخطائه. فالكاتب يريد أن يبيّن أن كل سلطان سواء كان سياسيًا أم دينيًا، نتسلّمه من الله من أجل خير الشعب. لقي موسى وهارون المعارضة من الجماعة فلم يسمعا للرب (على مثال شاول فيما بعد). ما فهما أن الوضع قد تبدّل. فطبّقا وصْفات قديمة لكي يثبّتا أقدامهما. وما اعتبرا أنهما قد يكونان مخطئين.
وجاءت بسرعة نتيجة عقاب الله ضدّ موسى. اصطدم موسى بملك أدوم الذي منعه أن يعبر في أرضه. وبما أنه لا يستطيع أن "يزيل الحاجز"، وجب عليه أن يدور حول أرض أدوم. وقال النصّ إن ذراع أدوم القوية انتصبت في وجهه. استعملت هذه العبارة عادة لكي تدلّ على قدرة الله التي لا تقاوم (ذراع قويّة). ولكن الرب أرخى يديه وترك الخصم يتغلّب على موسى (خر 20: 14- 21).
ج- إزالة الاعداء
لم تجر المسيرة كما كان متوقَّعًا لها. ولكن شرّ الشرور لم يأت بعد. فالكتاب يعطينا نظرة مسبقة إلى ما تكونه حرب "الاحتلال" التي يرويها سفر يشوع. ستكون حربًا تامّة، تقوم لا في أن نقهر جيوش الاعداء وحسب، بل في إزالتهم من الوجود. لا مساومة في هذا الأمر: يقتلون كلهم بحدّ السيف، الرجال والنساء والاولاد والحيوان. هذا ما يسمّى الحرم (يحرّم على المقاتلين الاستفادة من أسرى الحرب ومالهم لأن كل هذا مكرّس للرب، لهذا يُذبح كما تُذبح الذبيحة) والابسال (أي تسليم كل شيء للهلاك) (عد 3:21). إذا نسي بنو اسرائيل أن يقوموا بهذا العمل، ينبهّهم الرب إلى ذلك أو يعاقبهم (1 صم 15: 10- 15).
هذا العنف القاسي من قبل الله، يحيّرنا ويشكّكنا. لماذا مثل هذا التوحّش؟ هنا لا نمزج بين ما حدث حقًا وما يرويه الكاتب البيبليّ الذي لا يعمل عمل المؤرخ، بل يحاول أن يقدّم تعليمًا. يعرف المؤرّخون أن قبائل بني اسرائيل التي صعدت من مصر تغلغلت بدون حرب في فلسطين. ومعركتا أريحا والعي لم تكونا دمويّتين كما يروي ذلك سفر يشوع. ولم تُهدم أسوار أريحا على أصوات البوق، لأن الأسوار كانت قد هُدمت قبل وصول بني اسرائيل بمايتي سنة على الأقّل. أما الكاتب البيبلي فيسعى إلى ابراز سموّ الله. فيدلّ كيف كانت تُقسم الأسلاب. كان الرئيس يقرّر الحصّة التي تعود له. ويُعطى سائر المحاربين حصصًا. ولكن حين يقدّم اسرائيل كل الاسلاب لله، فهو يؤكّد أنه وحده الرئيس وأن النصر هو نصره وحده. لهذا، لا يحتفظ بشيء لنفسه فيقدّم كل شيء لله ويحرقه كدلالة على تجرّده. هي نظرة روحيّة، عبّر عنها الكاتب بلغة حربيّة تقزّ آذاننا لدى سماعها. لهذا، نتجاوز اللغة، ونصل إلى الفكرة اللاهوتيّة التي تعيد كل شيء إلى الله.
د- نحو أرض الميعاد
وتابع شعب اسرائيل مسيرته نحو أرض الميعاد (عد 21: 4-35). ولكنه ما بدّل شيئًا في عوائده. بل ظلَّ يعارض الله الذي "أرسل" حيّات تحرق بعضّتها (عد 4:21-9). فقام موسى بعمل غريب: بناء على أمر الرب صنع حيّة نحاسيّة علّقها على سارية: فمن نظر إلى الحيّة نجا من الموت. كيف نفهم هذا العمل؟ كيف نوفّقه مع الوصايا العشر وتحريم الصور؟ فالحيّة المعلّقة على سارية ترمز إلى آلهة الشفاء عند الوثنيين (اسكولابيوس. وفي كل صيدليّة من صيدلياتنا). استعاد موسى هذا الرمز الوثني من أجل خدمة الله الذي هو السبب الحقيقيّ لكل شفاء. هو لم يصنع مثل هذا التمثال ليربح ودّ الاله الوئني، بل ليطيع الرب. إذن، تعود المبادرة إلى الله. وحين يرفع بنو اسرائيل عيونهم إلى الحيّة، فهم يرفعون في الوقت نفسه عيونهم إلى السماء، حيث صورة الحيّة الميتة. هنا نفكّر في الانجيل: "كما رفع موسى الحيّة في البريّة، هكذا يجب أن يرتفع ابن الانسان لكي ينال الحياة الأبديّة كلُّ من يؤمن به" (يو 3: 14- 15). فعلى الصليب، قُهر الشرّ في شخص يسوع، وكشف الله عن عمل خلاصه.
لا نتوقّف عند خبر بلعام وأتانه التي تتكلّم على مثال الحيّة في سفر التكوين (عد 22-24). فموسى لا يلعب أي دور في هذه المتتالية. بل نتوقّف عند الأحداث التي حصلت في بعل فغور (عد 25). لقد وصل التمرّد على الرب إلى الذروة. لقد استسلم الشعب إلى الزنى مع بنات موآب وسجدوا لآلهتهنّ. قتل موسى كل الذين جعلوا نفوسهم تحت نير بعل. وأرسل الرب وباء حصد 24000 شخصًا. وانتهى كل شيء بحربة أطلقها الكاهن فنحاس، ابن هارون، فقتل الاسرائيليّ (الزاني) والمرأة المديانيّة. نجد هنا مرّة أخرى ما حدث بعد عبادة العجل الذهبيّ. إن جيل الشعب الذي خرج من مصر، هو جيل جدير بالشفقة. خرج من مصر لكي يموت في البريّة.
وتهتمّ نهاية سفر العدد (ف 26-36) باحتلال الأرض العتيد. أعطى الرب تعليماته لموسى في هذا المجال. وأمره أيضًا بأن يختار يشوع خلفًا له. وضع عليه موسى يده فنقل إليه سلطته. فما بقي له سوى أن يودّع أخصّاءه وداعًا نقرأه في سفر التثنية.

3- نهاية موسى
عاقب الله هارون وموسى، فمنعهما من الدخول إلى أرض الميعاد. مات هارون على الجبل (ولم يعرف أحد موضع دفنه). وسيموت موسى بعده. ولكن قبل ذلك، استخلص موسى العبرة من حياته وأعطى نصائح حكمة لشعبه. ذاك هو موضوع سفر التثنية الذي هو وصيّة موسى قبل موته، والذي هو أفضل تفسير للشريعة التي سلّمها الرب لشعبه على جبل سيناء.
أ- سفر التثنية
من ألّف سفر التثنية؟ لاويون من مملكة الشمال هربوا من هناك حين سقطت السامرة سنة 722- 721 على يد ملك الأشوريّين. وصلوا إلى أورشليم وعرضوا ثمرة تأمّلهم الذي كيّف الشريعة القديمة التي أعطاها موسى مع الوضع الجديد. شدّدوا، شأنهم شأن النبيّ هوشع، على موضوع العهد واختيار اسرائيل. وجعل المدوّن النهائي هذا النصّ في فم موسى ليدلّ على التواصل في إيمان اسرائيل منذ موسى حتى اليوم.
لا نستطيع أن نلخّص سفر التثنية. فيجب أن نقرأه بعد أن ألهم عددًا من الصفحات في العهد الجديد. لهذا نكتفي بأن نورد هذا المقطع الذي يتلوه اليهوديّ التقيّ صلاة صباحيّة في كل يوم: "إسمع يا اسرائيل. الرب إلهنا هو الرب الواحد. فأحبّ الربّ إلهك بكل قلبك وكل كيانك وكل قوتك. وكلمات الوصايا التي أعطيك اليوم، تكون حاضرة في قلبك. تقولها لأبنائك، تقولها حين تكون في البيت وحين تسير في الطريق، حين تنام وحين تقوم" (تث 5:6-7).
ب- موت موسى
ومات موسى على قمّة جبل نبو (تث 24). شاهد أرض الموعد ولكنه لم يدخل إليها. قال له الرب: "هذه هي الأرض التي أقسمت لابراهيم واسحاق ويعقوب أن لنسلكم أعطيها. أريتك إياها بعينيك، لكنك إلى هناك لا تعبر" (آ 4). هذا هو عقاب موسى في البريّة. أيكون الله جائرًا؟ أيكون قد نسي فضل موسى؟ كلا. لأن سفر التثنية يقول أيضًا: "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب بأمر الربّ. دفنه في الوادي، في أرض موآب تجاه بيت فغور، ولا يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا. وكان موسى ابن مئة وعشرين سنة حين مات. لم يكلّ بصره ولم تذهب نضرته" (آ 5-7).
الرب دفن موسى. تصرّف معه كما يتصرّف القريب مع قريبه. ففعلة الرب الفريدة في العهد القديم، تدلّ على محبّته لمحرّر شعبه ومشترع اسرائيل. ولا يعرف إلاّ الله قبرَ موسى. وسيقول اليهود إن الله أخذه. هذا الموت يدلّ مسبقًا على موت النبي إيليا الذي أخذه الله أيضًا، وموت يسوع الذي اختطف في يوم صعوده. وسوف نجد هؤلاء الأشخاص الثلاثة على جبل التجلّي في النور والغمام.
يسوع هو موسى الجديد، ومشترع الأزمنة الجديدة، ونبيّ الله، وكلمة الله. فهو يمشي أيضًا على رأس جماعته نحو أرض الميعاد. جاء يمدّ عهد سيناء أبعد من الشعب العبراني، لكي لا ينحصر في شعب من الشعوب، بل ليصل إلى جميع الشعوب. "هذا هو العهد الجديد بدمي".

خاتمة
وهكذا تنتهي مسيرتنا مع موسى في ثلاثة فصول: من مولده إلى الخروج من مصر. الحياة في البريّة والاقامة في سيناء. إلى أبواب أرض الميعاد. تعرّفنا إلى موسى من خلال الأسفار الخمسة التي حملت اسمه. فاكتشفنا اهتمام الله بالبشر، بجميع البشر، لا بفئة دون فئة. واكتشفنا صبره الطويل وحبَّه المتطلّب. وأصغينا إلى مؤمنين عاشوا في القديم، فكلّموا الرب في صلاتهم. وتكلّموا عن الرب ومثّلوه في "صورة" بشريّة. هذا الرب يحبّ، يوبّخ، يغضب، يعاقب ويغفر. قد "يضرب" الاعداء ليخلّص شعبه. وقد يعاقب شعبه إذا خطئ. مثل هذه الصور تحيّرنا. ولكنها تفهمنا أن هذا الاله ليس فكرة مجرّدة، بل هو شخص حيّ، حمل الخلاص لشعب من الشعوب. بانتظار أن يحمله إلى جميع الشعوب بواسطة ابنه يسوع الذي ما أرسله ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM