الفصل الثامن والعشرون: أيوب والمحن التي مرّ فيها

الفصل الثامن والعشرون
أيوب والمحن التي مرّ فيها

كان في أرض عوص رجل اسمه أيوب، رجل نزيه، مستقيم، لا عيب فيه. يخاف الله ويحيد عن الشرّ. وُلد له سبعة بنين وثلاث بنات. وكانت قنيته سبعة آلاف من الغنم، ثلاثة آلاف جمل، خمس مئة أتان، وعددًا كبيرًا من الخدم. كان ذلك الرجل أعظم أبناء الشرق جميعًا.
شخص قد يكون وُجد في أرض حوران في سورية، أو في بلاد أدوم. في الاردن الحالي. ولكن الكاتب جعلنا في إطار من الصور والخيال وهمّه أن يقدّم لنا تعليمًا. نتوقّف هنا في هذا الفصل عن أيوب عند ثلاثة أقسام. الأول: أيوب مثال البرّ والتقوى، وقد جرّبه الشيطان. أيوب والألم الذي عرفه. أيوب وامرأته.

1- أيوب مثال البرّ والتقوى
نحن هنا أمام كتاب جريء كل الجرأة، بل هو يتفوّق في هذا المجال على كل أسفار العهد القديم. فهو سيدافع عن قضيّة الانسان "في وجه الله"، وسيقبل الله بهذا "التحدّي" حين يقول في النهاية إن أيوب تكلّم عنه كما يجب (7:42). لقد طرح هذا الكتاب مسألة الألم في كل أبعادها. خسران المال والاولاد، خسران الصحّة وراحة الجسد. خسران المرأة التي يجب أن تكون بجانب الرجل. خسران الاصدقاء. وفي النهاية، يحسّ أيوب أنه خسر الله نفسه، فما عاد يعرف أن يكلّمه.
أ- رجل في أرض عوص
ظهر أيوب فجأة على المسرح. لا أب له ولا جدّ، لا نسب له على ما تعوّدنا أن نقرأ في الكتاب المقدّس. ولكن هذا "المقتلَع" من صخر، استفاد من وضعه لكي يتصرّف بحريّة تجاه اللاهوت التقليدي في أرض اسرائيل. رفض القول بأن البار يرى السعادة على هذه الأرض، مع الخيرات الوفيرة والابناء العديدين، والصحّة التامة التي تقود الانسان إلى حياة طويلة الأمد.
أولاً: رجل غريب عن أرض فلسطين
ثم إن هذا الرجل لا يسكن في أرض اسرائيل، بل على حدود فلسطين. هو من هذا الشرق الواسع الذي رفد التوراة بعدد من الأخبار والصور. هو غريب عن أرض فلسطين، ومع ذلك هو مثال البرّ والتقوى. يشبه ملك جرار الذي عرف مخافة الله وسار بحسب "وصايا الله" وإن لم يكن يعرفها على ما يقول الكتاب (تك 20: 11). هذه الوصايا محفورة في قلبه، وقد عرف أن يسمع صوت الله من خلال ضميره، فما اقترب من سارة امرأة ابراهيم. هنا نسمع درسًا حول شموليّة الحياة بحسب "شريعة الله" لدى اليهوديّ وغير اليهوديّ، لأنّ الله هو إله الجميع.
وحين نقرأ بداية الخبر في أيوب، نحسّ أننا أمام صورة معمّمة مع بعض التضخيم: كان هذا الرجل أعظم أبناء المشرق. هكذا رفعه الكاتب إلى أعلى المراتب، ليعدّنا حتى نراه في قعر الذلّ والألم. أما الأرقام التي يجعلها أمام عيوننا فهي مصطلحة: سبعة، ثلاثة، ألف... تلك هي طريقة رمزيّة لكي يقول لنا الكاتب كم كان هذا الرجل "غنيًا" بالبنين (الرقم سبعة هو رقم الكمال) والبنات (7+3= 10). أما مواشيه فلا تعدّ، ولاسيّما غنمه التي هي 7×1000 (الذي هو مكعّب 10 أي 10×10×10)، وبالتالي كمال الكمال وملء الملء. وهكذا نفهم أن أيوب كان سعيدًا فما كان ينقصه شيء ممّا يتمنّاه الانسان على الأرض. فلماذا لا يكون متعبّدًا لله، كما قال "الشيطان" الذي سوف يجرّبه. إن لم تكن عبادته مخافة الحبيب الذي يخاف أن يغيظ حبيبه، فقد تكون مخافة العبد من سيّده، أو خوف الغنيّ الذي يتجنّب غضب إله قاس يجعله يخسر كل شيء إن لم يكن راضيًا عنه.
انسان صاحب سمات مثاليّة. وهو يتكلّم باسم الناس، باسم كل انسان. هو يستطيع أن يدافع عن الانسان لأنه "نزيه، مستقيم" (1: 1). والله نفسه أقرّ أنه بارّ. أنه يشبه ابراهيم الذي آمن فكان إيمانه الفاعل في الحياة اليوميّة مبرّرًا له (تك 15: 6). هذا ما كان عليه أيوب. بل كان بالإضافة إلى حياته، يراقب حياة أبنائه فيقدّم ذبيحة أسبوعيّة عنهم، لعلّهم أخطأوا (1: 5). ولكننا سننسى أمور الذبائح في متن الكتاب (ف 3-42)، ولا نعود إليها إلاّ في النهاية حين يطلب الله من أصدقاء أيّوب أن يحملوا إلى أيوب ذبائح يقدّمها عنهم (42: 8) وكأنه صار "كاهن" الله العليّ على مثال ملكيصادق الذي تلقّى العشور من ابراهيم.
ووجّه الله كلامه إلى الخصم، إلى الشيطان. نحن هنا كما في "مسرحيّة": يبدو الله بشكل ملك يحيط به "رجاله"، يحيط به الملائكة. وتغلغل الشيطان بينهم. وأشاد الله بفضيلة أيوب ودلَّ على رضاه عنه: "هل لاحظت عبدي أيوب؟ لا مثيل له على الأرض" (1: 8). ويعود النصّ إلى قرار سمعناه: "رجل نزيه، مستقيم، يخاف الله، ويحيد عن الشرّ". هذا هو حكم الله. أما أصدقاؤه فسوف يقولون: ليس من انسان نزيه، بارّ أمام الله. وهكذا بدا أيوب مؤمنًا كبيرًا. وهو حين يعارض "اللاهوت التقليديّ" سيكون لكلامه وقع كبير في الكتاب المقدّس. فهو إن قال ما قال، ينطلق من عميق إيمانه ليرفض "السجن" الذي سجنَه فيه فكرٌ متحجّر. لهذا، سوف نرى أنه لن يرضى بجواب البشر، ويتطلّع إلى جواب من عند الله. وهذا ما سيكون له فيقول: سمعت عنكم سماعًا. أما الآن فرأتني عيناك.
ثانيًا: توالت المحن عليه
وحلّت المحن بهذه الرجل النزيه، مع أن هذا الوضع يعرفه "اللاهوت التقليديّ". جاءت موجتان من المحن، والموجة الثانية أقسى من الأولى: السلب والنهب، الحريق، العواصف... وهكذا خسر أيوب كل ماله حتى أولاده الذين كانوا مجتمعين في بيت أخيهم الاكبر (1: 13). غير أن أيوب ظلّ ثابتًا في إيمانه.
عند ذاك قام أيوب وشقّ ثوبه وجزّ شعر رأسه. تلك هي علامات الحزن والأسى. ثم ارتمى على الأرض وسجد لله قائلاً: "عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أعود إلى هناك" (1: 20- 21). فالأرض هي أمّه أيضًا وإليها سيعود بعد موته، بعد أن خرج من حشا أمّه. وتابع أيوب كلامه: "الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا" (آ 21). أجل، الرب هو علّة كل شيء. ما يصيبنا من شر وما نحصل عليه من خير. أما الأسباب الثانويّة فلا تُذكر. لا يهتمّ الكاتب "بالامور الاقتصاديّة" وغيرها، بل بعلاقة الانسان بالله، لأن الكتاب المقدّس هو كتاب مسيرة الانسان إلى الله، ومسيرة الله إلى الانسان. ويتابع النصّ فيقول: "في كل هذا لم يخطأ أيوب، ولم يقل في الله كلمة" (آ 22). لم يجدّف على الرب كما وعد الشيطان نفسه فقال: "سترى كيف يجدّف عليك في وجهك" (1: 11).
ولكن محن أيوب لم تنته بعد. سوف يهاجمه "الشيطان" في جسده. وفي لغتنا، سوف يصيبه مرض قريب من البرص، منذ "باطن قدمه إلى قمّة رأسه" (7:2). وهكذا صار نجسًا، وأجبر على الابتعاد عن الناس والعيش خارج المدينة على ما يطلب لا 46:13 (ما دامت البلوى به، يكون نجسًا وليكن خارج المحلّة). "حينئذ أخذ شقفة من الخزف ليحكّ جسده بها وهو جالس على الرماد" (2: 8).
نحن هنا بلا شكّ في خبر تسيطر عليه المخيّلة والصور. وقد كُتب لكي يجعل الرواية دراماتيكية إلى أقصى الحدود. لم يبقَ من هذه المأساة سوى ثلاثة خدم يحملون إلى أيوب الأخبار السيّئة. ويشهدون ألمه. وقد يكونون حملوا الخبر إلى أصدقاء أيوب الذين جاؤوا إليه معزّين (1: 14، 17، 18).
تكدّست المصائب من أجل التعليم الذي يريد الكاتب أن يقدّمه. ولكن أترى الحياة غريبة عن مثل هذه الحالة: عيال تهلك بفعل العنف والتهجير. زلزال يطمر آلاف السكّان في الأرض، حروب، ذبح أطفال ونساء وشيوخ بعد أن هرب الرجال. لا، لسنا أمام خدعة أدبيّة، بل أمام واقع نعرفه كل يوم بحيث إن ما حصل لأيوب، هو شيء قليل ممّا يعرفه عالمنا.
ب- أيوب والشيطان
كان الكتاب يقول إن الله هو الذي يجرّب الانسان. هكذا جرّب داود فجعله يحصي الشعب ويقع في الخطيئة، لأنه حسب أن الشعب ملك له (2 صم 24: 2: قال له الرب: "عدَّ شعب اسرائيل ويهوذا). الله هو الذي يحيي. وهذا معروف. ولكنه هو الذي يميت. ولاسيّما الشاب الذي يكون خاطئًا. تلك كانت طريقة تفكير ناقصة. وأراد الكاتب أن يحسّنها، فنسب الخير إلى الله والشرّ والخطيئة إلى الشيطان. وما نسبه سفر صموئيل الثاني إلى الله حين تحدّث عن خطيئة داود، نسبه سفر أخبار الأيام الأول (21: 1-6) إلى الشيطان: "نوى الشيطان الشرّ لاسرائيل، فحضَّ داود على إحصاء شعبه" (آ 1).
هذا الشيطان سيذكره سفر أيوب. هو الخصم، وأيوب لا يعرفه. ولكن نتساءل نحن: من هو هذا الخصم الذي يستطيع الدخول إلى "مجلس الله"؟ ومن هو لكي يسمح له الله بأن يمتحن أيوب كما يشاء؟ في أي حال، لا نستطيع أن نفهم كيف يقبل الربّ بهذا الرهان القاسي الذي سيدفع ثمنه أيّوب. في الواقع، حين تصيبنا مصيبة، سواء كانت فشلاً أو مرضًا أو موتًا أو خسارة ما، قد ننسبها إلى الله، وننسبها إلى الشيطان. ونظرتنا إليها لا تسبق حصولها، بل تتبع حصولها. حين نحسّ بثقلها نطرح السؤال ونشبه ذلك "الفيلسوف" الآتي من بلاد الرافدين المتسائل عمّا فعل الله من شرّ لكي يحصل له ما حصل.
ظهر هذا الخصم المخيف بشكل متخفٍّ. ومرّ سريعًا في الفصلين الأولين من سفر أيوب. ولا يعود يُذكر فيما بعد. وفي أي حال، باءت محاولته بالفشل (1: 6-12؛ 2: 1-7). "كدَّس" المحن على أيوب، ولكن أيوب "لم يخطأ بشفتيه" (2: 10). لم يجدّف على الله. ومع ذلك، فحضوره يزرع في قلب الانسان الشكّ والارتياب. أتراه يختفي وراء المرض والألم؟ أو هل "يختبئ الله" وراء العدوّ ليمتحن الناس بواسطة الألم؟
أدخل الكاتب شخص الخصم، شخص إبليس، فدلّ على مدى الكلام حول الألم في جماعة المؤمنين. إنه شرح من عدّة شروح قدّمت في التاريخ، وقد توخّى أن يجعل كرامة الله بمنأى عن كل انتقاد. فلا نغشّ نفوسنا: نحن نجد الخصم هنا مرتبطًا كل الارتباط بالله. هو جزء من الحاشية، يسمع لله ويسمع الله له. بل هو الله يبادر ويوجّه إليه الكلام. ويلفت انتباهه إلى أيوب. وفي النهاية يقبل الله بما عرضه الخصم في شأن أيوب.
غير أن أيوب يحدّد موقعه في كل المحن التي تخيّلها الشيطان، بالنسبة إلى الله. فبعد خسارة خيراته وموت أبنائه وخدمه، بارك اسم الرب، وما نسب إلى الله عملاً لا يليق به (1: 22). وحين ابتُلي بالمرض في جسده ظلّ هادئًا كل الهدوء، رغم كلام امرأته. لم يخطأ بشفتيه (2: 10). ولكنه لم يقل كلمة عن إبليس. فهو يجهله كل الجهل. ففي المصائب التي تؤلمه، لا يرى إلاّ يد الله. أما الشيطان، فسيكون دوره سريعًا. وهكذا يُبعد الكاتب الحلّ السهل الذي ينسب الخير إلى الله والشرّ إلى الشيطان. وكأننا أمام إله الخير وإله الشرّ! فلا إله إلا الإله الوحيد. ولا قدير سواه. ومنه ينتظر أيوب جوابًا. والصراع لن يكون بين أيوب وإبليس، بل بين أيوب والله، الذي هو وحده المحاور مع الانسان منذ بداية الكون، ساعة كان يتمشّى في الجنّة عند برودة المساء برفقة آدم (تك 3: 8).


2- أيوب والألم
هناك ألم وألم. ولكن كل ألم يطرح علينا سؤالاً، بل يجعلنا أمام مشكلة. لا شكّ في أن الكاتب "اخترع" شخص أيوب كما نراه في المقدّمة (ف 1-2) وفي الخاتمة (7:42-16)، فجعل كل شيء ينتهي على أحسن حال. "صبر" أيوب، فنال في النهاية ضعف ما كان له في البداية. هنا نحن بعيدون جدًا عن الواقع، ولكن الكاتب أراد هذا "الاطار" للكتاب لكي يجعل مروره مقبولاً في تقاليد الايمان بسبب الانتقاد القاسي الذي قدّمه، وموقف الرفض الذي اتّخذه.
في أي حال، لا يهمّ أن نعرف من هو أيوب. فأيوب هو أنا، هو أنت، هو كل واحد منا يمرّ في الألم فلا يعود يعرف كيف يتصرّف مع الله، مع نفسه، مع الآخرين. وهو حين يتكلّم عن ألمه، لا يعود شخصًا من الخيال، بل من الواقع والواقع الفريد. وقد جمع فيه الكاتب كل أنواع الآلام فجعله نموذجًا لكل متألّم. ذكر القلق وعدم النوم، والاحلام المزعجة، والهذيان والمرارة، والاحساس بأن الجميع رذلوه. وفي النهاية، تعب من الحياة. لم تغب ناحية من نواحي الألم. وحين نقرأ سفر أيوب، نحسّ أن كلماته قريبة من كلماتنا. وحاله تشبه حالنا.
جاءت "الضربة" على أيوب، فتركته "بلا حراك". كان كمن سقط على الأرض، ولكن حرارة الجسم لم تجعله يحسّ بما أصابه حقًا. ما استطاع أن يجد الكلمات لكي يعبّر بها عن عذابه وألمه. ولكن مع الفصل الثالث، سنسمع تأوّهاته: "فتح أيوب فمه ولعن يومه وقال: لا كان نهار وُلدت فيه، ولا ليل قال: حُبل برجل" (3: 1-3). وتدخّل أيوب أكثر من مرّة في "حواره" مع أصدقائه، فبدا كل تدخّل له قاطعًا وواقعيًا. وانحدر واجتذبنا معه في انحداره إلى عمق الألم وما فيه من رعب وفظاعة.
وبحث أيوب عن الكلمات لكي يحدّثنا عن ألمه. فتكلّم عن انحطاط على مستوى الجسد، "لحمي كساه الدود والقروح. وجلدي تشقّق قيحًا وسال" (7: 5). وفي ف 3 نقرأ صورة كاملة عن هذه الوضع الذي فيه يصير الانسان نفاية: "روحي تفيض مني وأيام البؤس تُطبق عليّ. في الليل تنتخر عظامي ويقضّ الألم مضجعي"، أو "أعصابي لا ترتاح". ويتابع النصّ: "بشدّة قوّته يأخذني بثيابي، ويضيّق عليّ خناقي. طرحني الله في الوحل، فمثل التراب أنا والرماد" (آ 16-19). ونقرأ في آ 27- 30: "أحشائي تغلي ولا تهدأ، وأيام البؤس تلاقيني... تحوّل جلدي إلى سواد واحترقت عظامي من الحرارة".
في الفصل السابع، عرّفنا أيوب، وكل مريض منا، على الأرق والسهاد، على الليالي التي تحمل إليه القلق والإرهاق. ما إن أنام حتى أقول: متى أقوم؟ متى الفجر؟ وأقوم فأقول: ما أبطأ المساء (آ 3-4). "إن قلت: فراشي يعزّيني ومضجعي يخفّف شكواي، روّعتَني بفظائع الأحلام وباغتّني برهيب الرؤى فأرى الخنق أفضل شيء لي والموت خيرًا من عذابي" (آ 13- 15).
ويتحدّث أيوب عن الحسرة والمرارة. "لو أن بؤسي ومصائبي جميعًا، تقدَّر وتُوزن في ميزان، لكانت أثقل من رمال البحر. وكيف لا يكون كلامي لغوًا وأهوال الله تمحقني، وسهامه تغرز بي، وسمومه تمتصّ روحي" (6: 2- 4). ونقرأ في ف 16: "والآن إن تكلّمت لا تزول كآبتي، أو تمنَّعت لا تزول عني. لأن الله هدّ عزيمتي ودمّر كل جماعتي" (آ 6-7). "احمرّ وجهي من البكاء، وعلا جفني ظلالُ الموت" (آ 16).
تعب أيوب من الحياة، وما أراد أن تطول وهي على ما هي. فصرخ: "لماذا لم أمت من الرحم أو فاضت روحي عندما خرجت؟ لماذا قبلتني الركبتان أو الثديان حتى أرضع؟ إذًا كنت الآن أرقد بسلام غارقًا في سبات مريح" (3: 11-13). أجل، تمنّى لو لم يولد. وبما أنه وُلد تمنّى لو أنه مات ساعة خرج إلى النور. لهذا قال: "الانسان لاجئ على الأرض، وكأيام الأجير أيامه! كالعبد المشتاق إلى الظلّ، والأجير الذي ينتظر أجرته. شهور من البؤس نصيبي، وليال من الشقاء قُدّرت لي" (7: 1-3). وقد يتمنّى أن يخنق (7: 15). فيقول: "سئمت حياتي فسأبدي شكواي ولو تكلّمت بمرارة نفس" (1:10).
وفي النهاية أحسّ بنفسه مرذولاً. رذله الأصدقاء، بل سحقوه بأقوالهم. تركه الذين بقربه. يدعوهم فلا يجيبون. يشتكي وليس من يريد أن يسمع (19: 1-7). قال: "إخواني ابتعدوا عنّي، وازدرى بي معارفي. أقاربي وأصدقائي خذلوني، وأهل بيتي تناسوا ذكري. إمائي حسبنني أجنبيًا وغريبًا ما رأينه من قبل. إن ناديت خادمي فلا يجيب ولو تضرّعت إليه بفمي. لهاثي صار كريهًا عند زوجتي، وجسمي نتنًا لبني أمّي. حتى الصغار اشمأزّوا منّي، وفي غيابي يتكلّمون عليّ. رجالي كلهم يمقتونني، والذين أحببتهم انقلبوا عليّ" (آ 13-19).

3- أيوب وامرأته
تحدّث "الروائيون" مرارًا عن امرأة أيوب واعتبروا أن القارئ الكتابي لم يعرها الاهتمام الكافي. لا اسم لها. هي هنا. ساعة ترك أيوبَ أصدقاؤه، نجدها بقربه، تحاول أن تتكلّم، أن تقول رأيها في ما حدث لأيوب المتمسّك "ببرارته" كأني به يرفض الضعف البشري.
أصابت الضربة أيوب. وأصابت امرأته أيضًا في ما أصاب بيتها وعيالها من مصاب. أطال الكاتب الحديث عن ألم أيوب واعتراضه. ولكنه لم يقل كلمة عن عذابها هي. فهو ينسب إليها عبارة ستنال على أثرها توبيخًا من زوجها: "كلامك هذا كلام امرأة جاهلة" (2: 10). ففي عالم آباء شعب الله الذي أنجب سفر أيوب، اختفى صوت النساء اللواتي وقفن في ظلّ أزواجهن أو لبثن داخل الخيمة يهيِّئن الطعام للضيوف كما فعلت سارة زوجة ابراهيم لمّا جاءه أولئك الضيوف الثلاثة (تك 6:18-9). أما لفظة جهالة فتدلّ على من نسي الرب على ما في المزمور. "قال الجاهل في قلبه ليس إله".
ولماذا وبّخ أيوب امرأته؟ لأنها قالت له: "جدّف على الله ومت" (2: 9). أو أن الله يقتله. أو أن الناس يعرفون به فيرجمونه. وهكذا يرتاح من هذه الحياة التعيسة. ولكن أما نستطيع أن ندافع عن موقف هذه المرأة؟ يبدو أن الجواب هو بالإيجاب، رغم ظاهر كلامها. فأيوب كما في الحوارات الشعريّة سيدلّ على أن امرأته كانت على حقّ، فأخذ لهجة التشكّي، بل لعن اليوم الذي وُلد فيه (أي 3: 1ي)، بل بدا عنيفًا حين رفع شكواه إلى الله، بل على الله. لقد اشتكى أيوب إلى الله عن الله. فاعتبره "بدون حكمة" حين يسمح بالشرّ. واعتبر أنه لا يعتني بالانسان، فقال: "ما الانسان لتحسبه عظيمًا أو لتشغل به قلبك؟ تراقبه صباحًا بعد صباح، وفي كل لحظة تمتحنه؟ إلى متى تنصرف عنّي فتمهلني لأبلع ريقي؟ خطئت فماذا أعمل لك، أنت يا رقيب البشر؟ لماذا جعلتني هدفًا لك وحملاً ثقيلاً عليك؟ لماذا لا تتحمّل معصيتي ولا تغضّ النظر عن إثمي" (17:7- 21)؟
قال المزمور الثامن إن الله جعل الانسان عظيمًا. رفعه إلى مستوى الالوهة. جعل كل شيء تحت قدميه. أما أيوب، فأظهر أن الانسان ليس بعظيم. هو كلا شيء. وتحدّث مز 139 عن حضور الله في كل مكان، عن معرفته التي تحيط بالانسان أينما ذهب لكي تحميه، فاعتبر أيوب أن الله يراقب لكي يضرب، لا لكي يعمل من أجل البشر. وهكذا التقى مع امرأته "الجاهلة" بجهل يتفوّق على جهلها. فكأني به يُنكر وجود الله، أو هو يتعامل معه وكأنه ليس الإله القدير الذي عرفه الكتاب المقدّس كخالق للسماء والأرض.
تألّم أيوب. هذا ما لا شكّ فيه. ولكن يجب أن لا ننسى ألم الصديق والرفيق. ولماذا ننسى في هذا المجال ألم امرأته التي لم يكن لها المركز الاجتماعيّ الذي كان لزوجها، التي لم يعطَ لها أن تعبّر عن حالتها النفسيّة كما عبّر هو. ومع ذلك، فهي تتألّم لألم زوجها وإن ظلّ ألمها خفيًا. فألمها امتداد بل استباق لألم زوجها.
هنا نعود إلى التقليد اليهوديّ القديم الذي حاول أدن يعيد التوزان إلى النصّ فأعطى لامرأة أيوب مدى أرحب. وها نحن نتوقّف عن نصّين يشيران إلى العواطف التي أحسّت بها امرأة أيوب.
الأول يعود إلى الترجمة السبعينيّة اليونانيّة (حوالي سنة 250 ق م) التي توسّعت في الكلمة التي تلفّظت بها امرأة أيوب. فجعلتنا ندرك الألم الذي شعرت به. ووضعت هذه الترجمة في فمها الكلمات التالية: "إلى متى سوف تصبر قائلاً: ها أنا سأثبت أيضًا بعض الوقت، منتظرًا رجاء خلاصي؟ فها إن ذكرك قد تلاشى من الأرض: زال بنوك وبناتك، ألم ومشقة أحشائي، الذين لأجلهم استنفدت قواي عبثًا وتعبت. أما أنت فجالس على فساد الدود تقضي لياليك في الهواء الطلق. وأنا تائهة خادمة، أدور من مكان إلى مكان، ومن بيت إلى بيت، انتظر غروب الشمس لكي أرتاح من أتعابي وآلامي التي تضايقني الآن كل المضايقة" (2: 9).
والثاني هو "وصيّة أيوب"، منحول يهوديّ (أي ليس من الأسفار القانونيّة) يعود، على ما يبدو، إلى القرن الأول ق م. قد أعطى لامرأة أيوب مكانًا أوسع فأشار إلى تدخّلات كثيرة من قبلها، وصوّر وضعها وما فيه من شقاء وهي التي يجب عليها أن تتسوّل لتحمل الطعام إلى زوجها. وإليك بعض ما وضع في فمها من كلام:
أيوب، أيوب، إلى متى أنت تستمرّ جالسًا على الزبل والرماد خارج المدينة، فتقول: "بعد وقت قليل". أنت تنتظر رجاء خلاصك، وأنا تائهة، خادمة لقاء أجر، أجول من مكان إلى مكان... أنا بائسة، أعمل النهار وأتألّم الليل لأجلب الخبز وأحمله إليك. من لم يدهش قائلاً: "هل هذه سيتيس امرأة أيوب التي تقايض شعرها الآن ببعض الخبزات؟ أيوب، أيوب، بعد كل الذي قيل، أقول لك بإيجاز: سُحقت عظامي بضعف قلبي. قم. خذ هذه الخبزات لتقتات. ثم قل كلمة للرب ومت، فانجو من الحزن الذي يسبّبه لي ألم جسدك" (وصّة أيوب 24- 15).
هنا نستطيع أن نقابل امرأة أيوب مع امرأة طوبيت (طو 18:5-23؛ 10: 1-7). ذهبت إلى العمل لتعيل زوجها. ولما جاءت بجدي حسبه أنه سرقة فطلب منها أن تعيده إلى أصحابه. وإن ألمها على ابنها الغائب يقابل ألم امرأة أيوب التي قد تكون فقدت أولادها في زلزال سقط على البيت الذي كانوا فيه.

خاتمة
تلك هي إطلالة أولى على سفر أيوب من خلال المحن التي مرّ فيها. فهذا الرجل البار، النزيه والمستقيم، قد أصابته المحنة. أو كما نقول: سمح الله للشيطان بأن يمتحنه. ظلّ رجلَ الايمان، ولكنه التقى بأشخاص عديدين في الآداب العالمية، يونانيّة، لاتينيّة، فرنسيّة، روسيّة... حيث "يثور" الابطال على الاله أو على الآلهة التي يرون فيها قدرًا يسيطر عليهم ولا يترك لهم نفسًا. ولكن أيوب لم يستسلم للقدر، فهو الذي ينتظر أن يرى الله، أن تعود إليه هذه الأعضاء "المريضة". ولكن أيوب ليس ذلك "الرواقي" الذي يتألّم وكأنه صخر جامد. بل هو انسان يبكي. أيوب "بطل" جريء، مثل سائر الأبطال (أوديب، بروميتاوس) ولكن قلبه مليء بالايمان. ومن هذا الايمان يستقي لكي يقول في خطبته الاخيرة: "حيّ الله الذي أنكر حقي، القدير الذي ملأني مرارة: ما دام بي نسمة من حياة، ونفخة من الله في أنفي، لن تنطق بالسوء شفتاي. ولا يتلفّظ لساني بالمكر" (27: 2-4). راهن "الشيطان" وقال للرب: سيجدّف عليك في وجهك. ولكن الشيطان خسر الرهان. وما خرج من قلب أيوب كتعبير عن الألم اعتبره الله الكلام الصحيح. والموقف الذي وقفه أيوب، هو موقف المؤمن الذي يشبه موقف يسوع في بستان الزيتون. بكى وتألّم، وفي النهاية استسلم بين يدي الله قائلاً: "لا مشيئتي، بل مشيئتك".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM