الفصل الثالث والعشرون: أكرم أباك وأمك

الفصل الثالث والعشرون
أكرم أباك وأمك

حين نفكّر بالتقلّبات التي وصلت إليها العلاقات الاجتماعية، تبدو قراءة الوصية المُتعلّقة باكرام الوالدين في أيامنا، محاولة لا فائدة لها، إن لم تكن يائسة في بعض البلدان. ثم إن الطابع المكثّف للتعبير يجعل فهم هذه الوصيّة صعبًا. لهذا سنجعلها في إطار أوسع من النصّ المباشر. سنجعلها في إطار الكتاب المقدّس ككل. ومع هذا، أي تعليم. ستقدّمه لنا هذه الوصيّة المتعلّقة باكرام الوالدين؟ أما يجب علينا أن نعود نحن المسيحيّين إلى العهد الجديد ونكتفي به؟ ولكن جذور الوصيّة عميقة جدًا، لا في التوراة، بل في العالم الشرقي. نبدأ في العالم الشرقيّ وفي التوراة. وفي النهاية، نتأمّل في نصوص العهد الجديد.

1- مفاجآت
نجد في نص الوصايا أوّلاً سلسلة من المحرّمات تتوجّه إلى كل مؤمن. وفجأة تتّخذ الوصيّة عن الوالدين نبرة إيجابيّة: "أكرم أباك وأمّك، لكي تطول أيامك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك إياها" (خر 20: 12). أما النسخة الثانية لنص الوصايا، نسخة سفر التثنية (16:5)، فلا تختلف في العمق عمّا نقرأه في سفر الخروج، ولكنها تقدّم نصًا أوسع: "أكرم أباك وأمّك، كما أمرك الرب إلهك، لكي تطول أيامك وتصيب خيرًا (تكون سعيدًا) في الأرض التي يعطيك الرب إلهك إياها".
فإن تركنا الآن جانبًا الاختلافات بين النصين، يقدّم لنا تعبيرُ الوصيتين عدَّة مفاجآت.
أولاً: نحن لا نجد تحريمًا يشير إلى عمل محدّد، بل تعبيرًا إيجابيًا: أكرم أباك وأمّك. وهذه الخصوصيّة تجعل الوصيّة على الوالدين قريبة من الوصيّة على السبت التي تشبهها.
ثانيًا: يتبع الوصيّة بركة يَعد بها الكتاب الذين يحفظونها، وهذه ظاهرة فريدة في نصّ الوصايا.
ثالثًا: تتوجّه الوصيّة إلى أشخاص بالغين لا إلى أولاد، لأنّ مجمل الوصايا تبدو بشكل نداء اليهم. إذن، لا نستطيع أن نقول بسهولة، كما يُظنّ عادة، أنّ الوصيّة تتوجّه حصرًا إلى أولاد. فان فعلنا، حصرنا البعد الحقيقي للوصيّة في إطار ضيّق.
وعلاوة على ذلك، إنّ موضع الوصيّة داخل مجموعة الوصايا، يحدّد موقعها بين فرائض تتعلّق بالله (خر 3:20- 11: أنا الرب إلهك) وبين وصايا تتعلّق بالقريب (خر 20: 13-17: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق). وهكذا تكون الوصيّة على الأهل نقطة اتصال بين قسمَيْ نصّ الوصايا.
موضع فريد لهذه الوصيّة بين الوصايا، وهذا ما يتطلّب تفسيرًا. غير أن النصّ لا يقول لنا بوضوح لماذا ينال الوالدان معاملة خاصة. بالإضافة إلى ذلك، فالمضمون العملي للوصيّة لا ينكشف، لأنّ فعل "أكرم" يتضمّن سلوكًا عامًا يحمل تطبيقات متنوعة.
سنحاول أن نبحث في الكتاب المقدّس لنحدّد الموقف الذي نتّخذه تجاه الوالدين. وبعد هذا نعود إلى الطريقة التي بها عبّر النصّ عن هذه الوصيّة.

2- الواجبات تجاه الوالدين
يستحيل علينا أن نبحث في كل الأسفار المقدّسة عن الموقف الذي يجب أن يقفه المؤمن تجاه والديه. ولكننا سنختار بعض النصوص منطلقين من سفر الأمثال الذي يجمع في أقوال قصيرة مأثورة، حكمة تهتمّ بالعلاقات داخل الأسرة.
اليك كيف يصوّر أم 2: 20 سلوكًا مخطئًا تجاه الوالدين: "من لعن أباه وأمه انطفأ سراجه وسط الظلمات". فإذا كانت لعنة الانسان لوالديه خاطئة، فلأنها تكشف عمق كيانه: فالذي يلعن يدخل في منطق رهيب يقود من الشرّ إلى الشقاء، وقد يجرّ على نفسه اللعنة التي نادى بها للقريب: "أحبّ اللعنة فأدركته. ما أراد أن يبارك فابتعدت عنه البركة" (مز 109: 17).
مثل هذا الموقف يشكّل انجذابًا إلى الشرّ يتعدّى الوالدين وحدهما: "رُبّ جيل يلعن أباه ولا يبارك أمّه" (أم 30: 11): موقفان مترادفان. ومثل هذا السلوك الخاطئ يجد عقابه بالحرمان من النسل. ينطفئ سراجه.
ويُبرز أم 30: 10 موقف الانسان الذي يزدري بوالديه ويحتقرهما: "(الانسان) الذي يستهزئ بالأب ويرفض الطاعة الواجبة للأم تفقأ غربانُ الوادي عينه وتأكله النسور". ويحذّر مثل آخر ذلك الذي يضع يده على مال والديه: "الذي لا يرى معصية في عمله حين يسلب أباه وأمّه، هو شريك اللصوص" (أم 28: 24). هو لص وسارق. مثل هذه الأعمال ليست أعمال أولاد بل أناس ناضجين تعدّوا على والديهم بعد أن تقدّموا في العمر: "إسمع لأبيك الذي ولدك، ولا تستهن بأمّك إذا شاخت" (أم 23: 22).
وهناك أقوال أخرى تحمل لهجة إيجابيّة وتقدّم المثال الذي تعرضه الحكمة: الابن البار والحكيم يُفرح والديه. وللوصول إلى هذه الحالة، عليه أن يتقبّل تربية الوالدين، وإن قاسية. ولكن هذه الأقوال تتوجّه إلى الوالدين لا إلى الأولاد.
"أدّب ابنك فيريحك ويهب لنفسك المسرّة" (أم 29: 17). "الابن الحكيم يسرّ أباه، يعكس تربية أبيه، والابن الساخر لا يسمع التأنيب... من يوفّر (لا يستعمل) عصاه يبغض ابنه (يدلّ على أنه لا يحبّه)، ومن يحبّ ابنه يبتكر إلى تأديبه" (أم 13: 1- 24).
ويصطدم التأديب الذي يعطيه الأهل بحريّة الشاب اليوم كما في الماضي. ولهذا يأخذ سفر الأمثال الأسلوب الشَرطي، فيدلّ على أمل الوالدين بأن يكونوا قد ربّوا ولدًا يعرف كيف يقود نفسه بنفسه. "يا بني، إن كان قلبك حكيمًا يفرح قلبي أنا أيضًا، ويبتهج كياني (حرفيًا: كليتاي، مركز العاطفة) اذا نطقت شفتاك بالاستقامة" (أم 23: 15) ويتّخذ الأب لهجة التحريض: "يا بُنيّ كن حكيمًا وفرّح قلبي، وإن عيّرني أحد أقحمته بكلمة" (أم 27: 11).
نحسُّ هنا بقلق الوالدين، وهو قلق عرفته كل الأزمنة. أما يجب على الابن أن يرفع رأس والديه حين يدلّ بسلوكه على التربية التي حصل عليها. فإن لم يفعل، كان سلوكه السيِّئ، توبيخًا متواصلاً لهما تعود مسؤوليته إلى الوالدين اللذين تهاملا في تربيته. مقابل هذا، نجد عدّة أقوال تعبّر عن فرح الوالدين الذين يكتشفون ما صار إليه الذين انجبوهم: "أبو البار يرقص ابتهاجًا، ووالد الحكيم يفرح به. فليفرح أبوك وأمّك، ولترقص فرحًا تلك التي ولدتك" (أم 23: 24- 25). "الابن الحكيم يسرّ أباه، والابن الجاهل غمّ لأمّه" (أم 10: 1).
إن أراد الابن ان يُفرح والديه، سمع لهما وتعلّم منهما ما يتيح له بأن يكون حكيمًا وصالحًا (وصادقًا في تصرفاته، صدّيقًا). دور الوالدين هو دور المربِّين، غير أن الأمثال لا تدخل في تفاصيل تربيتهم. وهذا واضح بصورة خاصة في النصوص المتأخرة التي تقدّم لنا تحريضًا عامًا لا يصل بنا إلى أمور محدّدة. "اسمع، يا بُني، تأديب أبيك، ولا تحتقر تعليم أمّك" (أم 1: 8). قد يكون مثل هذا النداء، تحذيرًا في أمور ملموسة، ولكن يتعدّاها ويتجاوزها إلى مجمل الحياة.
وهكذا يشدّد سفر الأمثال على الموقف الذي يتّخذه الابن البالغ من والديه، على التربية التي يقوم بها الوالدون تجاه أولادهم ليصلوا إلى مرحلة النضج ويعرفوا كيف يتصرّفون. وهكذا نكون تجاه مسؤولية متبادلة. من جهة، يكون الانسان مسؤولاً عن والديه، ولاسيّما حين يتقدّمون في العمر. ومن جهة ثانية، الوالدان مسؤولان عن تربية أولادهما وإن لم تكن النتيجة دومًا على قدر آمالهما.

3- الوالدون والابناء تجاه الشريعة
ما تقوله أسفار الحكمة عن العلاقات بين الوالدين والأبناء، لا ينحصر فيها. فنحن نجد في النصوص التشريعيّة ادراكًا لهذه العلاقات. فإذا أردنا أن نكتشفها، نعيد قراءة الوصيّة على الوالدين في تعبير تث 5: 16 الذي يحيلنا إلى تشريع سابق: "كما أمرك الرب إلهك".
إذا بحثنا عن الأمر الذي أحيل إليه القارئ، نجد الفرائض القديمة التي نقرأها في سفر الخروج: "من ضرب أباه أو أمّه فليُقتل قتلاً" (خر 21: 15). "من لعن (سبّ، شتم) أباه أو أمّه، فليقتل قتلاً" (خر 17:21).
نلاحظ أنّ الفرائض القديمة في سفر الخروج تندّد بأعمال سيّئة يقوم بها الانسان البالغ تجاه والديه، فيعاقَب عليها عقابًا لا ينطبق على أولاد صغار. وهكذا نلتقي بما اكتشفناه في سفر الأمثال.
ولكن وصيّة تث 5: 16، وإن عادت بنا إلى فرائض سفر الخروج، فهي تتبنَّى عبارة إيجابيّة عامّة، ولا تحدّد عملاً ملموسًا تمنعه أو تدعو إليه. هنا يطرح السؤال التالي: أي تأثير جعل النصَّ ينتقل من تعبير سلبي محدّد إلى تعبير إيجابي عام؟ هل نستطيع أن ندرك هذا التطوّر؟ سنحاول.
نلاحظ أوّلاً أنّ الوالدين يلعبون في إطار الشرع العائلي دورًا قانونيًا تجاه أولادهم المتزوّجين. ويعرض سفر التثنية حالتين تدلاّن على أنّ السلطة الوالدية لا تمارَس فقط تجاه الأولاد، بل أيضًا تجاه البالغين. ففي تث 22: 13- 21 يتدخّل الوالدان مع ابنتهما التي تزوجت حديثًا: إن اتُّهمت بأنها لم تكن عذراء، يدافع عنها والدها أمام المحكمة، أمام الشيوخ. وإن ربح الوالدان الدعوة أدَّب شيوخ المدينة عريسها الذي اتهمها. وإن كان الأمر صحيحًا ولم توجد الفتاة عذراء، تُقتل الفتاة على باب أبيها. لا ننسى أننا في عالم قبلي قديم، وأن شريعة الغفران المسيحيّة لم تزل بعيدة. ولكن هذا يدلّ على مسؤولية الوالدين على مستوى التربية. زنت في بيت أبيها فعلى باب بيت أبيها تموت. ومسؤوليتهما على مستوى مرافقة أولادهما واجبة حتى في عمر الشباب، أقلّه على مستوى النصح والارشاد.
والحالة الثانية هي حالة الولد المتمرّد الذي يرفض أن يسمع لوالديه ويطيعهما (تث 18:21- 21). إن لم يستطيعا إعادته إلى طريق الصواب يقدّمانه أمام محكمة الشيوخ الذين يحكمون عليه بالاعدام. مثل هذا العقاب يصيب الابن العاصي المتمرّد الذي يبدّد الارث الأبوي. كم نحن في خطّ ما نعرفه عن ملكة فرنسا التي قالت لابنها القديس لويس (التاسع): "أفضّل أن أراك ميتًا على أن ترتكب خطيئة واحدة مميتة"!
هذان المثلان المأخوذان من سفر التثنية، يدلاّن على مدى علاقات الوالدين بأولادهم. وإن كنا أمام حالتين تجعلاننا في أقصى الحدود، إلاّ أنهما تبيّنان أنّ السلطة الوالدية كانت تجد لها سندًا قويًا في إطار المجتمع. ونستطيع أيضًا أن نبيّن أن هذه السلطة الوالدية توازي سلطة الكاهن أو سلطة القاضي، لأنّ من رفض أن يخضع لهاتين السلطتين يُقتل هو أيضًا قتلاً (تث 12:17: من لم يسمع من الكاهن أو من القاضي فليقتل).
ولكنّنا نخطئ إن حصرنا السلطة الوالدية بدور قانوني. فهذه السلطة هي في سفر التثنية، في خدمة شريعة الله التي تنتقل من جيل إلى جيل بواسطة الوالدين. فإن كان موسى قد مارس وظيفة تعليميّة تجاه شعبه الذي أخرجه من مصر، فسلّم إليه شرائع وأحكامًا يمارسها في الأرض الموعودة وتطول أيامه (تث 6: 2)، فانتقال هذه الشرائع والأحكام يتمّ في كل جيل بواسطة الوالدين الذين يعلّموها لأولادهم. هذا ما قاله الله لموسى حين طلب منه أن يجمع الشعب: "أسمعهم كلامي لكي يتعلموا أن يخافوني (يتعلموا مخافتي) ما داموا على الأرض ويعلّموا بنيهم ذلك" (تث 4: 10).
في هذا الاطار الذي يذكّرنا بظهور الله على جبل حوريب (أو جبل سيناء)، يعلن موسى على الشعب عطيّة الكلمات العشر أو الوصايا العشر (تث 13:4: الكلمات العشر التي كتبها على لوحين). في هذه الظروف، لن نندهش إن شدّد سفر التثنية على دور الوالدين. وإليك ما حدّد موسى لهما من مهمّة: "فاجعلوا كلماتي هذه في قلوبكم... وعلّموها بنيكم. تقولونها لهم إذا جلستم في بيوتكم وإذا مشيتم في الطريق وإذا قمتم وإذا قمتم. واكتبوها على دعائم أبواب بيوتكم وعلى مداخل مدنكم، لكي تكثر أيامكم (تطول حياتكم) وأيام بنيكم على الأرض التي أقسم الرب لآبائكم أن يعطيهم إياها، كأيام السماء على الأرض" (تث 11: 19- 21).
نلاحظ في هذا النصّ وفي نصوص أخرى (تث 31: 12-13: ويسمع بنوهم فيتعلّموا مخافة الرب كل الأيام) أن حفظ كلمات الله التي نقلها موسى، يرافقه وعد بالبركة يشبه وعد من يكرم والديه: "لكي تكثر أيامك (تطول حياتك) وتكون سعيدًا في الأرض التي أعطاك الرب إلهك إياها" (تث 5: 16). وهكذا تستعيد الوصيّة ما وُعد به بصورة عامّة في جزء من كرازة سفر التثنية على الشعب.
وإذا انتقلنا إلى المزامير، نرى أيضًا دور الوالدين واضحًا في عمليّة نقل كلمات الله وأعماله: "ما سمعناه وعرفناه، وما أخبرنا به آباؤنا، لا نكتمه عن بنيهم، بل نخبر به الجيل الآتي. نخبرهم بألقاب الرب المجيدة، بقدرته، بعجائبه التي صنع" (مز 78: 3-4).
يدلّ المرنّم (صاحب المزامير) بطريقته على أهميّة وضرورة نقل التقليد الايماني في شعبه. لاشكّ في أن الوالدين ليسوا وحدهم في هذه المهمّة، ولكنهم يلعبون فيها الدور الأوّل. ونجد أفضل صورة عن هذا النقل في الحياة اليومية حين يطرح الولد على والديه سؤالاً حول ممارستهما كمؤمنين. هناك نصوص عديدة مثل خر 12: 26-27: "واذا سألكم بنوكم: ما هذه العبادة؟ تقولون". وخر 13: 14: "واذا سألك ابنك: ما هذا؟ تقول له". وفي يش 4: 6، 21: "فإذا سألكم غدًا بنوكم... تقولون لهم".
ولكن أفضل مثال هو تث 6: 20-24: "واذا سألك ابنك غدًا قائلاً: لماذا هذه الأوامر والفرائض والأحكام التي أمركم بها الرب الهنا؟ فقل لابنك: إننا كنا عبيدًا لفرعون بمصر، فأخرجنا الرب منها بيد قويّة. وصنع الرب آيات وأخرجنا من هناك لكي يدخلنا ويعطينا الأرض التي أقسم عليها لآبائنا. فأمرنا الرب بأن نعمل بهذه الفرائض كلّها ونخاف الرب لكي نكون سعداء كل الأيام ويحفظنا على قيد الحياة كما نحن اليوم".
وهكذا ينقل الآباء إلى بنيهم معرفة التقليد الإيماني الذي تسلّموه وتعلّموه وحفظوه قدر استطاعتهم. فإذا كان نص الوصايا يطلب من الأولاد أن يكرموا والديهم، فليس ذلك بالدرجة الأولى لأنّهم أعطوهم الحياة، بل لأنّهم كانوا بالنسبة إليهم هؤلاء الذين نقلوا إليهم شريعة الله وأخبروهم بالمعجزات التي صنعها الله لشعبه. لاشكّ في أنّ الوصيّة على الوالدين تبقى عامّة، ولكنّها تتضمّن في تعبير واحد الموقف الملموس الذي يقفه الأولاد تجاه والديهم، وعرفانهم لجميل الذين نقلوا إليهم الايمان الذي تسلّموه.
إنّ التعبير الايجابي عن الوصيّة وكأنّها في نص الوصايا نفهمها على أثر تطوّر وعى فيه الشعب دور الوالدين على أنّهم ينقلون التقليد الحيّ، تقليد الجماعة المؤمنة. فنحن لا نستطيع أن ننسى أنه لما هُجِّر الشعب من أورشليم سنة 587 ق م زالت كل النظم المدنية والدينية، فاستطاع الوالدون وحدهم أن يحافظوا على هويّة الشعب الدينية بنقلهم الشريعة وتعاليمها إلى أبنائهم.

4- الاكرام والمخافة
ويربط نص من سفر اللاويين مخافة الوالدين بحفظ يوم السبت. "ليهَب (ليخف) كل انسان أمّه وأباه، واحفظوا سبوتي" (لا 19: 3). إنّ هذا التعبير قريب نسبيًا من الوصيّة المتعلّقة باكرام الأهل في نص الوصايا. ولكنّه يجمعها مع حفظ السبت. إذا قابلنا هذا النصّ بنصّ الوصايا، نرى أنّ الوصيّة على الأهل تسبق الوصيّة على السبت. وهذا ليس من قبيل الصدف. فالنصّ يقول إنّ الأولاد الذين يعترفون بسلطة والديهم سيحفظون ولاشكّ وصيّة السبت. فالسبت هو اليوم الذي فيه يحتفل المؤمن بأعمال الله، هو يوم مكرّس للمديح والصلاة. وبعد المنفى كانت الخليّة العائليّة الاطار الأضمن لحفظ السبت. ونحن نفهم ضمّ هاتين الوصيتين انطلاقًا من دور الوالدين كما تقول نصوص سفر التثنيّة. فإن كان نصّ الوصايا قد جعل الوصيّة على الأهل بعد الوصيّة على السبت، فهذا عائد إلى ترتيب النصّ الداخلي الذي يتحدّث أوّلاً عن الله. تلعب الوصيّة على الأهل دورًا يتوسّط الوصيّة على السبت التي تعني الله (السبت هو للرب، تث 5: 14) وسائر المحرّمات التي تعني القريب (تث 5: 17- 21).
ولكن تبقى اختلافة واحدة بين تعبير لا 3:19 وتعبير تث 5: 16. الأوّل يستعمل فعل "خاف، هاب". والثاني فعل "أكرم". في الحالة الأولى نعطي الفعل معنى "احترم، أجلّ". ولكن هذا لا يكفي. فلا ننسى أنّنا نجد مرارًا في النصوص البيبليّة عبارة "خاف الله"، وأن هذه العبارة تدلّ على موقف الأمانة الواثقة بالله وبإرادته. فإذا كان الأهل هم الذين ينقلون إلى أبنائهم التقليد الحيّ عن الله، فلا نستطيع أن نحوّل موقف الأولاد إلى احترام بشريّ بسيط. ولكن يجب أن نرى في احترام الوالدين طريقة ندلّ بها على أمانتنا لله.
قد نندهش من هذا الرباط نقيمه بين الله والوالدين من جهة الأولاد، ولكن النصوص التي أوردناها قد أوصلتنا إلى هذه النتيجة. وهذا ما يتوضّح لنا حين نحاوله أن نفهم لماذا ظهر فجأة فعل "أكرم" في الوصيّة على الوالدين (تث 5: 16). يشهد الكتاب أننا إن استطعنا أن نكرم البشر ولاسيّما الرؤساء، فهذا الموقف يوافق بصورة خاصة الله الذي نكرمه بالدرجة الأولى. من هذا القبيل يدعو المرنّم جماعة المؤمنين ليمجّدوا الله، ليكرموه، ليخبروا باسمه (مز 22: 24؛ 86: 12). غير أن الاكرام الذي نقدّمه إلى الله يمر عبر عمل نقوم به تجاه القريب. يقول أم 14: 31: "من يظلم الفقير يهن خالقه، ومن يرحم المسكين يكرِّم خالقه".
وكما يُطلَب من المؤمن أن يكرّم يوم السبت ويمجّده (أش 13:58)، كذلك يدعى الابن إلى تكريم والديه كما يكرّم الله، لأنّ معرفة الله جاءت إليه على أيديهما. وكذا يكون فعل "أكرم" أقوى من فعل "خاف"، مع أن هناك نصوصًا يرد فيها الفعلان بشكل متواز (أش 13:29: يكرّمني بشفتيه... ومخافته لي). ومهما يكن من أمر، فاستعمال الفعل في تث 16:5 يكشف لنا مدى تعبير الوصيّة على الوالدين. فعبر إيجازها، هي تشدّد أيضًا على مسؤولية الوالدين تجاه أولادهم، وهذا ما يجعلنا مع إحدى مفارقات هذه الوصيّة.

5- الوصيّة في الأزمنة المتأخّرة
هذا هو البُعد الحاسم للوصيّة على الوالدين، ونحن نمتلك عنها شهادات بيبليّة تسند التفسير الذي قدّمناه. فالنصوص التي سوف نوردها تفترض أن نصّ الوصايا قد أعلن، فتكون شهادة لهذه الوصايا فريدة من نوعها.
النص الأوّل نقرأه في ملاخي (1: 6) الذي يرفع اتّهامًا على الكهنة. برهان النبيّ مهمّ جدًا بالنسبة إلينا. وهو يقول: "الابن يكرم أباه والخادم يخاف سيّده". فالله الذي هو أب وسيد، ألا يحقّ له أن ينتظر من الكهنة الاكرام والمخافة حين يقومون بخدمتهم في الهيكل. نقطة انطلاق البرهان هي الوصيّة على الوالدين، ولكن النصّ يهمنا في أنه يوازي بين الاكرام والمخافة، كما اكشتفنا ذلك حين قابلنا لا 3:19 وتث 16:5. وهو يقابل أيضًا بين موقف الابن تجاه أبيه وموقف الكهنة تجاه الله نفسه.
ولكننا نجد أفضل تفسير للوصيّة على الوالدين في سفر يشوع بن سيراخ الذي دوّن في القرن الثاني ق م:
يا بني اسمعوا لنصائح أبيكم، واعملوا هكذا لكي تخلصوا.
فالرب يكرم الأب في أولاده ويثبت حق الأم على بنيها.
من أكرم أباه كفّر عن خطاياه ومن عظّم أمه كان كمن يجمع الكنوز.
من أكرم أباه سرّ بأولاده وفي يوم صلاته يستجاب له.
من عظّم أباه طالت أيامه ومن أطاع الرب أراح أمّه.
يخدم والديه كسيدين له.
في العمل والقول أكرم أباك لتأتي عليك البركة من فوق.
يا بني، أعن أباك في شيخوخته ولا تحزنه في حياته.
كن مسامحًا وإن فقد رشده ولا تهنه وأنت في كل قوّتك.
فإن الاحسان إلى الأب لا يُنسى فيكون لك بيتٌ جديدٌ بدل خطاياك.
في يوم ضعفك تذكَّر وكالجليد في الصحو تذوب خطاياك.
من خذل أباه كان كالمجدّف ومن أغاظ أمّه فلعنة الرب عليه" (سي 3: 1- 5، 12-16).
هذا الاكرام الواجب للوالدين يعود إلى مهمتهم في نقل تقاليد الآباء إلى البنين. لهذا فالابن الذي يسمع نصائح والديه يكون وكأنّه يسمع الله نفسه. الخلاص والفرح والبركة وطول الأيّام ترتبط بالله كما ترتبط بالوالدين. ويوازي النصّ موازاة حقيقيّة بين "اكرام الأب" و"الطاعة للرب". وإن الله يذيب خطايا الابن بسبب موقفه تجاه والديه.
وفي مقطع آخر من ابن سيراخ نرى أنّ الاكرام الواجب للوالدين يتأسّس على الحياة التي أعطياها.
"أكرم أباك بكلّ قلبك ولا تنسى آلام أمّك.
أذكر أنك منهما وُلدت، فبماذا تكافئهما على ما صنعا لك" (سي 27:7- 28):
لا نجد هذا الموضوع إلاّ في النصوص المتأخّرة ولاسيّما في سفر طوبيا. حين أعلن طوبيت المريض والمسن توصياته الأخيرة لابنه الذي يرسله في مهمّة، قال له: "أكرم والدتك ولا تتركها جميع أيّام حياتها. واعمل كل ما يسرّها، ولا تحزن نفسها بأي أمر كان. أذكر، يا بني، المخاطر التي تعرضت لها وأنت في أحشائها" (طو 4: 3-4).
وبعد هذه السلسلة الأولى من التوصيات، نقرأ دعوة إلىِ خدمة الله والتعبّد له بأمانة: "واذكر الرب، يا بني، جميع أيامك. ولا ترضَ بأن تخطأ وتتعدّى وصاياه. إعمل أعمال البر جميع أيام حياتك، ولا تسلك سبيل الاثم" (طو 5:4).
إن التقوى البنويّة ترافق ممارسة الوصايا. وفي إطار وصيّة الأب لابنه، يبدو من الطبيعي أن يُجمَع الاكرام الواجب للوالدين مع وصايا الله.
تقدّم لنا هذه النصوص تفسيرًا حقيقيًا للوصيّة على الوالدين، وتبيّن أنه كان لهذه الوصيّة صدى واسع في المجتمع اليهودي في القرنين الأخيرين قبل المسيحيّة. إذن، لم تقم الوصيّة في نصّ الوصايا لتذكّر الأولاد فقط بالاحترام الواجب للذين أعطوهم الحياة، فهذا ما نجده منذ قديم الزمان في نصوص مصر وبلاد الرافدين. ولكن النصوص ترى دور الوالدين على ضوء وحي الله الذي ينقل شريعته إلى موسى، فيتسلّم الأبناء هذا الارث عبر شهادة الوالدين.
"أكرم أباك وأمّك". تتضمّن هذه الوصيّة بالنسبة إلى الأولاد أن يقرّوا برسالة والديهم. هذه هي الفكرة الأساسيّة التي تشرف على وصيّة تتوجّه إلى الوالدين كما تتوجّه إلى الأولاد.

6- يسوع ووصيّة اكرام الوالدين
حين ننتقل من التوراة إلى العهد الجديد نكتشف ما آلت إليه الوصيّة على الوالدين، نجد نفوسنا أمام مفارقة. فالاناجيل تؤكّد أنّ نص الوصايا احتفظ بكل أهميّته في نظر يسوع. فحين أورد الانجيليّون لقاء يسوع بالشاب الغنيّ (مت 19: 16- 30؛ مر 10: 17- 31؛ لو 18: 18- 30) ذكر آخر فرائض الوصايا، أي تلك التي تعني القريب، وزاد في النهاية: "أكرم أباك وأمّك" (مت 19:19). وفي مت 15: 1-9 (رج مر 7: 1-13) ذهب يسوع أبعد من ذلك فدافع عن وصيّة اكرام الوالدين ضدّ تقاليد الآباء. اتّهم معارضوه تلاميذه بأنّهم لا يوقّرون تقليد الشيوخ، فأجاب يسوع: "وأنتم لمَ تتعدّون وصيّة الله باسم تقاليدكم. فلقد قال الله: أكرم أباك وأمّك. وأيضًا: من لعن أباه وأمّه فليقتل قتلاً" (خر 17:21). وأما أنتم فتقولون: من قال لأبيه أو أمّه: إن ما تنتفع به مني هو قربان، لهذا لم يعد ملتزمًا بأن يكرّم أباه وأمّه. وهكذا تبطلون كلمة الله باسم تقليدكم" (مت 15: 4-6).
يدافع يسوع، في هذا النص، عن الوصايا العشر. ويؤكّد على حقوق كلمة الله ضد تقليد الشيوخ. وهكذا يقول يسوع ما قالته الوصيّة: "أكرم أباك وأمّك". ففي إطار الخبر الانجيلي تتوجّه الوصيّة إلى البالغين الذين يكرّسون لمنفعة الهيكل مالاً يحتاج إليه والدوهم.
وتسطع المفارقة الانجيليّة بصورة خاصة حين تنتقل إلى نصوص يؤكّد فيها يسوع: "من أحبّ أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقّني" (مت 37:10؛ لو 14: 26). أو: "لا تظنوا أني جئت لأحمل إلى الأرض سلامًا. ما جئت أحمل السلام بل السيف، جئت أفرّق الرجل عن أبيه، والابنة عن أمّها، والكنّة عن حماتها" (مت 10: 34-35؛ رج مي 6:7؛ لو 21: 51-53). كيف تتوافق مثل هذه الكلمات مع وصيّة عرفها يسوع وقبل بها؟
المفارقة حاضرة، ولكننا نفهمها إذا تذكرنا، فيما نتذكّر، أن دور الوالدين هو أن ينقلوا كلمة الله إلى أولادهم. وتجاه وحي يحمله يسوع كمرسل الآب، قد تشكّل الرباطات العائلية عائقًا، لأن الوالدين يستطيعون أن يمنعوا أولادهم من أن يصيروا تلاميذ يسوع. لهذا، قد يكونون أشخاصًا لا يقومون بالدور المسلَّم اليهم بالنسبة إلى الانجيل الذي يحمله يسوع. حين انتقل الوالدون من العهد القديم إلى العهد الجديد، ودورهم أن ينقلوا كلمة الله، واجهوا الكلمة الذي صار بشرًا. وحسب الخيار الذي يتّخذونه، قد تولد توتّرات داخل الأسرة الواحدة. فصليب يسوع هو علامة خلاف قد يبلبل العلاقات بين الوالدين والأولاد كما حدّدها العالم اليهوديّ.
ولكنّنا لا نجد المفارقة الانجيليّة أيضًا بالقوة عينها في الجماعات المسيحيّة الأولى. والسبب بسيط جدًا: فحين توجّه الرسل إلى الوالدين والأولاد، كانوا كلّهم تلاميذ يسوع المسيح. فإن وُجدت توترات داخل الأسر من وجهة الايمان المسيحي، فالرسائل الرسوليّة لا تتحدّث عنها. وهكذا لا تتردّد الرسالة إلى أفسس من أن تستعيد نصّ الوصايا العشر في النصائح المعطاة للأولاد والوالدين: "وأنتم أيّها الأولاد، أطيعوا والديكم في الرب، فإن ذلك عدل. أكرم أباك وأمّك، تلك هي الوصيّة الأولى التي يرافقها وعد: لكي تكون لك السعادة والعمر الطويل على الأرض (تث 5: 16). وأنتم أيّها الآباء، لا تحنقوا أولادكم، بل ربّوهم بالتأديب والموعظة في الرب" (أف 6: 1- 4؛ رج كو 3: 20- 21).
إن الرسالة لا تتردّد في أن تستعيد الوصيّة كما وردت في نصّ الوصايا العشر. غير أننا لا نستطيع أن نفصل عنها الدور المعطى للوالدين الذين سيلجأون في تربية أولادهم إلى نصائح الرب المربي الحقيقي لأولادهم. بل إن كل مسيحي كما تقول الرسالة إلى العبرانيين (12: 4-12؛ رج أم 3: 11- 12) يجد مربيه في الله الذي يريد أن يجعل منه ابنًا حقيقيًا له. من هذا القبيل، لم يعد من تفوّق من الوالدين على الأولاد، لأنّهم كلّهم يقرّون بأب واحد هو الذي في السماوات، ومنه ينالون الحياة والقداسة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM