الفصل الحادي: عشر تقليد الآباء في سفر التكوين

 

الفصل الحادي عشر
تقليد الآباء في سفر التكوين

نشهد منذ بضع سنوات انقلابًا يؤثّر على دراسة البنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة. فبحسب الوفاق الذي بدأ منذ قرن من الزمن في ألمانيا بشكل خاص، كانت أقدم اللحمات الاخباريّة (في اليهوهي، والالوهيمي) في قصة الآباء (تك 12-35) مقدّمة لتاريخ ولادة شعب اسرائيل في مصر، وقد دوّنت في بدايات الحقبة الملكية، بين القرن العاشر والقرن الثامن ق م. وقيل أن ما قدّمه اليهوهي والالوهيمي من نظرة شاملة، قد انطلق من أخبار معزولة ومجموعات مستقلّة داخل التقليد. وهكذا أعطيا شكلاً إخباريًا لما كان في الأصل في شكل تعداد يعلن مراحل تشكّل قاعدة في تاريخ اسرائيل، وهو تعداد نجد أقدم نموذج له في "النؤمن التاريخيّ" الذي نقرأه في تث 26: 5- 10: "كان أبي أراميًا تائهًا. فنزل إلى مصر وتغرّب هناك في جماعة قليلة وصار أمّة عظيمة كثيرة العدد...".

1- تك 12-35 على ضوء النقد الحديث
أ- منعطف جديد
بدأ المنعطف الجديد في دراسة البنتاتوكس منذ سنة 1975، فجعل الوفاق السابق يتزعزع بشكل خاص في نقطتين اثنتين. الأولى، على مستوى تحديد زمن تدوين اليهوهي والالوهيمي. انطلق الشرّاح من أسلوب الكاتب ومن المواضيع التي يطرحها، فرأوها متقاربة من الأدب الاشتراعيّ. ثم إن دراسة الاسماء والنظرة السوسيولوجيّة دلّتا على سياق تاريخيّ يعود إلى القرن 6-5 ق م، أي خلال المنفى وبعده. والنقطة الثانية نظرت إلى نموذج النظرية المراجعية، وهي نظرة تقسم النصوص وتفتّتها في مراجع هي اليهوهي والالوهيمي... كما تعلن لحمات إخباريّة متوازية، بل مستقلّة دون أن تعرف اللحمة بوجود أخت لها.
لا شكّ في أن وجود الينبوع الكهنوتيّ كطبقة أدبيّة مميّزة ومتواصلة لم يطرح سؤالاً. ولكن الآراء تختلف حين يحاول الشرّاح أن يعرفوا إذا كان المرجع الكهنوتيّ خبرًا مستقلاً منذ البدء، أو أنه بدا طبقة تدوينيّة تتوخّى نشر أخبار وُجدت فيما قبل، وتبويب هذه الأخبار في إطار يحمل عددًا من التواريخ وسلسلة الأنساب. كان الشرّاح قد قالوا إن المرجع الكهنوتي يعود إلى زمن المنفى، بل يعود إلى ما بعد المنفى، في القرن الخامس ق م مع شخصية عزرا البارزة.
ب- المؤرخّ الاشتراعي
يبدو بشكل عام أن نقطة الارتكاز في كرونولوجيّة الادب التوراتي، نجدها لدى المؤرّخ الاشتراعي مع أسفار تبدأ في تث، وتمتدّ في يش، قض، صم، مل. لقد تألّفت هذه اللوحة التاريخيّة الواسعة بعد دمار أورشليم (587 ق م) بقليل، فتوخّت أن تقدّم الأسباب اللاهوتيّة الكامنة وراء الكارثة الوطنيّة التي دمّرت البلاد وشتّتت العباد.
تبدأ هذه اللوحة في تث 1-4 بخطبة موسويّة كبيرة تستعيد مراحل تاريخ اسرائيل منذ الخروج من مصر حتى وقت الاحتلال. وكان الشرّاح قد توافقوا فافترضوا أن هذه الاستعادة ترجع إلى خر، عد، وبالتالي تفترض وجود هذين السفرين. ولكن جاء من يقدّم فرضيّة أخرى تقول إن هذه الأخبار قد ألّفت لتقدم لهذه الخطبة نقطة أدبيّة تعود إليها: إذن، تك، خر، لا، عد، جاء بعد التاريخ الاشتراعيّ. وقد جاء من يُسند هذه النظريّة فيبيّن أن "الآباء" الذين يعود إليهم المؤرّخ الاشتراعيّ وسفر إرميا، ليسوا أولئك الذين يتحدّث عنهم تك، بل الجيل الذي خرج من مصر. وهكذا لم يعد لنا أسس تتيح لنا أن نؤكّد للحقبة السابقة للمنفى، بوجود مجموعة أدبيّة تورد التاريخ منذ خلق العالم حتى دخول بني اسرائيل إلى كنعان.
وجاء من أبرز الاختلاف الكبير على مستوى اللهجة والمناخ الديني والمواضيع، بين تك والاسفار التي تليه (خر، لا، عد). مثلاً في خر 3: 8 ي، وعد الله موسى بأن يقود بني اسرائيل إلى أرض تدرّ لبنًا وعسلاً، إلى أرض تبدو مجهولة جهلاً كاملاً. أما كان من السهل أن يعود النصّ إلى الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب حين يكلّمنا عن عطيّة الأرض؟ فالاختلافات بين هاتين المجموعتين الادبيتين (تك من جهة، خر، عد، تث من جهة أخرى) أعمق ممّا نتصوّر. في تك 12-35، الابطال هم السلف، والوساطة مع سامعي الخبر تمرّ عبر الدم والقرابة، وهذا ما يظهر من خلال الأحداث العديدة التي تبرز علاقات الانساب. أما في خر 1 ي فالأبطال هم حصرًا أنبياء مثل موسى، وكهنة مثل هارون. وبنو اسرائيل هم كتلة بشريّة لا اسم لها.
ويلامس الاختلاف أيضًا طريقة عرض التدخّلات الالهيّة. في تك، الله هو "سيّد" قريب جدًا من العشائر التي تتعبّد له. أما في خر وما يليه من أسفار، فقد صار قائدًا حربيًا ومشترعًا. تبدّل "طبعه" من مسالم يمنع ابراهيم من الخلاف مع ابن أخيه (تك 13) ويعقوب من القتال مع أهل شكيم (تك 24)، إلى "عنيف" يحطّم فرعون بانتظار أن يحطّم سائر الملوك (الصغار) الذين يقفون في وجه شعبه. ونزيد فنقول: إن تك 12-35 وخر 1- تث 24 (أي الأسفار الأربعة، خر، لا، عد، تث) يقدّمان نسختين متوازيتين إن لم تكونا متزاحمتين، عن دخول بني اسرائيل إلى كنعان. وما يؤمّن الرباط بين هاتين المجموعتين الكبيرتين (هاتين النسختين) هو خبر يوسف الذي يُعتبر كتلة أدبيّة تعود إلى ما بعد المنفى.
إذا بحثنا عن أصداء وجدها تقليد الآباء في الأدب البيبلي خارج التتراتوكس (أي: تك، خر، لا، عد. ويوضع تث خارج التتراكوتس)، لا نجد الشيء الأخير أقلّه في ما يتعلّق بابراهيم. لاشكّ في أن المثلّث الذي يذكر الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب (أو: اسرائيل) يظهر في بعض المواضع من الأدب الاشتراعيّ (تث 1: 8؛ 6: 10؛ 9: 5، 27؛ 29: 12؛ 30: 20؛ 34: 4؛ 1 مل 36:18؛ 2 مل 23:13؛ إر 26:33). ولكننا لا نخطئ حين ننسب هذه العبارة (ابراهيم واسحاق ويعقوب) إلى لمسات متأخّرة حاولت أن تنسّق بين مختلف النصوص التوراتيّة. أما أول ذكر لابراهيم فنجده في نصوص تعود إلى زمن المنفى، مثل حز 33: 24 (كان ابراهيم واحدًا وورث الأرض)؛ أش 51: 1- 2 (أنظروا إلى ابراهيم أبيكم، وإلى سارة التي ولدتكم).
ج- دورات الآباء الثلاثة
مثل هذه النظريات حول البنتاتوكس، لا يمكن إلاّ أن يكون لها تأثيرها على مقاربتنا لأخبار تك 12-35. فالارتباط بين التتراتوكس والتاريخ الاشتراعي تكون نتيجته القول بأن تاريخ الآباء الثلاثة قد جاء بعد التاريخ الاشتراعي، وبالتالي بعد المنفى، وأنه ينتمي إلى الحقبة المتأخرة في تكوين البنتاتوكس. هذا لا يعني أن كل شيء في تك 12-35 قد جاء في وقت واحد، كما يعني أن بعض العناصر تعود إلى حقبة قديمة.
ولكن يجب أن نميّز بين الدورات الآبائيّة. أما في ما يتعلّق بأخبار ابراهيم التي تعتبر تقليديًا على أنها انعكاس لتقليد عتيق يعود إلى "زمن الآباء"، فأكثرها يُعتبر مقاطع من التفكير اللاهوتي الذي يعبّر عن اهتمامات الجماعات اليهوديّة في الحقبة التي بعد المنفى. هذا ما نقوله عن تك 15 الذي هو تكثيف حقيقيّ لمواضيع وعبارات تعود إلى المنفى. وعن تك 17 الذي ينتمي إلى التدوين الكهنوتيّ. فهذان الفصلان لا يمكن أن يعودا إلى ما قبل المنفى. وفكرة "عهد" مع أبي الآباء هي إسقاط عهد سيناء على حياة الآباء. وف 20-22 التي نُسبت عادة إلى الالوهيمي، فهي تهتمّ بمسألة "مخافة الله" ولاسيّما عند الوثنيّين، في خطّ سفر يونان.
واستعاد تك 18: 17 ي الجدال حول خطيئة الفرد والجماعة، وهو جدال يرتبط بالمنفى (بسبب الخطيئة ذهب الشعب إلى المنفى). وتك 23 هو نصّ كهنوتيّ يعطي صفة شرعيّة لمدفن أبي الآباء في حبرون. واعتُبر ف 14 منذ زمن بعيد في رأي مختلف الشرّاح، كمدراش متأخّر يتواجه فيه ابراهيم مع "عظماء" هذا العالم. وعالج ف 24 مسألة الزواج المختلط كما في أيام نحميا. أما ف 12-13 فقد عادا في جوهرهما (هجرة من حرّان والظهور في شكيم وبيت إيل) إلى دورة يعقوب. وهكذا يبدو من الصعب أن ننسب عنصرًا واحدًا من جوهر إخبار تك 12-24 إلى تقليد قديم جدًا. هذا لا يلغي الكثافة اللاهوتيّة في هذه الأخبار التي ألهمت ألفي سنة من التقوى اليهوديّة والمسيحيّة.
وانحصرت دورة اسحاق في تك 26 فما أتاحت لنا البحث عن وجود تقاليد قديمة، وإن اعتبر بعض الشرّاح أن آ 1- 11 تفترض 12: 10-20 و20: 1ي.
وإذا عدنا إلى دورة يعقوب، نكتشف الأمور من زاوية مختلفة، وذلك لأسباب ثلاثة: (1) في عدد من النصوص القديمة يُدعى شعب اسرائيل باسم يعقوب (مي 3: 1؛ عا 7: 2؛ هو 10: 11). هذا التماهي يكون مستحيلاً لو لم يكن يعقوب يمثّل صورة السلف والجد. (2) في هو 12، يلمّح النبيّ في القرن الثامن إلى سلسلة من الأحداث في حياة يعقوب. (3) في سفر التكوين، كانت دورة يعقوب (تك 25: 19-34؛ 27-35) واحدة من ثلاث، لا تجميعًا لأحداث لامتجانسة. بل هي ارتدت بنية "مسيرة" حقيقيّة فيها أعمال وأقوال يعقوب. تخلّصت دورة يعقوب من كل عودة إلى أحداث ترتبط بالسياق الأدبيّ الحاليّ. فما استندت إلى أي سياق أدبي، فبدت هكذا مستقلّة في وجودها. فيمكن والحال هذه أن نعتبر أصلها الأدبيّ المستقلّ عن المجموعات التاريخيّة الكبرى التي نجدها في التوراة. وقد تكون سبقت هذه المجموعات.

2- تكوين التقاليد السابقة للكتابة
أ- دور التقليد الشفهي
منذ القرن التاسع عشر اهتمّ علم التفسير الالماني بالدور الهام الذي لعبه التقليد الشفهيّ. فوضح له أن أخبار التكوين وتقاليد الخروج وسيناء والاحتلال تعود إلى تقليد شفهيّ انتقل منذ بدايات اسرائيل حتى الحقبة السابقة للملكيّة. وقد سارت هذه الأخبار مسيرتها في العشائر والقبائل فرُويت في السهرات حول النار، أو ردّدها الكهنة خلال الاحتفالات السنوية بشعائر العبادة. واليوم، وبعد انهيار الفرضيات التي استعملت لإعادة بناء تاريخ أصول اسرائيل (الامفكتيونية أو 12 قبيلة حول المعبد، العهد، المعبد المركزي، نظام القبائل الاثنتي عشرة)، بدأ التحفّظ يأخذ مكانته بالنسبة إلى التقليد الشفهيّ. ورفض بعض الكتّاب العودة كليًا إلى مثل هذا التقليد.
إذا قبلنا بالقول إنه لم يعد ممكنًا الأخذ بأصل شفهيّ لخبر من الأخبار بسبب "رنّته" القديمة أو إخباره المشوّق، يبقى أن العهد القديم يدلّ بلا شكّ على دور التقليد الشفهي ووظيفته. والنصوص النبويّة (وإن قليلة) التي تعكس عنصرًا من تقليد الآباء، تقدّم هذا التقليد لكي تعترض عليه. ولكن مع هذا، لابدّ من الفطنة، لأننا لسنا بأكيدين أن التقليد الذي يفترضه النبي يتماهى مع التقليد الذي يقدّمه سفر التكوين.
ب- التقليد الشفهي السابق لدورة ابراهيم
أما في ما يتعلّق بابراهيم، فنعرف نصّين يعودان إلى أنبياء المنفى: حز 33: 24 وأش 51: 1-2. في النصّ الأول، يُذكر ابراهيم في فم سكان يهوذا (الذين لم يذهبوا إلى المنفى): "كان ابراهيم واحدًا وورث الأرض. ونحن الكثيرين قد أعطيت لنا الأرض ميراثًا". ولكن النبيّ يعارض بشدّة هذه المطالبة (اعتبروا أن لهم حقًا بالأرض).
نكتشف في هذا المقطع ثلاثة عناصر تعود إلى التقليد. (1) اعتبر اليهوذاويون نفوسهم نسل ابراهيم، وإلاّ فلا معنى لذكره في أول السلسلة. إذن، صورة ابراهيم هي صورة الجدّ والسلف. (2) ارتبط ابراهيم بامتلاك الأرض. "ورثها". "الأرض أعطيت لنا". هذا لا يعني بالضرورة أن ابراهيم قد تلقّى الوعد بالأرض، ولكن لا شيء يستبعد هذه الفرضيّة. (3) يبدو من المعقول أن يكون ابراهيم قد ارتبط بشكل أو بآخر بموضوع النسل الكثير (الوعد أو البركة). وهذا الموضوع يظهر أيضًا بشكل واضح جدًا في أش 51: 2: "أنظروا إلى ابراهيم أبيكم، وإلى سارة التي ولدتكم. كان رجلاً واحدًا حين دعوته، فباركته وكثّرته". نرى هنا أيضًا أن ابراهيم كان موضوع دعوة ونداء من قبل الله.
وهكذا يبدو واضحًا أنه وُجد في منتصف القرن السادس، تقليد حول ابراهيم، أبي الآباء الذي اعتبر مختار الله، وجدّ شعب يهوذا، وأوّل مالك للأرض. وقد ترسّخ هذا التقليد في وجدان الجماعة ترسّخًا كافيًا بحيث عرفه المنفيّون كما عرفه الذين ظلّوا مقيمين في الأرض. ولكن هل نستطيع أن نعرف عناصر خبر تك 12-24، التي كانت جزءًا من التقليد الشعبي؟ يبقى الجواب صعبًا.
ج- تذكّر يعقوب عند النبي هوشع
وجد تقليد يعقوب (كما قلنا) صدى قديمًا لدى النبيّ هوشع. فإن هو 12 قصيدة توازي بين موقف اسرائيل الحاضر مع تصرّف يعقوب في الماضي. لن نستعرض هنا المسائل المتعلّقة ببنية النصّ وتفسيره، ولكننا نقول إننا أمام ثلاثة أبيات (آ 1-7، 8- 11، 12-15)، وكل منها يبدأ بوصف خطيئة اسرائيل في الزمن الحاضر، ويتذكّر تصرّف يعقوب بما فيه من مراوغة وجبانة. كل هذا يتعارض وحسنات الربّ (آ 4-5، 9-10، 13-14). وينتهي كل بيت بإعلان ما يصنعه الرب في المستقبل (ردّة فعل تنطلق من الرحمة إلى الدينونة، آ 6، 11، 15). إن تذكّر الجد يفترض أو يحرّك حالاً التماهي مع سامعي هوشع، لأن الجدّ هو أيضًا يعقوب/ اسرائيل (أي أعطى اسمه لنسل يعقوب وشعب اسرائيل). كانت أعماله حاسمة بالنسبة إلى اسرائيل، ودلّت هذه الأعمال في الوقت عينه على طبيعة اسرائيل الحقيقيّة. فتصرّف يعقوب في نظر هوشع (اعتاد سامعوه أن يمتدحوا مثل هذا التصرّف) يبدو في شكل سلبيّ جدًا.
ما هي التقاليد التي يعود إليها هوشع؟ نجد تلميحات إلى ولادة التوأمين (آ 4 أ؛ تك 25: 21-26)، إلى تعقّب البكر (آ 4 أ؛ تك 26:25)، إلى الصراع مع الله أو مع الملاك (آ 4 ب- 5 أ؛ تك 23:32-33)، إلى ظهور الله في بيت إيل (آ 5 ب؛ تك 28: 10-22؛ 35: 15)، إلى العودة الموعودة (آ 7؛ تك 28: 15، 21؛ 31: 10)، إلى الهرب إلى سهول آرام (آ 13؛ تك 27: 43- 44؛ 29: 1ي)، إلى خدمة رجل من أجل امرأة في رعاية القطعان (آ 13؛ تك 29: 15-30). إذن، هي سلسلة من الأحداث أشار إليها النبيّ.
كل هذه الأحداث قد وردت أيضًا في سفر التكوين. كان جدال لمعرفة الاختلافات بين تقليد يلمّح إليه هوشع وبين أخبار تك. إلى أي حدّ يفترض هوشع أخبار تك؟ ولكننا هنا أمام سؤال يُطرح بطريقة خاطئة، مهما كان الوقت الذي تمّ فيه تدوين التقليد القبل كهنوتي في تك 25-35. فمن الواضح أن هوشع لا يعود إلى نصّ مكتوب، بل إلى تقليد يعرفه جميع سامعيه، إلى تقليد شفهيّ. إن النبيّ يتذكّر عدة أحداث من حياة يعقوب، دون أن يهتمّ بتسلسلها الكرونولوجيّ. وتدلّ طريقة تذكّره على أن لا فائدة من إعادة سرد هذه الأخبار، لأن الجميع يعرفونها. كلمة واحدة تكفي. تلميح واحد يكفي لكي يحرّك في ذاكرة السامعين الحدث كلَّه.
فاذا أردنا أن نعيد تكوين التقليد الشفهيّ السابق ليعقوب، نطرح السؤال التالي: هل يعود إلى أخبار استقلّت بعضها عن بعض، أو يفترض "سيرة" متواصلة لهذا البطل الآبائي؟ يبدو أن هذه التلميحات تفترض بالضرورة معرفة سيرة تامة ليعقوب (رج آ 4-5: منذ بطن أمه... في رجولته)، أي مؤلّفة من عدّة أحداث تتوخّى كلها إلقاء الضوء على مصير يعقوب، أبي الآباء. وهكذا نستخلص أنه قد انتشر في اسرائيل (أي مملكة الشمال)، في القرن الثامن ق م، خبرُ عن يعقوب يتضمّن أقلّه عناصر من أخبار يعقوب وعيسو، يعقوب ولابان، من ظهور الله في بيت إيل وفنوئيل. تلك هي محطّة مهمّة في بحثنا داخل دورة يعقوب.
د- بنية سيرة السلف
إذا كان التقليد المتعلّق بيعقوب قد ارتدى شكل "سيرة"، هل نستطيع أن ننظر بعينين جديدتين إلى دورة يعقوب في تك 12-35؟ اعتبر عدد من الشرّاح في الماضي أننا في البدء أمام أخبار معزولة، لا ترتبط بأخبار أخرى. وفي مرحلة لاحقة تكوّنت "دورة" الاخبار. قد يصحّ هذا القول في ما يتعلّق بدورة ابراهيم. أما دورة يعقوب (تك 25-35) فترتدي بنية منطقيّة تفرض نفسها علينا، بحيث لا نستطيع أن نعتبرها كنتيجة التحام تدوينيّ. فنحن منذ البداية، وبمعزل عن كل تحوير تدويني وإغناء في الخبر، أمام سيرة فريدة تتحدّث عن حياة أبي الآباء منذ ولادته حتى إقامته النهائيّة في أرض كنعان.
إن دورة يعقوب ترتدي، في جوهرها، بنية معروفة لسيرة السلف، التي تفسّر أصول عشيرة أو مجموعة قبليّة. فعلى أثر خلاف مع العشيرة، أجبر البطل على ترك أرضه والالتجاء إلى عشيرة غريبة. استُقبل في البدء مثل عامل يوميّ، فتوصّل بمواهبه الخارقة إلى الحصول على رضى رئيس العشيرة بحيث تزوّج ابنته أو ابنتيه. وإذ بلغ بهذا الزواج إلى وضع "صهر" الرئيس، وبعد أن واجه المخاطر التي انتهت بصراع أخير، توصّل إلى أن يفرض نفسه كعشيرة مستقلّة (هي أمّ عدد من الناس). بعد ذلك، يعود البطل إلى أرض الأجداد ويستعيد كامل حقوقه. ومسيرة البطل (كان في البدء مهدّدًا منعزلاً، فصار غنيًا وقديرًا، وإن ظلّ سريع العطب) تتوزّعها ظهورات إلهيّة ولقاءات تعطيه ثقة بالمصير الذي ينتظره.

3- تاريخيّة دورة الآباء
إذا استطعنا أن نقول انطلاقًا من هو 12، ومن بنية تك 25-35، بوجود دورة يعقوب في القرن الثامن على الأقّل، فما هي الفرضيّة التي نستطيع أن نقدّمها حول أصل هذه الدورة ونواتها التاريخيّة؟
أ- منذ تضمّنت دورة يعقوب خبر ولادة أبناء يعقوب (تك 29: 31- 30: 24، هو نصّ متأخّر)، فقد لعبت وظيفةَ التعريف بأصول شعب اسرائيل، ودخوله إلى أرض كنعان. وخبر البدايات هذا يكفي نفسه بنفسه ولا يتطلّب شيئًا يتبعه (لا خبر يوسف ولا الخروج من مصر...). ويدّلنا هو 12 أن النبيّ يعارض النسخة "الآبائيّة" لأصول اسرائيل بنسخة "نبويّة"، هي الخروج من مصر بقيادة نبيّ، لا بقيادة السلف والجد (هو 12: 14). فعلى اسرائيل أن يختار أصوله. لا نعرف إن كان هناك من اتصال بين الخبرين في أيام هوشع. ولكننا نعرف أن النسختين كانتا متعارضتين، فكفت كل واحدة نفسها بنفسها.
ب- الإطار الجغرافي لدورة يعقوب، هو مملكة الشمال حيث نجد بيت إيل والمصفاة وجلعاد ومحنائيم وفنوئيل وسكّوت وشكيم، وهي مدن تلعب دورًا في حياة يعقوب. غير أن اسرائيل الذي تُقدّم دورةُ يعقوب أصوله، ليس اسرائيل الملوك، بل اسرائيل القبائل. هذا ما تدلّ عليه أهميّة الانساب كمبدأ يشرح وجه المجتمع. لاشكّ في أننا لا نستطيع التأكيد اليوم بأن اسرائيل القبائل كان في الأصل "بدويًا"، لأن تحديد ظاهرة البدو قد خضعت لإعادات نظر مختلفة في هذه السنوات الأخيرة. إلاّ أن نمط القبيلة التي لا رأس لها، التي انطبعت ببعض عداء تجاه المدينة، يبقى عنصرًا يتناسب بصعوبة مع أصل ملكي لدورة يعقوب. أما "المناخ" الديني (إله الآباء، معابد خارج المدينة، الوعد...)، فنحدّده في اسرائيل القبائل. لا في ديانة شخصيّة كما في حقبة الملوك أو في ما بعد المنفى. وهكذا نعتبر أن دورة يعقوب تتجذّر في إطار سابق للملكيّة في أرض اسرائيل.
ج- من الذي حمل أول "سيرة" ليعقوب؟ نبدأ فنستبعد كل محاولة تسجيل التقليد الآبائى في سياق تاريخيّ أو اركيولوجيّ يعود إلى الألف الثاني. ثم إن ارتباط يعقوب بعيسو (بني سعير) وبلابان (الاراميين) والشكيميّين، يبدو معقولاً جدًا. فمن المعروف أن اسرائيل القبائل تكوّن انطلاقًا من مجموعات ذات أصول مختلفة. وإن دورة يعقوب ترينا بوضوح عشيرة (أو: قبيلة) متماسكة. وتؤكّد هذه العشيرة أنها انفصلت عن مجموعة أراميّة. هذا التقليد الذي يسنده تث 26: 5 ("كان أبي أراميًا تائهًا". جاء النصّ متأخرًا) يتوافق مع عشيرة أو قبيلة أكثر منه مع مجموعة قبائل. لهذا نستطيع القول إن تقليد يعقوب/ اسرائيل كان خبر بدايات مجموعة ضيّقة سمِّيت "بني اسرائيل" قبل أن يكون خبر اسرائيل القبائل قد اتّخذ شكله في التقليد.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM