الفصل الرابع والعشرون: تعال نخرج إلى الحقول

الفصل الرابع والعشرون
تعال نخرج إلى الحقول
7 : 11 – 14

وتدخل العروس على المسرح. هذا ما لا شكّ فيه، لأنها وحدها يحقّ لها أن تقول: "أنا لحبيبي أنا". أو: "تعال يا حبيبي نخرج إلى الحقول ". قالت أنا لحبيبي كما قالت في ما سبق: "حبيبي لي ". وعرفت اشتياقه إليها، فاستعدّت حالاً أن تكون له. هي تعيش له، فكيف تمنع نفسها عنه، كيف تتأخّر؟ هي لم تتأخّر ولم تتردّد، وان دلّت على بعض الغنج والدلال.
(آ 11) قالت العروس: "أنا لحبيبي". هذا ما يذكّرنا بما في 2: 16: "حبيبي لي وأنا له، وبين السوسن يرعى" (قطيعه). وبما في 6: 3: "أنا لحبيبي وحبيبي لي". عبارتان تتقابلان. بعد أن أعطى الحبيب ذاته للحبيبة فكان لها، تستطيع هي أن تعطي ذاتها له، أن تكون له. تبادلٌ في العطاء كما في الأخذ، لأن المحبّة أخذ وعطاء.
كل هذا يترجم في لغة غنائيّة موضوعًا نبويًا معروفًا: اسرائيل هو شعب الله، ويهوه هو إله اسرائيل. هنا نتذكّر ما قلناه في شرح 2: 16. فهنا كما في 6: 3، تسمّي العروس نفسها أولاً (أنا لحبيبي) فتدلّ بهذا الشكل على حرارة حبّها المتنامي.
ظنّ بعض الشرّاح أن هذه الآية تبقى خارجة عن النشيد. ولكنهم نسوا أن الامتلاك المتبادل بين العروسين هو موضوع رغبتهما ويمثّل خاتمة الدراما السيكولوجيّة التي يجعلنا نش ننظر إليها. رأت العروس (أو ظنّت) أن هذا الامتلاك قد تحقّق، فأعلنت سعادتها في كل مكان.
هناك من أراد أن يزيد على هذا الشطر الأول من البيت (أنا لحبيبي أنا) "وحبيبي لي " (و د و د ي. ل ي) ليستقيم الشعر ويتطابق مطابقة تامّة مع 2: 16 و6: 3. ولكن ماذا نفعل بالشطر الذي نقرأه هنا: "وإليه اشتياقي " (و ع ل ي. ت ش و ق ت و).
حوّلت السبعينيّة والبسيطة (فنيته) والشعبيّة "ت ش و ق ت و" إلى "ت ش و ب ت و"، أي "عودته " (هو). مثل هذا التبديل غير موفّق. فموضوع نش هو أن يرينا عودة العروس إلى ذلك الذي ما زال يحبّها ويقدّم لها علامات عن حبّه. لا نجد لفظة "ت ش و ق و" إلاّ في تك 3: 16، حيث نرى الميل الذي يدفع المرأة إلى الرجل "سيّدها"، وفي 4: 7 بمناسبة الحديث عن الخطيئة المشخّصة التي تحاول أن تجرّ الانسان إلى الشرّ.
قد يكون فعل "ش و ق" قريبًا من العربيّة "شاق " (اشتياق): حرّك الرغبة، جعله يرغب في. نقول: شاقني الحبّ إليه أي هاجني. فكأن المحبوب مشدود إلى الحبيب "موثق به ". وقد يكون قريبًا من "ساق " أي "حثّ الماشية على السير". وهكذا تدلّ "ت ش ق ه" على المجهود الذي يقوم به الانسان. فتصبح العبارة: كل مجهوده يقوم بأن يربح ودّي. ولكننا في الواقع لسنا أمام مجهود. لهذا نبقى مع جذر"شاق ". فسفر التكوين (3: 16) لا يجعل الرجل والمرأة في معرض المزاحمة، وكأن الواحد يريد أن يسود على الآخر. فالتعارض هو بين "شوق " يشدّ المرأة إلى زوجها، وبين السلطة المتحفّظة الذي يمارسها الزوج تجاه امرأته. رغم آلام الولادة، لا تزال المرأة تعود إلى زوجها بالرغبة والعاطفة، وهو يستفيد من هذا الوضع لكي يسود عليها.
إن هذا "الاشتياق " يدلّ على علاقات الرب بشعبه، كما يدلّ في تكوين على علاقات الزوج بالزوجة. في تك، بدت المرأة أدنى من الرجل. أما العريس السرّي الذي هو الله، فيحلّ استعدادات الحبّ محلّ التأكيد على السلطة.
(آ 12) "تعال يا حبيبي، لنخرج إلى الحقول " إن آ 12- 14 هي قريبة من 2: 10-14. ففي الحالين، نحن أمام نداء يدعونا لأن نتذوّق سحر الربيع في فلسطين. ولكن النداء في 2: 12 ي يوجّهه العريس إلى العروس، فلا يلقى منها جوابًا. أما هنا، فالعروس تلجّ على حبيبها بأن يرافقها. وهكذا نلاحظ التطوّر الذي تمّ في حالتها السيكولوجيّة.
"ل ك ه " يستعمل مع فعل حركة، يأتي بشكل نداء وتحريض: يا ليتك تأتي، يا حبيبي! هلمّ يا حبيبي، ولا تتأخّر. قد يكون في هذا الشطر من الآية (هلمّ حبيبي لنخرج إلى الحقول) تذكرًا لما في تك 4: 8 حسب الترجمات القديمة، لا حسب النصّ الماسوريّ. نقرأ في الماسوري: "وقال قايين لهابيل أخيه. واذ كانا في الحقل ". أما السرياني مثلا: "قال... لنذهب إلى الحقل ". ولما كانا في الحقل. غير أن التقارب بين نش وسفر التكوين هو تقارب على مستوى الألفاظ وحسب، لا على مستوى المعنى.
في الواقع، خرج العروسان من مكان غير محدّد. سارا في الحقل أي في الريف الفلسطينيّ حيث ينمو الكرم والرمّان واللفاح. ما سمّي "الحقل" هنا، كان في ما سبق "الجنّة". نقرأ في 4: 15- 16: "معين جنّات... هبّي على جنتي ". وفي 5: 1: "أجيء إلى جنتي ". وفي 6: 2: "نزل حبيبي إلى جنته ". وفي آ 11: "نزلت إلى جنّة الجوز".
إن فعل "ل و ن " يعني "أقام" كما في أش 1: 21 (رج الشعبيّة). ولكن بما أن الآية التالية تتحدّث عمّا سيفعله العروسان في الصباح، يبدو من المعقول أن نسير مع السبعينيّة ونقول: بات وأقام في الليل. أما "ك ف ر ي م " فقد تعني "القرية" (1 أخ 27: 25) أو الكافور (أو الحنّاء) كما في نش 1: 14؛ 4: 13. هذا المعنى الأخير عرفه عدد من الشرّاح القدماء. ولكن يطرح السؤال: كيف نبيت في الحنّاء ونبكّر إلى الكروم؟ هناك من صحّح الكلمة فصارت الكروم، وهكذا صرنا أمام تكرار ثقيل: نبيت في الكروم ونبكّر إلى الكروم.
ولكن ما معنى العبارة "نبيت في القرى" (أو: الحقول)؟ اعتاد العريس أن يتنزّه في الحقل. وهو يتنزّه الآن مع العروس. وقال آخر: بحث العروسان عن العزلة ليتفرّغ الواحد للآخر. وقال ثالث: عادت الشونميّة إلى حياتها السابقة. وقال رابع: تلمّح صورة الريف إلى مناطق واسعة وجب على اسرائيل المنفيّ أن يجتازها لكي يعود إلى بلد الكروم، إلى فلسطين. وتشكّل القرى محطّات في هذا السفَر الطويل.
ولكن إذا أردنا أن نفهم استعمال الشاعر لفعل "ل و ن" (قد يعود إلى العربيّة: لون. والحنّاء يتخذ ورقه للخضاب الأحمر وقد يعود إلى لين العيش ورخائه) نعود إلى استعماله في 1: 7؛ 2: 17 ؛ 3: 1 ؛ 5: 2: هذه النصوص تتحدّث عن الليل، وحروب الظلمات، وعن الظهر (رج شرح 2: 17؛ 3: 1). إن هذه الصور تستغلّ موضوعًا معروفًا بموجبه يحلّ نور الأزمنة الاسكاتولوجيّة في يوم من الأيام محل الظلمة التي ترمز إلى المحنة.
فاليوم، ليل المحنة ما زالت حاضرًا، لأن الأمّة ما زالت مشتّتة في بلاد المنفى. غير أن هذا المنفى سينتهي سريعًا (آ 13). لهذا، عزم العروسان على انتظار نور الصباح "في القرى" لكي يذهبا إلى الكروم منذ ساعات النهار الأولى من أجل حمايتها. وهناك فرضيّة أخرى. قد نكون أمام تلميح إلى وضع العائدين من المنفى في القرن الخامس ق. م. فحسب عز 2: 20- 35؛ 7: 25- 38 ؛ 12: 28- 29، أقاموا في قرى قريبة من أورشليم.
(آ 13) "نبكّر إلى الكروم " تقابل "نذهب إلى القرى". إن فعل "ش ك م " يعني: نهض باكرًا. انطلق باكرًا. وهو يستعمل مع اللام (قض 19: 9) أو مع "إل" كما في تك 19: 27.
"نرى (ن ر ا ه) هل أفرخ (ف رح) الكرم ". نجد هنا تكرارًا شبه حرفيّ مع 6: 11 ب، كما يرد على لسان العريس. نرى هل أفرخ الكرم (ج ف ن)، فأعطى الورق والزهر. وهل نوّر الرمان. هذه العبارة قد وردت حرفيًا في 6: 11 ب. "ش م" أي ثمّة، هناك. وهي تدلّ على المكان كما على الزمان. عند ذاك أهب حبّي لك. وقد يدلّ على فلسطين. أجل، إن صور الصبح والزهر تدلّ على قرب المجيء الاسكاتولوجيّ. حينئذ نفهم كلام العروس: حينئذ أعطيك حبّي. وهكذا يتمّ العهد الجديد والنهائيّ بين يهوه وشعبه (رج 16:2 ؛ 11:7)
(آ 14) اللّفاح شجر يبدو بقامته قريبًا من جسم الانسان. يزهر في فلسطين في شهري شباط وآذار، وينضج الثمر في نهاية الربيع. له رائحة خاصة تدخل إلى أعماق الأنف. وصف الأقدمون هذه الشجرة بأنها تحرّك الحبّ وتعطي الخصب (تك 30: 14- 16 ؛ رج في راس شمرا نشيد عنات 3: 12). لا نستطيع هنا أن نتحدّث عن الأولاد كما رأى بعضهم، بل عن اللفّاح على أنه رمز الحبّ بسبب عطره واسمه (د و د ا يم ودو د ي م: اللّفاح والحبّ). العرف والعبير: رج 1: 3 (عبيرك طيّب الرائحة)، 12 (ينشر نارديني عبيره)، 2: 13؛ 4: 10- 11؛ 7: 09 اما عبارة "ن ت ن. ريح " أي "نشر عبيره" فنقرأها في 1 :12 ؛ 13:2.
"ف ت ح ي ن " (فتحة، باب) هي في صيغة الجمع الشعري. هل نحن أمام أبواب عاديّة، أبواب المدينة مثلا (ش ع ر في العبريّة) كما في 1 مل 17: 10؛ أش 3: 26؛ 13: 2)؟ بل إن نش يلمّح إلى "باب الرجاء" الذي يتحدّث عنه هو 2: 17. يفترض النبيّ أن الرب يردّ إلى البريّة العروس الخائنة ليربطها به إلى الأبد. بعد ذلك يدخلها من جديد في أرض الكروم (أي: في فلسطين) من حيث طردها بسبب معاصيها. وصاحب نش ينتظر أن تتحقّق هذه النبوءة قريبًا. بعد أن تنقّت الأمّة بالمحنة عادت إلى عريسها. والثمار التي ترمز إلى الحبّ المستعاد، وإعادة البناء، كل هذا صار في متناول اليد.
"م ج د ي م ". دلّت هذه الكلمة في 13:4، 16 على مفاتن العروس التي هي للعريس وحده.
"حديثه والقديم ". هنا يزيد سيماك وسريانية الهكسبلة: "تلك التي أعطتني أمّي ". عبارة نش تذكّرنا بما في لا 26: 10 الذي يتحدّث عن الغلّتين القديمة والجديدة، وكلتاهما وافرتان. ويتساءل الشرّاح كيف تستطيع العروس أن تحتفظ بثمار العام الماضي كما بثمار العام الحاليّ. نحن بلا شك هنا أمام رمزيّة تعلن أن العروس ستحبّ هذه السنة أيضاً (وأكثر من السنة الفائتة) عريسها الذي غفر لها وأعادها إلى أرضها.
إذا أردنا أن نفهم هذه الآية نعود إلى المقاطع النبويّة التي تربط نقيضَي النفسيّة الدينيّة في اسرائيل. أي زمن الأمانة الأولى في البرّية، وزمن الأمانة المستعادة في مستقبل قريب أو بعيد. والنصّ الأساسيّ في هذا المجال نجده في هو 2: 17- 18. فبعد أن تحدّث عن العودة إلى البريّة أردف: "وتتجاوب (تخضع) هناك كما في صباها وفي يوم صعودها من أرض مصر في ذلك اليوم تدعوني زوجي، ولا تدعوني بعلي (نسبة إلى بعل، إله الخصب) من بعد". أما إر 2: 2 (أذكر مودّتك في صباك، وحبّك يوم خطبتك، سرت ورائي في البرّية) وأش 54: 6-8 (هجرتك لحظة، وبرحمة فائقة أضمّك) فهما صدى لنصّ هوشع هذا. وهناك نصوص تتكلّم عن توبة الخائنة دون أن تلمّح تلميحًا واضحًا إلى حالتها الأولى. نقرأ هنا إر 3: 21- 22. قال النبيّ: "حادوا عن طريقهم ونسوا الرب إلههم ". قال الربّ: "فارجعوا أيّها البنون الشاردون، فيغفر الربّ لكم شروركم ". فأجاب الشعب: "ها نحن نأتي إليك، فأنت الربّ إلهنا" (رج 31: 21- 22).
وإذ يتكلّم نش عن الثمار القديمة والحديثة، فهو يدخل في هذا التقليد. يتذكّر الماضي المثاليّ الذي به ترتبط العروس التائبة فتعيش سحره وفضله. وهكذا تكون الثمار الحديثة على شاكلة الثمار القديمة، وحبّ العروس في البرية مثل حبّها الآن بعد العودة من المنفى.
"احتفظت بها". فعل "ص ف ن " أي صان في العربيّة، خبّأ، حفظ. لقد احتفظت العروس بجمالها لعريسها، في البرية كما في حالة الأمانة المستعادة. هذا هو جواب الشعب على متطلّبات غيرة الله كما نجدها في الديانة اليهوديّة. مثلاً، نقرأ في خر 20: 5: "لا تسجد للأصنام ولا تعبدها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور"؛ رج 34: 14؛ تث 4: 24؛ 6: 15؛ 32: 16- 21؛ يش 24: 19؛ مز 78: 58. فهذه الحقبة التي تتوسّط أيام الإقامة في البريّة وساعة العودة، وهي حقبة طويلة تتوسّع ومع تاريخ اسرائيل، هذه الحقبة لا يريد الربّ أن يتذكّرها كما في إر 31: 34 ب: "سأغفر ذنوبهم، ولن اذكر خطاياهم من بعد".

* أنا لحبيبي وإليّ اشتياقه
لم يبق للحبيبة شيء يخصّها وحدها. بل هي في الواقع لم تعد ملكًا لذاتها. صارت لآخر، هو الربّ. لهذا قالت: "أنا لحبيبي أنا، وإليه اشتياقي ".
إنها لحبيبها. إنها تخصّه. ولكن يستحيل على كائن أن يخصّ آخر. ففيّ شيء لا يمكن أن يسلّم إلى إنسان آخر على الأرض، مهما ارتبط هذا الآخر بي. ولكن إذ تختبر العروس أنها كلها لحبيبها، فهي تكتشف بدهشة أنه من جهته يرتبط بها ارتباطًا مطلقًا. هذا ما تشير إليه حين تحوّل عمدًا القسمِ الثاني من جملتها. كانت قد قالت في ما سبق: "أنا لحبيبي وحبيبي لي ". وكان كلامها انذاك تعبيرًا عن تبادل تام ومساواة في حبّ يجمعهما.
أما الآن فهي تقول: "نحوي تحمله رغبته ". إليّ اشتياقه. هو يشتاق إليّ. إذن، هي لا تعيش بعد اليوم مع الحبيب العلاقة بين الزوج والزوجة كما صارت بعد الخطيئة. قال الله للمرأة: "اشتياقك يحملك إلى زوجك، وهو يسود عليك " (تك 3: 16). أما الآن، فهي تعيش خبرة معاكسة. لا يمارس الحبيب أي تسلّط عليها، أي سيادة عليها. لم تعد السلطة من جانبه. فرغبته (اشتياقه) يدفعه الآن إلى عروسه. كانت قد قالت في 2: 3: "في ظلّه اشتهيت وجلست". أما الآن فهي تقول: نحوي يندفع اشتياقه.
إن العلاقة بين الزوجين كما "حدّدها" الله في سفر التكوين (أو كما صارت بعد الخطيئة)، فجاءت واضحة في التوراة (لن نعود نجدها في ما بعد)، قد انقلبت رأسًا على عقب. لقد انقلبت الأدوار وتبدّلت تبدّلاً تامًا. ففي أعراس العهد الجديد، العريس هو الذي يتبع، هو الذي يشتاق، هو العطشان الذي يقول متوسلاً: "أعطني ماء لأشرب " (يو 4: 7). يقول: "أنا عطشان " (يو 19: 28). وقد قال غريغوريوس النازيتري في هذا المجال: "الله يعطش (أي: يرغب) بأن يكون عطشي".
كل ما تتمنّاه العروس هو أن تطفئ هذا العطش. ولكن كيف تستطيع أن تتجاوب مع هذه الرغبة؛ كيف تكون معه في هذا الاتحاد الذي يطلبه، حين يجب عليها أن تعيش في العالم حيث حبّهما يلقي المعارضة والعوائق، يبدو مهدّدًا. أما حلّ الوقت لكي ينطلقا إلى الأرض التي هو عليها ملك، والتي ستكون الأرض النهائيّة والهادئة لأعراسهما؟ أن ينطلقا إلى البيت الجميل الذي ركائزه من أرز ودعائمه من السرو (1: 17).

* تعال يا حبيبي، لنخرج إلى الحقول
"تعال يا حبيبي ". ذاك هو نشيد اليهود القديم ليوم السبت وعيد الفصح. من خلال هذه العبارة، نجد نفوسنا في جوّ سفر الخروج. اشتياق عميق للخروج من أرض العبوديّة والمنفى والانطلاق إلى أرض الموعد. كان الشعب في زمن موسى، قد تلقّى أمرًا بالانطلاق بحراسة الربّ (خر 12: 42). بالخروج بسرعة (خر 12: 39). فانطلق الشعب في منتصف الليل (خر 12: 29). غير أن الرب فرض عليهم أن يدوروا في البرّية خلاله مراحل طويلة، لئلاّ تأتيهم تجربة العودة بعد أن انطلقوا بحزم وعزم (خر 13: 18). وعند طلوع صبح الليلة الأخيرة (خر 14: 24) تمَّ التحرير النهائيّ للشعب عبر البحر الأحمر.
نحن نجد في نش ذات الكلمات وذات الصور: الخروج، الليل، العبور، الهرب من البلاد القديمة (نخرج إلى الحقول، نعبر)، مراحل الطريق (نبيت في القرى)، نظرة صباحيّة إلى الأرض الجديدة، أرض الموعد بثمارها الوفيرة، كرمة الربّ (في الصباح، نذهب إلى الكروم، نبكّر إلى الكروم).
أما اليوم، فالحبيبة هي التي تتّخذ مبادرة الخروج، مبادرة العبور. هي التي تقول للمرّة الأولى: "تعالَ، هلمّ ". فكم من مرة سبق لنا وسمعنا هذه اللفظة من فم الحبيب أو من فم الجوقة. في 2: 10، قال الحبيب: "قومي يا رفيقتي، يا جميلتي تعالي ". وكذلك في آ 13. وفي 4: 8 هتف الحبيب: "تعالي معي من لبنان". وفي 7: 1 دعت الجوقة الحبيبة: "إرجعي، إرجعي ".
في الماضي، كان الحبيب يدعو الحبيبة لكي تتنعّم بالربيع: "قومي يا حبيبتي، تعاليْ يا جميلتي... الشتاء عبر وولّى. الزهور ظهرت، والكروم ازهرت فأرسلت عبيرها". في الماضي، بدت الصديقة متباطئة فاترة عن الجواب، كانت "حمامة مختبئة في مكامن الصخور" (2: 14). ها هي اليوم تدع بنفسها حبيبها لكي ينطلق، لكي يذهب معها إلى العزلة. والجديد في كلامها هو صيغة المتكلّم الجمع "نحن". هذا يعني أن مصيرها امتزج بمصيره. قالت للمرة الأولى: "نعبر، نذهب". لقد حزمت أمرها اليوم واتّخذت قرارها. بل هي تدعو الحبيب لكي ينتظر بهدوء معها في القرى، على عتبة المدينة، وبعد ليل العالم والخروج، أن ينتظر ليلة الفصح. "نعبر وفي الصباح ننطلق... نبكّر".
ولكنها لا تكتفي بأن تذكر مغامرة الماضي العظيمة. فهي تتطلعّ إلى خروج جديد نحو أرض جديدة. هي تتطلعّ الآن أمامها، إلى أورشليم توجّه أنظارها. وتبرز في قلبها رغبة إلى مدينة السعادة. لا شك في أن ليل المنفى سيمتدّ أيضاً بعض الشيء. هذا ما تعرفه وتقوله لحبيبها. ولكن يجب أن نذهب، أن ننطلق. "تناهى الليل واقترب النهار" (روم 13: 12). معًا ننتظر في القرى (أي على حدود المدينة) نهاية الليل وطلوع الصباح. حينئذ ندخل في أرض الميعاد الحقيقيّة بكرومها العجيبة (عد 13: 20- 23). أجل، نبكّر إلى الكروم.
قال فرنسيس السالسي: إن كلام العروس هذا كان آخر كلام تفوّه به قبل أن يموت، ذلك الذي قضى حياته يتكلّم عن الله، وهو الآن معجّل لكي يلاقيه في ملكوته. "حينئذ ضمّ يديه، ورفع عينيه إلى السماء، ورفع صوته عاليًا ولفظ باندفاع قويّ وحرارة كبيرة كلمات النشيد التي كانت آخر ما عرفه: "هلمّ يا حبيبي، لنخرج إلى الكروم ".
هناك ما يلحّ على الحبيبة. فالانتظار لم يعد يُطاق. هذا ما تعبّر عنه التعارضات المؤثّرة داخل نشيد الحبيبة: بين الليل والصباح. الليل في القرى والصباح في الكروم. وفعل "نعبر" (العبور) الذي يذكّرنا بالفصح. وتردّد عروس نش المتواضعة أولى كلمات تتلفّظ بها العروس الكنيسة في رؤ 22: 25: "ماراناتا، تعال أيها الرب يسوع". "والروح والعروس يقولان: تعال" (رؤ 22: 27). "تعال يا حبيبي، ذاك هو الصراخ الذي لا تزال تطلقه على مرّ الأجيال، وهي مشدودة إلى النهاية".

* نرى هل أزهر الكرم
ولكن رغم عجلة العروس، فهي سعيدة جدًا بأن تكون منذ الآن بكليتها لذلك الذي تحبّ. فيجب عليه أن يقتنع لدى نزوله "إلى جنته"، أنه لا يجب أن يضطرب، أن يتحسّر. لا خوف من شتاء يأتي، ولا من ربيع عابر. يا ليت الحبيب يعترف بذلك معها. وهي لذلك تقول: "تعال لنرى هل أفرخ الكرم وتفتّحت الزهور، هل نوّر الرمّان".
ها هي العروس تستعيد بدورها الكلمات التي أسرّ بها العروس لها في ما مضى، قال: "نزلت إلى جنّة الجوز لأرى ثمار الوادي، لأنظر هل أفرخ الكرم ونوّر (أزهر) الرمّان" (6: 11). هل أنت مرتاح الآن يا حبيبي؟ قلت: "سوف أرى". سوف ترى. بل نرى معًا إن كان الكرم قد أفرخ، إذا كانت الزهور قد تفتّحت، إذا كانت أشجار الحبّ، أشجار الرمّان، قد نوّرت... وهل تمّ الزمن الذي استشفّه أنبياؤك من أجل حبيبتك. "في الأزمنة الآتية، يُخرج يعقوب جذوره. ويزهر اسرائيل ويخرج براعم، ويملأ الأرض بثماره" (أش 27: 6).
أجل، أيها الحبيب، جاء ذلك الوقت الذي لا يزول وفيه "أعطيك حبّي". كم من مرة أعطته حبّها. ومع ذلك، فهذا الحبّ هو جديد بشكل مطلق. قالت إحدى المتصوّفات: "أعطيته قلبي ". ولكن كم من مرّة قدّمت قلبها لله. ولكنها الآن وعت أن علاقاتها الآن مع الله تتميّز بطابع فريد من الحميميّة. فاجتاحها فرح عظيم وأحسّت أنها بكلّيتها لله.
ذاك هو الفرح الذي يغمر الآن قلب حبيبة نش. فهمت أنها قدّمت الآن نفسها تقدمة لا رجوع عنها، تقدمة مطلقة لا تستطيع أن تستردّها ولا تعرف تقلّبات القلب. قالت له بقوّة: "أعطيك عطيّة حبّي ". فبعد فصل الزهور، زهور الكرم، زهور الجنّات، زهور الأشجار... أزهرت الكرمة. تفتّحت الزهور. زهّر الرمّان. بعد ربيع الزهور والصيف العابر، جاء خريف الثمار الناضجة، جاء فصل العالم الأبديّ الذي بدأ معه.

* اللّفاح نشر عبيره
اللّفاح يحرّك الحبّ ويحمل الخصب. فعطيّة العروس للعريس (رج 7: 3) مدعوّة لأن تكون خصبة، أن تحمل ثمارًا. وبعد العطيّة التي قامت بها، جاءت أعجب الثمار ولم تنتظر، جاءت كرموز لخصب اتحادهما: "على أبوابنا أشهى الثمار وأنفسها". كل ثمار الكون، بل أعذب ما فيه من ثمار. ولكن على أبوابنا أيضاً، وفي متناول يدي أستطيع أن أقطف أفضل الثمار في الجنّة الجديدة، في الفردوس.
فالثمار الجديدة (الحديثة) والثمار القديمة قد احتفظتُ بها لك يا حبيبي. احتفظت بها. جعلتها جانبًا، على حدة. كرّسها كلها لك. عبر هذه الكلمات البسيطة التي تتلفّظ بها العروس، تكتشف رغبة لا محدودة بأن تسلّم إلى عريسها وجودها كله. لا حياتها اليوم في غناها وخصبها، بل حياتها منذ البداية. فالساعات التي بدت وكأنها خسرتها، الساعات التي كانت سوداء وباهتة. أرادت أن تمسك اليوم من جديد كل شيء في عمل حبّ كامل. خبّأت سلّة واحدة من الثمار، من الثمار القديمة كما من الثمار الحديثة. العروس متأكّدة من حبّها، بحيث إن كل شيء يمكن أن يُستعاد، أن يتوجّه من جديد، أن يرتدّ إلى الربّ. كل شيء حتى ما يمكن أن نتنكّر له يستطيع أن يدخل الآن في عطيّة ذاتها الحاضرة لعريسها.
أحسّ يوحنا الصليب بجديد كلمات العروس وبُعدها العميق فقال: "قالت العروس إنها استسلمت كلّها إلى العريس ولم تحتفظ بشيء لها... نفسها، جسدها، قدراتها كل براعتها، ستستعملها لا في أمور تعنيها، بل في خدمة عريسها. لم تعد تطلب مصلحتها ولا ذوقها. قالت: لم يعد لي من شغل سوى الحبّ. فكأنها تقول: كل قدرات نفسي وجسدي التي استعملت بعضها في الماضي في أشياء غير مجدية، جعلتها في خدمة الحبّ، ففعلت كل ما أفعل بحبّ، وتألّمت كل ما أتألم بحبّ... فطوبى للنفس التي تصل حيث يصبح كل شيء لها جوهر حبّ، لذة عرس وبهجة. حيث تستطيع أن تقول حقًا للعريس هذه الكلمات من الحبّ النقيّ التي قالتها له في نش: احتفظت لك بكل ثماري، حديثها وقديمها. فكأنه تقول: أريد بسببك يا حبيبي ما هو قاسٍ وصعب، كما أريد لك ما هو عذب وحلو".

خاتمة
نودّ هنا أن نتوقّف وقفة قصيرة، فنلقي نظرة شاملة على القسم الثاني من القصيدة الخامسة، التي تشمل نش 7. حينذاك ندرك علاقة عميقة بين المواضيع المذكورة هنا. علاقة هي علاقة السرّ الفصحيّ نفسه، كما يدلّ عليها انجيل يوحنا بشكل خاصّ.
هناك أولاً الموضوع الافخارستي الذي توحيه لنا صورة تقدّمها العروس مع رموز الحنطة والخمر والوحدة. ويأتي بعد ذلك موضوع الآلام والصليب: مع النخلة التي يريد الحبيب أن يتسلّقها. وعبارة: "إليّ يحمله اشتياقه ". بهذه العبارة نجد خضوع يسوع وعطشه طوال آلامه. ويرتبط بموضوع الآلام والصليب موضوع الروح الذي يتفجّر من الجنب المفتوح (يو 19: 34). وذلك في رموز النسمة والطيب والخمر.
ثم نقرأ موضوع القيامة مع نهاية الليل وبداية الصبح، وفكرة العبور من الليل إلى الصباح، من القرى إلى الكروم. وأخيرًا، نرى الملكوت، مع كل أزهاره وأثماره، مع ربيعه الذي امتزج بخريفه، مع زهره الذي امتزج بثمره في فرح حبّ وصل إلى كماله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM