الفصل السادس عشر: أنام وقلبي مستفيق

الفصل السادس عشر
أنام وقلبي مستفيق
5: 3 – 5

مع القصيدة الثالثة، كاد نش ينتهي لو كان فقط مجرّد قصّة حبّ عاديّ. معه أدركنا ذروة لا يمكن أن ننزل منها. فالحبيبة قدّمت حياتها وهي لا تستطيع أن تستعيدها. والحبيب أقرّ بهذا العطاء وهو الذي جعل العالم كلّه شاهدًا لأعراسه. لقد انتهت القصيدة الثالثة كما انتهت الأولى والثانية في كلام يستحلف فيه العريس بنات أورشليم بأن لا يقطعن على العروس راحتها، بأن لا يُيْقظها.
في نهاية القصيدة الثالثة، اجتمع العروسان وعرفا ملء السعادة. أما في بداية القصيدة الرابعة، فنجدهما منفصلين فجأة وبدون أي انتقالة. ويعودان إلى المحاولات نفسها، فتكون توسّعات تصل في النهاية إلى لقاء السعادة: ظهور العريس ولقاؤه الحنون، محنة قاسية تعرفها العروس التي تبحث عن حبيبها، وصورة ترسمها العروس عن عريسها. وفي النهاية يمتلك الواحد الآخر.
كانت القصيدة الثانية حديث العروس مع نفسها (مونولوج). والقصيدة الثالثة حديث العريس. أما القصيدة الرابعة فتجعل الحبيبة على المسرح في مونولوج جديد. ولكن ماذا سوف تقول بعد؟ أما استنفدت كل عبارات الحبّ؟ ولكن الحبّ لا يستنفد موضوعه، لأنه لا ينفد، لأن لا نهاية له. فباستطاعته أن يقول الأمور عينها دون أن يرددها.
هناك مقابلة لافتة بين القصيدة الثانية والقصيدة الرابعة، "نشيد" أول (مونولوج) أطلقته العروس ونشيد آخر. فالمشهد يتمّ في الليل. والعروس هي في بيتها. هي وحدها. هي نائمة دون أن تنام (3: 1). وإن نامت فقلبها مستفيق، قلبها يعيش اليقظة و"السهر" (5: 2). ويأتي العريس من الخارج ويقترب. يتطلعّ من النافذة (2: 9) أو يقرع الباب (5: 2). ويطلق إلى العروس نداءات تحرّك أحشاءها (5: 4). ويدعوها إلى أن تخرج، أن تلاقيه، أن تتبعه (2: 13). أو هو يطلب أن يدخل. وما أن تقفز العروس وتفتح له الباب، حتى يكون قد مضى وراح. لم يعد هنا. لقد اختفى.
في القصيدة الثانية (2: 14؛ 3: 2) لا تفهم العروس ما حدث. أما هنا (5: 5- 6) فتصوّر شعورها بشكل موسّع. وبعد هذا، تبدأ في القصيدتين "ملاحقة" فيها قلق كبير، في شوراع المدينة، خلال الليل. في القصيدة الثانية ينتهي البحث بلقاء سريع. "وجدت من يحبّه قلبي، أمسكته ولا أرخيه. أدخله بيت أمي وخدر من حبلت بي " (3: 4). أما هنا، فنجد حوارًا قصيرًا بين العروس والعريس تتبعه صورة للحبيب كلها حرارة (5: 8- 9، 10- 16). وينتهي كل شيء حين يمتلك الواحد الآخر. لا شك في أن القصيدة الرابعة "تكرّر" بعض ما في القصيدة الثانية، ولكنها تبقى قمّة نشيد الأناشيد وتحفته.
(آ 2) أنام. أو بالأحرى، أنا نائمة، نحن أمام عمل يتمّ في الحاضر ويمتدّ. وقد يدلّ على الماضي أو المستقبل. هذا الواقع الحاضر نقرأه على شفتَي العريس حين يستحلف بنات أورشليم أن لا ينهضن الحبيبة إلا ساعة تشاء (2: 7 ؛ 3: 5). إذن، هي نائمة.
أنام، ولكن قلبي مستفيق. الواو هنا تدلّ على التعارض. يتحدّث الشاعر عن القلب الذي جعل العروس متنبّهة، "مستيقظة". هي تنام وبالها مشغول بالعريس. وأول صوت سوف يوقظها. هذا هو المعنى الأول. أما المعنى الثاني، فالنوم يدلّ على خيانات العروس. وهذا ما يمنع قلبها أن يكون في سلام. هي تتذكّر العريس وتعرف الآن أن ارتدادها ما زال ناقصاً. هي "نائمة" ولن تخرج من هذا النوم إلاّ بقرار حرّ: "متى تشاء" (2: 7؛ 3: 5؛ 4:8).
هي تنام، ولكن قلبها مستفيق، ساهر. يعني أنه ما زال متعلّقًا بالرب رغم الظواهر. هنا نتذكّر أش 26: 9 أ: "في الليل أتوق إليك، وفي داخلي يطلبك روحي ".
ساعة توجّه قلبُ الحبيبة إلى الحبيب، ها هو الحبيب يأتي فجأة. وقبل أن يبدأ كلامه، تستشفّ حضوره، تحسّ أنه هنا. تسمع الصوت، وقبل الصوت وقع الخطى. في صمت الليل، في صمت القلب، عرفت العروس أن العريس آتٍ . كلامه يتدفّق (د ف ق في العبرّية). لا يكتفي بأن يقرع الباب. بل ينشد العروس: "أختي، رفيقتي، حمامتي، كل شي لي ".
نلاحظ هنا ضمير المتكلّم المفرد: أختي أنا. هذا ما يدلّ على أن العروس هي "ملك " عريسها الذي يجمع ألفاظ الحنان والحبّ. يا أختي كما في 4: 9 (يا أختي العروس). يا رفيقتي كما في 1: 9. أنت كحمامة (1: 15). أنت الكاملة التامّة التي لا عيب فيك. أنت كل شيء لي، بعد أن صار حبّك كلّه لي. هناك ولا شكّ الجمال الطبيعيّ كما في 4: 1ي. وهناك أيضاً الجمال الأدبيّ: فالعروس عادت إلى عريسها بعد أن تنقت في محنة المنفى وارتداد القلب (أش 40: 2، إر 31: 18-20).
نعود إلى العربيّة لنفهم كلمتين. "ق و ص و ت " التي ترد أيضاً في آ 11. هي تعود إلى "القُصة" أو شعر الناصية وكل خصلة من الشعر. والكلمة الثانية لا ترد إلاّ هنا في كل الكتاب المقدّس "ر س ي س ي ". ولكن الجذر"ر س س" نقرأه في حز 46: 14 في معنى رشّ. فالرشّ في اللغة العربيّة يدلّ على المطر القليل وهو يقابل الزذاذ أي المطر الضعيف. وهكذا يتحدّث الحبيب عن الطلّ أو الندى، كما عن المطر الخفيف، وكلاهما يحمل بركة الله على ما في هو 14: 6: "أكون لبني اسرائيل كالندى، فيزهرون كالسوسن، ويمدّون جذورهم كلبنان ". إذن، يعود العريس في قلب الليل والعتمة، أي في وقت المحنة والشدّة (3: 1)، فيكون هو عربون البركات التي تعيد بناء شعبه في نهاية الأزمنة.
(آ 3) أتُرى العروس تحلم؟ هل تتذكّر"حوارها" مع العريس؟ أوهي تتخيّل ما قد يحدث لها إن جاءها العريس في الليل؟ هي مرتاحة، ولا شيء يقلقها. هي "بألف خير" بعد أن وجدت "بعض الراحة" في المنفى. فلماذا تعبُ القلب والعودة إلى فلسطين حيث المجهول ينتظرها؟
ناداها العريس "يا أختي، افتحي". ماذا كان جوابها الأول؟ الهرّب والتعلّق بالأعذار الواهية: خلعتُ ثوبي فكيف ألبسه؟ أي لا أستطيع أن ألبسه الآن. فهو عمل يتطلّب مجهودًا. غسلتُ رجليّ. قد تكون جاءت من سفر. وفي أي حال، هي مرتاحة ولا تريد أن تتعب نفسها من أجل حبيبها.
كيف نفسهم مثل هذا الجواب المدهش الذي تطلقه العروس؟ أما تزال نائمة فتدلّ في نومها على عمق عواطفها؟ هل تدلّ على قساوة قلبها فنكون حينئذ أمام تلميح عن الحالة الدينيّة في اسرائيل خلال الملكيّة؟ وهناك معنى استعاريّ: خلعت العروس ثوب العمل وغسلت رجليها، فليست من بعد مستعدّة للعودة إلى العمل! كل هذه فرضيّات.
هنا نعود إلى الحالة النفسيّة التي تعيشها الحبيبة. حين كانت تطلب عريسها، لم تكن بعد وصلت إلى الظروف التي تتيح لها اللقاء به. غير أنها بدأت تقترب من الهدف، بل هي لامسته. وهذه الأعذار الواهية توقف انطلاقتها الأخيرة، ولكن لوقت محدّد. وما إن تلفّظت بهذه الأقوال، حتى سارعت تستنكرها بموقفها العمليّ وبالتعبير الحارّ عن عواطف قلبها الحقيقيّة.
(آ 4) حبيبي مدّ يده. في العبرّية "ش ل ح " كما في العربيّة الدارجة. مدّ يده من الكوّة ليزيح "الساقوطة". هو لم يعد يستطيع أن ينتظر. يودّ أن يصل بسرعة إلى العروس. منذ دقيقة كان عند الباب يقرعه. والآن، ها هو يحاول أن يفتح الباب دون أن يهتمّ لجواب العروس المخيّب الآمال. سمعت العروس حركة اليد، بل رأت يد العريس تدخل إلى البيت فتدلّ على أشواقه.
حينئذ تحرّكت أحشاء العروس. حرفيًا "الامعاء" (م ع ي في العبرّية). هي مركز الشعور والاحساس والقلق والشفقة (إر 4: 19؛ 31: 20). وهكذا انتابت العروس رعشة حبّ جعلتها تستفيق من نومها. لولا وجوده هنا، لظّلت نائمة. ولكن يده تدلّ على حضوره، فهي لأجله وبسببه تحسّ بهذا الشعور العميق.
(آ 5) قُصت أنا. يُذكر ضمير المتكلّم (أنا). هذا يدلّ على أننا أمام لغة متأخّرة في الزمن. نجد مثلها في جا 1: 16 ؛ 2: 1، 11، 15؛ 3: 17، 18. نقرأ في اللغة العبريّة صيغة المثنى "يداي". أما السريانيّة فوضعت صيغة المفرد "يدي". وحذفت السبعينيّة والشعبيّة الواو: أقوم لأفتح لحبيبي، يداي تقطران (ن ط ف في العبرّية، وفي العربيّة. سال قليلاً قليلاً). هذا يعني أنهما مملوءتان مرًّا. وتتلاقى "يداي " مع "أصابعي" (كما في العبرية). رج أش 2: 8؛ 18: 8؛ 59: 3؛ مز 144: 1.
"م و ر. ع ب ر". ترجمت السبعينيّة. مملوء مرًّا. أو مرّ كثير. وجعلت البسيطة "ن ط ف " (سال) بدل "ع ب ر" فكرّرت الفعل. نجد هذه العبارة "م و ر. ع ب ر" أيضاً في آ 13 (تقطران عبير المرّ، تقطران مرًّا مائعًا). يستعمل فعل "ع ب ر" للهواء (أي 37: 21 ؛ أم 10: 25) والماء (أي 6: 15؛ 9: 16)، أي لكل ما لا يُلمس فيغيب سريعًا. قالت الترجمة اليسوعيّة: المرّ السائل. والمشتركة: "مرًا يسيل من أصابعي". فيمكن القول بالعودة إلى العربيّة "ع ب ر" عبير: يداي تقطران مرًا، وأصابعي عبير المرّ (لا وجود لحرف الجرّ "من" هنا في النص العبريّ). أجل، أمسكت العروس قبضة المزلاج، فسال المرّ عليها.
من أفاض المرّ على قبضة المزلاج؟ قالوا العروس، واعتبروا أن العروس تضع المرّ على يديها قبل أن تنام، أو هي وضعت المرّ قبل أن تمضي لتفتح الباب. فرضيّات لا أساس لها. بل هو العريس الذي حمل هذا العبير النفيس. فهذا المرّ المفاض ساعة يختفي العريس يحمل معنى رمزيًّا. لسنا هنا أمام عمل احترام يقوم به العريس تجاه عروسه. ولا يدلّ المرّ فقط على التأسّف والألم والعتاب. فالمرّ حين يُذكر في نش، يدلّ على العطر، وهو يكون عادة مع البخور وسائر العطور الثمينة 30: 6 (المرّ والبخور) ؛ 4: 6، 13، 14 (الناردين، الزعفران...)، 5: 1، 13 ؛ رج مز 45: 9؛ سي 24: 15. فالمرّ يعبّر عن مفاتن العريس وهو يحرّك حبّهما المتبادل (1: 3). أجل، مرَّ العريس مرور الطير فترك وراءه أثرًا لمروره ومحاولته. حينئذ أحسّت العروس أن الحبّ دخل على قلبها وسيطر.

* أنا نائمة وقلبي مستفيق
هكذا تبدو العروس، نصف نائمة ونصف مستيقظة، وقد يكون النوم بعدُ مسيطرًا عليها. هل يعني هذا أن حبّها ليس بصادق؟ كلا. في الحقيقة قد استسلمت إلى أعراسها بكل كيانها. غير أن الحبّ، وإن سما، يبقى حتى نهاية العمر معرّضاً للخطر، مهدّدًا. هذا ما اكتشفناه في القصيدتين الثانية والثالثة، ولو أن العروس قد ارتفعت كثيرًا في الحبّ.
نستطيع القول هنا بأنها لم تتوحّد بعد في الحبّ توحّدًا تامًا، وهذا ما ليست واعية له. فرغبة القلب واندفاعه قويّان، ولكن القرار ما زال سريع العطب. وفي الكمال، كل شيء يقوم على العزم والحزم. الالماسة نقيّة وجميلة، ولكن فيها عيبًا. أو كما قال أشعيا: "أفضل خمرك ممزوج بالماء" (1: 22). لهذا، بعد أن ارتفعت الحبيبة إلى قمة الحبّ، ها هي تسقط بشكل لا نفهمه.
فقالت: أنا نائمة ولكن قلبي سهران. لهذا قال أش 26: 9: "روحي تنتظرك منذ السحر". وقال مز 42: 2: "إليك تشتاق نفسي يا الله ". ولكن قلب الحبيبة في الواقع ليس بعدُ مستيقظًا، ليس كلّه انتباهًا. إنه مقسّم بين السهر والنوم. إنه يشبه إلى حدّ بعيد التلاميذ الثلاثة في مشهدَي التجلّي والنزاع: سيطر النعاس عليهم، فما استطاع يسوع أن يوقظهم إلاّ بصعوبة (لو 9: 32 ؛ 22: 46): "ما بالكم نائمين"! وإذ كانت العروس بين "واعية وغافية"، سمعت باب خدرها يُقرع. فنبّهها قلبُها حالاً.

* صوت حبيبي يدقّ
لم نعد أمام خطواته المتسارعة، ولا أمام قفزاته المرحة على الجبال، بل أمام فعلة فيها الحياء الكثير: قرع الباب بهدوء. هذا يكفي لكي تعرف أنه هو. فهو وحده يعرف أن يأتي هكذا وفجأة. وحده يقرع الباب عندها بهذه الطريقة. قرعَه بشكل خفىِّ وَشخصيّ معًا. وها هو ينادي من الخارج في عتمة الليل. "افتحي لي يا أختي، يا رفيقتي، يا حمامتي، يا كاملتي (أو: كل شيء لي) ".
هذا هو طلبه الأول. هذه هي الضرورة الأولى: أن تسرع العروس، أن تنهض حالاً. فخارجًا مرغوبُ جميع الأمم يقرع الباب. إن تأخّرنا تابع طريقه وفرض علينا أن نبحث من جديد وفي الدموع، عن ذاك الذي يحبّه قلبنا. وإذ ارادت أن تفتح له وتتأخّر، سمّاها بأسماء عديدة، بأحلى الأسماء، بأعذبها على قلبه. مع ضمير المتكلّم المملوء بالعطف والحنان. أنت أختي أنا، وصديقتي... وجاءت كل لفظة تعمّق سابقتها. أنتِ أختي بالطبيعة. وقد جعلتُك أختي بتجسّدي. وبالاختيار صرت صديقتي، خليلتي، رفيقتي. "لأني أحببتك، أعلنت لك حبّي الأبديّ " (إر 31: 3). وسمّيتك أيضاً "حمامتي، يمامتي". فنظرتي هي نظرتك، وقلبي هو قلبك، والروح الذي فيّ هو فيك. وأخيرًا، أنت كاملة ولا عيب فيك بسبب البهاء الذي ألبستك إيّاه (حز 16: 14).
أنت كاملة، كاملة بالنسبة إليّ. كاملتي. هذا ما قاله الحبيب. لا سخرية، ولا تلميح إلى ضعف تلك التي أحبّها. لو تعرف ما هي بالنسبة إليه! هل ستفهم في النهاية، هل ستصدق؟

* امتلأ رأسي من الندى
قرعة صغيرة على الباب لم تكن كافية. ولا رنّة صوته. ولا جميع الأسماء التي سمّاها بها. حينئذ أراد أن يحنّن قلبها على حاله في هذا الليل مع الندى على رأسه وقطرات الماء على خصل شعره. قال: امتلأ رأسي بالندى.
إنه حبيب تعيس، يقف عند بابها، وينتظر في الليل البارد. هو لا يأتي كشخص يفرض نفسه، بل كمن يتوسّل. هو لا يأتي كالسيّد والربّ كما بدا حتى الآن في قدرته ومهابته، فتركع أمامه في حبّها. بل هو يأتي إليها في هذه المرّة في ثياب فقيرة يُرثى له. ومع هذا الوجه، وجه العبد المتّضع. هو يتوسّل، يستعطف، مع أنه الغنيّ بين الأغنياء والسعيد بين السعداء.
في الحقيقة، هو الغنيّ الذي يغدق خيراته بغزارة، ولكنه الفقير أيضاً الذي يحبّ أن نغمره بعطايانا. هو العظيم العظيم والعليّ الرفيع. ولكنه أيضاً صغير جدًّا، لأن ما يميّز الحبّ هو أن ينحدر ودومًا ينحدر لكي يكون على مستوى المحبوب. وهو أيضاً الماء الحيّ والينبوع الذي لا ينضب. فمن اقترب منه وجد أن من "صدره تجري أنهار مياه حيّة" (يو 7: 38). وهو في الوقت نفسه المتسوّل العطش على جانب الطريق الذي يتوسّل إلى السامريّة (وإلى كل واحد منا): "أعطني ماء لأشرب " (يو 4: 7). إنه ينبوع يعرف العطش. يعرف الحاجة كمن يستعدّ أن يأخذ، ويعرف الوفر كمن يحبّ أن يغدق عطاياه. هذه هي مفارقة الحبّ.
وهذه المفارقة يعبّر عنها رمزان نجدهما هنا: الندى وقطرات الماء في الليل. رأسي غطّاه الندى، وخصل شعري قطرات الليل. فالندى في الكتاب المقدّس هو علامة البركة والخصب. نقرأ في مز 3:133: "ندى حرمون ينزل على تلّة صهيون، هناك يرسل الربّ بركته". والمنّ نزل في الصحراء مثل الندى في الصباح (حز 16: 13). وانتظر الشعب المسيح كالندى النازلة من السماء. "أفيضي يا سماء نداك " (أش 45: 8). وقد وعد الله شعبه بأن يكون له كالندى (هو 41: 6). هكذا غطّى الندى رأس الحبيب.
ونجد مع الندى قطرات ماء تُبلّل شعر الحبيب. قطرات المطر، قطرات الليل، قطرات الضيق. وهي تعلن مسبقًا قطرات العرق والدم التي تتصبّب على جبين الحبيب في ليلة جتسيماني ساعة كان أصدقاؤه نائمين. هكذا يقف حبيب نشيد الأناشيد كمتوسّل بائس على الباب. أراد أن يقنعنا أنه يحبّنا حبًّا جنونيًّا. حينئذ اخترع هذا الاتّضاع.

* خلعتُ ثوبي فكيف ألبسه
نظنّ وكأن ما يطلبه منها هو مجهود يتعدّى إمكانيّات البشر، هو شيء مستحيل. أن ألبس ثيابي من جديد! أن أوسّخ رجليّ بعد أن غسلتهما! لا، لا أستطيع. عمل لا معنى له. وهنا نسمع تكرار الأداة: ا ي ك ك هـ، كيف، كيف؟
نحن هنا أمام صورة عميقة عن الخطيئة قد لا نجد مثلها في الكتاب المقدّس كلّه. ولكن يقول قائل: لماذا تضخيم الأمور؟ فخيانة العروس أمر بسيط لا يُحسب له حساب. هذا للوهلة الأولى. بعض الكسل، بعض الانزعاج! ولماذا يأتي دومًا في ساعة متأخّرة، ودون أن يعلن عن مجيئه؟ لا يأتي أبدًا في ساعة أريدها أنا، بل في الساعة التي يريدها هو، في ساعته. فيتوسّل إليّ بعض الشيء، وأنا أتدلّع عليه. في الحقيقة، ليس هذا بالأمر الخطير!
هكذا اعتدنا أن نقدّر الخطيئة بحسب معاييرنا السيكولوجيّة والأخلاقيّة، بحسب مقولاتنا ولوائحنا كما يراها الرأي العام. ولكن ليست هذه نظرة الله. ونحن لا نعتبرها رفض حبّ يقدّم نفسه لنا، لا نعتبرها مهلة يفرضها الحبّ الذي يعطي ذاته بلا حساب. في الحقيقة مهما بدت واهيةً الدوافع التي جعلت العروس لا تنهض لتفتح الباب، بهذا المقدار دلّت على خطورة الخطيئة وطبيعتها: إنها خيانة للحبّ. فإن كان الله محبّة، فلا يوجد ولا يمكن أن يوجد إلا خطيئة واحدة هي أن لا نحبّ، أن نرفض فتح الباب للحبّ الذي ينتظر.
كتب القديس أوغسطينس في اعترافاته ملخّصاً ماضيه الطويل من الخيانات: "أحببتك متأخّرًا أيها الجمال القديم الجديد. أحببتك متأخّرًا. حين ينكشف هذا الجمال قريبًا، حين يكون هذا الوجه مشعًا، حينئذ تبدو الخطورة بأن نميل عنه ولو لحظة". وهكذا نرى ما أراد نش أن يقول لنا من خلال "لعبة" العروس: فبعد الاحتفال الكبير بالأعراس كما في القصيدة الثالثة، وفي امتداد التاريخ البيبليّ كلّه، نجد نفوسنا أمام خيانة الحبّ. فالعروس معرّضة للزنى، لخيانة الله، وهي التي حظيت بأعظم النعم. فمع أنها مستفيقة، فقد فضّلت أن تبقى في الليل.
أشار إليها حبيبها، فما أسرعت إلى أمامه، ما قفزت إلى لقائه. لم تتحرّك. ظلّت في سريرها. وحين ناداها رفضت تلبية النداء. ثم بحثت عن أعذار واهية لكي تبرّر نفسها. "خلعتُ ثوبي فكيف ألبسه ". وهكذا تكون حقًا ابنة أبويها الأوّلين. فقد حاولا هما أيضاً بعد الخطيئة أن يبرّرا نفسيهما، ساعة انفتحت عيونهما وعرفا أنهما عريانان (تك 3: 7).
فضّلت العروس نفسها على ذلك الذي فضّلها على جميع الصبايا، فأغلقت في جهه الباب. وقال يو 1: 11 في هذا المجال: "جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله ". وقال أش 53: 2: "لا صورة له ولا بهاء فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه " (أو نبحث عنه، نطلبه).
رُفض الحبيب ولكنه لم يتراجع. ذاك الذي كان يقرع الباب، وينادي متوسّلاً، ويكثر من كلمات العطف والحبّ ليجعل قلب صديقته يحنّ، ها هولا يقول شيئًا بعد. بل يدفعه حماس حبّه وجرأته لأن يُدخل يده في كوّة الباب. أتراه يريد أن يفرض نفسه على العروس؟ كلا. فهذه ليست عادته.

* من الكوّة مدّ حبيبي يده
ما عاد الحبيب يستطيع أن ينتظر. عيل صبره. فكأني به يريد أن يدخل "غصبًا" عن الحبيبة. ولكنه لا يدخل. فهو يراعي كل المراعاة حريّة عروسه، يراعي قرار تلك التي يحبّها. فمع أنه يستطيع أن يدخل، فهو لا يريد أن يدخل بالقوّة. لا يريد أن يفرض نفسه على الذين يرفضونه. فهنيئًا لذاك الذي يقرع المسيح بابه. ولكن تسمّع إلى ذلك الذي يقرع، تسمّع إلى ذلك الذي يرغب في الدخول. فقد يأتي العريس فيجد الباب مقفلاً فيمضي ويختفي.
أجل، ظلّ الباب مقفلاً، فعبَر المسيح وراح. إن قرعه للباب وصوته العذب، والأسماء الحلوة التي بها نادى الحبيبة، كل هذا لم يُخرج العروس من نومها الثقيل. ولكن حين رأت اليد تدخل و"تحاول " بإلحاح أن تفتح الباب، أحسّت بقلبها يشتعل. فهذه اليد أرادت أن تلج إلى أعماق حياتها. ولكن هذه اليد القديرة والخلاّقة، لماذا لا تعرف أن "تخلع" الباب، بل هي تمتدّ فقط في حبّ وحنان.
مدّ الحبيب يده، فتحرّكت له أحشاء الحبيبة. أصابها في قلبها، أصابها في أحشائها التي هي مركز العاطفة والحبّ. فتألّمت ألم إر 4: 19 أمام خيانة شعبه ومعاملتهم له: "أحشائي، أحشائي (في اللغة الدارجة: يا بطني. حرفيًا: أمعائي). إني أتوجّع".

* قمت لأفتح لحبيبي
لقد ترك الحبيب وراءه أثرًا لا يمّحى. ما أن تُلامس يدا الحبيب حياتنا حتى تمتلئ حياتنا كلّها بالعطر. فالمرّ الذي هو سائل معطّر، يرافق حضوره في النفس، ويدلّ على أن ملامسة الحبيب مهما كانت وضيعة وخفيّة وسريعة، تجتاح عمق أعماق الحياة.
كم كانت تعرف هذا العطر، عطر المرّ! قالت في ما سبق: "حبيبي قلادة مرّ لي، بين ثدييّ موضعه ". هو عطر يتمَاهى مع الحبيب. عطر هو الحبيب. هو عطر الله الذي تحتفظ الخليقة كلها (وكأنها إناء عطور)، بآثاره عبر العجائب التي نراها. فالعروس قد رأت دومًا في هذا العطر علامة عن حضوره. أما الآن، فقد صار على مسكة الباب علامة تدلّ على غيابه فتمزّق قلبها. لقد أدركت فجأة أن الحبيب مضى واختفى. فلم يبق منه إلاّ التذكّر، لم يبق إلاّ الآثار المعطرة التي تدلّ على مروره.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM