الفصل السابع عشر: انصرف الحبيب وعَبَر

الفصل السابع عشر
انصرف الحبيب وعَبَر
6:5- 9

وبدا الطابع الدراماتيكي لظهور العريس. وهذا ما يجعل المحنة آتية لا محالة وآتية بقوّة. فالعريس الذي بدا قريبًا جدًا، وحدّت العروس لغة الحنان والعطف، بل استعدّ أن ينضمّ إليها... هذا العريس، وفي ساعة اللقاء المنتظرة، اختفى وزال في لمحة بصر ودون أن يعطي سببًا لاختفائه. حينئذ انطلقت العروس كالمجنونة للحاق به، يدفعها حبّ كلّه حرارة ورغبة لا تُقاوم.
(آ 6) فتحتُ. لسنا هنا أمام صيغة الحاضر، والفعل يعبّر، شأنه شأن الأفعال السابقة، عن عمل يتمّ في الماضي. فخبر المشهد عينه يتواصل. ونجد هنا الضمير المنفصل "أنا فتحتُ ". فتحت لحبيبي. إن العروس تردّد بلوعة اسم ذلك الذي تحبُّه. فهو سبب قلقها واضطرابها. اختفى ساعة ظنّت أنها سوف تمسكه.
"فتحت... وحبيبي". كذا نقرأ حرفيًّا، ولكن الواو هنا تدلّ على تبدّل الحال تبدلاً تامًّا. لكن حبيبي لم يَعُد هنا. هنا نجد عبارة مؤلّفة من لفظتين: ح م ق. ع ب ر. نجد فعل "ح م ق " في إر 31: 22 (زاغ، صار). والاسم "ح م و ق ي " في نش 7: 2 (خاصرتاك المستديرتان). إذن، تدلّ "ح م ق " على الحركة المعاكسة التي يقوم بها العريس لكي يعود أدراجه. بعد فعلة سريعة وواضحة قام بها العريس، ها هو يتراجع.
وفعل "ع ب ر" (كما في العربيّة) يعني: مرّ في الطريق وكأنه شقّها وقطعها. مضى، قطع الوادي وجازه. هذا يعني أن موضع العروس صار وراءه. ترك العريس المكان واختفى كما يختفي السحاب، وتوارى. حين فتحت الحبيبة الباب، لم تجد أحدًا. لم يعد للحبيب من أثر إلاّ هذا المرّ الذي بقي على قبضة الباب.
"ن ف ش ي. ي ص ا ه". حرفيًا: نفسي خرجت. يتحدّث الشرّاح عن انخطاف أو ضياع. قالت الشعبيّة اللاتينيّة: "سالت كالماء نفسي". والسريانيّة البسيطة: "خرجت نفسي بكلامه"، أي بسبب كلامه، مدفوعة بكلامه. وترجم بعضهم: صوت كلامه جعلني أضيع. لم تكن الحبيبة مالكة نفسها حين تكلّم الحبيب. ولما عادت إلى رشدها، كان قد فات الأوان. ولكن عبارة "ن ف ش ي. ي ص ا ه" تعني مات، أسلم الروح. لهذا قال بعضهم: إن ذهابه (هربه) جعلني أموت، أسلم الروح. ولكن في العودة إلى العربيّة (أدبره: جعله وراءه)، نقول بكل بساطة: "خرجت نفسي (خرجت أنا) وراءه ".
"ب د ب ر و". تعني في العبرّية: "بكلامه ". تساءل الشرّاح: كيف تستطيع العروس أن تقول إنها أسلمت الروح حين سمعت صوت العريس، مع أنها بدت لا مبالية به في آ 3؟ لهذا ترك الشرّاح "د ب ر" العبرّية، وعادوا إلى "دبر" العربيّة التي تعني أدار ظهره وهرب. المهمّ هو أن العريس لم يعد هنا. قد تكون العروس خرجت وراءه، أو هي كادت تسلم الروح حين رأت أنه هرب.
"طلبته فما وجدته ". هناك المعنى الأوّل على مستوى الحبّ البشريّ. ما إن فتحت الباب ولم تجده، حتى أحسّت بخيبة أمل مرّة. "دعوته فلم يجبني". عبارتان نجدهما في الكتاب المقدس، وهذا ما يدلّ على أننا لسنا فقط أمام الحبّ البشريّ. عبارتان نقرأهما في فم الكلمة الإلهيّة: "حينئذ يدعونني فلا أجيب، ويطلبونني باكرًا فلا يجدوني " (أم 1: 28). إننا نجد "طلب الله، طلب وجد" في مقاطع عديدة لدى الأنبياء. نقرأ في أش 51: 1: "إسمعوا لي يا مَن تقتفون البرّ، وتطلبون الربّ". وفي 65: 1: "مَن لم يسألوا عنّي اعتلنت لهم. ومَن لم يطلبوني وجدوني ". وفي زك 8: 21- 22 نرى جموع الأمم ذاهبة في طلب الربّ واستعطاف وجهه.
أما إر 29: 13 فيقول: "تطلبونني وتجدوني. تطلبونني بكل قلوبكم ". كان الإطار اسكاتولوجيًا مع النصوص السابقة. أمّا إرميا فيعلن العودة من المنفى واستعداد الربّ للرجوع إلى فلسطين وبناء الأمّة شرط أن تطلبه الأمّة بصدق. ونصّ إرميا هذا هو صدى لتعليم هوشع الذي هو أساس نصّ نش الذي ندرس الآن. في 5: 6، صوّر هوشع توبة ينقصها الصدق والإخلاص، فهرّبَ الله. "سينطقون ليطلبوا الرب... فلا يجدونه. لقد انصرف عنهم ". ونقرأ في 5: 15: "أمضي وأرجع إلى موضعي (حيث أقيم بعيدًا عنهم) إلى أن يتبدّلوا (رج أسن في العربية، أو يعودوا عن اثمهم، رج تأثّم في العربية). حينئذ يلتمسون وجهي، وفي ضيقهم يطلبونني باكرًا" (رج هو 9:2 ؛ 3: 4- 5).
في نصّ هوشع الذي ذكرناه (5: 15) نقرأ "ي ش ح ر ن ن ي "، أي يأتون إليّ سحرًا. أي يطلبون باندفاع الربّ الذي تركوه. وإن مجهودهم سيجد مبتغاه. في هذا المقطع يشبّه النبيّ الله بطلوع الفجر (6: 3 ب) والشتاء المتأخّر الذي يروي الأرض (6: 3 ج). هذه الصور هي صور نش 2: 11، 17.
"دعوْته فلم يجبني ". هي عبارة مقولبة ترد في فم الله الذي يوبّخ شعبه لأنه ازدرى بمحاولاته. قالت الرب بلسان نبيّه: "جئت فما وجدت أحدًا، ناديت فلا جواب " (أش 50: 2). وفي 65: 12: "دعوت فلم تجيبوا. تكلّمت ولم تسمعوا". وقال الرب لإرميا وكأنه يكلّم نفسه: "تكلّمهم بهذه الكلمات فلا يسمعون لك، وتدعوهم فلا يجيبونك " (7: 27). ففي هذه النصوص كما في أم 1: 28، نجد تعبيرًا عن صلاة حارّة يتلوها بنو اسرائيل في ضيقهم، وهي صلاة لم تستطع أن تتغلّب على صمت الله، أن تجعله يتكلّم. فصمته يدلّ على أن الموت يتهدّد شعبه.
إذن، الحدث الدراماتيكيّ الذي تورده هذه الآية هو أكثر من حلم، كما قال بعضهم. أو إن العريس قد أراده ليمتحن حبّ عروسه. بل له معنى لاهوتيّ نجد مفتاحه لدى الانبياء، ولاسيمّا هوشع وإرميا: فالعروس لا تستطيع أن "تمتلك " العريس، لأنّ استعدادات قلبها ليست بكاملة. فإن هو اختفى ساعة ظنّت أنها تمسكه، فلكي يدفعها للدخول إلى ذاتها، والإقرار بخطاياها إقرارًا صادقًا، وتبديل حياتها. غير أننا نراه يقترب شيئًا فشيئًا، ويلحّ في طلبه إلى العروس. ونرى العروس تبحث عنه بحرارة متنامية. وهذا ما يدلّ على أننا نتوجّه إلى نهاية الدراما.
(آ 7) رأى بعضهم أن هذه الآية هي تكرار 3: 2- 3 أ، وألغى بعضهم الآخر "الطائفون في المدينة" و"حرّاس الأسوار"، وذلك باسم الشعر. لكن لماذا لا يبقى النصّ كما يرد في التوراة؟ لا شكّ في أننا نقرأ "صادفني الحرّاس الطائفون في المدينة" في 3: 3. ولكننا نفهم معنى التكرار في نش، والخبرة هي هي مع التعمّق في العواطف.
نجد فعل "ن ك هـ ". هو لا يعني جرح، بل ضرب. هنا نستطيع العودة إلى العربيّة: نكأ أو نكع (ضربه بظهر قدمه). رج تث 25: 2-3؛ مي 4: 14. كما نجد فعل "ف ص ع ". في العربيّة: فصع الثمرة أي عصرها بإصبعه حتى تنقشر وقد توسّع المعنى فعنت اللفظة "جرح " (1 مل 20: 37). هذا لا يعني أن الحرّاس استعملوا سلاحهم ضدّ امرأة ضعيفة، بل ضربوها حتى الدم لأنهم ظنّوا بها سوءًا وهي وحدها في هذا الليل.
"نزعوا عني ردائي ". في العبريّة "ر د ي د" هو جزء من لباس النساء (أش 3: 23). لسنا فقط أمام حجاب بسيط كما في نش 4: 1، 3 (ص ع ي ف، أو: ص م هـ). بل أمام رداء طويل يُربط على الرأس وينزل حتى الرجلين. جعلته المرأة فوق قميصها لتحمي نفسها من برد الليل. هل نقول إنها أرادت أن تفلت من يد الحرّاس فتركت رداءها بين أيدي الحرّاس كما فعل يوسف بن يعقوب (تك 39: 12- 13) أو ذاك الشاب العريان في مر 14: 51- 52؟ أو بالأحرى وانطلاقًا من سياق النصّ، أظهر الحرّاس قساوتهم وفظاظتهم فنزعوا الرداء عن كتفيها.
إن المشهد المصوَّر هنا يشبه إلى حدّ بعيد ما نقرأ في 3: 2- 3 مع التشديد على بعض التفاصيل. فالعروس تبدو أكثر اندفاعًا وأكثر حرارة في ملاحقة عريسها (آ 6، 8). ثم إن الحرس الذين اكتفوا في الماضي بأن لا يجيبوها عن سؤالها، تصدّوا لها، ضربوها حتى جرحوها، ونزعوا عنها رداءها. والإطار في كلا المشهدين هو أورشليم التي أعيد بناء أسوارها (أش 52: 8؛ 62: 6). هذا يعني أننا بعد سنة 445 ومهمّة نحميا الأولى التي فيه بنى أسوار أورشليم. وقد تدلّ عداوة الحرّاس (نح 7: 3) على نوايا السلطات السياسيّة تجاه هؤلاء المغامرين الآتين من الجلاء (نح 5: 15؛ ملا 1 :8).
(آ 8) "استحلفكنّ يا بنات أورشليم ". هو قرار (ردّة) يتكرّر حرفيًا في 2: 7؛ 3: 5؛ 8: 4. في هذه المقاطع يستحلف العريس بنات أورشليم لكي يتركن الحبّ يستيقظ بشكل طوعيّ في قلب العروس. أما في 5: 8، فالعروس تستحلف بنات أورشليم وتقول لهنّ بأن يؤكّدن للعريس أن ما طلب قد تم: "الحب أسقمني ". أنا مريضة من الحبّ.
تزيد السبعينيّة هنا ما نقرأ في 2: 7: "بظباء، بأيائل الحقول ". أما السريانيّة البسيطة فتبقى أمينة للنصّ العبريّ. واقترح بعضهم حذف لفظة "أورشليم"، فنستطيع أن نجعل العروس لا في مدينة محدّدة، بل في كل مدينة. وتساءل آخرون: ماذا تعمل بنات أورشليم خلال الليل في شوارع المدينة؟ وافترض آخرون أن العروس ذهبت إلى بنات أورشليم لكي تفرغ ما في قلبها من ألم وتطلب العزاء. ولكن لا ننسَ أننا هنا في خدعة أدبيّة. هو الشاعر يقود "الممثّلين " ليجعلهم يعبّرون عمّا في فكره.
نقرأ هنا أداة الشرط "إم" (أي إن في العربيّة). أما في 2: 7 و3: 5، فقد تكرّرت "إم " وهي تعني: أن لا. أما "م ه" فتبدأ جملة استفهام بلاغيّة، على ما في هو 9: 14 (أعطهم يا رب... ماذا تعطي؟). يتوقّف الشاعر قليلاً ولا يتابع كلامه لكي يحرّك الانتباه ويشدّد على ما سوف يقول. تركت السبعينيّة والشعبيّة والبسيطة هذه الأداة (م ه)، فقالت السريانيّة مثلاً: "أستحلفكنّ يا بنات أورشليم، إن وجدتنّ (حين تجدن) حبيبي، أني عليلة من الحبّ ".
"الحبّ أسقمني ". نسيت العروس جراحها والضربات التي نالتها من الحرّاس، ولم تفكّر إلاّ بالحبّ الذي يُشعل قلبها. هي لا تتحدّث عن نفسها، بل تطلب أخبار حبيبها لدى جميع الذين تلتقي بهم: الحرّاس. والآن، بنات أورشليم.
(آ 9) ما قالته العروس، دفع بنات أورشليم إلى إعلان ما أعلنّ: "ما فضل حبيبك على أي حبيب"! عند ذاك، تقدّم الحبيبة صورة عن حبيبها (آ 10- 16) سنقرأها في فصل لاحق. هنا نترك "المنطق " الذي يضيع بين الحلم والواقع، ونفهم أننا في عالم الرمز والاستعارة.
"ما فضل حبيبك ". تتكرّر هذه العبارة فيدلّ التكرار على اهتمام بنات أورشليم بمعرفة عواطف الحبيبة. وهكذا يبدو سؤال الجوقة مقدّمة مباشرة للوحة التي تلي (آ 10 ي)، وخاتمة لما سبق.
نقرأ حرفيًا: "ما حبيبك من حبيب ". قد نشدّد على شخص ننتزعه من مجموعة، أو قد نقابله مع الآخرين. في الحالة الأولى نقول: "بم" يتميّز حبيبك عن الآخرين "؟ وهذا هو المعنى. فالحبيب لا يُقابل مع أي حبيب آخر، وإن قابلناه فلكي نميّزه. إن بنات أورشليم يعرفن العريس (1: 8؛ 2: 7 ؛ 3: 5). والسؤال يطرحه الشاعر من خلال خدعة أدبيّة ليجعل العروس تنشد جمال عريسها الذي هو الله بالذات. هنا نتذكّر أش 40: 18، 26: "بمن تشبّهون الله، وأي شبه تعادلونه به " (تجعلونه قربه. لا يمكن أن نضع أحدًا جانبه)؟ "إرفعوا عيونكم إلى العلاء وانظروا: من خلق هذه الكائنات " (الكواكب التي تعتبر حيّة)؟ وفي 46: 5: "بمن تشبهونني وتعادلونني (يعني: لا شيء يشبهني أو يساويني)؟ بمن تقابلوني فنتشابه "؟ هذا هو وضع الحبيب في نش 5: 9. إنه فريد وإن قابلناه مع الآخرين. إنه لا يقابَل مع أي حبيب. لهذا وردت لفظة "دود" في صيغة المفرد لا في صيغة الجمع (د و د ي) أي الأحباء.
هنا لا نتوقّف عند فرضيّة غريبة تقول إن لـ ِ"دود" معنيين. من جهة، يدلّ على الحبيب، يصفه. ومن جهة ثانية، هو اسم إلهيّ، اسم الاله تموز وحبيب عشتار، وقد درجت عبادته في سورية ولبنان كما في فلسطين، ولاسيمّا في بيت لحم وأورشليم. هنا يجب أن نبدّل معنى حرف الجرّ "من" فنقول: ما حبيبك إلاّ دود... ولكننا صرنا جدّ بعيدين عن النصّ.
إن عبارة "الجميلة بين النساء" (أو: أجمل النساء) خاصة بلغة بنات أورشليم (1: 8؛ 6: 1). وهي تتوافق مع الفكرة الرئيسيّة في هذه الآية: العريس سامٍ فلا يعادله شخص في سموّه. والعروس جميلة فلا تساويها امرأة في جمالها. وتنهي الجوقة كلامها: "لتستحلفينا كما تستحلفين". هي أفضل من "حتى تستحلفينا كذلك". في هذه الترجمة الأخيرة يضيع الشعر.

* فتحتُ ولكنّ حبيبي ولّى وعبر
نقرأ سفر الرؤيا: "ها أنا واقف على الباب أقرعه. إن سمع أحد صوتي أقرع الباب، دخلت إليه فتعشّيت معه وهو معي " (3: 20). هذا ما قاله الرب لكنيسة اللاذقيّة المتهاملة. لقد جاء. ووقف متواضعًا أمام الباب. قرع وقرع طويلاً. وانتظر وانتظر. سمعت الجميلة صوته، ولكنها لم تفتح. وردت لفظة "فتح" مرتين على شفتي العروس. مرّة أولى في آ 5: قمت لأفتح. ومرّة ثانية في آ 6: فتحت. ولكن فات الأوان. والحبيب لم يدخل، بل مضى وتجاوز بيت عروسه. لم يعد هنا.
هنا نتذكّر شاعرًا صوفيًا من الهند (القرن الرابع عشر) يتحدّث عن ألم الحبيبة التي لم تعرف أن تستقبل حبيبها ساعة جاء إليها. "جاء يطلبني. كان الليل مظلمًا والسحاب الداكن يحيط بالسماء. جاء في هذه الطريق المنعزلة، مبلّلا بالمطر. كنت هنا مع صديقاتي ألعب بلعباتي الصبيانيّة. ما ذهبت إلى لقائه. جاء ولكنه ظلّ تحت الأشجار مبلّلاً بالمطر".
ويقول القديس برنردس في مريم العذراء: كم تكون مختلفة عن هذه العروس، تلك التي يقرع الحبيب بابها في يوم من الأيام، فتفتح له بسرعة، تفتح له أبوابها واسعة. "أيّتها العذراء المغبوطة، افتحي في هذه الساعة الاحتفاليّة: قلبك للإيمان، وشفتيك للقبول، وصدرك للخالق. ففي الخارج مرغوب جميع الأمم يقرع الباب. وقامت مريم حالاً: ها أنا خادمة للرب فليكن لي حسب قولك ".
وابتعد الحبيب. يجب أن نشدّد على هذا الأمر لأنه لا يصدّق. ابتعد دون أن يُسمع أي احتجاج، دون أن يوجّه أية ملامة، دون أن يعبّر عن تشكٍ مهما كان بسيطًا. ابتعد صامتًا. هل نتخيّل مثل هذا الموقف عند حبيب عاديّ؟ أما يجب عليه أن يطلق العنان لبغض "نبيل"، أن يُسمع التهديدات و"اللعنات " بعد أن رفضت الحبيبة أن تستقبله. فكأنها طردته. هذا ما يفعل الحبيب العاديّ، لا عريس نش.
هذا ما فعله يسوع مع السامريّة التي حاولت أن توصد الباب في وجهه المرّة بعد الأخرى. كيف تطب مني ماء؟ اليهود لا يكلّمون السامريّين، فأرجوك أن لا تكلّمني... من أين لك دلوٌ ... وفي النهاية حاولت أن تتهرّب: عندما يأتي المسيح. ولكن يسوع قال لها: أنا المسيح. وهكذا انتصر بعد أن صبر طويلاً.
وهذا ما حدث ليسوع مع الخاطئة في بيت معان، ومع المرأة التي أخذت في زنى، ومع زكّا العشّار. وهذا ما حدث للأب مع ابنه الراجع إليه. فالحبيب لا يُسمع أي لوم ولا توبيخ للذي يحبّه. هو يعرف أن حبيبه ضعيف، سريع العطب. وهو يتألّم من خياناته. ولكنه لا يكون قاسيًا ولا لائمًا ناقدًا. كل ما يقوله عن حبيبته حين يراها نائمة: "لا تيقظوا حبّي إلاّ ساعة يشاء". كلمات مليئة بالوداعة وطول الأناة.
ونتساءل: لماذا انصرف العريس بسرعة بعد أن دلّ على رغبته الملحّة؟ هل أراد أن "يلعب" لعبة تقابل المهزلة التعيسة التي لعبتها العروس؟ في الواقع، وبعد أن كلّم قلب حبيبته لكي يوقظها من تقاعسها وكسلها، ها هو الآن، بغيابه وبالألم الذي يسبّبه لها هذا الغياب، يريد أن يكمّل تنقيتها ويقودها إلى الكمال الحقيقيّ، كمال الحبّ والاتحاد. تلك هي طريقة العريس في "الاختفاء"، وقد عرفناها في القصيدة الثانية.
ضاعت العروس، حزنت، كادت تسلم الروح. وفهمت، بعد أن هرب العريس، أنه كان خيرَها الوحيد وحياة حياتها. لا شيء يشبع جوعها على الأرض، لا شيء يروي رغباتها. وهل لها أن تعيش بدونه؟
لهذا، اندفعت في طلبه ولم تعد تحسب أي حساب للبرد أو للجوع أو لليل أو للتعب. اندفعت تركض حتى اللهاث. وهكذا دلّت في عمق ضعفها، على عظمة حبّها. كما هي تشبه تلميذَيْ عماوس اللذين اختفى عنهما يسوع بعد أن عرفاه عند كسر الخبز. نسيا كل شيء وعادا إلى جماعة التلاميذ. نسيا التعب والليل والجوعِ والخوف. فالشوق إلى يسوع ملأ قلبيهما. ووصلا إلى الجماعة التي قالت لهما: "قام الرب حقَا وظهر لسمعان " (لو 24: 34). لقد وصلا إلى ضالتهما. أما عروس نش فكانت كل مجهوداتها فاشلة. طلبتُ حبيبي فما وجدته.

* طلبته فما وجدته، ناديته فما أجاب
منذ لحظات رفضت العروس أن تردّ على الصوت الذي يناديها. وقد حُكم عليها الآن في الظاهر أن تصرخ في الفراغ والوحشة. هو صمت الله، هو لا ينتقم ولا يعاتب. بل يختفي ويصمت لكي تحفر الرغبة القلب فينفتح في النهاية للربّ بإمكانيّة كبيرة لقبوله.
قال غريغوريوس الكبير: "يختفي العريس حين نطلبه. وهكذا، حين لا تجده العروس، فهي تبحث عنه بحرارة متجدّدة". هو يتأخّر فلا يكشف عن نفسه حالاً. فيزيد هذا التأخّر شوقها إلى الله، وتجد في يوم من الأيام ملء الوجود الذي تطلبه.
وقال أوغسطينس: "لأن الله يوسّع الرغبة حين يجعلنا ننتظر. وإذ يجعلنا ننتظر يوسّع النفس. وإذ يوسّع النفس، يجعلها قادرة على القبول... تلك هي حياتنا: نتمرّس ساعة نرغب". وأعلن برنردس للإخوة: "ما إن يقدّم الكلمة نفسه بعد أن نكون طلبناه بالاسرار والصلوات المتواصلة، بالأشغال الطويلة والدموع الغزيرة، حتى يُفلت منا فجأة وساعة نظنّ أننا نمسك به حقًا. وإن اقترب مرّة أخرى من ذاك الذي يذرف الدموع ويلاحقه باندفاع، فهو يقبل بأن نمتلكه بعض الوقت، لا أن نحتفظ به على الدوام: فبعد وقت قليل يهرب ويفلت من أيدينا".
إن نش هو قصيدة الاتحاد. وهو أيضاً قصيدة عطش الله والبحث عنه. نجد هذا كله في هاتين الكلمتين اللتين وجدناهما في القصيدة الثانية، فبدتا مهمّتين عند الأنبياء وفي الأناجيل: طلب- وجد. ولكن ما هو عدد الذين يطلبون الربّ بمثل هذا الحبّ وهذا الاندفاع؟ يروى عن رابي كان يلعب "الغميضة" مع ولد صغير. اختبأ الولد فرفض الرابي أن يبحث عنه، ومضى. فذهب الولد يشتكي دامعًا إلى جدّه. والله يقول الشيء عينه: "أذهب وأختبئ ولكن أحدًا لا يأتي ليبحث عني ".
الشكوى التي تسمعها الحبيبة الآن، تشبه شكوى صاحب المزامير بعد أن أحسّ نفسه متروكًا. "كما يطلب الأيّل العطشان مياه الحياة، هكذا تطلبك نفسي، أيها الربّ إلهي " (مز 42: 2). وقال يوحنا الصليب في هذا المجال: "أين اختبأت يا صديقًا ترك نفسي في الحداد؟ هربتَ مثل الأيّل بعد أن أحزنتني. خرجتُ في طلبك وصرخت، ولكنك ذهبت ".
وهكذا سارت عروس نش في الليل، سارت في شوارع أورشليم. لم تستسلم إلى أسف عقيم ولا إلى شعور بالذنب. لم تتأوّه قائلة: ماذا فعلت؟ يا لجنوني. فالتحسّر على سقطتها يعني بالنسبة إليها ارتماء ثانيًا أمام ذلك الذي ما زال يحبّها. وفي هذه المرّة أيضاً اصطدمت بحرّاس المدينة.

* صادفني الحرّاس في المدينة
الحرّاس الذين سبق لها فسألتهم في وقت سابق ولم يردّوا عليها، بل لم يلتفتوا إليها (3: 2- 3)، هؤلاء الحرّاس أنفسهم اقتربوا منها الآن بفظاظة وقبل أن تتلفّظ بأيّة كلمة. ما اقتربوا لكي يساعدوها أو ليسألوها عن ألمها الظاهر على وجهها. بل هاجموها بعنف وبدون سبب. ضربوها، جرحوها، عرّوها. هذا هو الوجه الحقيقيّ لمدينة البشر، لمدينة العنف، التي تقابل مدينة السلام، أورشليم التي يملك عليها الحبيب. هذا ما لاحظه المرتّل في حزن عميق، فقال: "أرى في المدينة العنف والخصام يحومان فوق أسوارها ليل نهار، وفي وسطها الاثم والشقاء. الدمار في داخلها، والظلم والمكر لا يبرحان ساحتها" (55: 11-12).
وهكذا تُزاد قساوة البشر واضطهادهم على الألم التي تشعر به النفس لغياب الله. وهي كيفما التفتت الآن، لا تجد عزاء ولا راحة. وحتّى الذين ظنّنا أننا نجد لديهم العون والمشورة والسند والتشجيع، يزيدون ألمنا ألمًا. ونقول أيضاً بأن هذه القصيدة تختلف عن القصيدة الثانية حيث العروس لم تبتعد عِن الحبيب، وحيث لا تستطيع قوّة الأعداء (الحرّاس) شيئًا، ما دام الحبيب يقدم لها عونا غير منظور. أما هنا، وبعد أن رفضت عريسها، فهي لا تستطيع بعد أن تستند إلى عونه. وأعداؤها، شأن كل الأعداء، عرّوها من كل شيء، ضايقوها وعاملوها بعنف. كانت قد أجابت عريسها أنها "خلعت ثيابها (آ 3)، أنها لا تستطيع أن تلبّي نداءه. وشاءت سخرية القدر بأن ينزع عنها الحرس هذه الثياب بالاكراه ومن أجل عقابها. نزعوا عنها ما لم ترد أن تلبسه لتذهب إلى لقاء الحبيب (رج حز 16: 36- 37).
حين نتوقّف عند هذا المشهد مع الحرّاس، نلاحظ أن نش لا يقدّم لنا الحبّ في عالم مثاليّ عجيب وبعيد عن عالمنا. فحبّ الحبيب والحبيبة يتعرّض في كل لحظة للمحن القاسية. فالعروس عرفت المنفى، وهي سجينة الأسود والنمور (4: 8). أرضها تحت الاحتلال، وقد داستها أرجل العدو: "الثعالب الصغار أتلفت كرومها" (2: 15). وهي الآن خاضعة للأشغال الشاقة التي شقّقت وجهها وجعلته أسود بسبب حرّ الشمس (1: 6)0 استُعملت مثل بهيمة تشدّ العجلة. صارت فرسًا مشدودة إلى مركبات فرعون، فعليها أن تجرّ الأحمال الثقيلة (1: 9- 11) في مخيمّات البابليّين، كما كانت في الماضي لدى المصريّين. واصطدمت في يأسها تارة باللامبارة والصمت المليء بالاحتقار لدى سجّانيها (صمّ الحرّاس آذانهم عن ألمها وشكواها، 2: 3)، وطورًا بهزء الوثنيّين وتعييراتهم مع ما فيها من تحدِّ: "ما فضل حبيبك على أي حبيب آخر" (9:5). وتعرّضت أخيرًا لقساوة وسوء معاملة الحرّاس الذين ضربوها ومارسوا العنف معها (5: 6- 8).
غير أننا نكتشف في هذه القصيدة الرابعة وفيها ما فيها من ألم كبير، النموّ العظيم الذي تحقّق في النهاية لدى العروس. فإلى أي درجة ارتفع حبّها بفعل المحنة وبفضل خيانتها التي تراجعت عنها. هي ما عادت تشعر بهزء الهازئين. ما عادت تسمع أية شكوى. ما عادت تفكّر في نفسها، بل في حبيبها فقط. فكأن جميع المعاملات السيّئة التي تحمّلتها قد قوّتها في بحثها المحبّ. فإن هي توجّهت الآن، كما في الماضي، إلى صويحباتها بنات أورشليم، فهي لا تفعل طلبًا لعون أو شفقة، بل لتقول لهن إن الحبّ قد أسقمها.

* استحلفكنّ يا بنات أورشليم
هذه الرفيقات اللواتي أوصاهن الحبيب في ما مضى أن لا ييقظن العروس إلاّ متى تشاء (2: 7؛ 3: 5)، يتسلّمن الآن من العروس نفسها وبلغة الاستحلاف التي استعملها العريس، تأكيدًا بأنها استيقظت وحقًا استيقظت. لقد عادت كل العودة من خيانتها، وهي تطلب حبيبها بكل كيانها، إلى أن صارت مريضة. ذاك الذي كان حياتها قد تركها. فكيف تستطيع بعد أن تحيا وتحافظ على الصحّة؟ لقد حلّ بها الذبول.
وهو ذبول يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي احتفظ بها في غرفتها منذ بضع ساعات. هو ذبول لا يسبّبه الضعف بل كثرة الحبّ. ذبول الحبّ الذي هو في حداد، يدفعها إلى طلب حبيبها. وهكذا نكون هنا أمام الاستسلام الروحيّ الصالح، لا السيّئ بما فيه من تراخٍ. فالاستسلام السيّئ يغلق الانسان على ذاته. والاستسلام الصالح بفتحه على الله والقَريب، ويحرّك فينا الانتباه إلى الآخرين وكل أنواع مبادرات المحبّة.
ونلاحظ أيضاً الأثر المحزن في هذا الحوار البلاغي. "قلن له... ماذا نقول له"؟ هي تريد أن توصل إليه "رسالة". ولكنها لا تريد أن تكلّمه بطريقة غير مباشرة. فهي لا تستطيع أن توصل إليه ما تريد بواسطة الآخرين. هذا لا يعني أن بنات أورشليم لن يوصلن الرسالة إذا حصل لهنّ والتقيْن بالحبيب. ولكن... يكفي أن يتنهدن على حالها: وجهها يدلّ على ضيقها، وضيقها هو حبّ قلبها. قالت مرتا ليسوع: "ذاك الذي تحبّه مريض". أجل، هو مريض بحبّك.

* ما فضل حبيبك على أي حبيب
ولكن جاءت ردّة فعل بنات أورشليم مخيّبة للآمال. لا شكّ في أنهن اختلفن عن الحرّاس فلم يظهرن أي عداء. ولكن كلامهنّ، وإن لم يكن ضربًا وتنكيلاً على مثال ما فعل الحرّاس، كان "شوكًا" في قلب العروس. وهكذا نفهم كلام العريس: "كالسوسنة بين الشوك رفيقتي بين البنات " (2: 2).
إن سؤالهنّ يدلّ على عواطف أولئك الذين لم ينعموا بعد بلقاء الحبيب، فلا يفهمون قيمته في حياة شخص من الأشخاص، ولا يفهمون الألم الذي يسبّبه غيابه. هل يمكن أن يُحبّ هذا العريس بمثل هذا الحبّ، بحيث يجعل الآخر مريضًا إن هو ابتعد عنه؟ هل هو حقًا ذلك المحبوب الذي لا يقابله محبوب على الأرض؟
وردّدت بنات أورشليم مرتين: "ما فضل حبيبك على أي حبيب، يا أجمل النساء"؟ وبدين مدهوشات. سؤال طرحته الأم الوثنيّة على شعب اسرائيل العائش في المنفى، ونحن نجد صداه الحزين في مز 42: 4: "اسمعهم كل يوم يقولون لي: أين إلهك "؟ ولكن هناك آلهة أخرى... وتلميذ المسيح يسمع النداءات العديدة فيجيب: ليس من اسم نخلص به إلاّ اسم يسوع المسيح.
كان باستطاعة بنات أورشليم لدى رؤيتهنّ لطافة الحبيبة، أن يستشففن بعض جمال هذا العريس حين يشاهدن نوره على وجه حبيبته. سموّها: "الجميلة بين النساء". قلن الحقيقة وقلنها مع بعض الحسد. فيجب أن يكون ذاك العريس فريدًا وهو الذي جعل تلك التي يحبّها فريدة في جمالها. يجب أن يكون الوجود بالذات، لا أسطورة وخيالاً، ذاك الذي يجعل حبّه مثل هذا الكائن يُوجد ويتفتّح. العروس تبحث وهي لا شكّ ستجد.

خاتمة
أثارت الجوقة قلب العروس، فكان جوابها مديح الجنون لعريسها. واستسلمت لهذا المديح. وفي ألمها العميق بسبب غيابه، لا تجد راحة ولا تعزية إلاّ أن تترك قلبها يتكلّم عمّن تحبّ. تتكلّم عنه. تنشد مدائحه. تشيد بجماله. تكشف عمّا في أعماقها من إعجاب وحبّ له. تلك هي العذوبة الوحيدة. تلك هي الضرورة المطلقة. فحبّ الحبيب يجب أن يُعلن والباقي فراغ وباطل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM