الفصل السابع: أنا مريضة من الحب

 

الفصل السابع
أنا مريضة من الحب
3: 4- 7

بعد البحث القلق والمشوب بالضياع، ها هو "الامتلاك " الهادئ والمطمئنّ. اشتهيت أن أجلس في ظلّه، أن أكون بقربه، فكان لي ما تمنّيت. وهكذا نعمت العروس بحضور العريس. وإذ ادخل عروسه، لم يتوخَّ فقط أن يدعوها إلى وليمة تشبع فيها حاجات جسدها، بل أراد أن يدعوها إلى وليمة روحيّة هي وليمة الحبّ. حينذاك تترك الحبيبة التشابيه مع النرجس والسوسن، وتنتقل إلى مستوى العواطف الحميمة.
(آ 4) أدخَلَني بيت خمره. قرأت السبعينيّة والشعبيّة والبسيطة صيغة الأمر (أدخلوني) بدل صيغة الماضي. أتراها تتوجّه إلى البنات أو إلى رفاق الحبيب لكي يتوسّطن لها فتدخُل إليه. ولكن هل تحتاج العروس إلى واسطة لتذهب إلى عريسها بعد إعلان الحبّ الذي وجّهته إليه. إذن، حدّثت الحبيبة نفسها فعبّرت عن سعادتها لأنها وجدت حبيبها من جديد وأقامت بقربه.
إن الفعل "ب و ا" (دخل) يرد ثماني مرات في نش، وهو يشير دومًا (ما عدا في 8: 11) إلى لقاء بين العروسين. في 2: 8، جاء العريس يطلب العروس حيث هي الآن. وتتحدّث سائر النصوص عن اتحاد قريب وربّما نهائيّ. إما تتوسّل إليه أن يأتي إليها (3: 4 ؛ 4: 16 ؛ 5: 1 ؛ 8: 2). وإما تتوسّل أن تأتي هي إليه (1: 4 ؛ 2 : 4).
ما معنى "بيت الخمر" (ب ي ت. هـ ي ي ن)؟ كانت افتراضات عديدة: المقهى. خيمة في الكروم يرتاح فيها الساهرون من حرّ الشمس. قاعة الوليمة (جا 7: 2 ؛ أس 5: 6؛ 7: 1، 7- 8)0 الكرار أو الموضع الذي توضع فيه الخمر. كروم (عد 6: 4). اسم قرية قريبة من شونم.
ولكن يبدو أن المعنى الأفضل هو"الكرار" حيث يُحفظ النبيذ ويُشرب. قالت بعضهم: هو خدر العرس. وآخرون: معبد عشتار وموضع البغاء المكرّس. ولكن ماذا تقول النصوص البيبليّة؟ اعتبرت فلسطين دومًا أرض الكروم (رج 1: 6). وحين يعدّدون محاصيل الأرض، كانوا يذكرون الخمر وحده مع الحنطة أو مع الحنطة والزيت. نقرأ في تث 33: 28: "عيونكم إلى أرض حنطة وخمر". وفي أش 62: 8: "لن يأكل أعداؤك قمحك ويشرب الغرباء خمرة تعبك ". رج هو 14:7 ؛ 2:9؛ زك 17:9؛ أم 3: 10.
ونقرأ في تث 13:7: "يبارك ثمرة تربتك من قمح وخمر وزيت ". وفي 11: 14: "تجمعون قمحكم وخمركم وزيتكم ". رج 17:12؛ إر 31: 12؛ يوء 1: 10؛ 19:2، 24؛ مز 8:4.
ثم لا شكّ في أن الخمر التي هي نتاج مسكر (أش 28: 7؛ أم 21: 17؛ 23: 29-35) تُذكر في نش كرمز إلى الحبّ (1: 2، 4؛ 4: 10؛ 5: 1؛ 7: 10؛ 8: 2). وهكذا تعود الأمّة إلى "كرار" يهوه، إلى فلسطين، لتسكر بخمر حبّه. هذا ما يتوافق مع ما نقرأ في 1: 4، 12، 16، 17.
"رايته علّي المحبّة". هنا تختلف القراءات. السبعينيّة والبسيطة: رتّب عليّ المحبّة. أكيلا والشعبيّة: رتّب فيّ المحبّة. سيماك: كرّس المحبّة. هنا نعود إلى "د ج ل " التي تعني "نظر، شاهد" (5: 10، رج في الاشوريّة "دجلو"). وفي نش 6: 4، 10 نجد اسم الفاعل (ن د ج ل و ت) وهو يدلّ على تجمّع مع رايات، يدلّ على الجيوش.
إذن، عنت اللفظة "الراية" أو"الجيش " (رج عد 1: 52؛ 2: 2- 3، 10، 17- 18، 25، 34؛ 10: 14، 18، 22، 25. ولن نجد اللفظة بعد ذلك في النصّ العبريّ). فقال بعضهم: يشبّه حبّ الرب بجيش مع رايات يهاجم الحبيبة فيصيبها الوهن (آ 5). ولكن لماذا الهجوم، والعروس لا تقاوم، بل تدل على طواعية حبّها وحراراته. وإذا كانت قد وهنت، أو صارت مريضة، فليس بفعل قوّة خارجيّة، بل بفعل عاطفة عنيفة تنبع من أعماق كيانها.
لهذا نعود إلى معنى "راية". والأداة "ع ل " تعني كما في العربيّة: على، فوق (لا أثر للعداء كما نقول في هجم عليه). فالراية (رج لفظة مشابهة: ن س) هي علامة تجمّع (أش 5: 26؛ 11: 10)، وهي تُرفع على عيون الأمم لكي تأمرها بتحرير الأسرى (أش 11: 12؛ 49: 22؛ 52: 10). فحبّ الربّ لشعبه هو علامة تجتذبهم، تجمعهم، تعيدهم إلى الأرض المقدّسة. وإذا كان الكاتب ذكر لفظة "د ج ل " (لا: ن س)، فلأنها تدلّ على الخروج من مصر كما في سفر العدد. هنا نقابل مع 1: 9، بين الوضع الحاليّ ووضع البدايات: إن الأسر هو عبوديّة على مثال عبوديّة مصر وعودة الأمة من منفاها تُعتبر خروجًا جديدًا.
(آ 5) أسندوني (س م ك). يُستعمل الفعل مع الطعام (تك 27: 37). تتوجّه العروس إلى "البنات ". فلماذا تستعمل المذكّر، لا المؤنّث. هي بالأحرى لا تتوجّه إلى أية فئة محدّدة، بل تصرخ بفعل عاطفة قويّة تخرج من أعماق صدرها.
"أسندوني بأقراص الزبيب ". هنا نعود إلى هو 3: 1. فأبناء اسرائيل اعتادوا أن يتعبّدوا للآلهة الغريبة (هذا ما يسمّى زنى) ويقدّموا لها أقراص الزبيب. قد يكون الشاعر استعاد هذه الإشارة عن سابق قصد: ما كان رمز الخيانة الزوجيّة، أنعش الآن العروس في فورة الحبّ الشرعيّ.
نقرأ "ر ف د" كما في العربيّة. ساعد، أعان، أسند. في نش 2: 3؛ 7: 9، يحرّك عطرُ التفاح الحبّ ويرمز إليه. أما هنا فالتفاح يسند العروس. قد نكون هنا أمام عادة قديمة تجعل المريض يتنشّق رائحة التفاح ليُشفى.
ما هو سبب مرض الحبيبة؟ الحبّ. هو حبّ عظيم جعلها ضعيفة، جعلها تتلاشى ولا تستطيع حراكًا. لسنا هنا أمام تشوّق طالما تاقت العروس إلى أن تراه يتحقّق. فالعروسان يقفان الواحد تجاه الآخر. يمتلك الواحد الآخر في غمرة من الفرح. وإذ تصبح العاطفة جيّاشة، تكاد العروس تسقط إلى الأرض.
وهنا يستعيد نش ويعاكس ما نقرأ في هو 5: 13: إفرائيم هو مريض. عاقبه الرب لأنه تعبّد للأصنام النجسة. والآن، صارت "الخائنة" مريضة بسبب الحبّ الذي يعيدها إلى إلهها.
(آ 6) "شماله تحت رأسي ". هذا هو الواقع، ولسنا أمام التمنّي. و"يمينه تعانقني ". تحيطني بعلامات العطف والمحبّة (رج تك 29: 13؛ أم 5: 20). نشير إلى أن هذه الآية تتكرّر في 3:8.
إن المدرسة الطبيعانيّة تعطي لهذه الآية معنى جنسيًّا وشهوانيًّا. وهناك شرّاح يرون في العناق حضور الربّ في المعبد. ولكن يبدو أننا نستطيع أن نبقى على مستوى الحبّ بين العروس وعريسها. كانت مريضة. كادت تقع على الأرض من شدّة الحبّ، فأخذها بين يديه.
(آ 7). هنا يتوجّه العريس إلى بنات أورشليم. نجد الفعل "ش ب ع " في 1 صم 20: 17؛ 1 مل 22: 16= 2 أخ 18: 15. ونجده في نش 3: 5؛ 8: 4. يبدو الفعل في الماضي ولكنه يتّخذ معنى الحاضر.
"يا بنات أورشليم ". نحن نعرف منذ 1: 5، أن هذه العبارة لا تعني الصبايا المدعوّات إلى العرس، ولا حرم الملك، ولا الأمم الوثنيّة، ولا قبائل اسرائيل اللواتي يُدعين لأحلال اسم يهوه في الأمّة. قد تعني الراجعين من المنفى تجاه الذين بقوا. وقد نكون أمام إشارة أدبيّة تساعد العريس على توضيح عواطفه.
الغزال نجده في فلسطين. في الجنوب وعلى هضاب جلعاد. وهناك الأيائل. كانت كثيرة حين كانت الغابات، واضمحلّت باضمحلال الغابات. الغزال يرمز إلى الخفّة والسرعة (2 صم: 18؛ أم 6: 5؛ أخ 12: 9). فالعروس تتمنّى أن يأتي العريس ويُسرع. وقد نكون هنا أمام تلاعب على الكلمات: ال ه ي- ص ب ا وت: إله الصباؤوت، أو الإله القدير.
"لا تنبهنّ الحبيبة". هنا نتذكّر أش 51: 17: "أفيقي وانهضي يا أورشليم "، 52: 1: "استفيقي يا صهيون، والبسي عزّتك ". أورشليم المشخّصة هي في المنفى. بعد أن شربت كأس غضب الله، تمدّدت على التراب واستغرقت في النوم. وها نداء يأتيها من الله ويدعوها إلى أن تنهض، أن تنفض عنها الغبار والقيود (علامة الأسر)، أن تلبس ثياب العيد وتستعيد بهاءها الماضي. هذه هي خلفيّة نش.
إذا أردنا أن نفهم التعليم الجوهري في نش، وهو سيتكرّر أيضاً مرّتين (3: 5؛ 8: 4) بشكل ردّة وقرار، يجب أن نجعله في سياق التعليم النبويّ خلال المنفى وما بعد المنفى. إنه لمبدأ أساسيّ في اللاهوت النبويّ أن الله لا يغفر الخطايا من دون توبة سابقة. مثلاً، إر 3: 12- 13؛ 4: 4: ترتبط إعادة البناء بتوبة المنفيّين. رج حز 18: 23-32؛ 33: 11 حيث يُظهر الله رغبته بأن يخلّص الخاطئ شرط أن يبدّل الخاطئ حياته.
ولكن ما يلفت الانتباه هو ندامة "غير كاملة". مثلاً، في هو 2: 8- 9 حيث الزوجة الخائنة التي "سجنها" الربّ لئلا تعود إلى الخطيئة، تأخذ قصدًا بالعودة إلى زوجها الشرعيّ. هذه الحركة التي قامت بها هي غير كافية. فحسب آ 16 ي، سيرى يهوه نفسه مجبرًا على أن يجتذبها إلى الصحراء ويكلّمها في قلبها لتعود إلى حرارة حبّها الأوّل.
وفي هو 5: 15- 6: 5، ترك الرب بني اسرائيل، فدلّوا على نيّتهم بالاهتمام بـ "معرفته ". أما هو فتهرّب، لئلا يكون طلبهم له مثل سحابة الصباح، أو الندى الذي يتبخّر في أول ساعات النهار. لم يفهموا وسع المتطلّبات الأخلاقيّة في الديانة اليهويّة. وفي هو 14: 2، دُعي الشعب إلى العودة، إلى التوبة. ولكن العودة ستكون ناقصة، لأن الله يعد الشعب في آ 5 بأن يشفيهم من خيانتهم.
ويعبّر إر 3: 21- 22 عن الفكرة عينها بشكل مؤثّر. وهذا ما يترجم بوضوح في عبارة شهيرة: "أعدني إليك فأعود" (إر 31: 18): كان إفرائيم في المنفى. أقرّ بخطيئته ووعد أنه يعود (يتوب) حين يعيده (يرجعه) الرب إلى أرض فلسطين. وأخيرًا، يتطلعّ حزقيال إلى ذلك الزمن السعيد لإعادة البناء. حين يقيم بنو اسرائيل في الأرض، سيتحلّون بعواطف صادقة، لأنهم يطهّرون البلاد من نجاساتها الماضية. غير أن استعدادهم لن يكون كاملاً إلاّ حين يعطيهم الرب قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا (حز 11: 17- 20 ؛ 36: 24- 29؛ 31-32؛ رج إر 1 3: 31- 34).
وإذا تطلّعنا إلى وضع الجماعة في المنفى، نجد أنه يتوافق كل التوافق مع التعليم النبويّ عن الارتداد غير الكامل. ففي بإبلونيّة، جمع حزقيال حوله بعض النفوس الحارّة وهيّأها من أجل المستقبل. ولكن مجمل المسبيّين ما زالوا "يدنّسون اسم الرب " (حز 36: 20- 23). وبلاغة أشعيا الثاني وجدت صدى طيّبًا في القلوب السخيّة. ولكن النبيّ يوبّخ مواطنيه بسبب عماهم وعنادهم (أش 43: 8، 22، 26- 28؛ 48: 1- 11).
وفي فلسطين ليس الوضع أفضل من ذلك في أيام نحميا وعزرا. فهناك فرائض تُهمل (أش 58: 13- 14 ؛ ملا 3: 8- 10؛ نح 10: 32- 40؛ 13: 4- 22؛ أم 3: 9-10). ومع ذلك فالاهتمام بالطقوس يسيطر على الاهتمامات الأخلاقيّة (أش 58: 3- 12؛ 66: 1- 4). هناك التراخي والاستسلام لعبادة الأوثان (أش 57: 3- 13؛ 65: 3- 5، 11- 12) والنبوءة الكاذبة (زك 13: 2- 6) والعنف والقتل والضغط على الضعفاء (ملا 3 : 5 ؛ أم 1: 10- 19؛ 2: 12- 15؛ 4: 14- 19؛ أش 58: 1ي). أما الصلاّح فهم ضعفاء ومذلولون (أش 57: 1). والرؤساء الدينيّون قد امتلكهم الشرّ فقتل ردّة الفعل عندهم، بل جعلهم يستفيدون من هذا الوضع (أش 9:56-12؛ زك 2:10).
إذن، يستطيع نش أن يقول في الوقت عينه، إن العروس تحب وتنام. هي تحبّ في شخص المحافظين على الأمانة، العاملين على بناء الجماعة رغم الظروف القاسية، المرتبطين بإيمان الآباء، والمنتظرين مجيء الخلاص. وهي تنام بسبب لامبالاة الشعب وخطيئته. ولكن الخلاص لا يأتي بدون التوبة (أش 63: 15- 64: 11). فإذا أرادت التوبة أن تكون صادقة يجب أن تخرج طوعًا من القلب. "لا تنبّهن الحبيبة، لا توقظنها إلاّ حين تشاء".
وهكذا نتعلّم من هذه الآية الحريّة وصراحة العودة إلى الله. هذه الآية التي تختتم القصيدة الأولى، ستعود في 3: 5 و 8: 4، فتدلّ على موضوع أساسيّ في نشيد الأناشيد.

* أدخلني بيت الخمر
أحسَّت العروس أن العريس تركها مع أنه ما نسيها، أحسّت أنها لم تصل بعد إلى قمّة ارتياحها. فبدت وكأنها تحلم وهي يقظة، فردّدت في قلبها: "أدخلني بيت الخمر".
أدخلني. المبادرة تأتي منه لا منها. ظلّت مدّة طويلة "مستقلّة" رافضة، متمردة. وها هي الآن تستسلم كليًا لحبيبها، فتتركه يقودها كما يشاء.
وأخذها الحبيب إلى بيته، إلى بيت الخمر، بيت السكر بالحبّ، خلال وليمة أبديّة. في المطلع، كانت العروس قد رأت نفسها داخلة إلى خدر الملك، تنشد حبّه أكثر من الخمر (1: 4). وها هي تقول الآن بطريقة واقعيّة: "أدخلني إلى بيت خمره ". أدخلني إلى قاعة الوليمة حيث سيقدّم الخمر بوفرة. لم تعد تجاه الرغبة والحلم. وصلت إلى الحقيقة. إن عطشها القويّ وجد الخمرَة التي طلبتها شفتاها. وبعد أن ذاقت ثمرة الحبّ لدى عريسها، في الجنّة، في ظلّ التفاح، ها هي تتركه يقودها إلى بيته. فجلست إلى المائدة قربه، وشربت من كأسه المسكرة. فقالت مع صاحب المزامير: "الرب قسمة ميراثي وكأسي " (مز 16: 5).
أي طريق سارت فيه العروس بقيادة حبيبها! فبعد زمن أول من الاعجاب أمام التفاحة الحلوة، كانت الراحة في ظلال عذبة تحمل الحماية. ثم كان تذوّق الثمر. والآن، ها هو السكر في "غرفة العرس ". حين نأكل جسد الحبيب (تدلّ عليه الثمرة) ونشرب دمه (ترمز إليه الخمرة) ندخل في شركة زواجيّة. هذا ما قاله تيودوريتس القورشي.

* ورايته عليّ المحبّة
إنْ حبّ الرب يرافق شعبه، يسنده، يحميه، ينصره في حروبه. وهو يجمعه كما الراية في الحروب. وقد نستطيع أن نقول إن الحبّ "جيش " يهاجم المحبوبة وينتصر عليها. فكأس الحبّ هي أقوى منها. قال برنردس: "أشعلتها كلمات العريس ورؤيته، فصارت مثل امرأة سكرى. وإذ سألتها رفيقاتها عن سبب "سكرها"، أجابت أنه من الطبيعيّ أن يسكر الانسان الذي يكون في بيت الخمر".
أجل، لقد ضاعت العروس بعد أن شربت كثيرًا من كأس الحبّ.
قال يوحنا الصليب: "هذا ما يحدث للنفس التي تشرب من إلهها. بعقلها تشرب حكمة الله وعلمه. بإرادتها تشرب حبّه العذب كل العذوبة. بذاكرتها تأخذ من سحره... وشراب حكمة الله الذي شربته ينسيها كل تفاصيل العالم. يبدو لها أن كل علمها السابق كل معارف العالم هي تجاه هذا العلم جهل فادح ".
إذن، في النهاية يتغلّب الحبّ على مقاومتها. والخائنة التي لم تسمع لنداء الانبياء وتهديداتهم، خضعت الآن لحبّ قدير، حبّ عريسها الذي لا جيش له ولا سلاح سوى الحبّ لكي يجعلها تستسلم. "جيشه عليّ هو الحبّ ". فإله الجنود له سلاح واحد. ما هو الصاعقة ولا سيف العدالة والغضب. سلاحه الوحيد هو الحبّ الذي يتغلّب على قلوبنا بحبّ يتزايد ويتزايد إلى ما لا نهاية.
نحن هنا في الواقع أمام "حرب " حقيقيّة، على مثال تلك التي جرت بين ملاك الرب ويعقوب (تك 32: 25- 32). حرب لا هوادة فيها. وسلاحها الحنان والمحبّة. لهذا قالت العروس: أنا مجروحة. وإن هي هوت فلأنها مجروحة بجرح لا يُشفى. قال أحد المتصوّفين: "ذاك الذي جرحه يسوع لا يمكن أن يُشفى".

* أنا مريضة من الحبّ
كل هذا يعني أنها لا تتشكّى حين تقول: "أنا مريضة من الحبّ ". بل هي تتنهّد سعيدة فرحانة. هي لا تتشكّى من الجرح، بل تتشكّى لأن الذي جرحها لم يشف لها جرحها... فجراح الحبّ عذبة ولذيذة...
قال أوريجانس: "إذا اشتعل انسان في يوم من الأيام بحبّ كلمة الله الأمين، إن تقبّل إنسان في يوم من الأيام "سهمًا مختارًا" (كما يقول النبيّ)، تقبّل جرحًا عذبًا. إذا اخترق قلبه الحبّ في يوم من الأيام، فلم يعد يستطيع أن يقول شيئًا آخر، ولا يريد أن يسمع شيئًا آخر، ولا أن يعرف شيئًا آخر، ولا أن يذوق شيئًا آخر أو يرغب فيه... فهذا يستطيع أن يقول بحقّ: أنا مجروح (مريض من) بالحبّ ".
ونكتشف نفس أوريجانس أيضاً حين يقول في العظة الثاني حول نش: "أي شيء جميل، أي شيء عذب أن يتلقّى الإنسان جرحه من الحبّ. هذا يجرحه سهم حبّ جسدانيّ، وذاك يجرحه وله أرضيّ. أما أنت فاكشف عن أعضائك وقدّم نفسك للسهم المختار، لسهم هو جميل لأن القوّاس هو الله. واسمع ما يقوله السهم نفسه في أش 49: 2: جعل مني سهمًا حادًّا، احتفظ بي في جعبته. كم هو سعيد بأن يُجرح بهذا السهم. أما كانا سعيدَين هذا المتحدّثان معه اللذان قالا: أما كان قلبنا يحترق في داخلنا حين كان يحدّثنا في الطريق ويفتح لنا الكتب؟ وإذا كان أحد قد جُرح اليوم بكلامنا، إذا كان قد جُرح بتعليم الكتب المقدّسة، إذا استطاع أن يقول: أنا جريح الحبّ، مثل هذا الكلام ينطبق عليه ".
اعتدنا في قراءتنا للكتب المقدّسة أن نسمع تنهّدات اسرائيل، عروس يهوه، من جراح أخرى. هي جراح سبّبها زناها وخياناتها هي الزوجة المريضة. هذا ما نقرأه في إر 30: 12- 15 بلسان العريس: "كسرُ عظمك لا يُجبر وجرحك لا شفاء منه... لماذا تصرخين من كسر عظمك؟ فجرحك لا يُبرأ فأنا لآثامك الكثيرة وخطاياك التي تفاقمت فعلت ما فعلته بك ". أما الآن، فإن كان جرحها من القوّاس (رامي السهام) ذاته، فقد تبدّلت النبلة. قال غريغوريوس النيصي: "هي تمتدح النبّال لرشاقته، وتُعجب منه لأنه وجّه عليها سمه فاخترق قلبها. وإذ دخل السهم في القلب، أدخل معه النبّال الذي أطلقه. يا لجرح جميل وعذب به تدخل الحياة التي تتفتّح كمدخل بما يمزّقه السهم ".

* شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني
ولكن كيف لا يتمزّق الحبيب بدوره حين يرى حبيبته العزيزة تسقط بفعل ضرباته، تُجرح بحبّه؟ إنه في الحال يقترب منها. يأخذها بين يديه، يسندها، يعزّيها، يضمّها. حينئذ تتنهّد العروس معربة عن سعادتها: "شماله تحت رأسي ويمينه تضمّني، تعانقني ".
إنها تستسلم بين يديه. يده القديرة، يده الحنونة. يدُ ربّها ويد عروسها. اليد التي تحملها واليد التي تضمّها. حركتان يقوم جدا الله المحبّ. هو يفعل كما تفعل الأمّ مع طفلها: يسند رأسها بشماله ويغمرها ويضمّها بيمينه. لهذا، توسّل أوريجانس: "يا ليت العروس فيّ تشعر بهذا العناق الذي به يضمّني العريس إليه، فأقول بدوري: شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني ". هكذا اعتاد الرسّامون أن يصوّروا صراع يعقوب مع الملاك. نظرة الملاك إلى يعقوب هي نظرة محبّ. فهو بيده يسند رأس المصارع بعزم وحنان كحنان الأم. وفي الوقت عينه تدخل ركبته في وركه. قُهر يعقوب. إنه طفل بين يدي أمه. وهو حبيب بين يدي حبيبه.

* أستحلفكنّ يا بنات أورشليم
العروس مرتاحة الآن. وينهي العريس كل هذه القصيدة باستحلاف ملحّ يوجّهه إلى بنات أورشليم بأن لا يعكّرن هذا النوم. فيقول: "أستحلفكنّ يا بنات أورشليم، بالغزلان ووعول البرّية أن لا تنهضن الحبيبة، ولا تنبّهنها حتى تشاء".
تلك التي سكرت سكرًا غريبًا وهوت، ها هي قد نامت. إنها ترتاح الآن بقرب حبيبها. فلا يأتِ أحد يقلق راحتها!
ذُكرت الغزلان والوعول مثل أغنية تدعو العروس إلى النوم كما الطفل في سريره. وذُكرت أيضاً لترمز إلى حيوان فلسطين، كما رمزت السوسنة والنرجسة إلى نبات فلسطين. وذُكرت لتدلّ على رشاقة الحبّ وخفته على ما نقرأ في أم 5: 19: "فتكون (إمرأة شبابك) لك الظبية المحبوبة والوعلة الحنون الصغيرة. يرويك ودادها في كل حين، وبحبّها تهيم على الدوام ".
ونودّ أن نذهب أعمق مع هذه الجملة التي تعبّر عن سحر الحبّ البشريّ. هي تعود مرتين في نهاية القصيدة الثانية (3: 5) والقصيدة الخامسة (8: 5). فالحبيب يستحلف بنات أورشليم. إذن، الأمر خطير. ثم تتكرّر لفظة "ت ع ي ر و"، توقظن، تنبّهن، تنهضن. فالرب يدعو أورشليم "أفيقي ". افيقي من سكر الغضب. أما في نش، فالسكر هو سكر الحبّ.
هنا نفهم معنى هذه الآية. اسرائيل شعب لم يرجع كله إلى الربّ. ما زال مقسّمًا. ما زال يرفض الخطوة الحالة، خطوة العودة والاتّحاد بالرب. كان يهوه قد قال بلغة قاسية: "صاروا رغيفًا لم يُقلب " (على النار). ما دام في إرادتنا نزوات غريبة عن الاتّحاد بالله، ما دام فيها نعم ولا، نبقى على مستوى "الولدنة"، ولا نسير بخطى ثابتة إلى الحبّ. فالنار لم تحرق بعدُ كل مزيج، والذهب ليس بنقيّ. ما زلنا نطلب نفوسنا، ما زلنا أنانيّين. ذاك هو وضع العروس في تلك الساعة. فهي لم تنضج بعد من أجل القرار الحاسم. إنها تحب العريس بوله لا مثيل له، ولكنه حبّ يستصعب أن يتجسّد في الحياة. شربت من كأس حبّه، ولكنها لم تتحمّل "سكره ". فثباتها لا يجاري حرارة حبّها.
غير أننا لا نعجب إن كان الله غمرها بنعمه الخارقة رغم ضعفها. فالله يعطي نعمه للمبتدئين، وإن لم يكونوا على مستوى النعمة التي قبلوها. بهذه الطريقة يحرق النفس ويجعلها جاهزة تجاه إرادته في تجرّد تامّ عن ذاتها. ولكن الله لا يعجّل. فهو يعرف أن ينتظر... ينتظر أن تستيقظ الحبيبة. هي له سواء كانت نائمة أو مستفيقة. هي له وستبقى "حبَّه " الدائم.

خاتمة
وهكذا تنتهي القصيدة الأولى. نقلت إلينا رغبة اسرائيل في إعادة بناء نفسها بناء تامًا. وتقبّل الله هذه الرغبة. فهو يقيم مع شعبه في أرضه المقدسة وسط تعابير حبّ متبادل وقويّ. ونحسّ أن اجتماع العروسين قد تمّ، وأنه لم يبقَ شيء آخر يتوقان إليه.
غير أن خاتمة القصيدة (2: 7) تبقينا في الريبة، لأنها تفهمنا أن العروس ما زالت نائمة، ما زال حبّها ناقصًا. أن العروس لم تستيقظ بعد لتستقبل عريسها الذي ينتظرها حتى تستفيق وتنهض. هل كانت في حلم أو هي عاشت الواقع؟ هنا نفهم وضع الشعب: عاد المنفيّون بابتهاج عظيم ولكنهم واجهوا خيبات الأمل. والذين عادوا كانوا قلّة قليلة، أما أكثرهم فما عاد إلى أرض الآباء. والذين عادوا أخذوا بعوائد الأمم المجاورة.
إذن، نتساءل: إلى أي درجة عادت "الحياة الزوجيّة" إلى عمقها؟ هناك نقص في قلب العروس. لا شكّ في أنها أعلنت حبّها لعريسها، ولكن قلبها ما زال بعيدًا عنه... سيناديها... ولكنها تتأخّر في التعرّف إليه. "هو صوت حبيبي ".

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM