الفصل السادس: أنا نرجسة السهول

الفصل السادس
أنا نرجسة السهول
3: 1- 3

تحدّث العريس عن قصره الملوكيّ، فتحدّثت العروس عن حالتها الوضيعة المتواضعة. لست إلاّ نرجسة. وتجد مثلها الكثيرات في أرض فلسطين. غير أن هذه النرجسة تتميّز عن سائر الأزهار. فجمالها يجعل الزهرات الباقية وكأنها أشواك. هكذا تتفوّق العروس على سائر الصبايا.
وتصل العروس إلى منتهى أشواقها ورغباتها. بعد أن مرّت في المحنة، ها هي "تمتلك " حبيبها. ولكن كيف الحديث عن أفراح نفس وصلت إلى مثل هذه السعادة؟ ستلجأ العروس إلى "الصور الشعريّة" التي توحي بالبهجة أكثر ممّا تصوّرها أو تدلّ عليها.
وتأتي صورة الجنّة في خطوطها الأولى. ولا يتفوّق على حميميّتها إلاّ صورة الوليمة. لا شكّ في أننا لم نصل بعد إلى خدر العروس واللقاء التامّ بين الحبيب وحبيبته، بين الله وشعبه. ولكن قد اجتمعت منذ الآن بهجة المائدة وبهجة الحبّ. ولكننا سنرى في نهاية هذه القصيدة (2: 7) أن العروس ما زالت تتعثّر في حبّ لم يصل إلى كماله. لهذا سوف ننتظر نهاية نشيد الأناشيد حيث تقدّم العروس نفسها لعريسها، والشعب ذاته لله الذي يريد أمانة لا غضن فيها ولا عيب.
(آ 1) العروس تتكلّم وهي تمتدح نفسها. جاء من صحّح النصّ فجعل الكلام في فم العريس: أنت نرجسة السهول. ولكن سبق للعروس وامتدحت نفسها مرتين. في 15: 1: "سوداء أنا ولكني جميلة". وفي 1: 12: "ينشر نارديني عبيره ". هي لا تتكلّم على وجه من الزهو والغرور، بل لكي تلاحظ بإعجاب أنها ما زالت محبوبة عريسها. هذه فكرة أساسيّة في نش.
نشير إلى أننا لسنا هنا أمام حوار، بل أمام سلسلة من التعجّبات المتناوبة. قالت العروس: أنا نرجسة السهول. فقال العريس ولم يردّ على العروس: كالسوسنة بين الشوك. فجاء كلامه امتدادًا وترجيعًا لكلامها، جاء يزيد غنى على غنى، ويدلّ على أن الحبيبة وإن كانت صبيّة مثل سائر الصبايا، إلاّ أنها تتميّز عنهن كما يتميّز السوسن عن الشوك.
نقرأ "ح ب ص ل ت " هنا وفي أش 35: 1 (يبتهج القفر ويزهو النرجس) بمناسبة الحديث عن عودة المسبيّين. لسنا فقط أمام زهرة من الزهرات، بل أمام سجّاد من الزهر يشعّ بجماله في الربيع. يتحدّث النصّ عن النرجس البرّي بلونه الأصفر الفاتح ورائحته الطيّبة. هو يزهر في الشتاء ويمتدّ زهره حتى الربيع، بل هو يهيّئ نبات الربيع. مثل هذا الزهر يكثر في السهول ويقلّ على الجبال.
"ش ر و ن ". تعود اللفظة إلى "ي ش ر". كان مسطّحًا، كان قويمًا. لهذا قال المترجمون: السهل (نرجس السهول). وقالت السريانيّة البسيطة: سوسنة الشربين (شرونيا، أو ربما شارون). وتحدّثت السبعينيّة والشعبيّة عن "سهل" يرافق أل التعريف "ش ر و ن " مع عدا في 2 أخ 5: 16، فيعني أفضل السهول بسبب مساحته وخصبه. يعني سهل "شارون" الذي يمتدّ من عتليت إلى يافا، وقد اشتهر بكرومه وغاباته ومروجه. وإذ أراد الكاتب أن يدلّ على الخراب التامّ، تحدّث عن اجتياح الشارون ولبنان والكرمل (أش 33: 9). وحين يصوّر العودة من المنفى مع ما فيها من فرح، يقول إن البرّية تزهر مثل لبنان والشارون (أش 35: 2). ولكن لا يبدو أن الشاعر يتحدّث عن الشارون، بل عن السهل بشكل عام ويقابله بالوادي (ع م ق).
"ش و ش ن هـ ". كلمة أجنبيّة وقد تكون مصريّة. نجدها في عنوان مز 45: 1... وفي رسوم الهيكل (1 مل 7: 19، 22، 26). كما ترد في هوشع. وفي نش ترد ثماني مرّات. صوّر هوشع سعادة العودة بعد الندامة، فأبرز الازدهار والطمأنينة والمحبّة التي تميّز هذه الحقبة. واستعمل لذلك صورًا مأخوذة من عالم النبات (هو 14: 6- 9: يُزهرون كالسوسن ويمدّون جذورهم كلبنان).
"ع م ق ". كلمة تدلّ على وادٍ عميق وضيّق، كما قد تدلّ على السهل (يش 13: 19، 27 ؛ 16:17؛ قض 1 :19 ، 34؛ 1 مل 20: 28).
شدّد بعض الشرّاح على العاطفة التي نجدها في هذه الآية. تحسّ العروس أنها صغيرة تجاه الأرز الشاهق. ولكن عريسها رفعها. يتحدّث النصّ عن جمال الربيع الذي يتماهى مع الحبيبة. إنها هذا الربيع. فهناك علاقة بين الإنسان والإطار الذي يعيش فيه، بسبب مسؤوليّته الأخلاقيّة.
فهناك أخطاء تنجّس البلاد (لا 18: 24- 25، 27-28؛ عد 35: 33- 34؛ تث 21: 1- 9، 23). والعقاب الذي يصيب الخاطئ يصيب البلاد أيضاً (تك 3: 17 ؛ 6: 7، 12- 13؛ 8: 21؛ تث 21: 22- 23؛ 28: 16- 24). أما الاستقامة الخلقيّة فتجد إطارها الطبيعيّ في طبيعة جذّابة وخصبة (تث 28: 1- 14). ونقول الشيء عينه عن الحقبة الاسكاتولوجيّة حيث تزهر فضيلة مثاليّة (أش 65: 17- 25؛ إر 31: 10- 14 ؛ حز 28:36-38 ؛ 48: 1- 2؛ يوء: 2 81 -27).
هذه النظرات نجدها في هوشع بشكل يلقي ضوءًا على نش. فالنبيّ يربط مصير البلاد بمصير الأمّة التي تشبه زوجة خانت زوجها فعوقبت ثم نالت الغفران (2: 1ي). ويماهي بين الزوجة والبلاد. نحسّ بهذا التماهي في 1: 2 ب (أهل الأرض كلها يزنون في الخفية)، ونجده واضحًا في 2: 4- 5: "أجعلها كقفر واقطع عنها المطر كأرض قاحلة، وأميتها بالعطش ". فإن صورة العري كعقاب للزانية تقودنا إلى صورة فلسطين التي دمّرت فصارت مثل الصحراء. وفي صورة الخلاص التي تنهي الكتاب، يصوَّر ازدهار اسرائيل بسمات مأخوذة من عالم النبات (14: 6- 8). وما نجده في هوشع نجده في نش. فتماهي العروس مع نبات الربيع، وبشكل غير مباشر مع البلاد، يدلّ على الخلاص بعد المحنة، مع الازدهار الذي يمنحه هذا الخلاص. وهكذا نكون في إطار اسكاتولوجي. ولكن الكاتب لا يريد القول بأن الحدث الاسكاتولوجيّ قد تمّ. ولكننا نفهم أن هذا الحدث هو موضوع رغبة عميقة لدى العروس التي ما زالت سجينة (رج 2: 11- 15؛ 7: 12- 14).
(آ 2) حين أجابت العروس حبيبها في 1: 16، استعادت كلماته. وها هو يستعيد الآن كلماتها "كالسوسنة بين الشوك ".
"ح و ح ي م ". هو نوع من الشوك ينبت في الأراضي غير المزروعة (أي 31: 40) أو في الخرائب مع نباتات أخرى. نحن هنا أمام "شوك الجمال" الذي يلفت النظر بقامته. وإذ يذكر الكاتب الشوك والسوسن، فهو يقدّم لنا صورتين متناقضتين عن نوعين من النبات ينمو في أراضٍ غير مفلوحة.
والبنات اللواتي يُذكرن هنا، لسن بنات أورشليم، بل الصبايا بشكل عامّ (تك 30: 13؛ أش 32: 9؛ أم 31: 29). قالت العروس ما قالت عن نفسها، فاستعاد العريس كلامها وزاد عليه.
(آ 3) سمّي التفّاح كذلك بسبب رائحة ثمره. رج فعل "ن ف ح " (في العربيّة نفح الطيب: انتشرت رائحته) (رج 7: 9 عبير أنفك كالتفّاح). زُرع التفّاح في فلسطين، وجعل 1: 12 ثمره أفضل الثمار. وحسب يش 12: 7؛ 15: 34، تسمّت مدينتان باسم التفاح (ت ف و ح).
"ي ع ر": الغابة. ما هي مكانة التفاح وسط أشجار الغابة الباسقة والصلبة؟ ولكن ثمار هذه الأشجار لا تؤكل. وهكذا نعود إلى المقابلة بين السوسن والشوك. هكذا هو الحبيب: "تفاح " بين أشجار الغابة.
ويُذكر"البنون "كما ذكرت "البنات " في آ 2. البنون هم الشبّان (أم 7: 7)، كما دلّت البنات على الصبايا. وتأتي صورة الظلّ فتدلّ على حماية قوّة سياسيّة (قض 9: 15؛ حز 17: 23؛ 31: 6، 2 1- 17)، أو على حماية الربّ (ظلّ جناحيك، مز 17: 8؛ 36: 8؛ 57: 2 ؛ 63: 8). غير أن الصورة لا تكفي وظلّ التفاحة ضعيف فلا يقي من حرّ الشمس. ثم إن العروس لا تخاف خطرًا يأتيها من الخارج، فتحاول أن تحتمي (هذا هو رمز الشمس). فحين تطلب ظلّ التفاحة، فهي تعبّر عن رغبتها بأن تكون قرب حبيبها.
إن فعل "ح م د" يعبّر عن الرغبة الجامحة، عن التعلّق بخيرات ثمينة، سواء كانت ماديّة (مز 39: 12) أو روحيّة (19: 11). رج نش 5: 16: كلامه شهيّ كلّه. فما يدفع الأمّة نحو ربّها يعارض ما كان يدفعها في الماضي نحو الأصنام (أش 1: 29؛ 44: 9). والأمّة النادمة تعود إلى ربّها بذات الاندفاع الذي كان يجرّها إلى اقتراف الزنى. في ظلّه، بالقرب منه، اشتهيت الجلوس. هذا ما تاقت إليه منذ 1: 7 (فلا أكون كمن يتلظّى). وها هي تصل إلى الفرح برفقة عريسها. نحن أمام إعجاب متبادل بين العروسين، وسعادة باللقاء.

* أنا نرجسة، أنا سوسنة
بعد أن شاهدت العروس نفسها في حبيبها كما في مرآة، اكتشفت حقيقة جمالها: ليست فقط امرأة من لحم ودم، بل زهرة نعمة وحبّ يتأمّل فيها الحبيب، يشمّها، يقطفها. إنها تجسّد الطبيعة في الربيع.
تكلّمت العروس هنا، وقدّمت نفسها على أنها نرجسة السهول وسوسنة الأودية. وتابعت تصوير الربيع في فلسطين (سريرنا أخضر، سريرنا اخضرارا فجعلتنا نتأمّل أزهار هذا الربيع الذي تقدّمه لنا. إنها الربيع. وعدَها عريسها بأن يأخذها إلى بيته المطعّم بالأرز. مثل هذا البيت أكبر منها، وهي زهرة تنبت في السهول وأعماق الوديان. ولكن هذا التواضع يزيد جمالها جمالاً، يزيدها نعمة على نعمة.
في الواقع، هي تتماهى مع الربيع بكل أزهاره. وتحدّث الشاعر عن النرجس والسوسن وهما زهرتا الربيع بشكل خاص. هكذا تبدو فلسطين في أجمل الفصول، هكذا تبدو الأرض في لباسها كعروس الله. نقرأ في أش 62: 4: "تسمّى أرضك " "زوجة" (ب ع و ل ه).
السوسن في نش أحمر، لا أبيض. وإلاّ كيف نفهم 5: 13: "شفتاه سوسنتان "؟ ونقرأ في 4: 3: "شفتاك سلك من القرمز". نحن بالأحرى أمام شقائق النعمان بلونها الأحمر، وهي تغطّي الوديان في فلسطين. ذاك سرير العروس. لا شكّ في أنه متواضع. فليس لها قصر من الأرز والسرو تقدّمه لحبيبها. وليس لها قمة سيناء ولا جبل حرمون، بل سلاً بسيطًا وواديًا عميقًا. وليس سهلاً مزروعًا بالأشجار الباسقة، بل بالزهور البرّية.
غير أن هذا السرير هو سرير ملكيّ. غطاؤه ذهب وأرجوان. وهو الذي أعطاه لها الملك حبيبها في يوم الخلق. ذاك هو سرير الحبيب، وتلك هي الحبيبة التي يتّحد بها حبيبها. هنا نتذكّر استعمال المؤنّث: نرجسة، سوسنة.
قال برنردس: ما قاله يسوع بإعجاب عن زنبق الحقل (مت 6: 28)، قاله في الواقع عن عروسه. "تأمّلوا في زنابق الحقول. ما أجملها وما أقواها وسط الشوك. إذا كان الله يسهر هكذا على زهرة تعيش اليوم وتُطرح غدًا في النار، فلا بدّ له أن يسهر على تلك التي هي صديقته، تلك التي هي عروسه ". قد يكون يسوع رأى في زنابق الحقل عروسه كما سيرى في السنابل الناضجة الجموع التي تنتظره (يو 4: 35).
ولكن صورة الربيع الفلسطيني لا تتوخّى فقط أن تجلعنا نعجب بجمال العروس، برغبتها المتواضعة والحارّة. ففي نش كما عند الأنبياء، يرمز الربيع أيضاً إلى ارتداد اسرائيل وعودته إلى الرب الذي عفا عنه. يرمز إلى إعادة الخلق بعد محنة الشتاء والمنفى. من هذا القبيل تبدو نهاية سفر هوشع حيث تصوّر إعادة بناء العهد بشكل ربيع مجدّد، تبدو في خلفيّة هذا المقطع من نش (14: 6). وبالنسبة إلينا أيضاً، فالارتداد مهما كان الماضي ومهما كان عمرنا، هو دومًا عودة الربيع. ليس من "شتاء" الخطيئة يستطيع أن يفشّل "ربيع " الحبّ هذا.

* كالسوسنة بين الشوك
استعاد الحبيب موضوع الزهر الذي أشارت إليه الحبيبة فرفعه وعظّمه وقالت: "كالسوسنة بين الشوك رفيقتي بين البنات ". أنت يا عروسي متواضعة وصغيرة مثل شقائق النعمان في الجليل الفلسطيني. ولكنك جميلة أيضاً. فسليمان في كل مجده لم يلبس مثل لباسك (رج مت 6: 28). فبين جميع البنات، بين جميع الأمم، لا أجد ما يقرب من جمالك. كلّهن تجاهك شوك مع الزهر. فيهن القرص واللذع أكثر من النعمة.
ويندهش الله ويفضّل ويختار. قال غريغوريوس النيصي بفم العروس: "حين اقترب العريس (الله) من سريري، صرت، بعد أن خرجت من سهل طبيعتي، زهرة تتفوّق على جميع الزهور بجمال اللون وسحر العطر".

* كالتفاحة في أشجار الغابة
ولكن ماذا سوف تقول الحبيبة عن الحبيب؟ أي مديح تردّ له؟ طابقت كلامها مع الكلام الذي وُجّه إليها، فأطلقت نشيدها وقالت: "كالتفاحة في أشجار الغابة حبيبي بين البنين ".
ظلّت العروس أمينة لموضوعها الأول، موضوع الربيع، ولكنها ترافقت مع "اللحن " الذي قدّمه الحبيب لها. قلت لي يا حبيبي: تتفوّقين على جميع زهور الربيع. ولكنكَ أنت أجمل أشجار هذا الربيع، وعطرك يشعّ في جنّة التفاح. أجل، ليس التفاح شجرًا عاديًّا في فلسطين، بل نادر الوجود. ولكن أترى العريس شخصًا عاديًّا؟ ألا يتميّز عن كل أشجار الغابة؟
جمال التفاح بزهره وثمره. ونفح العطر الذي يفوح منه. اهتمت العروس دومًا بالعطور لدى الذي تحبّه فقابلته بشجرة عطرة. ولكن قد يكون النبات عذبًا للشم لا للذوق. ولكن التفاحة تلذّ للفم وتعبّق الهواء الذي نتنشّقه. فأي تشبيه يتفوّق على هذا التشبيه؟ فالتفاحة تدلّ بجمال زهرها وحلاوة ثمرها على ما قالته العروس في أول فورة من الفرح: "جميل أنت يا حبيبي وعذب ".
إن عطر التفاحة الذي يلج إلى الأعماق، وجمالها المستدير والملوّن، وحلاوة مذاقها، كل هذا جعلها ترتبط بالحبّ. فالتقليد الشعبيّ الذي جاء من الغرب ووصل إلينا، جعل من التفاحة (التي لم تُذكر في تك 2) "ثمرة جميلة المنظر طيّبة المأكل ". وما نلاحظه، هو أن التفاح يذكر أربع مرات في نش، وفي كل مرّة يرتبط بالحبّ. "أعينوني بعصير التفّاح فأنا مريضة من الحبّ " (2: 5). "عبير أنفك كالتفّاح" (7: 9). "تحت التفاحة أغويتك، أوقعتك في حبائل الحبّ " (8: 5).
إذا كان نش يعظّم التفاح إلى هذه الدرجة، فلزهره الجميل وثمره الطيّب. ولأنه يضمّ ربيع الزهر إلى ربيع الثمر. إذن، هو يتفوّق على جميع الأشجار العقيمة في الغابة، على السنديان الأخضر والبطم، وهي أشجار عبدها بنو اسرائيل، جعلوا منها "أصنامًا" (كما في بعض الحضارات الأفريقيّة اليوم).
قال أوريجانس: "كل أشجار الغابة عقيمة تجاه كلمة الله. كل ما نستطيع أن نتخيّله هو شوك وعوسج أمام المسيح. أمامه كل شيء لا ثمر له. وما الذي نستطيع أن نسمّيه خصبًا حين يكون هنا؟ فهذه الأشجار التي تنوء تحت أثمارها تدلت على عقمها حين نقابلها معه. لهذا، كما التفّاح بين شجر الغاب، كذلك حبيبي بين البنين ".
وقال غريغوريوس النيصيّ بأن الحبيب يتفوّق أيضاً وبشكل غير محدود على حبيبته رغم جمالها. "فالسوسن (هي السوسن) له الجمال والعطر، أما التفاحة فتُفرح العين بسحر جمالها، وتجتذب الشمّ بعطرها، وتبهج الفم بحلاوتها... إذن ترى العروس الفرق بينها وبين ربّها. فالرب هو في الوقت عينه نعمة لعيوننا حين يصير نورها، وعطرًا لأنوفنا، وحياة للذين يأكلونه، لأن الذي يأكله يحيا" (يو 6: 57- 58).
أجل، الحبيب هو تفّاحة وسط سائر الأشجار. إنه شجرة الحياة وسط جنّة الفردوس. وسيقول مز 45: 3: "أنت جميل، أنت أجمل أبناء البشر".

* في ظلّه اشتريت فجلست
ولكن العروس لا تكتفي بأن تتأمّل في هذه الشجرة الحلوة، بل هي تتوق إلى أن ترتاح في ظلّها وتتذوّق ثمرها. إن تلك التي تألّمت كثيرًا حين أحرقتها شمس المنفى، إن تلك التي تعبت في تيهانها مع قطيع الغرباء، إن تلك التي طلبت باطلاً ظلّ البطم (إر 2: 20: "تحت كل شجرة خضراء اضطجعت زانية")، ها هي لا تتشوّف إلاّ إلى ظلّ الحبيب، ظلّ التفاح. فقالت: "في ظلّه اشتهيت وجلست ".
لن نتوقّف عند ظلّ التفاح الذي ليس بكافٍ حين نقابله بظل السنديان أو السرو. بل نتحدّث فقط عن "الظلّ " في حدّ ذاته الذي تحته نجد الطرواة. هذا في المعنى الماديّ. أما الكتاب المقدّس فيشدّد على حماية هذا الظلّ وما فيه من عذوبة. نقرأ في مز 17: 8: "في ظلّ جناحيك استرني يا إلهي ". وفي 57: 2: "في ظلّ جناحيك أحتمي ". وفي 91: 1: "استريح في ظلّ القدير".
بعد أن أحرقتها شمس المنفى بسبب خياناتها، وبعد أن تألّمت من الجراح التي سبّبتها سهام مضطهديها المشتعلة، ها هي تجد الطراوة والطمأنينة في ظلّ الرب، حسب وعدٍ نالته منه. "يعودون ويجلسون في ظلّي " (هو 14: 8).
وهذا الظلّ ضروريّ جدًا لعينيها اللتين ما زالتا ضعيفتين. كيف تستطيع أن تحدّق في عريسها (الله) الذي هو نار محرقة؟ فهي لا تستطيع أن تتحمّل سطوع وجهه (كما الرسل في وقت التجلّي).
قال غريغوريوس النيصي: "حين لا يخفّف الغمام (أي الروح) الذي ينشر الرب حماية لنا، حرارته، نحن لا نستطيع أن نتحمّلها. فقد قيل في أش 4: 5- 6: سيكون الرب غطاء يعطي ظلاًّ في أيام الحرّ العظيم ". هو ظلّ بالحقيقة، لأننا لا نستطيع أن نراه على هذه الأرض. ولكن الشمس الساطعة هي تحت هذا الغمام. ويعلمنا بواسطة الحبّ، أن عظمته متّحدة بنا بشكل لا نستطيع أن نعبّر عنه.
هذا الظلّ الحامي والعذب الذي فيه تتذوّق العروس الراحة، هذا الظلّ الذي يخفي عن عينها بعض السطوع المحرق لوجه الرب حبيبها، هذا الظلّ ستعرفه في يوم من الأيام قدرته الخصبة حين يقال لها: "الروح القدس يحلّ عليك وقدرته تظلّلك " (لو 1: 35). إن ظلّ الروح يغطّي ويخصب مريم العذراء التي صارت أكثر من المسكن (شكينة في العبريّة) الذي يحيط به الغمام في البرية. صارت معبد الله الحقيقيّ. كم من الغنى اكتشفته مريم الحبلى بيسوع أمام كلمات عروس نش: "في ظلّه اشتهيت فجلست، وثمره حلو في حلقي ". ربطت ما قاله نش مع "ظلّ الروح يحلّ عليها"، ويسوع ثمره أحشائها المبارك.

* وثمره حلو في حلقي
هذا ما قالته الحبيبة عن حبيبها. فمع موضوع الراحة التامّة في ظل التفاحة، الحامية والعذبة، في ظلّ الحبيب، في موضوع ثمرة الحبّ الذي تتذوّقه في الوقت عينه. قال مز 36: 8- 9: "في ظلّ جناحيك يحتمي البشر ويتذوّقون ولائم بيتك ". فمع طراوة الظلّ التي تريح العروس، تأتي الرغبة في الثمر الذي يشبع الجوع والعطش. قالت العروس في عظة أوريجانس الثانية: "رغبت أن أرتاح في ظلّه. ولكن ما إن حماني بظّله حتى شبعت أيضاً من ثماره. فقلت: ثمره حلو في حلقي ".
ما عاد القلب ينتظر شيئًا. تذوّق ثمر شجرة الحياة، تذوّق التفاحة التي هي الحبيب. وهذه الثمرة لم يكن لها في ما بعد طعم المرارة الذي هو طعم الخطيئة (المقابلة واضحة مع سفر التكوين). بل منحت عذوبة الحبّ النقيّ الأمين، الحبّ الذي يهب السعادة. قالت الحكمة (أي الكلمة، أي الحبيب نفسه): "تعالوا إليّ أيّها المشتاقون واشبعوا من ثماري" (سي 24: 19). لقد دقّت ساعة وليمة الحكمة بالنسبة إلى الحبيبة. هي السعادة المطلقة بجانب ذاك الذي هو لها الجمال، والعطر، والراحة، وثمر الحبّ والحياة.
قالت تريزيا الأفيليّة: "جلست في ظلّ ذلك الذي اشتقت إليه، فكان ثمره حلو في حلقي. يبدو أن النفس تحسّ الظلّ "يتلفها" ويحميها، تحسّ غمام اللاهوت. فتشعر براحة يبدو التنفّس تجاهها متعبًا. فلا تحتاج أن تحرّك يدها أو تنهض. فالرب بنفسه يعطيها ثمر التفاح بعد أن قطعه "وطبخه " وأكله، هذا الثمر الذي تقابله بحبيبها. ولهذا تقول إن ثمره حلو في حلقها. فكل شيء لذيد هنا، تحت ظلّ اللاهوت ". وهكذا صارت المشاهدة طعمًا مسبقًا للملكوت ووليمته، كما يقول أوغسطينس. لأن ما نرغب بتلهّف أن نأكله ونشربه، نتذوّقه منذ الآن ونلمسه، وإن كان ذلك بطرف الشفاه فقط.
مثل هذا التفسير يختلف كل الاختلاف عن تفسير المدرسة "الطبيعانيّة" التي تفهم على مستوى الجسد واللحم والدم كلمات الحبيبة. لا شكّ في أن لغة العروس هي لغة الوله والشغف، وهي تتوسّل كل الحواس، لهذا قد نفهمها فهمًا خاطئًا. لهذا يرى بعض الناس أنه من الأفضل أن لا نسمعها. فالسمّ الذي فيها قد يسمّم علاقتنا مع الله ونظرتنا إلى الحبّ. لماذا لم يستعمل الكاتب لغة غير هذه اللغة، وكلمات غير هذه الكلمات؟ ولكن الله هو حبّ ومحبّة. فكيف يكلّمنا إن لم ينطلق من نفسه. ما العمل إذا كانت عيننا شريرة أو أقله مريضة. يا ليتها كانت سليمة: يا ليتها كانت في النور (لو 11: 34).
هنا يقول أوغسطينس: إذا تقبّلنا هذه الكلمات بحسب الجسد، لن نحصل على ثمر النور والمحبّة، بل ميلاً إلى الرغبات الجنسيّة. أجل، إن المدرسة الطبيعانيّة فسّرت كلمات النشيد "حسب الجسد"، بطريقة فاسقة وشهوانيّة.
إن لغة الحواس في الكتاب المقدّس ولاسيمّا في نش، تستطيع أن تكون في خدمة الحبّ، بل تكون أصفى تعبير عن هذا الحبّ. ولكنها قد تقودنا إلى الضحك والابتسامة الساخرة. في هذا المعنى قال أوريجانس: "ذاك الذي لا يستطيع أن يُدرك ويفهم ما يرتبط بروح الله، سوف يهزأ من شروحنا ويعتبرها فارغة وبدون أساس. لمثل هؤلاء الناس، تصبح رائحة نش رائحة موت للموت. أما الذين ينظرون الى الخيرات الخفيّة والروحيّة على أنها أكثر حقيقة من الأشياء الجسديّة التي تقع تحت ناظرنا، فتفسير من هذا النوع يأخذ كل قيمته في نظرهم ".
إن كان للجسد حواسه، فلنفس أيضاً حواسا. هذا ما وعاه أوريجانس، فتكلّم عن معرفة اختباريّة لدى النفس، معرفة لأمور الله تتنوّع "بتنوّع الحواس ". فللنفس عين تشاهد بها الأمور الفائقة الطبيعة. وإذن تميّز أصواتًا لا تدوّي في الهواء. وفم تتذوّق به الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، وأنف جعل بولس الرسول يتحدّث عن رائحة المسيح الطيّبة. ويد قال يوحنا عنها إنها لمست كلمة الحياة. وفي خطّ أوريجانس قال غريغوريوس النيصي: "نحن نمتلك نوعين من الحواس: بعضها جسديّة وبعضها روحيّ ".
نستغرب حين نسمع أنه يجب أن نتقرّب من الله بحواس النفس، لأن صلاتنا تبقى مجرّدة وعقليّة وبعيدة عن عالم الحسّ والإحساس. ولكن إذا كان المسيح صار بشرًا من لحم ودم، ولم يكن فقط روحًا وعقلاً، فلكي نصل إليه بكل حواس النفس التي تقابل حواس الجسد. ولكن لا لبس ممكنًا في هذا الكلام، لأن هذه الحواس صارت داخليّة ومنقّاة وموحّدة، صارت روحيّة.
إن الكلمة (يسوع المسيح) صار منظورًا، مسموعًا وملموسًا، وبطريق الحواس جاء الوحي إلى البشر، ونُقلت إليهم حياة الله. وبهذه الطريق ينالون هذه الحياة ويتقبّلونها. إن استعمال لغة الحواس للتعبير عن خبرة الاتحاد مع الله في المسيح، هو ما يميّز الروحانيّة اليوحناويّة، ويجعلنا في منطق التجسّد.
هذا ما أوضحه أوريجانس فتبعه التقليد التصوّفي في الكنيسة. قال: "صار المسيح موضوع كل حاسّة من حواس النفسي. سمّي النور الحقيقيّ لكي ينير عين النفس. وسمّي خبز الحياة لكي يُذاق. وسمّي أيضاً زيت المسحة والناردين لكي تلتذّ النفس برائحة اللوغوس. صار الكلمة الذي صار بشرًا. الذي يمكن أن نلمسه، أن ندركه، لكي يستطيع الانسان الداخليّ أن يصل إلى كلمة الحياة".
وقد يكون أوغسطينس عرف كلام أوريجانس فكتب في تفسير إنجيل يوحنا: "إذا كان لحواس الجسد لذّتها، فلماذا لا تعرف النفس اللذة؟ وإن لم يكن للنفس لذات خاصة بها، لماذا كتب في مز 36: 8- 10: في ظلّ جناحيك يحتمي البشر يسكرون من ولائم بيتك. ومن نهر لذائذك تسقيهم، لأن فيك ينبوع الحياة وفي نورك نعاين النور"؟ أجل، كل الحواس تقودنا إلى الله.
قال أوغسطينس: "ماذا أحبّ حين أحبّك؟ لا أحب الجمال الجسديّ ورونقه الزائل، ولا أحبّ النور الساطع الذي تعشقه عينانا، ولا أنغام الأناشيد العذبة المختلفة الأصوات، ولا أريج الزهور الفوّاح ولا العطور ولا الطيوب ولا المنّ ولا العسل ولا الأعضاء المكوّنة لقبلات اللحم. كلا، لا أحبّ شيئًا من ذلك كله حين أحبّ الله. إنما هناك نور وصوت وشذا وقوت وقبلة أحبّها حين أحبّ إلهي. هو نور الانسان الباطنيّ وصوته وشذاه وقبلته الذي فيّ حيث يسطع لنفسي نور لا يحدّه مكان، وتتجاوب أنغام تبقى على الزمن وتفوح عطور لا تبدّدها ريح، ونذوق قوتًا لا يغنيه فهم، وحيث لا تشبع القبلات. ذاك ما أحبّ حين أحبّ إلهي ".
فحين لا "نطبّق " حواس النفس على أمور الله، تكون النتائج خطيرة، فلا بدّ من طبع الإنجيل في أعماق كياننا، في مناخا عواطفنا، في جذور لاوعينا. وإلاّ يبقى حبّنا على مستوى العقل والدماغ ولا يصل إلى القلب. وإلاّ لن تتوحّد شخصيتنا حقًا في المسيح. وهكذا نعيش نوعًا من الطلاق الداخليّ، فيكون الرأس للرب ويذهب القلب إلى أمور أخرى، فتحلّ الكارثة على المستوى السيكولوجي كما على المستوى الروحيّ.
وأخيرًا، إن نموّ الحواس الروحيّة يستطيع وحده أن يحقّق التنقية الحقيقيّة لعالم الحواس فينا. فحين نوحّد مختلف حواسنا مع يسوع، نستطيع أن نصل شيئًا فشيئًا إلى التحرير من سحر الجسد، سحر اللحم والدم. هذا الأسلوب هو أفعل من نهج "الحرمان" الإراديّ (حينئذ يظهر الكبت). فإن توصّلت العين إلى مشاهدة مجد الكلمة، مجد الابن الوحيد الآتي من الآب، فلا تعود تريد أن ترى شيئًا آخر. ولن تريد الأذن أن تسمع شيئًا آخر سوى كلمة الحياة الخلاصيّة. وذاك الذي لمست يدُه كلمة الحياة، لا يريد أن يلمس بعد ما هو زائل وسريع العطب. وذاك الذي تذوّق بفمه كلمة الحياة، تذوّق جسده والخبز النازل من السماء، لن يستطيع أن يتذوّق شيئًا آخر. وهو بالتالي لا يريد طعامًا آخر لأنه وجد في هذا الخبز الذي يتّخذ كل طعم، جميع المذاقات التي يرغب فيها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM