الفصل الثالث: كفرس أنتِ يا حبيبتي

 

الفصل الثالث
كفرس أنتِ يا حبيبتي
1: 1-11

تحدّثت العروس ودلّت على أشواق قلبها. تحدّثت فأعطت صورة عن نفسها وهي التي عرفت حياة المنفى واشتقات إلى لقاء العريس. أجل، لقد أضاعت الطريق التي توصلها إلى العريس فدلّتها الجوقة: اتبعي آثار الغنم، ففعلت. وهكذا يبدأ الحوار بين العريس والعروس، يناديها يا حبيبتي، فتصف جمال حبيبها وتنشد فرحها باللقاء.
(آ 9) كفرسٍ أنتِ... تشبّه العروس بفرس. هكذا قابلت النصوص أمّة الله بشخص حيّ. "لقد شبّهتك ". عمل يحصل الآن، يحصل ساعة تُلفَظ الكلمة، وإن انتمى إلى الماضي.
ويأتي المنادى "ر ع ي ت ي "، يا رفيقتي، يا صديقتي، يا حبيبتي. ترد هذه اللفظة ثماني مرّات في نش، ودومًا في شفتَي العريس الذي يوجّه كلامه إلى العروس (1: 15 ؛ 2:2 ،10، 13؛ 1:4، 7؛ 2:5 ؛ 4:6).
إن تشبيه شخص بفرس أمر معروف في الشرق. ثم لا ننسَ أن مصر عرفت الأفراس والمركبات العديدة، وأن سليمان اهتمّ بأن يكون له عدد من المركبات فيدلّ على سلطانه (1 مل 65 ؛ 10: 26)، فذهب يتزوّد منها في مصر (1 مل 10: 28- 29). وهكذا يدلّ النصّ في معنى أول على جمال العروس، على قامتها، على نبلها.
ولكننا في الواقع أمام موازاة بين وضعين متشابهين للأمّة المشخّصة: حالة الذلّ التي تعرفها الآن وهي العائشة في المنفى، وحالة العبوديّة في مصر، في بداية تاريخها مع الربّ. هذا قاله إر 22: 7-9 بلسان الربّ: "أرسل عليك من يدمّرونك، كل واحد بسلاحه، فيقطعون نخبة أرزك ويلقونها في النار. فتمرّ أمم كثيرة بهذه المدينة، فيقول الواحد للآخر: لماذا فعل الرب هكذا بهذه المدينة"؟ فيأتي الجواب: "لأنّ سكّانها تركوا عهد الربّ إلههم وسجدوا لآلهة أخرى وعبدوها".
هذا الموضوع معروف في القسم الثاني من أشعيا (43: 16 ي؛ 48: 21؛ سيّرهم في القفار؛ 51: 9- 10؛ 52: 4). ونحن نقرأه في أدب ما بعد المنفى: "أومئ إليهم وأجمعهم لأني افتديتهم، فيكثرون كما كثروا. أزرعهم بين الشعوب فيذكرونني في الأقاصي ويحيون مع بنيهم ويرجعون. أعيدهم من أرض مصر، وأجمعهم من أشور، وأجيء بهم إلى أرض جلعاد ولبنان، فلا يتّسع لهم مكان. يعبرون بحر مصر، فيضرب الربّ أمواج البحر ويجفّف أعماق النهر. تنخفض لهم كبرياء أشور ويزول صولجان مصر أجعلهم أقوياء بالرب، وباسمه يسلكون " (زك 8:10-12).
أجل يقول النبيّ، سيعود المنفيّون من أيّ مكان تشتّتوا، فلا تكفيهم أرض فلسطين، فيمتدّون إلى جلعاد ولبنان. ويعيد الرب الآن ما فعله من أجل شعبه حين يجفّف حتى أعماق النهر، سواء كان النيل أو الفرات. هذا التذكّر هو تحريض ضمنيّ على الثقة. فالذي حرّر في الماضي شعبه بواسطة عجائب عظيمة، يستطيع الآن أن ينتزعه من أيدي أعدائه ويعيده إلى فلسطين.
(آ 10) ما أجمل خدّيك... يتحدّث العريس إلى العروس ناظرًا إلى خدّيها وقد عرفا تعاسة العبوديّة. لا ننسَ ما قاله في الآية السابقة. هنا نقرأ هو 11: 4: "كنت كمن يرفع النير عن أعناقهم، ويحنو عليهم ويطعمهم ". نجد هنا ذكرًا لمصر (آ 1) وتشبيه اسرائيل مع حيوان تحت النير الذي يعني العبوديّة، وإشارة إلى حبّ الله واهتمامه.
يتحدّث النصّ عن "الحلي ". ولكن زينة العروس ما زالت وضيعة. وسوف يبدّلها العريس بأثمن الجواهر. فالحليّ الموضوعة الآن على عنق العروس تشبه ما يُوضع على الفرس، وتدلّ على العبوديّة.
وترد كلمة "ص و ا ر" التي تشير إلى العنق، أو بالأحرى أسفل ما في العنق حيث يستريح العقد (تك 41: 42). وقد تشير أيضاً إلى النير كما في هو 10: 11. كما تشير إلى قيود الأسرى على ما في أش 52: 2: "حلّي قيود عنقك، يا مسبيّة". ونصل إلى لفظة لا ترد إلاّ مرّة واحدة في التوراة كلها، ولكننا نجدها في الآراميّة والسريانيّة والعربيّة (خرز). نحن أمام زينة بسيطة، لا زينة غنيّة مؤلّفة من الجواهر وحَبّ العقيق.
وما تقوله هذه الآية هو أن العروس حافظت على جمالها في مصر كما في بابل، في قلب العبوديّة وما فيها من ذلّ، وأنها تستطيع الآن أيضاً أن تجتذب قلب العريس. هذا ما سبق وقالته العروس في آ 5، 6. وهي تكرّره الآن جاعلة رجاءها في ربّها. هذا ما قال الرب لعروسه في حز 16: 11- 13: "زيّنتك بالحليّ، ووضعت أساور في يديك وقلادة في عنقك... فتحلّيت بالذهب والفضّة وكان لباسك الكتان والحرير والوشي، وأكلت السميذ المخلوط بالعسل والزيت، وتناهيت في الجمال إلى أن لاق بك الملك ". أجل، جمال العروس يأتي من العريس، جمالها هو عطيّة من الله.
(آ 11) تحدّثت آ 10 عن زينة العروس الوضيعة، وهي رمز إلى حياتها الحاليّة في الأسر وتذكّر بما عاشته في مصر. وتعد آ 11 بأن هذه الزينة سيحلّ محلها زينة من نوع آخر. فالجواهر الجميلة تعلن عودة العروس إلى زمن النعمة كما في البدايات (حز 16: 11 ي). والانجيل يدلّنا على الابن الضالّ والراجع، بعد أن لبس أجمل حلّة، ووضع في رجله حذاء وفي يده الخاتم. كان عبدًا يعمل في رعاية الخنازير، فعادت إليه كل حقوق الأبناء التي يدلّ عليها الخاتم.
"نصوغ حلاك ". يتكلّم العريس في صيغة الجمع (نحن). هل نحن أمام جمع الجلالة والطريقة الاحتفاليّة في الكلام؟ ربّما. فقد يعني العريس: سيُعمل لك بناء على أوامري. نشير هنا إلى أن العروس تتحدّث عن عريسها في آ 12 في صيغة الغائب (هو يكون). وإلى أن العريس لن يستسلم إلى مناجاة القلب إلاّ في آ 15: "جميلة أنتِ يا حبيبتي ".
ونقرأ لفظة "ن ق و د و ت ". هنا نعود إلى العربيّة "نقط ". ولهذا نترجم "نقاط من فضّة". نحن أمام حليتين، واحدة من ذهب والأخرى من فضّة.

* كفرس أنت يا حبيبتي
بعد الجوقة (آ 8) بدأ العريس يتكلّم. من أين جاء؟ كيف ظهر هنا فجأة؟ في الواقع، هذا الظهور المفاجئ يتوافق مع ما يقوله لنا الوحي البيبليّ كله، والخبرة الروحيّة عن ظهور الله. فعلى مدّ نش سوف نرى العريس يظهر فجأة ويختفي فجأة وبشكل سرّيّ على مثال يسوع في الأناجيل، كما في علاقاته معنا اليوم.
نندهش لفجاءه ظهور العريس. ونندهش أكثر حين نسمع أولى كلماته: "أشبّهك يا حبيبتي بفرسٍ مشدودة إلى مركبات فرعون ". ألا يستطيع حنان العريس ولطفه أن يكلّم عروسه بكلمات حبّ غير هذه؟ هي أولى كلماته وهو يوجّهها إلى حبيبته فيشبّهها بالفرس! غريب. بل هو يقول: أشبّهك بفرسي أنا، ولا يقول: أشبّهك بفرس من الأفراس.
نحن هنا في إطار سفر الخروج، وهذا ما لاحظه أوريجانس منذ سنة 240. فمركبات فرعون كل فرسانه قد ابتلعهم البحر الأحمر، بعد أن هاجمتهم "أفراس الله "، فرس الله. "حين كان فرعون في الماضي يطارد شعبي اسرائيل في مصر، وكان يسير مع مركباته، تغلّب فرساني على مركبات فرعون فرموها في البحر. وهذا ما يحدث اليوم أيضاً. فأنتِ يا عروسي تنتصرين على جميع النساء بعد أن جعلتك شبيهة بفرسي التي هي أجمل من فرس فرعون وأقوى بشكل يتجاوز كلّ حدّ".
ويعود أوريجانس مرّة أخرى بوضوح أكثر إلى ذات التفسير للمقطع في العظة الأولى حول نشيد الأناشيد. "لماذا شبّهتك (يا حبيبتي) بفرسي وسط مركبات فرعون؟ أما تعرفين أن العريس هو خيّال كما يقول النبيّ؟ لقد شبّهتك بفرس وسط مركبات فرعون. فكما تنتصر فرسي، أنا الرب، وتُغرق في الأمواج فرعون وقوّاده وأفراسه ومركباته، كذلك تتفوّقين على جميع النساء أنت يا عروسي، يا نفسًا كنسيّة حين تقابَلين مع جميع اللواتي لسن عروسي ".
ولكن يجب أن لا نبق هنا، على ما يبدو، فلا نرى في هذا المقطع من نش إلاّ تعبيرًا عن تفوّق فرس الله على فرس فرعون في الجمال والقوّة. فجمال العروس ما زال حتى الساعة، مشوّهًا وعرضة للتعيير. فوجه العروس المنفيّة في بابل يذكّرنا اليوم بوجه الأمّة التي أقامت سابقًا في مصر: رُبطت بمركبات فرعون، يعني استُعبدت لأعمال السخرة، فقيّدها مضطهدوها المصريون بالسلاسل والقيود خلاله العمل.
نحن نقرأ الجمع "مركبات ". والفرس هي واحدة. هي امرأة خاصة. فكيف نفهم كل هذا؟ كل هذا يصبح مفهومًا إذا كانت الفرس المربوطة بالمركبة هي شعب اسرائيل الذي حُكِم عليه بأن يجرّ المركبات، كما يُفرض عليه الآن أن يحرس كروم الكلدانيّين (آ 6، ناطورة).
ولكن ما هو عجيب في نظر العريس، هو أن حبيبته ظلّت جميلة حتى في سلاسل وقيود عبوديّتها. "ظلّ خدّاك جميلين وسط الحلق، وعنقك بين العقود". زينة غريبة جعل منها العروس زينة تُحرّك قلب الحبيب. هنا نتذكِّر يوسف الذي بيع عبدًا للمصريّين. "حبسوا رجليه بالقيود، وأدخلوا عنقه في الحديد" (مز 105: 17- 18).
غير أن العريس سينزع حليّ الحديد والعقود والاسوارات التي تحتفظ بعروسه سجينة، ويحلّ محلّها الحلق والعقود التي ستكون في أذنَي حبيبته وعنقها تحفًا كاملة من الذهب والفضة. قال: "مثل تلك التي أعطيتك في الماضي. أتذكرين؟ كم كنتِ جميلة حينذاك، يوم غطّاكِ العريس بالجواهر في ليلة عرسك ". هذا ما قاله حز 16: 11- 13: "زيّنتك بالحليّ، ووضعت أساور في يديك، وقلادة في عنقك. وخزامة في أنفك، وحلقًا في أذنيك، وإكليل جمال على رأسك. فتحلّيت بالذهب والفضة". هذا ما يكون لك من جديد، بل سيكون لك أجمل.
في هذا الإطار نتطلعّ إلى عودة الابن الضالّ، الابن الشاطر. رأى الأب ثياب ابنه الممزّقة، فبدّلها حالاً بثياب العيد. قالت: "أسرعوا، هاتوا أجمل حلّة وألبسوه. ضعوا خاتمًا (خاتم العهد) في يده، وحذاء في رجليه " (لو 15: 22- 24). كم يبدو كلام يسوع قريبًا ممّا نقرأه في نشيد الأناشيد.
إن الغنى الشعريّ في هذا المقطع يكمن في أننا ننظر إلى الصورة على ثلاثة مستويات مختلفة: سماتها هي سمات فرس. وسمات سبيّة في المنفى. وسمات عروس في المنفى. فالعقد والخزام والحلق هي سراج الفرس، وحديد يقيّد السبيّة، وجواهر في عنق المرأة وأنفها وأذنيها.
واختار الشاعر لفظة "الفرس " لأنها تشير إلى حيوان نبيل وحرّ وأنوف وذات مشية حلوة، كما تشير بالخزامة والقلادة إلى وضع العبوديّة الذي تعرفه العروس المجبرة على أن تجرّ مركبات فرعون. وضمير المتكلّم (فرسي أنا) يدلّ على الحبّ الذي ما زال يكنّه العريس لعروسه.
وسوف نرى أن علامات العبوديّة سوف تتحوّل إلى جواهر تشير إلى العهد.

* من ذهب نصوغ حلاك
قال الرب في مز 81: "نزعت الحمل عن كتفك، وحرّرت يديك من القفّة. في الضيق دعوتني فخلّصتك " (آ 7- 8). ونقرأ أيضاً في أش 9: 3: "لأن النير الذي أثقلهم، والخشبة التي بين أكتافهم، كسّرتها مع قضيب مسخّريهم كما في يوم مديان ". أما نظرة شاعر نش فتذهب أبعد من ذلك. فالنير والقلادة هنا لا يتحطمان، ولا تحلّ محلّهما في ما بعد الجواهر فقط. بل إن أدوات العبوديّة نفسها تصبح زينة جمال. وتلك التي كانت "فرسًا مكدونة"، قد أعطاها العريس الآن، وللمرّة الأولى، اسمها الحقيقيّ: "حبيبتي، صديقتي ".
وهذا أيضاً هو الاسم الذي يعطيه لكل واحد منا، مهما كانت سقطاتنا مثيرة للشفقة. فليس هناك من عبوديّة نهائيّة. فالعليّ القدير الذي اتخذ عروسًا ضعيفة لا قدر لها، قد جعل من هذه الخادمة ملكة. والتي كانت مرميّة عند قدميه، قد جعلها بجانبه.
مهما سقطنا وانحدرنا في السقوط، فعلامات خطيئتنا، والقيود والسلاسل التي أخذنا بها، تتحوّل بنعمة الحبّ الرحوم إلى حلى وجواهر تدلّ على عهدنا مع الله. بل سيأخذ الله علامات جراحنا ويجعلها فينا جمالاً.
إذن، ليست الخطيئة فقط ما "يُمسح " أو"يُنسى". لقد غُفرت. صارت موضوع احتفال بالحبّ الرحوم. قال يوحنا الصليب: "الجراح التي سبّبتها خطايانا، صارت بعد الآن جراح حبّ ".
من يقوم بهذا التحوّل؟ الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس. لا يقول النص: "أصوغ " (أنا). بل "نصوغ (نحن) حلاك ". هذا ما قاله الحبيب. وصيغة المتكلّم الجمع (نحن) تدلّ على الأقانيم الثلاثة. هم الذين تلفّظوا بهذا الكلام. هم الذين يعملون لكي تتحلّى العروس، كما عملوا في الأيام الأولى للخلق: "لنصنع الانسان ".
لا تحتاج العروس للحصول على هذه العطيّة، وللتعرّف إلى مثل هذه الخبرة، لا تحتاج إلاّ أن يتجاوب تواضعها مع عظمة عريسها. هذا ما فهمته تريزيا الطفل يسوع. عقود الذهب هي الحبّ. والفضة تدلّ على البساطة وروح الطفولة. من يستطيع أن يعرف قدر البساطة في نظر الله؟ إنها وحدها تستطيع أن تجعل المحبة أكثر سطوعًا.
تأوّهت العروس طويلاً. امتدّت أشواقها. طال انتظارها. نادت العريس فأجابها. غير أنه لم يُتمّ هذا المجيء الأوّل في نار مريعة تحرق الجبل كله من الأسفل إلى القمّة. بل كان موقفه مليئًا بالوداعة واللطافة. وهذا ما ملأ قلب العروس فرحًا. تكوّنت كلماته الأولى من عاطفة الحنان والإعجاب. لها عادت الحبيبة الصغيرة المسكينة، وقد أخذ منها الحياء وعرفان الجميل كل مأخذ، ما عادت تعرف جوابًا إلاّ في أن تقدّم له حياتها كلّها، أن تفتح له قلبها على مصراعيه.

خاتمة
ما إن التقى العروسان حتى انتهى حديث كلّ منها مع نفسه وبدأ حوار ينبض بالحياة. وبعد أولى التمتمات التي جاءت بطيئة وعذبة، توالت صرخات الإعجاب في إيقاع مليء بالعاطفة.
بدأ العريس فتكلّم، فكان كلامه جوابًا لعروسه. كان كلامه في صيغة الخاطب. أما هي فستنتظر بعض الوقت لتنتقل من صيغة الغائب إلى صيغة الخاطب فيبدأ حقًا حوار القلوب. أما هذه هي خبرتنا مع الله؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM