أين شوكتك، يا موت
15: 54- 58
كتب بولس إلى يونانيين يجعلون الانسان مركَّباً من نفس وجسد، وحيث النفس سجينةُ الجسد. مثلُ هذه النظرة لها نتائجها على مستوى الأخلاق: الجسد وحده يتنجّس، لا النفس! وهذا خطأ يصل بنا إلى: "لنأكل ونشرب فإنّا غداً نموت" (15: 32؛ رج أش 22: 13). وعلى مستوى الإيمان، لم يعد للقيامة من معنى، فتُصبح نوعاً من "تقمّص" إذ تدخل النفس في جسد آخر، أو هي تستعيد حياتها من جديد. والخلاص ليس بالنهائي، بل هو عقاب موقت. وهكذا نفهم رفض أهل أثينة كلام بولس حين حدّثهم عن القيامة. لهذا، لا بدّ من العودة إلى القول بأن الانسان وحدة كاملة. هو جسد ونفس معاً، ولا وجود للجسد بدون النفس، كما لا وجود للنفس بدون الجسد. على هذه الأرض يعيشان معاً وفي القيامة يقومان معاً. الانسان كله يقوم، لا نفسُه الخالدة فقط. في هذا الإطار نقرأ النصّ الكتابيّ:
(54) ومتى لبس هذا المائت ما لا يموت، ولبس هذا الفاني ما لا يفنى، تمّ قولُ الكتاب: "الموت ابتلعه النصر". (55) فأين نصرك يا موت؟ وأين، يا موتُ، شوكتك؟ (56) وشوكة الموت هي الخطيئة، وقوّة الخطيئة هي الشريعة. (57) فالحمدُ لله الدي منحنا النصرَ بربّنا يسوع المسيح. (58) فكونوا، يا إخوتي الأحبّاء، ثابتين راسخين، مجتهدين في عمل الربّ كلَّ حين، عالمين أن جهدكم في الربّ لا يضيع.
سأل الكورنثيون بولس عن القيامة، فبدأ وتحدّث عن قيامة المسيح (آ 1- 11) أساس قيامة المسيحيّ (آ 12- 34). وحاول أن يلقي بعضَ الضوء على "كيف" تكون القيامة، هذا السرّ العظيم. فلجأ إلى تشابيه مأخوذة من عالم الزراعة (آ 35- 38) وعالم الكواكب (آ 39- 43). وفي النهاية، عاد إلى نقطة لاهوتيّة أشار إليها في آ 21- 22، هي كلام عن خبر الخلق كما في بداية التوراة (آ 44- 49)، ليصل بنا إلى شكر عميم تجاه الذي منحنا الخلاص في ابنه يسوع المسيح (آ 54- 57). واختتم الرسولُ جوابَه بنداء إلى المسيحيّين لكي يكونوا ثابتين في الإيمان، راسخين (آ 58).
1- المائت يلبس ما لا يموت (15: 54 أ)
استعادت آ 54 ما قيل في آ 53، وسوف تقول لنا إن الكتاب يتمّ، ويتحقّق قصدُ الله ونقتني الخلاص، حين يحصل التحوّلُ الأخير: من مائت إلى ما لا يموت، ومن فانٍ إلى ما لا يفنى. حينئذ نخلع «ثوباً» لنلبس ثوباً آخر.
أ- اللامائت
"ومتى لبس هذا المائت ما لا يموت...". صوّر بولس حالة الانسان بعد القيامة باللافساد (لا يفنى)، باللاهوت (الخلود). وهكذا أوجز ما سبق وقاله في آ 35- 53.
وبما أن فكرة القيامة غامضة عند اليوناني، لجأ إلى مفاهيم أخرى. ومثله سيفعل لوقا في خبره عن أول إعلان للقيامة: حين وصلت النسوة إلى القبر، في صباح الفصح، لم يقل لهن الملائكةُ حالاً: إنه قام وليس هو هنا، بل: "لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات"؟ كان الاعلان الأول: يسوع حيّ. وبعد ذلك ستُعطى تفاصيلُ عن هذه الحياة التي يحياها: فيسوع الذي هو حيّ الآن هو ذاك الذي حمل البشارة في الجليل وفي أورشليم، ومات على الصليب. فقد قال يسوع للتلاميذ الحائرين: "انظروا إلى يديّ ورجليّ، أنا هو" (لو 24: 39).
الشخص هو هو قبل الموت وبعد القيامة، ولكن نوعيّة الحياة تبدّلت. هذا ما نستشفّه من الأناجيل حين تؤكّد أن القبر كان فارغاً، وأن يسوع دخل إلى العليّة والأبواب مقفلة. قدّمت الأناجيل "الخبر". أما بولس فحاول أن يشرح الوضعَ للكورنثيين السائلين.
في آ 40- 41، لجأ إلى تشبيه أخذه من دا 12: 3 يتحدّث عن قيامة الأبرار: "يضيء العقلاء كضياء الأفلاك في السماء، والذين هدوا كثيراً من الناس إلى الحقّ، يُضيئون كالكواكب إلى الدهر والأبد". هناك درجات في لمعان مختلف الأجساد... ولكن التشبيه يبقى غير كافٍ. فتأتي صورةٌ أخرى تكمّله، صورة الزرع الذي يُلقى في الأرض (آ 36- 38)، وهي صورة استعملها يسوع في يو 12: 24: "إن كانت الحبّة من الحنطة لا تقع في الأرض وتموت، تبقى وحدها. وإذا ماتت أخرجت حَبّاً كثيراً". كتب الرسولُ فاستعمل لفظتين قيلتا في الآلهة: اللافاسد أو الخالد، واللامائت.
أما الانسان فهو ذاك المائت. هو يموت كما يموت كلُّ حيّ على الأرض. ووضعُ الانسان هذا الذي يتميّز بالموت، هو إرث يشارك فيه البشر، ولكنه ليس الكلمة الأخيرة للخالق. فالموت يهدّد حياة الانسان، والخوف من الموت يستعبدُه ما لم يعرف الخلاصَ الذي حمله المسيح (عب 2: 14 -1 5). روى أفلاطون عن سقراط أنه لم يخف من الموت لأنه رأى فيه نجاة من هذه الحياة. ولكن يبقى أن الشعب اليوناني، شأنه شأن سائر الشعوب، عاش وهو خائف من الموت.
وحين يصير الانسان لامائتاً، خالداً، فهو يُفلت من هذا الخوف. في آ 51- 53، ميّز بولس بين الذين يكونون ماتوا في المجيء الثاني، والذين لا يزالون أحياء في ذلك اليوم. أما الآن فلا يميّز بين فئة وفئة، بل يتوجّه نظره إلى التحوّل الذي يتمّ فينا: اللافساد، اللاموت، أي التحرّر التام والنهائي بشكل من أشكال التأليه.
ارتط اللافساد بالأبديّة في نظر العالم اليوناني. فاللافاسد يُفلت من الزمن. والعكس بالعكس. وهكذا يكون الأمر بالنسبة إلى القائمين من الموت. قال اليونان: حين تخرج النفس من الجسد، من سجنها، تقف في مصاف الآلهة شرط أن تكون عاشت حياة نقيّة. ولكن ليس هذا تعليم الرسول. فكياننا كلُّه يُصبح لامائتاً (خالداً) بالقيامة. لهذا نراه يشدّد على الجسد، على اللحم، على الكائن البشريّ، في ف 15 كله. فنحن نقوم بجسدنا. لا تقوم نفسُنا فقط، بل كيانُنا كله.
ب- المائت يلبس ما لا يموت
إن هذا العبور من الفساد إلى اللافساد، يصوَّر بصورة مأخوذة من الكتاب: نلبس اللافساد، وكما نلبس ثوباً من الثياب. في الكتاب المقدّس، الثوب الذي يبلى يرمز إلى الزمن الحاضر الذي لا بدّ له أن يتجدّد. نقرأ مثلاً في مز 102: 26- 28: "من قديم أسّستَ الأرض، والسماوات من صنع يديك. فهي تبيد وأنت تبقى، وكلها كالثوب تبلى، وكاللباس تُغيّرُها فتتغيّر. أما أنت فلا تتغيّر وسنوك يا ربّ لن تفنى". أما الثوب الأبيض اللامع فيرمز إلى المجد. بهذا اللباس ظهر الملائكة عند قبر يسوع، وبعد الصعود (أع 1: 10). وفي التجلّي "أشرق وجهُ يسوع كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالشمس" (مت 17: 2).
سيعود هذا الموضوع في 2كور 5: 1- 5 بشكل يختلف بعض الاختلاف: لم نعد أمام لبس ثوب، بل أمام مسكن. فرمزُ المسكن نقرأه في إش 38: 12 (انقلع مسكني وانتقل عني) للدلالة على وضع الانسان، على الأرض. وهكذا تشدّد صورةُ اللباس وصورة المسكن على الشخص الذي يُصيبه الفساد. أما لوقا فشدّد على شخص المسيح الواحد قبل القيامة وبعدها.
غير أن التشبيه باللباس والمسكن، قد يجعلنا نرى فيهما تبدّلاً يؤثّر فقط في الظواهر. هنا نتذكّر أن بولس يستعمل الصورة عينها ليتحدّث عمّا يفعله العماد فينا: "أنتم الذين تعمّدتم في المسيح لبستم المسيح" (غل 3: 27؛ رج كو 3: 10؛ أف 4: 25). وهكذا نكون أمام تحوّل يصل إلى أعماق الكيان.
فلباس الخلود وعدم الفساد الذي ننتظره "لم تصنعه أيدي بشر" (2 كور 5: 1؛ مر 14: 58؛ عب 9: 11، 24). فهو "سماوي" (15: 40، 47- 49؛ 2 كور 5: 2 ي). فما هو هذا الثوب؟ هو مجد المسيح القائم من الموت. نقرأ في فل 3: 21: "فهو (= المسيح) يبدّل جسدنا الوضيع، فيجعله على صورة جسده المجيد بما له من قدرة يُخضع بها كلَّ شيء". فإذا كان جسدُ المسيح يُتمّ مثلَ هذا التحوّل، دون أن يدمّرنا، فلأنه قام وهو "بكر من قام من بين الأموات" (كو 1: 18).
وهذا التحوّل لا يتمّ بشكل تدريجيّ. وهو يتمّ بشكل جماعي لكل مؤمن من المؤمنين. فبولس يتحدّث في آ 23 عن "الذين هم للمسيح عند مجيئه". ما جاء الحديث بعدُ عن قيامة مجيدة وسعيدة. وسننتظر انجيل يوحنا ليحدّثنا عن قيامة للدينونة (5: 28- 29؛ رج رؤ 20: 13 -1 5 والموت الثاني).
2- أين نصرك يا موت (15: 54 ب- 55)
حين يلبس الخلودَ أولئك الذين خافوا الموت، يكون النصرُ العظيم وهتافُ الغلبة. وإذ أراد بولس أن يُنشد مسبقاً نشيد الظفر هذا، عاد إلى النصوص الكتابيّة ولم يُوردها إيراداً حرفياً. عاد إلى إش 25: 8: "ويُبيد السيّد الربّ الموتَ إلى الأبد ويمسح الدموع من جميع الوجوه". كما عاد إلى هو 13: 14: "أفتديهم من يد الهاوية، وأنجّيهم من الموت: أين هلاكك يا موت، أين دمارك أيتها الهاوية"؟ يرى أشعيا أن الموت يزول، وهذا يعني سيطرة الحياة والقيامة. وهوشع يتحدّث عن أناس نجّاهم الله من موت في الحرب. فانطلق بولس من هذا القول النبويّ وأعطاه كلَّ أبعاده كنجاة ممّا "يُهلك النفس والجسد في جهنّم". وهكذا وصل الرسول إلى المعنى التام لكلام يتجاوز ما قاله النبيّ في وقت محدّد. ورجاؤه ثابت لأنه يرى أننا نلنا النصر منذ الآن، في المسيح. بعد ذلك، سيكون تعبيرٌ آخر نقرأه في أف 2: 6: "أقامنا الله وأجلسنا في السماوات، في المسيح يسوع". فكلام الهزء والاستخفاف يتوجّه إلى عدوّ خاف منه الانسانُ، ولكنه الآن مقيَّد بحيث ما عاد يُوحي بالخوف.
ساد الموتُ وانتصر (روم 5: 14- 21) حتّى موت المسيح وقيامته. ولكن منذ موت المسيح، تأكّد انتصارُ الحياة. وهذا الانتصار سيكون تاماً ونهائياً في القيامة العامّة.
3- شوكة الموت هي الخطيئة (15: 56)
الشوكة (أو: المنساس) تُستعمل لتحثّ البقرة على السير في الفلاحة. هي تغرز في الجلد وتؤلم، فتجعل البقر يعجّلون في العمل. وهذا ما نقول عن الخطيئة التي هي سبب الموت. فالعلاقة وثيقة بين الخطيئة بشكل عام (لا هذه الخطيئة أو تلك) وبين الموت (لا موت هذا الشخص أو ذاك). لهذا، كان خطّ لاهوتيّ في الكنيسة يُعلن أنه لو لم يخطأ الانسان لما كان مات، وإن مات شابه موتُه رقادَ الطفل بين يدي أبيه: هو موت هادئ لمن عرف الله دوماً وأحبّه، عرف الآب "الذي اختارنا في المسيح منذ إنشاء العالم... وقضى بسابق تدبيره أن يتبنّانا بيسوع المسيح" (أف 1: 4- 5). ولكن بعد الخطيئة، صار الموت مُرعباً، بعد أن خطئ الانسان وحطّم الصداقة بينه وبين الله.
أجل، الخطيئة التي استُعبد لها الانسانُ، قطعته عن الله، وجعلت من الموت قوّة تمسك الانسان في قبضتها. "لأن أجرة الخطيئة الموت" (روم 7: 5). إذن نعود إلى روم 7: 7: "ما عرفتُ الخطيئة إلاّ بالشريعة". ولكننا نعرف أن الشريعة عطيّة من الله. وهي بالتالي صالحة، مقدّسة، عادلة (روم 7: 12). غير أنها حَدّدت متطلّبات الله ولم تُعطنا القوّة لنعمل بها. وحين عرَّفت الانسان إلى ذنبه، جعلته في الواقع مذنباً، فما عاد يقدر أن يتذرّع بجهله. هذا ما يعود بنا إلى تك 3: 1 ي حيث يبدو الانسان ضعيفاً أمام الشهوة. وحده الروح يستطيع أن يقوده في طريق الخير، ويقوّيه على التجربة. وهذا الروح أعطاناه المسيح. لهذا، انطلق فعلُ الشكر من قلب المؤمن إلى الله: "الحمد لله".
5- دعوة إلى الثبات (15: 57- 58)
بعد هذا النصر الذي تمّ للمؤمنين، فلا يبقى لهم سوى أن يرفعوا آي الشكر إلى الله الذي منحهم النصر بابنه. هذا الشكر يشبه ما نقرأ في روم 7: 25. فبعد عرض طويل عن الخطيئة والشريعة (روم 7: 7- 25) هتف بولس: "الحمد لله بربّنا يسوع المسيح. فأنا بالعقل أخضع لشريعة الله، وبالجسد لشريعة الخطيئة". فالمسيح هو "غاية الشريعة" (روم 10: 4) التي أفسدتها الخطيئة وجعلت منها قوّة موت (روم 7: 13). بعد الآن، لم نَعُد في حكم الشريعة، بل تحت سلطة المسيح. وبالمسيح منحنا الآبُ النصر، صرنا لامائتين، لا فانين (آ 54). وهكذا لم نعد أشقى الناس جميعاً (آ 19)، بل نحن أبناء الغلبة منذ الساعة الحاضرة، بحيث نستطيع أن نهتف مع الرسول: "حياتي هي المسيح" (فل 1: 21).
وتَرِد الخاتمة (آ 58) بعد هذا التوسّع الطويل حول القيامة: هل نقوم؟ كيف نقوم؟ آمن الكورنثيون، فليثبتوا في إيمانهم ولا يزعزعْهم العالمُ اليونانيّ الذي يستصعب الايمان بالقيامة. هناك الموقف المبدئي: كونوا ثابتين، راسخين. والموقف العملي: إعملوا العمل الذي يطلبه منكم الربّ (رج 16: 10). نحن هنا أمام مجمل المواقف والتصرّفات العمليّة التي بها تدلّ الجماعةُ على أمانتها للمسيح مهما كانت الظروف (2 كور 9: 8). ويُنهي الرسول كلامه وهو متيقّن من وعد الله. قال الرسول ما قال، فأوضح الأساسَ المتين لحياة الكنيسة، والأصلَ الذي خرجت منه فكفلت مستقبلها. وجهدُ الكنيسة هذا يتمّ "في الربّ"، أي المسيح القائم من الموت وسيّد كل قوّة وسلطان (آ 24- 26). والعملُ الذي تقوم به الكنيسة في وجه قوى العبث والموت، ليس جعجعة وتحركاً فارغاً من أي نتيجة، بل تجلّي رجاء تأسَّس على ذاك الذي قام، فأخضع الموت بقوّة قيامته ومنح البشريّة الغلبة.
خاتمة
بعد أن وبّخ الرسول الكورنثيين وطلب منهم أن يعودوا إلى وعيهم (آ 34)، عاد معهم إلى لغة الحنان. سيكون جهدُهم ضائعاً إن لم تكن قيامةٌ للأموات (آ 32)، ولكنهم يأملون جزاء عظيماً. لهذا، يعملون عمل الربّ فيشهدون له في أقوالهم وأعمالهم، وفي نشر الانجيل. فيقينُ الحياة الآتية يرفعهم إلى القداسة والجهاد في العمل، ساعة يقود التردّد إلى القنوط والضعف في الرجاء. أجل، ليس رجاء القيامة مثالاً بعيداً، بل واقع يعطي الحياةَ اليوميّة معناها وقوّتها. لهذا يُدعى المؤمنون إلى العمل من أجل الربّ. هكذا يدلّون على أنهم أبناء القيامة والحياة، لا أبناء حياة تسير إلى العدم وتصل بالانسان إلى