تضامن البشريّة في المسيح

9
تضامن البشريّة في المسيح
5: 12- 21

تبدو 5: 12- 21 كخاتمة للفصول الخمسة الأولى من الرسالة إلى رومة. ففي هذه الجدرانيّة الواسعة التي رسمها بولس عن الوضع البشريّ، ينقسم العالم قسمين. قبل المسيح تبدو اللوحة قاتمة، لأن الناس أرادوا أن يصلوا إلى الله بقواهم الخاصة، فكان الفشل. لم يعرف الوثنيّون أن يتّجهوا إلى الله، فانغلقوا على ذواتهم وسقطوا في مختلف الفسادات (1: 18- 32). واليهود لم يعرفوا كيف يكونون أمناء للشريعة والختان، فحكموا على نفوسهم (2: 1- 3: 8). وهكذا خطئ جميعُ البشر وحُرموا من مجد الله (3: 9- 19). ولكن مع يسوع المسيح تبدّلت اللوحة: دشّن يسوع حقبة جديدة، حقبة من النور. فتحوّلت حياةُ جميع الذين لا يستندون إلى أعمالهم الخاصّة، بل إلى الإيمان بيسوع المسيح. وهكذا أعطيَ الخلاص (3: 21- 5: 11)، فجاء الله في يسوع المسيح، ليردّ الانسان إلى اتجاهه الأول، ويقوده إليه ويغمره بنعمة تساعده على تفتّح حياة جُعلت منذ البدء لكي تتّحد بالربّ.
استعاد بولس هنا هذه الجدرانيّة في موجز شامل، فتركّزت العناصرُ المتفرّقة تركّزاً دقيقاً، وبرز التوازي بين اللوحتين حول آدم وحول يسوع المسيح، وتوضّح التماسك حول التضامن البشري الذي فسُد في آدم، وتصحّح وتفتّح في يسوع المسيح.
ونبدأ بقراءة النصّ:
(12) والخطيئة دخلتْ في العالم بانسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت وسرى الموتُ إلى جميع البشر لأنهم كلهم خطئوا. (13) فالخطيئة كانت في العالم قبل شريعة موسى، ولكن حيث لا شريعة لا حساب للخطيئة. (14) غير أن الموت ساد البشر من أيام آدم إلى أيام موسى، حتى الذين ما خطئوا مثل خطيئة آدم، وكان آدم صورة لمن سيجيء. (15) ولكن هبة الله غير خطيئة آدم. فإذا كان الموت ساد البشر بخطيئة انسان واحد، فبالأولى أن تفيض عليهم نعمة الله والعطيّة الموهوبة بنعمة انسان واحد هو يسوع المسيح. (16) وهناك فرق في النتيجة بين هبة الله وبين خطيئة انسان واحد. فخطيئة انسان واحد قادت البشر إلى الهلاك، وأما هبة الله بعد كثير من الخطايا، فقادت البشر إلى البرّ. (17) فإذا كان الموت بخطيئة انسان واحد ساد البشر بسبب ذلك الانسان الواحد، فبالأولى أن تسود الحياة بواحد هو يسوع المسيح أولئك الذين ينالون فيض النعمة وهبة البرّ.
(18) فكما أن خطيئة انسان واحد قادت البشر جميعاً إلى الهلاك، فكذلك برُّ انسان واحد يبرّر البشر جميعاً فينالون الحياة. (19) وكما أنه بمعصية انسان واحد صار البشر خاطئين، فكذلك بطاعة انسان واحد يصير البشر أبراراً.
(20) وجاءت الشريعة فكثُرت الخطيئة، ولكن حيث كثُرت الخطيئة فاضت نعمة الله، (21) حتّى إنه كما سادت الخطيئة للموت، تسود النعمة التي تبرّرنا بربّنا يسوع المسيح للحياة الأبديّة.
على المستوى الأدبيّ، تقسم هذه القطعة ثلاثة أقسام. في آ 12- 14، نقرأ توازياً لا مكمّلاً. وتشدّد آ 15- 17 على تفوّق العالم الجديد الذي دشّنه المسيح. وتستعيد آ 18- 21 التوازي بين عمل آدم وعمل المسيح. نحافظ على هذه القسمة مع ابراز فعل «ساد» الذي يُنهي كلاً من الأقسام الثلاثة (آ 14، 17، 21)، والذروة في كل قسم نجدها في فاعل فعل «ساد». وهكذا نكون أمام ثلاثة مقاطع: سيادة الموت (آ 12- 14). سيادة الحياة تجاه سيادة الموت (آ 15- 17). سيادة النعمة تجاه سيادة الخطيئة (آ 18- 21).

1- عالم الموت (5: 12- 14)
أ- معنى النص
إذا كان جميع البشر خطئوا (3: 9- 23)، فهذا يعني أن المناخ تسمّمَ، فصار مناخَ موت. في هذه البشريّة التي وعدها الله بمصير عظيم، تغلغل الشرّ وانتشر بسبب التضامن البشريّ. في هذا السياق، لسنا أمام الموت الجسدي وحده، بل أمام الموت الاسكاتولوجي (أو: الأبدي، رج 5: 21 حيث يقابل الموتُ «الحياة الأبدية». رج حك 2: 24 ي)، أو بالأحرى أمام واقع الموت بشكل إجماليّ، حيث الموت الفيزيائي هو وجهُه البشريّ (نلاحظ في العهد الجديد ارتباط الموت بسلطان إبليس). وهكذا يظهر فكرُ بولس على الشكل التالي: بانسان واحد، دخلت الخطيئةُ إلى العالم. ومع دخول الخطيئة هذا، توسّع مناخ الموت فوصل إلى جميع البشر ولم يترك أحداً منهم يُفلت من تأثيره. هو برص ينخر كل انسان فلا ينجو منه أحد. ثم إن مناخَ الموت هذا جعل الخطايا تنتشر، بحيث إن جميع البشر خطئوا... ويواصل بولس كلامه مستعملاً برهاناً دقيقاً يتيح له أن يجعلنا ندرك فكره إدراكاً أفضل. قال: تلك هي الوسيلة الوحيدة لكي نفهم ما حصل من آدم إلى موسى. فخلال هذه الحقبة، لم تكن بعد «شريعة» (الشريعة الموسويّة): إذن، لا نستطيع أن نتّهم الناس بأنهم تجاوزوا الشريعة. ومع ذلك، كانت الخطيئة هنا، لأن جميع البشر خطئوا. فمن أين جاءت هذه الخطايا؟ لقد ساعد على وجودها مناخٌ وبائيّ ساد فأدرك الكون كله، وهكذا سادت الخطيئة.
ب- ملاحظات
لا نستطيع القول بأن الكلام على الخطيئة الأصليّة نجده في عبارة «كلهم خطئوا»، «كلهم اقترفوا خطايا». فالمجمع التريدنتيني ركّز التعليم حول الخطيئة الأصليّة على مجمل المقطع (رج آ 19). وهكذا نلاحظ منذ الآن أن آ 12- 14 تحمل هذه الفكرة عن الخطيئة الأولى.
«بالنظر إلى هذا الموت، كلهم خطئوا». هناك أكثر من تفسير لهذه العبارة. التفسير «اللاتيني»: آدم «الذي فيه جميعهم خطئوا». أي «فيه خطئوا جميعاً وطُبعوا الآن بالخطيئة الأصليّة». غير أن هذه الترجمة تبقى ضعيفة. فالاداة اليونانيّة لا تسمح بأن نقول «الذي فيه». والفعل المستعمل يدلّ على خطيئة شخصيّة. والتفسير «اليوناني»: «بما أنهم جميعاً خطئوا». أي «بمعنى أنهم جميعاً اقترفوا خطايا». هذه الترجمة الأخيرة التي يبرّرها النصّ اليونانيّ تعني أن الخطايا الشخصيّة هي سبب الموت (الأبديّ). ولكن خطأها يقوم بأنها تقول بعلّتين للموت، لأن بولس يقول في ذات الآية إن الموت جاء بخطيئة آدم. لهذا، جاء من قال: «نُفّذ شرط وهو أن الجميع خطئوا»، إذن، كانت الخطايا الشخصية علّة الموت في اتصالها بآدم علة الخطيئة. وهكذا نكون أمام علّتين.
لهذا نقول إن الموت أدرك جميع البشر. و«بالنظر إلى هذا الموت»، إلى مناخ الموت هذا، خطئوا جميعاً. من الواضح أن بولس لا يُلغي المسؤولية الفرديّة في جميع الخطايا التي اقترفناها، بل يشدّد على التضامن الذي يوحّد جميع البشر في الموت والخطيئة منذ آدم: إن مناخ الموت الذي يُدرك جميع البشر، يدفعهم إلى الخطيئة. ولا ينسى الرسول أن يشير إلى مسؤوليّتهم الشخصيّة. إذن، كلُّهم خطئوا.

2- سيادة الحياة (5: 15- 17)
تجاه عمل آدم، كان عمل يسوع المسيح ببُعده المختلف كل الاختلاف. فلا يمكن أن نقابل الوسائل المستعملة: مع آدم، هو فعلُ انسان عاديّ سبّب موت المجموعة. في يسوع المسيح، هي قدرة الله التي تدخل في التضامن البشريّ (آ 15). وعملُ الواحد يختلف عن عمل الآخر: اكتفى آدم بأن يجعل مجمل البشريّة تسقط. أما يسوع المسيح فبدأ يقتلع البشر عن الخطيئة والخطايا العديدة، لكي يبرّرهم بعد ذلك (آ 16). وأخيراً، النتيجة تختلف: أدخل آدم سيادة الموت الموقّتة. مع المسيح، هي سيادة الحياة الثابتة والنهائيّة. مع آدم، ساد الموت سيادة مستبدّة ومطلقة، فصار البشر عبيداً (3: 9). في يسوع المسيح، ليست الحياة هي التي سادت، بل البشر يسودون، يقفون على أقدامهم في مناخ الحياة بعد أن تحرّروا من كل عبوديّة (آ 17). وهكذا يستعيدون دعوتهم الأولى (تك 1: 28؛ 2: 9- 19- 20).

3- انتصار النعمة على الخطيئة (5: 18- 21)
إذا كان عمل يسوع المسيح قد سما سمواً كبيراً على عمل آدم، فهو يصل إلى جميع البشر، كما وصل إليهم عملُ آدم. ففي ذات التضامن البشريّ، السرّي، والعميق في واقعيّته، يدخل آدم كما يدخل المسيح. وبدلاً من انتشار الموت (حالة الموتى، تكوّنوا كخاطئين)، ساد منذ الآن انتشار الحياة (تكوّنوا كبارّين، آ 19). وهذا التضامن الجديد سيمتدّ إلى جميع البشر (آ 18). ذاك هو مخطّط الله الرائع، الذي كُشف في نهاية الزمن، فبيّن لنا أن التاريخ لا يمكن أن يكون سوى تاريخ خلاص.
بهذه الطريقة يُنهي بولس كلامه. هو يذهب أعمق من وقائع الحياة العاديّة وفعلاتها، أبعد من واقع الموت والحياة. هي الخطيئة والنعمة تكوّنان اللحمة الحقيقيّة للوضع البشريّ. فالخطيئة ماضية شيئاً فشيئاً في طريق الزوال، ومُلكُها انتهى (آ 19، 21). في يسوع المسيح، بدأ عالم جديد يلد، عالم حرّ فتحته النعمةُ التي تُصالح البشر مع الله للحياة الأبدية. وفي النهاية «كل شيء نعمة».

خاتمة
نحتفظ من دراستنا هذه بثلاث نقاط:
الأولى: إبراز تضامن عجيب بين البشر. هذا التضامن بيّنه بولس بواقعيّة لافتة، بحيث يصعب علينا اليوم أن نتخيّل أن فعلة أساسيّة فعلَها انسانٌ من الناس يكون لها تأثيرها المباشر على مجمل البشر. لقد دخلت البشرية، سواء أرادت أم لا، في حركة تتجاوزها. قام بالفعلة الأولى آدم بسلطانه الكبير. واستُعمل هذا السلطان من أجل الشرّ. وهكذا غطس العالم كله في مناخ الموت، بحيث أصيب بهذا «الوباء» كلُّ انسان يلد في هذا العالم، وذلك منذ الدقيقة الأولى لوجوده. وانتشر الموتُ عبر هذا التضامن البشريّ، فتنجّس كلَّ شيء. غير أن عمل يسوع العجيب، من خلال طاعة كاملة لله، وتوجّهٍ تام نحو الآب، أدخل في مناخ الموت هذا بذار حياة لا سلطة للموت عليه. هذا يعني أن سيادة الموت قد انتهت، بعد أن سيطرت سيطرة تامّة. وهذه الحياة التي وُلدت هي أقوى من الموت، ولا يستطيع أحد أن يدمّرها. ومنذ الآن انتشرت الحياة، فتراجع سلطان الظلمة. وفي يسوع المسيح استعاد التضامن البشريّ، في أبهى مظاهره، دعوتَه الحقيقيّة في تضامن من أجل الحياة. لقد بدأت الحياة تعمل عملها الذي يدوم في الأبديّة.
الثانية: الكلام عن التجسّد. إذ أراد يسوع المسيح أن يعيد اتجاه التضامن البشريّ نحو الله، وجب عليه أن يقاسمنا وضعنا (ما عدا الخطيئة)، فيدخل في هذا التضامن الذي أصابته خطيئة آدم. وإلاّ فما قام به من عمل لم يكن له تأثير على مجمل الجنس البشريّ. نجد هنا منذ الآن ما ستوضحه الرسالة إلى العبرانيين مستعملة مقولة الكهنوت: «فكان عليه أن يشابه إخوته في كل شيء، حتّى يكون رئيس كهنة، رحيماً، أميناً في خدمة الله، فيكفّر عن خطايا الشعب» (عب 2: 17).
الثالثة: ليس هناك سوى تاريخ واحد، وهو تاريخ مقدّس. هو تاريخ جماعة بشريّة كبيرة جداً، بدأت مسيرتها في البدايات وتتواصل حتى نهاية الأزمنة، وهي لا تتطلّع إلاّ إلى الله. والمستوى الحقيقيّ الذي عليه يتحرّك مصير الانسان وتاريخ العالم، هو مستوى الخطيئة والنعمة، مع التأكيد بأن المخلّص الوحيد والمنتصر الوحيد هو يسوع المسيح

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM