الموت والحياة في المسيح

10
الموت والحياة في المسيح
6: 3- 11

هذا المقطع هو جزء من الشرح الذي تقدّم الرسالة إلى رومة، حول النظام الدينيّ الجديد الذي أدخله المسيح. فتجاه وضع البشر وما فيه من خطيئة (1: 18- 3: 20)، هناك وضع المسيح وموته الفدائي الذي نقبله في الإيمان (3: 21- 4: 25). وهكذا يتدشّن ملكوتُ النعمة والبرّ من أجل الحياة الأبديّة.
هاجم المسيحيون الآتون من العالم اليهودي، تعليمَ بولس عن الخلاص بالإيمان، عن الافتداء الذي يتمّ بنعمة المسيح وحدها. واعتبروا أن بولس يشجّع المؤمنين على الخطيئة لكي يحرّكوا صلاح الله وحنانه (3: 8). فأجاب الرسول أنه يقول ما تقوله الكتب المقدسة بأن جميع البشر خطأة (3: 9- 20) ولا يسعهم أن ينتظروا خلاصهم إلاّ من برّ الله المجاني (3: 21 ي). ثم إن بعض المسيحيين الآتين من العالم اليوناني (إذن، الوثني) اهتدوا حديثاً فحاولوا بكثرة الخطايا أن يبرّروا ضعفهم: بما أن كثرة الخطايا التي تضاعفت بسبب نظام الشريعة الديني، قد جعلت النعمة تفيض (5: 20- 21)، أما يمكن للمسيحي أن يرضى بالخطيئة في حياته لكي يُكثر نتائج نعمة الله ورحمته (6: 1)؟
من تصرّف هكذا أبان أنه لم يفهم طرق تربية الله لنا: ففي الحقبة الأولى من تاريخ الخلاص، أي قبل المسيح، كشف الله عن ذاته انطلاقاً من خطايا ما كان باستطاعة البشر أن يتجنّبوها. ومنذ المسيح الذي استحقّ لنا نعمة البرّ، تبدّل الواقع كله: أحلّ المسيحُ محلّ وضع الخطيئة القديم، وضعَ النعمة الدينيّ. منذ الآن، لا تتوافق الخطيئة مع حياة مسيحيّ اتّحد بالمسيح، بالإيمان والمعموديّة. ونلاحظ كيف يردّ بولس ، كعادته، على اعتراض يهدّد الخلقيّة المسيحيّة بالدمار: هو لا يبدأ فيقدّم فرائض، بل يعود إلى حقيقة الانجيل: جميع الذين آمنوا بالمسيح واعتمدوا فيه، اتّحدوا بموت المسيح وحياته. فالواقع الرئيسيّ الجديد هو اتحاد المؤمنين بالمسيح بالنظر إلى عمادهم. ونقرأ النصّ:
(3) ألا تعلمون أننا حين تعمّدنا لنتّحد بالمسيح يسوع تعمّدنا لنموت معه، (4) فدُفنّا معه بالمعمودية وشاركناه في موته، حتى كما أقامه الآب بقدرته المجيدة من بين الأموات، نسلك نحن أيضاً في حياة جديدة؟ (5) فإذا كنّا اتّحدنا به في موت يُشبه موته، فكذلك نتّحد به في قيامته. (6) ونحن نعلم أن الانسان القديم فينا صُلب مع المسيح حتّى يزول سلطان الخطيئة في جسدنا، فلا نبقى عبيداً للخطيئة، (7) لأن الذي مات تحرّر من الخطيئة. (8) فإذا كُنّا مُتنا مع المسيح، فنحن نؤمن بأننا سنحيا معه. (9) ونعلم أن المسيح بعدما أقامه الله من بين الأموات لن يموت ثانية ولن يكون للموت سلطان عليه، (10) لأنه بموته مات عن الخطيئة مرّة واحدة، وفي حياته يحيا لله. (11) فاحسبوا أنتم أيضاً أنكم أموات عن الخطيئة، أحياء لله في المسيح يسوع ربنا.

1- اتحاد بالمسيح بالمعموديّة (6: 3- 5)
إن فعل «عمّد» يعني «غطّس»، ويشير إلى طقس العماد بالتغطيس. والفعل الموازي «دُفن مع المسيح» (6: 4) يُبرز المدلول العميق للفعل العمادي: فالعماد هو مثْلُ «دفنٍ» وموت حقيقيّ يرمز إليه الطقس ويحقّقه بالنسبة إلى المؤمن. نلاحظ الفرق بين المعموديّة في المسيحيّة و«أسرار» العالم اليوناني: هنا تُمثَّل سطرة تُعتبر وكأنها تُنتج الخلاص بشكل سحريّ (أي الانسان يفرض إرادته على الله). أما في المسيحيّة، فهو اتحاد إيمانيّ بحدثٍ تاريخيّ، هو موت يسوع الذي يعطي نتائجه بقدر ما نحيا هذا الايمان حياة حقّة. هذا ما يقوله بولس بوضوح في غل 3: 26- 27 حيث يقيم موازاة بين الايمان والعماد: «فأنتم كلّكم ابناء الله بالايمان بالمسيح يسوع، لأنكم تعمّدتم جميعاً في المسيح فلبستم المسيح». فإذا كانت عبارة «الخلاص بالايمان» تشدّد على الوجهة الداخليّة لقبولنا للنعمة، فهي لا تُلغي التأسيس المنظور الذي فيه يتحقّق التبدّل الذي يتمّ بالإيمان بالمسيح. فهذا الإيمان يتضمّن قبول الخلاص الذي يقدمه المسيح، في الكنيسة.
إن موت المسيح الذي هو التعبير عن «نعم» دلّت على طاعته للآب، قد دمّر «كلاّ» خطيئة البشر، بقدر ما يتّحدون بـ «نعم» موت المسيح لمجد الآب (2 كور 1: 20: هو نعم لكل وعود الله). وإذ طبعَنا الله بختم (المعموديّة)، وحّدَنا بالمسيح بشكل ثابت، فوضعَ في قلوبنا «عربون الروح» (2 كور 1: 21- 22: مسحنا، ختمنا بخاتمه، ومنحنا روحه عربوناً في قلوبنا). فحبُّ الآب يدعونا لكي نكون «قديسين وبلا عيب أمامه» أي «لكي نصير بيسوع المسيح أبناء الله» لكي نحيا منذ الآن «لحمد مجد الآب» (أف 1: 4- 6). وغسلُ العماد يُعطي المسيحيّين هذه القداسة (أف 5: 26- 27).
فموتُ المسيح الذي رضي به الآب بفعل القيامة، يدلّ على قيمة الموت الفدائية. فالموت والقيامة هما وجهان لحدث خلاصيّ ومركزيّ واحد. والمسيحيّ المعمّد في موت المسيح، يتضامن مع مصير المسيح كله، وبالتالي مع قيامته. إذن، يوحّدنا العماد بحياة المسيح التي ينقلها إلينا الروح القدس باسم الربّ، فيعطينا القداسة والبرّ (1 كور 6: 11) اللذين يُؤمّنان لنا الميراث وملكوت الله (1 كور 6: 9- 10).
ويصوَّر هنا اتحادُ حياتنا بالمسيح في عبارة خاصة: حين نتّحد بموت المسيح، يجب أن ننمو معه. وحين يريد بولس أن يتكلّم عن نموّ كياننا المسيحيّ، فهو يستعمل عادة صورة جسد المسيح (1 كور 12: 1 ي؛ روم 12: 1 ي). بالمعموديّة دخلنا في هذا الجسد، ونَموْنا في ذلك الذي هو رأسنا أي ينبوع حياتنا الجديدة، ومبدأ وحدتنا، وربّنا وإلهنا (أف 4: 1- 16). إذن، تجد حياة المعمَّد نفسها متّحدة بالمسيح كما سيقول بولس في آ 8، 11.
وهكذا، بعد أن انتُزع المسيحيّون من قوّة الخطيئة، باتّحادهم بموت المسيح، لم يعد من حديث عن قبول الخطيئة من جديد: فقيامة المسيح التي بها اتّحدوا، فجّرت فيهم حياة جديدة لا يمكن أن تقبل بالخطيئة (2 كور 5: 17: وإذا كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة). فالذي تعمّد في موت المسيح، اجتمع فيه موتُه وحياته اجتماعاً وثيقاً كما كان الأمر بالنسبة إلى شخص المسيح: هو أيضاً مات عن الخطيئة وحييَ لمجد الله. لا شكّ في أننا ما زلنا نعيش في الضعف البشري (على مستوى اللحم والدم). والروح الذي يأتي لمعونة ضعفنا (8: 26) لا يُلغي هذا الضعف. لهذا، أخطأ «الغنوصيون المتفلّتون» في كورنتوس حين خلطوا الواقع المسيحي بـ «نظرة مسيحيّة طبيعانيّة» مزعومة وبالتالي غير موجودة. فالواقع المسيحي الذي هو عطيّة من الله، ينمو في الصبر (8: 25) والمحن التي تقوّي قبولنا للمسيح ورجاءنا فيه (5: 3- 5). ومرمى هذا الصبر هو رفض الخطيئة رفضاً تتطلّبه عطيّة الله (6: 12- 14). ونستطيع أن «نترجم» فكر الرسول فنقول للمسيحيين: عيشوا الآن ما صرتم إليه بالمعموديّة.

2- موت الانسان القديم ورفض الخطيئة (6: 6- 7)
أوجزت آ 5 التعليم عن المعموديّة. وتوسّعت الآيات التالية في تطبيقين عمليين: رفض الخطيئة والاتّحاد بحياة المسيح. هنا يشدّد بولس على أهميّة الإيمان الذي يُنعش حياة المعمّد: فنحن نجد في الشرْحين فعل «نعرف» (آ 6، 9) وفعل «نؤمن» (آ 8). وتبدأ الآية الأخيرة في هذا المقطع بفعل يشير إلى المعرفة الروحيّة لدى الوثنيّين: إحسبوا، إفهموا.
هذه المعرفة التي مبدأها الروح القدس (1 كور 2: 6- 16؛ أف 3: 2- 13)، هي الشرط الضروريّ لحرية حقيقيّة لدى المسيحيّ. وهذه الحرية ليست ذريعة لكي نقبل عبوديّة الخطيئة (روم 6: 6- 7؛ غل 5: 13؛ 1 كور 6: 12 ي)، بل هي تعمل عمل البناء في المسيح. فالمسيحي الذي اقتبل معرفة المسيح المصلوب (1 كور 2: 2؛ فل 3: 10)، قد اختار في الوقت عينه أن «يصلب الانسان القديم» (روم 6: 6) مع أهوائه وشهواته (غل 5: 24). فالفهم العميق للمسيحيّة لدى بولس، يجعله يكتشف العبارة الأصيلة: «الانسان القديم» تجاه الانسان الجديد الذي صاره المسيحيّ بفعل المسيح. وقبول النظام الدينيّ الجديد، يتضمّن اقتداء بموت المسيح حين نصلب الانسان القديم. وهذا «القديم» يمثّل كل ما يرتبط بالخطيئة: يجب أن نُصلب مع المسيح لنحيا لمجد الله.
الحياة المسيحيّة هي قبل كل شيء مشاركة في آلام المسيح وموته، ثم اتّحاد في مجد قيامته (8: 17؛ فل 31: 0). قبل المسيح خضعنا للخطيئة والموت، فيجب أن يزول هذا الخضوع (6: 6؛ 7: 14). لهذا كان «صلْبُ الانسان القديم» أمراً ضرورياً في المسيحي: بالمعموديّة دُفن كائنُنا البشريّ في موت المسيح (كو 2: 11- 12). وهكذا فرض الوضعُ الجديد على المسيحيّ أن يتخلّى كل التخلّي عن إرادته التي تطلب الخطيئة.
قال الرسول: يجب أن يزول جسدُ الموت (آ 6 ب). نلاحظ فعل «ألغى». نحن أمام استباق، على مستوى الشرّ الأدبيّ، لكل ما يجب أن لا يبقى في مجيء الربّ (باروسيا). فسيادة المسيح الشاملة تفترض إزالة كل ما يعارضها، وفي درجة أولى الخطيئة و«قوى» الشرّ التي ترفضها بشكل مبدأي. أما بالنسبة إلى المسيحيّ، فجسدُ الخطيئة فيه قد تحوّل منذ الآن بموت المسيح الفدائيّ: لم يعد خاضعاً لقوّة الخطيئة، بل صار هيكل الروح القدس (8: 9- 11؛ 1 كور 3: 16- 17؛ 6: 19). وهذا يتحقّق الآن بقدر ما يعيش المؤمنُ إيمانه عيشاً ملموساً، فيتخلّى عن الخطيئة ليحيا لمجد الله. وبمختصر الكلام، منذ موت المسيح على الصليب، بدأت جميعُ القوى القديمة في الانحطاط والزوال. لهذا، لا يستطيع المسيحيون الذين اعتمدوا في موت المسيح هذا، أن يظلّوا عبيداً للخطيئة.
وأضاف بولس سبباً آخر يبدو، للوهلة الأولى، على مستوى القانون والتشريع: «لأن الذي مات قد تحرّر (تبرّأ، دلّ على براءته فلم يعد عليه من دين) من الخطيئة» (آ 7؛ رج 7: 2). هنا نتذكّر القول الرابينيّ: لم يعد للشريعة من سلطان على انسان مائت. أما النصّ الذي نقرأ، فيشرح التعليم حول الوضع الجديد للمسيحيّ فيدلّ على غناه الكبير. وتؤكّد آ 7 تأكيداً احتفالياً أن المعمّد الذي مات مع المسيح، لا ينتمي بعد الآن إلى النظام القديم الذي فيه تسود الخطيئة (5: 21). ومع أنه يحيا في جسم مائت (آ 12)، إلاّ أنه لا يُفرض عليه أن يخدم الخطيئة (آ 7)، لأنه اتّحد بحياة المسيح.

3- الاتحاد بحياة المسيح (6: 8- 10)
إن الايمان («نؤمن»، آ 8) يُدرك الرباط بين زمنَي حدث المسيح: يؤكّد لنا أن موتنا مع المسيح يجعلنا مشاركين في حياته المجيدة. فالمسيح القائم من الموت هو الحيّ الأول، حسب المعنى القديم للفظ، أي إن قيامته ولّدت لحياة جديدة جميعَ الذين ماتوا وقد آمنوا به واتّحدوا بموته (1 كور 15: 20). بعصيان الانسان الأول، تحطّمت علاقة الحبّ والحياة بين الله والانسان، فأُدخل في العالم تسلّطُ الخطيئة والموت. ولكن طاعة آدم الثاني التامّة (5: 12 ي؛ فل 2: 6 ي) صالحتنا مع الله وجعلتنا أعضاء في جسم الكنيسة (كو 1: 17 ي).
في المقطع الذي نقرأ، جُعلت الأفعال التي تصوّر موتنا عن الخطيئة في صيغة الماضي. هذا يعني بالنسبة إلى المسيحيّ، أن حالة الخطيئة واقع ينتمي بشكل نهائي إلى الماضي. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، الأفعال التي تعبّر عن اتحادنا بحياة المسيح، هي دوماً في صيغة المضارع وتدلّ على المستقبل: إذن معناها الرئيسيّ يجعلنا في الاسكاتولوجيا، في نهية الزمن. غير أن سياق الرسالة إلى رومة (رج 5: 3- 5؛ 8: 1 ي)، والتعليم البولسيّ بشكل عام (1 تس 5: 10؛ غل 2: 20؛ 1 كور 10: 16- 17؛ 2 كور 4: 16؛ 5: 17؛ فل 1: 21؛ كو 3: 10؛ أف 1: 17- 23؛ 4: 11- 16)، يفهماننا أن اتحادنا بالحياة الالهيّة التي هي الآن «مخفيّة مع المسيح في الله» (كو 3: 3)، هو منذ الآن واقع حاضر، ولكنه لا يتمّ بشكل كامل ونهائي (آ 9) إلاّ بعد موتنا.

خاتمة
بسبب الفداء الذي قدّمه المسيح والتحرير، صار جميعُ المعمّدين «الآن أمواتاً عن الخطيئة، أحياء لله في المسيح ربّنا لمجد الله» (آ 11). سار البرهان كله على مستوى الحياة الجديدة. فالمسيح القائم من الموت، يقدّسنا بالروح (1: 4)، ويُدخل إلى العالم النظامَ الدينيّ للروح، نظام الحريّة (8: 1 ي؛ 2 كور 3: 17). وهذه الحريّة تتأسّس تأسّساً على التحرّر من الخطيئة. لهذا، يوصي الرسول، في الشروح التي تنهي المقطع، بأن لا نقبل بالخطيئة بعد الآن (8: 2- 3).
بماذا تقوم الحياة المسيحيّة إلاّ بممارسة حرّيتنا كأبناء الله لمجد الآب؟ إذن، هي لا تقدّم وجه الشريعانيّة اليهوديّة. فالمسيح خلّص المعمّدين من قوّة الشريعة كما خلّصهم من قوّة الخطيئة، وأرسل في قلوبهم روح الآب بحيث يعون بأنفسهم ما يجب عليهم أن يعملوا ليحيوا في القداسة والحقّ والمحبّة. كل هذا يكشفه الروح لهم ويعطيهم القوّة لكي يحيوه. هذا ما يجب أن نتذكّره لنفهم معنى الفعل الذي يبدأ آ 11: فاحسبوا، فافهموا واعرفوا. لم يدخل المسيحيون إلى بيت الآب مثل عبيد. بل هم اتّحدوا اتحاداّ حميماً بالمجد، أي بشخص المسيح، ابن الله، فرأوا أن الآب يعاملهم حقاً مثل أبناء (غل 4: 13- 5: 1). لهذا، وجب عليهم أن يعيشوا هذه الحياة الالهيّة التي تتلخّص في المحبّة الاخويّة (غل 5: 14: الشريعة تكتمل في وصيّة واحدة).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM